الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٤٤

النفس حسرا لها عن كل شهواتها ، وحصرا في ارتياضاتها ، أمّا إذا من المختلقات الزور ، او تفريط نفاة التكاليف عن بكرتها ، في حرية وأريحية شاملة دون حد ولا وحدود ام بحدود متخلّفة عن حدود الله.

ثم عدلا في الحياة الفردية والجماعية على ضوء الشرعة الإلهية دون زيادة ام نقيصة ، اللهم الا زيادات فعل المستحبات وترك المكروهات وهو من القسط والفضل والإحسان ، عدلا في ذلك الإحسان دون إعسار ولا تحريج.

إذا فالعدل المأمور به في ناحية الشرعة الإلهية يتم ويطم كل الأمور الحيوية ، عقائدية وأخلاقية واقتصادية وسياسية وعبادية أما هيه ، محلقا على كل حركة وسكون ، وعلى كل ظهور وكمون دون إبقاء ، فقد (تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ ..) (٦ : ١١٥) كلمة التكوين وكلمة التشريع ، فبالعدل قامت السماوات والأرض ، وقد جاءت بمشتقاتها في القرآن (٢٨) مرة وهذه الآية هي رأس الزاوية ثم (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ ..) (٥ : ٨).

فالمبالغ في العبادة يعدل حتى إن كان هو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث قام على رؤوس أصابع قدميه في الصلاة حتى تورمتا فنزلت : (طه ، ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى. إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى ..) حنانا إلى سماحته ، وتعظيما لساحته.

ثم التساهل فيها يعدّل بصوت التنديد كسوط قارع : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ).

ثم يأتي دور الإحسان بعد العدل تحسينا للعدل كأحسن منه فيما يصح على ضوء الوحي.

والإحسان يعم كافة المستحبات فعلا والمكروهات تركا ، وهما

٤٦١

راجحان ، وقد يكون واجبا كاحسان الداعية في الدعوة ، فصلاة الليل المستحبة على الجميع هي عليه واجبة ، وكالقسط في اليتامى فلا يكفي العدل فيهم (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ).

ومن الإحسان في عبادة الله ، المفروض على الداعية رسولا واماما والراجح اكيدا على أشراف الفرض على غير المعصومين : «اعبد ربك كأنك تراه فان لم تكن تراه فانه يراك»(١).

فلأن «العدل الإنصاف والإحسان التفضل» (٢) فالتفضل في العبادة هو كما لها لمن لم يفرض عليه لعبئه وعسره ، فأكملها «اعبد ربك كأنك تراه» ـ ومن ثمّ «فان لم تكن تراه فانه يراك».

وفي الحق إن الإحسان قد يلطّف من حدّة العدل الصارم الجازم ، ويدع الباب مفتوحا لمن يريد النهوض بما فوق العدل الواجب عليه ليداوي جريحا ويشفي قريحا او يكسب فضلا.

كما قد يرتفع فوق العدل في تطبيق الراجحات فوق الواجبات في التكاليف الشخصية والتعاملات الجماعية ، فيشمل كل الحيويات في علاقات العبد بربه وبأسرته وبالجماعة المؤمنة وبالبشرية جمعاء ، وبسائر الحيوانات والنباتات.

__________________

(١) التفسير الكبير للفخر الرازي ٢٠ : ١٠٣ ـ ان جبريل لما سأل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الإحسان قال : ....

(٢) نور الثقلين ٣ : ٧٧ في معاني الاخبار باسناده الى عمر بن عثمان التيمي القاضي قال : خرج امير المؤمنين (عليه السلام) على أصحابه وهم يتذاكرون المروة فقال اين أنتم من كتاب الله قالوا يا امير المؤمنين في اي موضع فقال : في قوله عز وجل (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ ..) والعدل الإنصاف والإحسان التفضل.

٤٦٢

ومن اقرب الإحسان (إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) وكما هو من اعدل العدل ، فالعدل الواجب هو بالنسبة لذي القربى أوجب ، والإحسان فرضا او ندبا هو بالنسبة لهم احسن.

والإحسان كما العدل هو مثلثة الزوايا ، بالنسبة للنفس إحسانا لجانحة وجارحة ، وللغير ، وبالنسبة للحق ، فهو يحلّق على كافة جنبات الحياة كما العدل ، (وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) هو الأفضل الأحسن من الزاوية الوسطى.

وهنا «ذي القربى» مفردا دون «ذوي القربى» تختصهم بجماعة خصوص ، هم ـ بطبيعة الحال ـ اقرب ذوي القربي ، وهم الأئمة من آل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وكما تلمح له آية الخمس (٨ : ٤١) والاسراء (آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ ..) (٢٦) حيث المأمور هو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والشورى (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (٢٣) والحشر (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى)(٧).

