الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٤٤

(فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) وكيف لا وهو أفضل مفسر للقرآن بعد الله وبيان الله.

ثم «لتبين» كما هو بالقرآن كذلك بالسنة قولية وعملية وتقريرية ، فالتفكر في رسول القرآن كما القرآن ينتج صارحة صارخة انه : (ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ. فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) وهو نفسه أفضل أهل لهذا الذكر.

ومن ثم «لتبين» كغاية قصوى راجعة اليه في (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ) نزولا الى معلم القرآن وسائر الوحي «لتبين» دون ان ينزل بلا وسيط على الناس إذ لا تبيين لهم تماما دون بيانه ، ولا انهم يصلحون لنزول الوحي عليهم ، و (ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) يعم القرآن وسائر الذكر ، إذا فالقرآن ببيان نبي القرآن بيان لكافة كتابات الوحي طول الخط الرسالي ، وبيان لنفسه وبيان للسنة الرسالية ، ولما يروى عن الرسول كسنة ، حيث يقاسان على القرآن ويبيّنان به.

ثم (نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) هو تنزيل إليهم بواسطة رجالات الوحي ، ونسبته إليهم اعتبارا انهم هم المعنيون بهذه الكتب كما الرسل ، دون الرسل فحسب حيث انزل إليهم ، فهم ـ إذا ـ حملة أمانات الوحي الى المرسل إليهم ، مهما كانوا هم رءوس الزاوية في كتابات الوحي.

لذلك فهم الغاية الثانية ل (أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ) : (وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) في النازل ومنزله ، وليعلموا انه (ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي

__________________

ـ القطان عن وكيع عن الثوري عن السدي قال كنت عند عمر بن الخطاب فإذا بكعب بن الأشرف ومالك بن صيف وحي بن اخطب ـ وساق سؤالهم عمرا عن عرض السماوات والأرض وعيه عن الجواب فإذا بعلي (عليه السلام) دخل فأجابهم ثم ذهب علي (عليه السلام) الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ونقل له ما حصل فنزلت هذه الآية.

٣٦١

إِلَيْهِمْ ..) كما (وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) في كل ما يحويه من حقائق ناصعة ناصحة جمة ، فالقرآن هو كتاب التفكير والتذكير ، كتاب الحياة الرسالية والرسولية لنبي القرآن.

إذا فلنا حجتان شرعيتان لا ثالثة لهما ولا .. : القرآن ونبي القرآن ، فما كان من القرآن او من السنة القدسية المحمدية .. وإلّا فلا حجة فيه ، ولا حجة في المروي عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلّا ما وافق القرآن ، ام لا يخالفه ، ام تواتر نقله عنه دون شك وريبة وكما يروى عن الامام الصادق (ع): «العلم ثلاثة كتاب وسنة ولا ادري» ثم ولا نجد حجة قاطعة على حجية ما سواهما من ادلة مذهبية شيعية او سنية ، كالإجماع والعقل والقياس والاستحسان والاستصلاح.

وحصيلة البحث عن آية الذكر انها تعم كل سئوال وسائل ومسئول ، وللسائل المسلم والمسئول الرسول والائمة من آل الرسول أولويتان اثنتان ، وخدة العقيدة ، وشرافة السائل والمسئول ، ومورد نزول الآية منحط سائلا ومنحط مسئولا مع اختلاف العقيدة بينهما ، فشمول الآية بالنسبة للمسلمين وأئمتهم أولى منهم ، إضافة إلى أن «فاسألوا» تفريعا للفرع على أصله دليل أنه ضابطة عامة كل سائل ومسئول في كافة الحقول.

(أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ) ٤٥.

الفاء هنا تفريع تقريع بناكري الرسالات وماكري الصدّ عنها ، على حجة الله القارعة في الرسالات المتواصلة البارعة ، سلسلة موصولة مرسولة على طول خط التكليف الى العالمين أجمعين ، فلا تفلّت عنها ام عن العذاب القارع على المتخلفين عنها.