ثم الإيتاء العام لذوي القربى (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى) (٢٤ : ٢٢) (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) (٤ : ٨) (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) (٤ : ٨) (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى ..) (٩ : ١١٣)

والإيتاء لا يخص إعطاء المال ، بل هو مطلق رد الحق مالا وحالا ، فهو في مفرد «ذي القربى» كما يشمل الخمس كذلك وباحرى حق الولاية والقيادة العليا بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ، وكماعن باقر العلوم (عليه السلام): (وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) هو قرابتنا ، امر الله العباد بمودتنا وإيتائنا ونهاهم عن الفحشاء والمنكر من بغى أهل البيت ودعى الى

٤٦٣

غيرنا (١) وهو «أداء امام الى امام بعد امام» (٢).

ذلك ، وقد تعني «ذي القربى» فيمن عنت سائر ذي القربى بسائر الإيتاء ، مالا وعلما وأخلاقا واعتقادا اما ذا من واجب الإيتاء وراجحه ، والإيتاء روحيا أعلى وأغلى منه ماديا ، وقد ذكر «ذي القربى» مفردا في غير القربى الخاص : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى) (٢ : ١٧٧) (وَذِي الْقُرْبى) (٢ : ٨٨) ، ولكن المفرد على اية حال يبقى ملمّحا بخصوص قربى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

هذه أوامر ثلاثة متضامنة للمصلحية الايجابية للكتلة المؤمنة فرديا وجماعيا ، ومن ثم النواهي :

(وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) ولا بد هذه الثلاث كما الاولى ، تتحدث عن سياجات ثلاث للحفاظ على حرم المسلمين ، فلا يصح تفسير بعضها ببعض.

تأتي الفحشاء بصيغها سبعا عدد أبواب الجحيم ، كما الفاحشة ثلاثة عشر والفواحش اربع ، فهي اربع وعشرون ، مصحوبة بما يدل على انها افحش من المنكر والبغي ، وهي المعصية الفاحشة ، المتجاوزة حدها ، ام والى غير الفاعل ، فجمعها أفحس ، وكلّ منهما فاحشة ، وتعمها الفحشاء ، ومنها الزنا واللواط والمساحقة ، ونكاح ما نكح الآباء (إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً) (٤ : ٢٢).

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٧٩ في تفسير العياشي بمن سعد عن أبي جعفر (عليه السلام) في الآية.

(٢) المصدر عن العياشي عن إسماعيل الحريزي قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) قول الله : (إِنَّ اللهَ ...) قال : أداء امام ...

٤٦٤

ومن ثم فحشاء عقيدية حيث الفحشاء لا تختص بالعملية (وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ) (٦ : ١٥١) وانحس ما بطن منها هو الشرك بالله ، والإلحاد في الله ونكران رسالات الله ويوم الله ، وانحس الفحشاء ، هي المتجاوزة حدها ، وإلى غير الفاعل ، مبيّنة فتحا أم كسرا ، ومنها شيوع الفاحشة : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٢٤ : ١٩).

ثم المنكر هو ما ينكر في الوسط الانساني فطريا وعقليا وبأحرى في الوسط الإسلامي شرعيا ، فهو أعم من الفحشاء ، وقد يتدرج الشيطان في خطواته الإغوائية من الفحشاء الى المنكر ، تنازلا في فاعليته (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) (٢٤ : ٢١) كما و (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) (٢٩ : ٤٥) ، تنازلا في فاعليتها ، والنهي عن المنكر ، دون خصوص الفحشاء او البغي ، من ادلة شموليته.

ومن ثم البغي هو أخص من المنكر ، وأعم من وجه من الفحشاء ، يختص بذكره بعد المنكر ، لأنه من أنكر المنكر كما الفحشاء ، فما كل فحشاء بغيا ، ولا كل بغي فحشاء ، ويجتمعان في الفحشاء ذات بعدين ، ذاتي تجاوزا عن الحد المتعود في النكران ، وغيري تجاوزا إلى الغير ، فمما ظهر منها اللواط والزنا ، ومما بطن تكذيب آيات الله والصد عن سبيل الله(١).

إذا فكافة دركات العصيان في ثالوث الظلم بالنفس وبالغير والظلم بالحق ، متجاوزة حدها وهي الكبيرة ، ام غير متجاوزة هي الصغيرة ، كل هذه وتلك مشمولة لثالوث (الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) ، ومختلف التعبير في

__________________

(١) فالنسبة بين الفحشاء والمنكر عموم مطلق كما بينه وبين البغي ، ثم النسبة بين الفحشاء والبغي عموم من وجه

٤٦٥

القرآن عن المذموم ، ذنبا وعصيانا واجراما وإثما وحنثا وجنفا وظلما وخطيئة أمّاهيه ، كل هذه بكل دركاتها مشمولة لكل هذه دونما إبقاء!

كما ان كل طاعة صغيرة او كبيرة بكل درجاتها في مثلث النفس والغير والحق مشمولة لمثلث (بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) فما أشملها آية تعم كل مأمور به ومنهي عنه في الذكر الحكيم ولا ينبئك مثل خبير!

وهكذا الله (يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) موارد امره ونهيه ، كضابطة ضابطة للمجتمعات والأفراد عن هوّات الضلالات الجارفة العامدة او المجازفة.

(وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ) ٩١.

«إذا عاهدتم» تحصر دائرة هذا العهد بما عاهد الإنسان ربه ام سواه كما يرضاه ، دون العهود الفطرية والعقلية والشرعية الإلهية مما لم يعاهدها هو وانما عاهد عليه الله وعليه القبول ، والعهد الذي عاهد الإنسان أوجب وفاء مما لم يعاهده ، سواء أكان واجب المعاهدة كالفطرية والعقلية ، ام غير واجب كما يعاهد الله على نفسه في التماس حاجة ، او يعاهد الناس فيما يباح ام هو راجح.

ومن ابرز العهد المعاهد عليه عهد الشرعة الإلهية كالذين بايعوا الرسول في العهد المكي وعاهدوا على الوفاء به ، وهو الزاوية الثالثة لعهد الله بعد الفطرة والعقل ، محلّقة على كافة العهود الإلهية حيث تضمها الشرعة الإلهية التي عاهدوا الله عليها في مبايعة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

ولماذا «عهد الله» وأنتم «عاهدتم»؟ لأنه في كل زواياه من الله ،

٤٦٦

وهو حق الله ، وكانت تلك المعاهدة الايمانية فرضا من الله.

ولماذا «عاهدتم» إطلاقا دون «عاهدتم الله»؟ لأنها تعني فيما عنت المعاهدة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (١) مهما ضمت سائر المعاهدات مع الله ام مع الناس ، فان الإسلام مشدّد غير مسامح في الوفاء بالعهود المشروعة ، لأنها قاعدة الثقة وضابطة الطمأنينة بين الناس ، وبدونها ينفرط عقد الجماعة ، وإذا كانت بينهم وبين الله فالوفاء أهم وأتم فان ميثاق العبودية أقوى بكثير من ميثاق الأخوة الإيمانية.

ثم ومن توكيد الإيمان ان (قَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً) كالقول : الله كفيل بما اتكفل ، ومنه سائر الأيمان المغلظة بسائر التوكيدات ، سواء أكانت الأيمان المؤكدة لما عاهدتم عليه الله ام سواه ، ولكن عهد الله المؤكد بالأيمان المؤكدة ، هو القمة العالية من العهود المفروضة.

وإذا كان مطلق العهد وحتى مع الكافر واجب الوفاء فيما هو مسموح ، فما ذا ترى في عهد الله في بمثلّثيه ، أولا في زوايا الفطرة والعقلية والشرعة ، وثانيا : إذا عاهدتم ، وحلفتم مؤكدا بكفالة إلهية ، عهد معقود بكل أشدّه بأشدّه ، ولذلك ترى النواهي تترى على ناقضه بأمثال مائلة :

(وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) ٩٢.

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١٢٩ ـ اخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن مزيدة بن جابر في الآية قال : نزلت في بيعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان من اسلم بايع على الإسلام فقال : وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها ـ فلا تحملنكم قلة محمد وأصحابه وكثرة المشركين ان تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام.

٤٦٧

ولان عهد الرسالة يحلّق على كافة بنودها ومن أهمها الخلافة بعدها ، لذلك ترى الصديقة الكبرى تستدل بالآية فيها في خطبتها الاحتجاجية على أبي بكر في مسجد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على حشد كبير من المهاجرين والأنصار.

ف «التي (نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً) هي امراة حمقاء كانت تغزل الشّعر فإذا غزلته نقضته ثم عادت (١) تنقض ما غزلت أنكاثا ، فلّات بعد فتلات لحد لا يبقى غزل ، وهناك ويلات بعد ويلات ، وهكذا يكون دور المعاهدين الله بأيمانهم المؤكدة في نقضهم عهد الله (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ).

و «أنكاثا» جمع نكث النقض ، وهي مفعول ثان ل «نقضت» نقضت غزلها أنكاثا أنقاضا ، وهو هنا اسم ، ام مصدر تأكيدي ل «نقضت» ام حال للغزل ، وهي على اية حال انقاض الغزل بعد النسج بما نكثت.