وماكروا السيآت هم امكر الماكرين وأسوأ المسيئين حيث يظهرون السيآت بمظاهر الحسنات ، سيئات منافقة ظاهرها فيه الرحمة وباطنها من قبله العذاب ،

٣٦٢

ليوردوا البسطاء الى هوّات الضلالة والمتاهة من حيث لا يشعرون ، ولقد قالوا قالتهم الماكرة المنافقة (لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ ... وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ ..)! وي كأنهم حماة رب العالمين والحفّاظ على كرامته في نكران شرعته وقيامته؟.

وعمل السيآت على أضرب هذا أسوءها ، ثم الذي يعملها دون منافقة باظهارها مظهر الحسنات ، ولكن موقفه الجماعي كبيان للبسطاء انها ليست بسيئات ، ومن ثم عملها دون أية منافقة لا كهذه ولا تلك ، كمن يبرز السيئة كماهيه دون أية مماكرة ، (الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ) تعم الأولين ، من مشركين ـ كما هم محطة نزول الآية ـ ام موحدين ومسلمين ، ومكر السيآت منهم أضل وأنكى.

فلأن مكر السيآت أخطر مكر وأضله للبسطاء وأمكره ضد الرسالات ، فقد يخسف الله بهم الأرض ، كما يخسفون بمكرهم حياة من في الأرض ، أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون كما يأتون البسطاء بعذاب الضلال من حيث لا يشعرون ، عذابا من ربك جزاء وفاقا : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) (٣٥ : ٤٣) (أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ) (١٢ : ١٠٧) (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ... أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً) (١٧ : ٦٩) (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ) (٦٧ : ١٦)!.

ف «هم اعداء الله ، وهم يمسخون ويقذفون ويسيخون في الأرض» (١) ف «لا تكونوا من الغافلين المائلين الى زهرة الدنيا الذين مكروا

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٥٩ عن تفسير العياشي عن ابن سنان عن أبي عبد الله في الآية قال : ...

٣٦٣

السيآت .. فاحذروا ما حذركم الله بما فعل بالظلمة في كتابه ، ولا تأمنوا ان ينزل بكم بعض ما توعد به القوم الظالمين في الكتاب ، والله لقد وعظكم الله في كتابه بغيركم فإن السعيد من وعظ بغيره».

وان لخسف الأرض والعذاب الموعودين مراحل عدة ودركات متعددة. ومنها ما في دولة المهدي (ع) (١) فإنّ (مَكَرُوا السَّيِّئاتِ) لا تختص بالماضي ، بل هي جارية في كل من يمكرون السيآت على مدار الزمن ، مهما اختلفت دركات العذاب حسب دركات السيآت.

(أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ ٤٦ أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) ٤٧.

أخذات بمختلف العذابات على مختلف الحالات للذين مكروا السيآت ، وكما هم يمكرون ، جزاء وفاقا وما الله يريد ظلما بالعباد.

ومن أعجب العجاب هذا الإنسان النسيان العصيان كيف يواصل حياته النكدة في مكر السيآت بأيدي أثيمة لئيمة ، ويد الله فوق أيديهم ناقمة منبهة لهم ، فلا يغني عنهم مكرهم السيئ وتدبيرهم ، ولا تدفع عنهم قوتهم وعلمهم وكل شطاراتهم المزعومة لهم.

(أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) (٧ : ٩٩) ولا

__________________

(١) المصدر عن روضة الكافي كلام لعلي بن الحسين (عليه السلام) في الوعظ والزهد في الدنيا يقول فيه : ولا تكونوا من الغافلين. فان الله يقول في محكم كتابه (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ ... أَوْ يَأْخُذَهُمْ .. أَوْ ..).

وفيه عن تفسير العياشي عن ابراهيم بن عمر عمن سمع أبا جعفر (عليه السلام) يقول : ان عهد نبي الله صار عند علي بن الحسين ثم صار عند محمد بن علي ثم يفعل الله ما يشاء فالزم هؤلاء فإذا خرج رجل منهم معه ثلاثمائة رجل ومعه راية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عامدا الى المدينة حتى يمر بالبيداء فيقول هذا مكان القوم الذين خسف بهم وهي الآية التي قال الله : (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ .. فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ).

٣٦٤

يخشون إذ تمتد إليهم يد الله في صحوهم او نومتهم او غفلتهم في تقلّبهم او على تخوفهم (فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ) الله في تقلباتهم ، تغلبا على ارادة الله ، ام تألبا على الله «فان ربكم» أنتم المؤمنين المظلومين الممكرين «لرؤف» بكم «رحيم» ليس ليذركم على ما أنتم عليه من نير الذل ودوامة المكر السيء الحائط بكم من اهله ، ف (لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ).

وعلى اية حال إن أخذ الله لا يطارده اي تقلب او تألب او تغلب ف «ان اخذه لشديد» ولا فارق بجنب الله في اخذه بين ماكري السيآت في يقظتهم ونومهم ، في تخوفهم وامنهم ، في قوتهم وضعفهم إذ لا يمسه في اخذه لغوب ، ولا يأخذه نضوب.

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ) ٤٨.

هنا الواو تعطف الى محذوف هو بطبيعة الحال معروف من مسرح البحث ، ك (أَوَلَمْ يَرَوْا) الى فطرهم وعقولهم كآيات انفسية تدلهم على توحيد الله ، واختصاص العبادة والسجود بالله؟ (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) كآيات آفاقية تدلهم على ذلك الإختصاص ، ثم «الى» هنا رغم ان الرؤية متعدية بنفسها ، تعني عناية زائدة هي رؤية البصيرة من طريق البصر وسواه ، اضافة الى ان الرؤية في الظاهر الأكثر هي النظر فوق البصر ، إذا فالرؤية «الى» نظرة معمّقة ، لا سطحية ولا مجرد البصر.

أترى «ظلاله» تعم كل شيء لمكان (ما خَلَقَ اللهُ)؟ ولا ظلال متفيئة إلّا للأجسام الكثيفة الظاهرة أمام الشمس ، فالرقاق كالماء والهواء فضلا عن الطاقات المادية كالقوة الجاذبية والمغناطيس والروح ، والكثيفة غير الظاهرة كالباطنة تحت الأرض ، ام فوق الأرض وراء الشمس ، هذه ليست لها ظلال متفيئة وكذلك السماويات البعيدة عن الشمس غير المتظللة بها مهما صحت لها أظلال!.

٣٦٥

أم هي من في السماوات والأرض ظاهرة كثيفة؟ (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) (١٣ : ١٥)؟ ولا ظلال للجن والملائكة واضرابهما ممن لا يرى فلا ظل لهم امام الشمس! ولما في السموات والأرض من الأجسام الظاهرة غير العقلاء ظلال!.

«من شيء» بعد (ما خَلَقَ اللهُ) تبعّض (ما خَلَقَ اللهُ) فتعني منها ذوات الظلال ، وإلّا لكفت (ما خَلَقَ اللهُ) لو عنت كلّ شيء ، وصاحب الظل بطبيعة الحال هو الكثيف الظاهر امام الشمس سواء أكان من ذوي العقول أم سواهم ، و (مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) في الرعد لا تحصر (ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) في ذوي العقول ، فلكل حال مقال ، (وَهُمْ داخِرُونَ) هنا اعتبارا ب «من» فيما خلق الله من ذوي الأظلال.

ولماذا يختص هنا ذوات الأظلال بالرؤية إليها ، والآيات الآفاقية غير مخصوصة بها؟ لأن هؤلاء المشركين تعاموا عن بصائرهم ، ولذلك نقلوا عن حجاجهم بانفسية الآيات فطرية وعقلية ، إلى آفاقيتها المحسوسة ، ولكن على تأمل فيها.

ثم تفيء الظلال وهو تنقلها إنما هو حسب رأي العين حيث الظلال لا تتفيأ وتنتقل على الحقيقة راجعة ، وانما هي الشمس ترد على الاظلال ثم ترجع الى ما كانت بعد ان تزول عنها الشمس ، فالشمس هي المتنقلة عليها والظلال قائمة بحالها ، ان كانت الشمس جارية حول الأرض ، وأما ان كانت هي الجارية حول الشمس كما حول نفسها فتفيء الظلال يكون على الحقيقية حيث تتحول الأرض.

والفيء هو الظل راجعا ، إذا فالظل هو قبل الزوال ، والفيء بعده ، فالتفيؤ ـ إذا ـ هو رجوع الظل بعد زواله.