فكل جزئية من جزئيات ذلك التشبيه المليح تشي بالتحقير والترذيل بكل تعجيب ، وتشوّه الأمر في النفوس وتقبّحه في القلوب ، فمثل هؤلاء الناقضين عهد الله كامرأة ملتاثة ضعيفة العزم خارفة الرأي تفتل غزلها بقوة ثم تنقضه تاركة له منكوثة محلولة.

ولقد كان جمع من الناقضين يبرّرون موقفهم في نقضهم بان محمدا والذين معه قلة طفيفة ، بينما قريش ثلة كثيفة ، فليس من العقل الحازم

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٨٢ عن تفسير القمي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : التي نقضت غزلها امرأة من بني تميم بن مرة يقال لها ريطة بنت كعب بن سعد بن تيم بن لوي بن غالب كانت حمقاء .. فقال الله (كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها ...) ان الله تبارك وتعالى امر بالوفاء ونهى عن نقض العهد فضرب لهم مثلا.

٤٦٨

ترك ثلة الى قلة فينهاهم مرة تلو الاخرى :

(تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ) وسيلة للغدر والخديعة والخيانة حيث الدخل هو الغش والدغل ، فالأيمان الدخل هي المزيجة الدخيلة بالمكيدة.

ولماذا؟ ال (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ) ام مخافة (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ)؟ وليست الربوة في ميزان الحق إلا بموازين الايمان ، دون زخرفات الحياة الدنيا ، فالآخرة خير وأبقى.

فذلك الإيمان المعاهد الموثق بالأيمان ، إيمان مصلحي تجاري خاو ، و (إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ) فعند الامتحان يكرم المرء او يهان ، و «عند تقلب الأحوال تعرف جواهر الرجال»! فتألب على الحق ام تصلب فيه.

ف «ان تكون» هنا قد تعني «لا تكون ـ ومخافة ان تكون» حيث النقض قد يعني إرباء أمة الكفر ، فإيمانه بأيمانه نفاق ، ام يعني خوفة الضعف في امة الإسلام فإيمان ناقص ، فهما إذا في الإثبات والنفي مصلحيّان ، دون واقعية صالحة ، وإلا فلما ذا ينقض بتلكم الدوائر المحلّقة على كتلة الايمان (١).

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٨٠ في تفسير العياشي عن زيد بن الجهم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال سمعته يقول : لما سلموا على علي (عليه السلام) بامرة المؤمنين قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للأول قم فسلم على علي بإمرة المؤمنين ، فقال : امن الله او من رسوله؟ قال : نعم من الله ومن رسوله ، ثم قال لصاحبه : قم فسلم على علي بامرة المؤمنين ، فقال : من الله ومن رسوله؟ قال : نعم من الله ومن رسوله ، قال يا مقداد قم فسلم على علي بامرة المؤمنين (عليه السلام) قال : فلم يقل ما قال صاحباه ثم قال : قم يا أبا ذر فسلم على علي بامرة المؤمنين فقام وسلم ثم قال يا سلمان قم وسلم على علي بامرة المؤمنين فقام وسلم حتى إذا خرجا وهما يقولان : لا والله لا نسلم ما قال ابدا فانزل الله تبارك وتعالى على نبيه (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ .. أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ) قال قلت جعلت فداك انما نقرأها ان تكون امة هي ـ

٤٦٩

ثم الآية في نطاق أشمل تشمل نقض العهود الدولية تحت ستار المصلحيات ، فالإسلام لا يقر أمثال هذه المبرّرات ذريعة لنقض العهود والغش فيها والدخل بينكم ، إلا إذا كانت معاهدة لا يتعهدها ويقرها الإسلام ، فانها باطلة من أصلها ، وعلى الخاطئ البيان كيلا يحسب بحساب الإسلام.

فالنص هنا يجتث جذور هذه المصلحيات الفاسدة الكاسدة ، وبعد التنبيه بان مثل هذه الحالة الرديئة هي بلوى إلهية ، يكل امر الخلافات الناشبة بين كل الجماعات الى يوم الله (إِنَّما يَبْلُوكُمُ .. وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) بيان العيان علما وتطبيقا (ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) فتزول هناك كافة العشاوات والغشاوات عن كل البينات ، ثم العقائد والأعمال المتخلفة تظهر بحقائقها المستورة يوم الدنيا ، ليوم الدين ، وهي هي جزاءهم وما ربك بظلام للعبيد.

و «به» قد تعني بالأمر والنهي منه تعالى والنقض منكم ، بلوى للّتبيين هنا ويوم الدين ، وقد تعم ـ على هامشهما ـ قلة المؤمنين وكثرة الكافرين ، وانما لم يؤنث الضمير حيث الثالثة معنية ضمن الأولين ، فلو أنّث لم يشملها ، ام انه راجع إلى كلّ على البدل وقدمت الذكورة لتقدم الذكر.