و «اليمين» هو مشرق الشمس و «الشمائل» ما يقابله بمختلف الانحرافات الظلية عن المشرق ، وعله لذلك أفرد اليمين لأنه نقطة شروق

٣٦٦

الشمس ، وجمع الشمائل لأنها الجوانب الثلاثة الاخرى بعد تلك النقطة الشارقة ، اعتبارا بان هذه الثلاث كلها شمائل امام نقطة المشرق ، لأنها هي الرئيسية في هذا البين.

و (سُجَّداً لِلَّهِ) تجمع ذوات الأظلال بأظلالها مع الشمس المطلة عليها ، فهذه الثلاث ساجدة لله في كونها وحركاتها وتغيراتها ، لا تتخلف عما رسمت لها مشيئة العلي القدير (وَهُمْ داخِرُونَ) : صاغرون في ذلك السجود العام ، دون تخلف ولا تبختر (١) ومشهد الظلال تتراجع ممتدة موحية لمن يفتح عين قلبه ، ويتجاوب مع الكون كله ، وترسم ذوات الظلال بظلالها المتفيئة كل الكائنات داخرة صاغرة في ذواتها وصفاتها وحركاتها بجنب الله.

فحينما نرى الظلال تظل تابعة لذوات الأظلال دونما تخلف عنها ولا قيد شعرة ، رغم ان هذه الأظلال ليست محيرة لأصحابها ، بل هي مسيّرة بها ، فما ذا ترى إذا داخرة أصحابها بجنب الله ، وهي من أفعاله الاختيارية؟.

ثم وليست السجدة الداخرة بخاصة لذوات الأظلال ، فانها فيها ذات بعدين ، ثم بعدها السجدة في بعد الذات لكل شيء.

(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) ٤٩.

و «ما» هنا تشمل الكائنات كلها ، أرضا وسماء وما فيهما وما بينهما ، و (مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ) هو من ذكر الخاص الساجد في بعدية بعد العام في بعده الكوني ، ف «من دابة» تعم الإنس والجان وكل دواب الأرض والسماء ، سواء أكانت تدب على ارض ام تسبح في ماء ، «والملائكة» تستغرق كل ملك في الأرض او السماء ، وهذه من الآيات المصرحة أن في السماوات دواب كما في

__________________

(١) تجد تفصيل القول في سجود الظلال في آية الرعد فراجع.

٣٦٧

الأرض ، ولا تشمل الطير والملائكة ، حيث الدابة ما تدب دائبا وهما لا يدبان إلّا أحيانا.

والسجدة المحلقة على كل الكائنات هي سجدة الأفعال والصفات والذوات طوعا وكرها ، مهمّا تخلّف جموع من الجنة والناس اختياريا ، فإنهم هم المعنيون بذلك التذكير التنديد الشديد ، لكي ينتبهوا عن غفلتهم ، ويفيقوا عن غفوتهم حين يرون الكون كله مسجدا فسيحا فصيحا في ذلك الحشد الهائل ، مشهد عجيب رهيب من الأشياء بظلالها والدواب كلها والملائكة (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ).

وقد يعني «ما» هنا بعض الدواب لمكان «من دابة» وكل الملائكة لمكان «والملائكة» ف «من دابة» هنا تبعيض ، وفي الاوّل جنس ، تبعيضا حيث المقصود هنا البعد الثاني من السجدة وهو الاختيارية ، فكثير من الدواب تسجد لله عن شعور واختيار ، ومنها مؤمنوا الانس والجن ـ على قلتهم ـ وسائر الدواب هي الاكثرية الساحقة بين الكل في سجودها لله ، إذا فالتعبير ب «ما» دون «من» لمكان الدواب غير الانس والجان فانها غير ذوات العقول.

فيا ايها الإنسان الغفلان النسيان ، أيتها الحشرة الهزيلة الكليلة ، لماذا هذا الاستكبار الاستدبار عن طاعة الله الملك القهار؟!.

وقد يروى عن رسول الهدى (صلى الله عليه وآله وسلم) «ان لله ملائكة في السماء السابعة سجودا منذ خلقهم الى يوم القيامة ترعد فرائصهم من مخافة الله ، لا تقطر من دموعهم إلا صار ملكا ، فإذا كان يوم القيامة رفعوا رؤسهم وقالوا : ما عبدناك حق عبادتك» (١).

ثم (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) تنفي عنهم تطلّب الكبرياء الخاصة بربهم من

__________________

(١) المجمع أورده الكلبي في تفسيره عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).

٣٦٨

فوقهم ، فهو يختلف عن التكبر ، فالله متكبر كبير ، يظهر الكبرياء الكائنة لذاته المقدسة قولا وفعلا ، وليس مستكبرا يطلب الكبرياء ، إذ لا تنقصها ذاته ولا صفاته وأفعاله فكيف يطلب.

فالاستكبار مذموم على أية حال لأنه طلب ما لا يعنيه ولا يمكن لاختصاصه بالله ، والتكبر منه ممدوح كما لله ، والتكبر مع المتكبر فانه عبادة لله ومنه مذموم وهو التظاهر بكبرياء ليست له ، سواء أكانت له ممكنة كالكبرياء الممكنة ، ام مستحيلة ككبرياء الربوبية المستحيلة للمربوبين.

(وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) قد تعم طلب الكبرياء الممكنة التي لمن فوقهم كالرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كما الاستكبار على الله.

(يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) ٥٠.

(.. بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ. لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (٢١ : ٢٧).

(يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ). (وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) هما من الشواهد القاطعة انهم كسائر المكلفين مكلفون تحت الأمر والنهي ، إلّا انهم معصومون فلا يعصون ، إذا ف «يخافون» هو الخوف من جرّاء العصيان ، دون مجرد خوف الاستعظام فانه الإشفاق ، فلان الله لا يخاف من ظلمه ام جهله سبحانه فهو ـ إذا ـ يخاف لعصيان من الخائف بجنبه ، وكما السابقون والمقربون وهم فوق الملائكة (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ). يخافون حتى أفضلهم محمد وهو أوّل العابدين : (.. قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (١٠ : ١٥) مهما كان ذلك خوفا مع استعظام لمقام الرب (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) (٧٩ : ٤٠).

إذا فباحرى للملائكة ان يخافوا مقام ربهم (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) (١٣ : ١٣) (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ

٣٦٩

كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) (٢١ : ٢٩) إذا فبالإمكان قولهم هذا وفعلهم على عصمتهم دون اضطرار اتوماتيكي في فعلهم وتركهم ، فهم خائفون لو عصوا ربهم عذاب يوم عظيم ، وعدم صدور العصيان منهم كما لسائر المعصومين لا يدل على انهم مسيّرون على الطاعة ، إلّا ان طاعة المعصومين أطوع من طاعة الملائكة ، فإنهم عقل بلا شهوة ، وأولاء لهم عقل وشهوة ، ولكنهم «جزناها وهي خامدة» فطاعتهم ـ على عصمتهم ـ أفضل من الملائكة على عصمتهم ، واين عصمة من عصمة ، فطاعة من طاعة وأفضل الأعمال أحمزها؟!.

و «من فوقهم» هنا كما في (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) (٦ : ١٨) (.. وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً) (٦ : ٦١) هي فوقية القاهرية حكمة وخبرة وقدرة حيث يرسل عليكم حفظة ، فهي فوقية المكانة لا المكان إذ ليس له سبحانه مكان ، وانما فوقية الذات والأفعال والصفات ، (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) لا على الذات ولا على الأفعال ولا الصفات ، متصاغرون بجنبه ، أذلّاء وجاه عزّه ، ففعلهم لصق أمره دونما تخلف ولا قيد شعرة.

وهذه الآية واضرابها في مواصفات الملائكة من الادلة القاطعة على ان إبليس لم يكن من الملائكة خلافا لقيلته ، وان أحدا من الملائكة لم يعصوا الله ولن ، خلافا لغيلته.

(وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) ٥١.

آية فريدة في صيغة التعبير عن الإشراك بالله : (لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) وهنا تأكيدات اربع تحوم حوم (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) ففي السلب : لا اله : (لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ) تاكيدان اثنان ، وفي الإيجاب : «إلا الله» ـ (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) ثم سلب آخر يتبنى ذلك الإثبات ويتبناه ذلك الإثبات (فَإِيَّايَ

٣٧٠

فَارْهَبُونِ) : إيجاب واحد بين سلوب ثلاثة تنفي الالوهية والرهبة على سواء.