وردا على سؤال : لماذا الاختلاف العارم حتى يبين يوم القيامة ، فالدنيا بالبيان أحرى ، والوحدة اثمر وأنمى ، فهلا يستطيع الله ان يجعلهم امة واحدة؟ يقول :

__________________

ـ ربي من امة فقال : ويحك يا زيد وما اربى ان يكون والله ازكى من أئمتكم انما يبلوكم الله به يعني عليا ...

أقول : لئن نصدق صدر الحديث تأويلا للآية لم نكن نصدق ذيله المخالف لنص المتواتر في القرآن.

٤٧٠

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ٩٣.

«لو» توحي باستحالة هذه المشيئة المسيّرة. و «كم» هم عامة المكلفين ، فان هذه المشيئة صدّ عن ظهور الاستعدادات ، وسدّ عن مظاهر الثغرات بمختلف البليات ، وتجميد لشتات الطاقات ، وتسوية بين المحسنين والمسيئين ، وكل هذه خلاف حكمة رب العالمين.

«ولكن» له المشيئة التشريعية هدى للعالمين ، ومن ثم التكوينية (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) الضلال ، حيث لا يهديه بما ضل ، بل يبقيه على ضلاله الذي يبغيه ، و (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) الله ضلاله تلو مشيئته هو (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) ـ (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) الهدى حيث يوفقه لمزيد الهدى ، و (يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) الله هداه ، حيث يبلغه مناه (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ).

(وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من ضلال باختيار ، سؤال التوبيخ ، وفي «تعملون» تصريح ان ضلالهم من عملهم اختيارا ف (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) لا تعني تسييرا على إضلالهم ، فما الهدى والضلال الإلهيان هما البدائيان ، فان الحالة البادئة ليست الا الهدى ، فطرية وعقلية وشرعية ، ثم الثانية هي الإلهية جزاء وفاقا.

فالبشرية رغم انها امة واحدة فطريا ، ولكنها امم مختلفة واقعيا تخلفا عن شرعة الفطرة ثم عن شرعة العقل وشرعة الوحي أم تبنّيا لهما في الحياة ، مهما كانت هنالك دركات وهنا درجات.

(وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) ٩٤.

٤٧١

فمن مخلفات ذلك الدخل الدغل ان «تزل قدم» لكم بعد ثبوتها إذ نقضتم عهد الله بعد توكيدها ، ثم (فَتَزِلَّ قَدَمٌ) لآخرين من بسطاء المؤمنين (بَعْدَ ثُبُوتِها) حيث يحوّرهم مما يحيّرهم دخل الأيمان ، ان لو كان الايمان حقا لم ترجع هذه الجماعة عن ربقته وكتلته ، وهذه فعلة المنافقين وكما تآمروا فيما بينهم : (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٣ : ٧٢).

و (بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) برهان على قدم ثان ، انها تزل بدخل الإيمان بعد ثبوتها ، (وَتَذُوقُوا السُّوءَ) قد تعم سوء الدنيا والبرزخ (وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) يوم القيامة ، ام ان الأول للأولى حاليا ورجعة ، والثاني للثانية برزخا وقيامة ، فهما على اية حال عذابان اثنان أولهما ذوق السوء لا نفسه تماما ، وثانيهما نفس السوء تماما وهو (عَذابٌ عَظِيمٌ).

(وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ٩٥.

(ثَمَناً قَلِيلاً) هو كل متع الحياة المتخلفة عن عهد الله ، فان كثيرها قليل بجنب الله ، ولان عهد الله هنا هو عند الذي عاهد الله ، فاشتراء ثمن به هو إعطاء عهد الله نقضا باتخاذه دخلا ، وأخذ ثمن بديله أيا كان فانه قليل على أية حال ، ومهما كان هو من الخير ف (إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) كمؤمنين (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ما عند الله عما سواه.

نرى انه دخلت في الإسلام جموع كثيرة بسبب ما رأوا من وفاء للمسلمين بعهودهم ، فكان المكسب في الوفاء أضخم وأتم من بعض الخسارات الوقتية التي نشأت عن تمسكهم بعهودهم المصابة او الخاطئة.

ولقد ترك القرآن في النفوس ذلك الطابع الإسلامي السامي من الالتزام بالعهود ، لحد يسميها عهد الله ، ويسمي نتيجة الوفاء به (ما عِنْدَ

٤٧٢

اللهِ) :

(ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ٩٦.

«ما عندكم» ككل وإياكم «ينفد» وهو نافد في أصله بوصله وفصله على أية حال ، مهما كان له بقاء حينا او أحيانا (وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ) ـ (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (٤٢ : ٣٦) واين بقاء من بقاء ، فانه في الحق فناء أمام ذلك البقاء.