فيا لهذا التعبير العبير من أسلوب منقطع النظير في التقرير والتكرير ، جمعا بين إلهين واثنين ، ثم اتباعا للسلبين بالقصر (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) ثم تعقيبا على النهي والقصر بقصر آخر كنتيجة حاسمة لذلك التقرير (فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ)!.

ولماذا (إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ)؟ لتخص النص بالثنوية القلة ، وسائر المشركين هم الاكثرية الساحقة الثلّة ، والنهي عن اتخاذ إله أو آلهة الا الله يشمل كل مشرك بالله ثنويا وسواه.

علّه للرد على من يثّني إله الخلق والتدبير و (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) ومن يثّني إله الخلق والتدبير ، والعبادة ، انها لما سواه من كرام خلقه ، ثم هما له كأصل الألوهة ، وهما ـ على ثنويتهما ـ تشملان عامة الشرك وخاصته ، ثنويته وتثليثية اماهيه؟.

ومن ثم فكل اشراك بالله أيا كانت صورته وسيرته ، ليس إلّا باتخاذ إلهين اثنين ، أولهما ـ كأصل ـ النفس الامارة بالسوء ، حيث تأمر بالاشراك بالله ، فكل مشرك أيا كان ، هو في الأصل ثنوي ، يختلق إلها آخر ام آلهة إلّا الله كما تهواه هواه ، من طواغيت وأصنام وأوثان ، فالنفس الأمارة بالسوء هي الإله الأصل لكل مشرك ، وهي التي تولد آلهة على شاكلتها ، فكل إناء بما فيه يرشح ، فالنفس ترشّح للألوهة ما يناسبها.

ولان الكل بحاجة ضرورية الى ما سواه ، فلا بد ان يعبد كل من سواه كما تهواه نفسه ، ام يهواه عقله وفطرته ، فالماشي على صراط مستقيم يوحّد الله ، والماشي مكبا على وجهه يعبد هواه ، ويعبد ما تهواه هواه ، إذا فكل المشركين ثنويون ، كما وكل ملحد ثنوي ، والإله الاول لاولاء وهؤلاء هو النفس الأمارة ، والثاني سائر الآلهة ، سواء أكانت المادة لا سواها فملحد ، ام المادة وسواها فمشرك.

٣٧١

فاتخاذ إلهين اثنين يحلّق على الشرك كله ، في ذاتية التعدد ام الخالقية ام التدبير او العبادة ، أما ذا من صنوف الإشراك بالله ، فلا يخص باتخاذهما معبودين حتى يقال ان المشركين لا يعبدون الله ضمن ما يعبدون سواه ، كما لا يعبدونه موحدين إياه ، حيث الإشراك ان يتخذ بجنب الله إله له ما لله بعضا او كلا من الألوهة ذاتا وصفات وافعالا : خلقا وتدبيرا ، واستحقاقا للعبودية.

فكل إلحاد في الله أو شرك بالله هو لمن اتخذ إلهه هواه (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ) (٤٥ : ٢٣) (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) (٢٥ : ٤٣).

واتخاذ الإله هو في مثلث لا سواه : توحيدا لله ـ توحيدا لألوهة من سوى الله ـ اتخاذا لإلهين اثنين ، والثاني بين إلحاد في الله إنكارا لألوهيته ، وبين توحيد العبادة لسواه واتخاذه إلها في غيرها ، وهذا الثاني هو من ضمن الثالث ان يتخذ إلها مع الله هواه ، فتهوي به الى هوّة العبادة لغير الله.

إذا فالناكرون لوجود الله ، وغير الموحدين لله ، هم كلهم ممن اتخذ إلهين اثنين ، الله وهواه ، وهي التي تأمره باتخاذ من سوى الله إلها ، واحدا معه أم أكثر ، بل والناكرون ايضا غير ان الله ليس احد الإلهين لهم.

ثم اتخاذ إلهين اثنين تعم كافة الاتخاذات المشركة الجارفة الخارفة التي تتنافى وتوحيد الله في كافة مراتبه ومقتضياته ، من شرك خفي كالرئاء ، ام جلي كسائر الإشراك بالله ، أيا كان ذلك الإشراك ، ف (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) تناحر كافة دركات الإشراك بالله.