ضابطة عامة تستغرق كل ما عندنا نفادا ، وما عند الله بقاء دونما استثناء ، ولأن «باق» تقابل «ينفد» فلتعن الأبدية بإرادة الله ، إذا فما عند الله من الجنة ونعيمها باق بأهلها لا يزول ، ومما عندنا العذاب على ما عندنا من أسبابه فهو ينفد مهما كان خلودا ابديا! بل وكذلك خير ما عندنا لو لا رحمة الله وفضله وعطاءه غير المجذوذ ، حيث يستمر بخيراتنا استطارة لها الى يوم القيامة والى غير النهاية.

ومن البقاء لما عند الله (وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) فأحسن ما كانوا يعملون هو جزاءهم (لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٩ : ١٢١) كما به جزاءهم بأحسن جزاء وهو الجزاء الباقي.

فقد يجزى المحسن الصابر بكل حسناته ، فجزاءه إذا درجات ، ولكنه يجزى بأحسن اعماله فجزاءه كله بأحسن درجات ، ام يجزى بأحسن ولكنه على قدره فهو مما ينفد ، ولكنه جزاء بالأحسن من احسن اعماله فهو باق (وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ).

وليس هناك إلغاء في جزاء الحسن من الأعمال ، بل الحسن يجزى به

٤٧٣

كما الأحسن لأنه صبر في الله و (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ).

وليس الصابرون فحسب هم مخصوصون بهذه الكرامة الغالية ، بل هي جزاء كل من عمل صالحا :

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) ٩٧.

قاعدة مطردة في كافة الصالحات للصالحين والصالحات ، وإذ (لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) فالحياة الطيبة الموعودة هي على قدر الصالحات دون اية فوارق من جنس ام جنسيات ، فالذكر والأنثى متساويان في قاعدة العمل وفائدته العائدة.

و «صالحا» هنا هو الصالح لحياة طيبة حيث يخلّفها فتخلفه برحمة الله وبركاته شريطة الايمان ، وتلك هي من مظاهر الصالحات في هذه النشأة الاولى ، واما الاخرى : (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) حياة طيبة اخرى تلو الاولى وظهورا تاما لملكوتها (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ، ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى).

فمن هذه الحياة الطيبة حياة النصرة الإلهية (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) (٤٠ : ٥١) ومنها ولاية الملائكة لهم (نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) (٤١ : ٣١) وبشرى الله فيها : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ. لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١٠ : ٦٤) و «القنوع بما رزقه الله» (١) مما يسلب عنه الخوف والحزن في الحياة الدنيا والآخرة أحرى.

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٨٣ عن تفسير القمي في الآية قال : ... وفي نهج البلاغة ـ

٤٧٤

وتثبيتهم بالقول الثابت (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) (١٤ : ٢٧) وبصيرة نافذة في الحياة الدنيا تتخطى ظاهرها الى باطنها خلاف من سواهم الذين (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) (٣٠ : ٧) وتثبيتا لإيمانهم (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) (٥٨ : ٢٢).

وسداسية النصرة هذه هي الحياة الطيبة الايمانية التي يخلّفها العمل الصالح قدره ، فيصبح المؤمن دنياه نموذجا من الآخرة حيث يجعلها مزرعة للآخرة! بجناحي علم الايمان وقدرته القاهرة المشيرة إليهما الآيات الست.

وهنالك يتهدم صرح الضلالة الجاهلية من حرمان المرأة من كل مزية دينية او جلّها ام قسم منها ، فالمحور الأصيل للحياة الطيبة في الدنيا والآخرة هو عمل الصالحات على قاعدة الايمان ، أيا كان العامل ، ذكرا ام أنثى ، كبيرا أو صغيرا ، وضيعا او شريفا ، فلا شرف وحياة طيبة الا بشرف الايمان وعمله الصالح ، دون أية شريطة اخرى تكمل هذه الحياة ام تنقصها.

وهذه الحياة تفارق سائر الحياة لسائر الاحياء الذين فارقوا الايمان وعمل الصالحات ، بل هي حياة جديدة تستمر معه من هنا الى البرزخ والى القيامة الكبرى بصورة ازكى وأنمى ، فحياته السابقة إذا لا تحسب حياة بل هي ممات : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها ..) (٦ : ١٢٢) و (إِنَّ

__________________

ـ وسئل عن هذه الآية فقال : هي القناعة وفي تفسير البرهان ٢ : ٣٨٢ عن امالي الشيخ بسند متصل الى عبيد الله بن المنصور قال حدثني الإمام علي بن محمد قال حدثني أبي محمد بن علي قال حدثني أبي علي بن موسى بن جعفر قال : قال سيدنا الصادق (عليهم السلام) قوله : فلنحيينه حياة طيبة قال : القنوع.

٤٧٥

الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (٢٩ : ٦٤) وكما يترجاها من لم يقدم لها من أولاها (يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) (٨٩ : ٢٤).

وهذه الحياة الطيبة هي التي يتطلبها عباد الله الصالحون ليل نهار : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ) (٢ : ٢٠١) يعنون حياة حسنة ، ودنياها هي التي تحضّر لآخراها.

وانما يتقدم صالح العمل هنا على صالح الايمان تاشيرا عشيرا للمؤمنين ان العمل هو الغاية القصوى من الايمان ، كما العلم ذريعة العمل ، فالعلم والايمان هما ذريعتان اثنتان لصالح العمل.

ثم نرى الايمان يتقدم على عمل الصالحات في سائر القرآن ، حيث الايمان هو عمل القلب ، وهو متقدم على عمل القالب ، وهو ام لاعمال الجوارح ، وهي تستخدم لمزيد اليقين : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) كما اليقين مستخدم للعبودية (ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).

إذا فالإيمان وعمل الصالحات جناحان اثنان للطائر القدسي الانساني الى بغيته من خلقه ، كل يؤيد الآخر ويزيده رقيا وكمالا ، وقاعدة العمل الصالح التي يرتكز عليها هي قاعدة الايمان (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) فالعقيدة الصالحة هي المحور الذي تشد اليه الخطوط بأسرها عن أسرها ، وإلا فهي أنكاث ، ثم لا يهم الحياة الطيبة على ضوءهما ان تكون ناعمة بنعمة المال والمنال ، فالاتصال بالله ، والاطمئنان الى رعايته وستره ورضاه ـ وفيها طمأنة القلب ـ ذلك يكفي تطييبا للحياة مهما اعترضتها حرمانات مادية واصطدامات في هذه السبيل المليئة بالاشلاء والدماء.

وهذه الحياة الطيبة اضافة الى انها لا تنقص من احسن الأجر في الاخرى ، تزيده حسنا على حسن لأنها ذريعتها وطريقتها المثلى.

٤٧٦

ثم الجزاء بأحسن ما كانوا يعملون يلمح الى عفوة عن السيآت ، وزيادة في الدرجات ، فلا يجزى ـ إذا ـ بالسيئات ، ولا بالحسنات على قدرها ، وانما (بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) وما أفضله وأطيبه جزاء!

بل وقد يبدل الله سيئاتهم حسنات كما يبدل حسناتهم بأحسنها فيجزيهم ـ إذا ـ بأحسن ما كانوا يعملون ، ومن ذلك رزقهم في الجنة بغير حساب :

(وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) (٤٠ : ٤٠). لا حساب لسيئاتهم فان قاعدة حياتهم هي العمل الصالح بإيمان ، ولا حساب لرزقهم بقدر صالحاتهم ، ف «إذا عرفت الحق فاعمل ما شئت من خير يقبل منك» (١).

وليست هذه الحياة الطيبة هي ـ فقط ـ روح الايمان ، فانها تتبنى الإيمان ويتبناها الإيمان ، بل هي كما تقول الآيات : نصرة الايمان ، وكتابته تثبيتا له في قلوب المؤمنين ، وإنارة زائدة لقلوبهم وبصائرهم ، وتثبيتا بالقول الثابت.

وعلى الجملة تصبح حياته الدنيا نموذجة صادقة عن الحياة الاخرى ، التي هي الحياة لا غيرها : (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) (٨٩ : ٢٤) (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (٤٢ : ٣٦).

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٨٣ عن معاني الاخبار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قيل له ان أبا الخطاب يذكر عنك انك قلت له : إذا عرفت الحق فاعمل ما شئت قال : لعن الله أبا الخطاب والله ما قلت هكذا ولكني قلت له : إذا عرفت الحق فاعمل ما شئت من خير يقبل منك ان الله عز وجل يقول : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ) ويقول تبارك وتعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً).

٤٧٧

(فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) ٩٨.

وترى الاستعاذة المأمور بها هنا هي في ختام القراءة لمكان (فَإِذا قَرَأْتَ) حيث الجزاء «فاستعذ» ليس إلا تلو الشرط واقعيا كما هو ادبيا؟ والاستعاذة تعني فصل الشيطان عن قارئ القرآن حين يقرء ، كما (وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً) (١٧ : ٤٥)!

ام «إذا قرأت» تعني بداية القراءة ، كما : إذا سافرت فخذ زادك معك؟

ام تعنيهما حيث القارئ بحاجة الى الاستعاذة بعد ختام القراءة حفاظا على ما تلقى ، كما يحتاج إليها في بدايتها لكي يتلقى معانيها كما هيه ، دون وسوسة شيطانية.

ام ان هذه الاستعاذة تحلق على قارئ القرآن حين القراءة كما في البداية والنهاية ، ولأنها ليست ـ فقط ـ لفظة تقال مهما كانت هي منها ، وانما حقها وواقعها ان تستعيذ بقلبك ، تفريغا له عن الشيطان وكل الشيطنات ، ففروغا لتجلى وحي القرآن «فقارئ القرآن يحتاج الى ثلاثة أشياء قلب خاشع وبدن فارغ وموضع خال ، فإذا خشع لله قلبه فر منه الشيطان» (١).

ثم و «قرأت» الماضي تتحول الى المستقبل قضية الشرط ، فالمعني ـ إذا ـ لما تقرء القرآن .. وهذا يعم حالة القراءة كلها منذ البداية حتى النهاية ، دون اختصاص بنهاية ام بداية.

__________________

(١) مصباح الشريعة عن الامام الصادق (عليه السلام) استنادا الى هذه الآية.

٤٧٨

وهنا الاستعاذة بالقلب وسائر الأحوال الباطنية والظاهرية فيما سوى اللسان ، تحلق على جو القراءة على اية حال ، وهي باللسان كإذاعة لما في الجنان ـ تكون في البداية والنهاية دون حال القراءة حذرا من الاختلاط ، فقل : أعوذ بالله .. أولا ، وقل أعوذ بالله آخرا ، وكن أعوذ بالله في نفسك وكل كيانك أولا وآخرا وفيما بينهما.

استعذ بالله من الشيطان الرجيم الذي يحول دون قراءتك ، او التأمل فيما تقرء ترتيلا لفظيا او معنويا ، او يضلك في معانيه ، ام يزل بك في تصديقه او تطبيقه ، ام اي امر أريد به ، ولتعرف انك تقرء منشور ولاية ربك لكي تتخلق به فتصبح قرآنا بكل كيانك كما نبي القرآن ، فحين تعلم متأكدا ان الله اصطفاه على سائر وحيه على أنبياءه تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة للمؤمنين ، فلا يحيد بك اي شيطان من إنس او جان عن الأنس به طول حياتك.

ولتعرف ان اعداء القرآن أكثرهم عددا ، وأعظمهم في صنوفهم مددا ، قد يأتونك عداء سافرا ، واخرى متظاهرين بمظاهر الحب والحفاظ على كيان القرآن (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ).

وما الاستعاذة اللفظية الا حاكية عن ذلك ، فإذا استعاذ القلب استعاذ القارئ بجملته ، ومن الجملة الظاهرة الحاكية عن الاستعاذة القلبية هي اللفظية.

فالاستعاذة في بداية القراءة تمهيد للجو الذي يتلى فيه كتاب الله ، وتطهير له من الوساوس والهواجس ، واتجاه بكل المشاعر الى الله خالصة مخلصة ، لا يشغلها شاغل من الشيطان.

ثم هي قلبيا على طول خط القراءة ضمان لسلامة التفهم وسلالة التصديق ، ومن ثم ضمان لدائب الأثر على اثر القراءة ، فيعيش القارئ

٤٧٩

ـ إذا ـ ولا سلطان عليه من شيطان مهما وسوس له فان صلته بالله تعصمه عن الانسياق معه والانقياد اليه.

هنا المأمور بالاستعاذة أولا هو الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم الذين معه على الأبدال وأحرى لهم وأولى لمكان عصمته دونهم ، فهو ـ إذا ـ يستزيد عصمة وهم يعتصمون دون عصمة ، ولكنه ليس يستعيذ ـ فقط ـ لنفسه ، بل ولامته (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) (٢٢ : ٥٢) وما أمنية الرسل الا هدى الناس ، وما الإلقاء فيها الا الغاء تأثير دعواتهم فيلغي الله ذلك الإلقاء ثم يحكم الله آياته.

ولقد أمر الرسول ان يعوذ برب الفلق وبرب الناس ، لكي يفلق ما يغلقه الشيطان على الناس.

وترى ما هي صيغة الاستعاذة اللفظية؟ المستفادة من هذه الآية : أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم (١)؟.

ولأن الاستعاذة هي طلب العوذ فقد يصح «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» كما في المعوذتين «أعوذ» (٢) والأرجح اضافة السميع العليم :

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٨٥ في تفسير العياشي عن سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قلت كيف أقول : قال : تقول أستعيذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

(٢) الدر المنثور ٤ : ١٣٠ ـ اخرج ابن أبي شيبة والبيهقي في سننه عن جبير بن مطعم ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما دخل في الصلاة كبر ثم قال : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وفيه اخرج ابو داود والبيهقي عن أبي سعيد قال كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا قام من الليل فاستفتح الصلاة قال : سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك الا اله غيرك ثم يقول : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم

وأخرجه ابو داود والبيهقي عن عائشة في ذكر الافك قالت : جلس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وكشف عن وجهه وقال : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ان الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم الآيات.

٤٨٠