و «هو» هنا مبتدء لخبر الوحدة في الألوهة ، فإما هو راجع إلى «الله» ام «إله» المستفادة من «إلهين» ـ والواحد متفق عليه ، والثاني مختلف فيه ـ ام هو راجع الى الذات الغائبة : الهوية المطلقة الإلهية ، ف «انما هو» على اي الحالات الثلاث «إله واحد» بحقيقة الوحدة ووحدة الحقيقة «فإياي» لا سواي «فارهبون» تفريعان للرهبة الرهيبة الوحيدة غير الوهيدة ، على تلك الوحدة

٣٧٢

البارعة القارعة ، رهبة خوف ومهابة إجلال.

اجل ، وان وحدة الالوهية تتطلب وحدة الرهبة هي من الإله الواحد ، وفي تقديم «إياي» المفعول ، على فعلها «فارهبون» دلالة على ذلك الحصر.

(وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ) ٥٢.

فكما (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ملكا وملكا وقدرة وعلما وحكمة أمّاهيه من اختصاصات الألوهية ، «واصبا» خالصا دونما خليط ولا شريك ، «أف» بعد هذا او ذاك (فَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ) وعلى الله تطغون؟ تلك إذا قسمة ضيزى!.

فلان (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) دون سواه ، إذا ف (لَهُ الدِّينُ واصِباً) دون سواه ، والنتيجة الحاسمة هي تقوى لله دون سواه (أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ) أإفكا آلهة دون الله تريدون؟.

والواصب هو الخالص الدائم ، وطاعة الله إذا خلصت دامت ، وإذا خلطت زالت ، فلا مدخل لمن سوى الله في تشريع دين او شرعة من الدين حتى النبيين ، ولا طاعة لأحد سوى الله ، فدين الله واصب دون اختلاق لسواه ولا اختلاط.

و «الدين» في زواياه الثلاث : طاعة ، وتشريعا لطقوسها ، وجزاء بها في الأولى والأخرى ، هو «له» لا سواه ، ف (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) فلا طاعة لغير الله ولا تشريع ولا جزاء إلّا رسالة وإمرة من الله ، وتطبيقا لأمره.

ثم الدين الطاعة لله يعم الكائنات كلها طوعا وكرها : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) (٣ : ٨٣).

(وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) ٥٣.

٣٧٣

الباء في «بكم» هنا تصلح لمثلث المعنى : ظرفية ومعية وسببية : .. فيكم ومعكم ومنكم ـ إذا فهي تحلّق على كافة النعم التي تفيدنا ونستفيد منها ، مما نحوطها وتحوطنا (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) وعرفان النعمة من شكرانها ، ونكرانها كفرانها ، ف «ما من عبد أذنب ذنبا فندم عليه إلا غفر الله له قبل أن يستغفر وما من عبد أنعم الله عليه نعمة فعرف انها من عند الله إلا غفر الله له قبل ان يحمده» (١) وترى كيف تكون النعم التي هي منا ماديا أو معنويا ، هي من الله ، فليكن الايمان وهو قمة النعم التي منا هو من الله؟ «ومن لم يعلم ان لله عليه نعمة إلا في مطعم او ملبس فقد قصر عمله ودنى عذابه» (٢).

هي من الله حيث خلق لنا أسبابها مادية او معنوية ، فقد كتب مادة الايمان في كتاب فطرنا وعقولنا ، ثم ايدهما نضجا لهما وتكاملا بآيات آفاقية من رسل ببيّناتهم وسواهم وسواها ، ثم إذا آمنا بهذه المهيّات السهلة السمحة يزيدنا ايمانا (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) ـ إذا فنعمة الايمان هي منه اكثر مما هي منا ، والذي منا هو كذلك نعمة من الله أن هدانا سبلنا (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ).

وهنا نعرف مدى الحق الحقيق بالتصديق من الحديث القدسي «يا ابن آدم انا اولى منك بحسناتك وأنت اولى مني بسيآتك» وقد تصدقه (بِيَدِكَ الْخَيْرُ).

فحين تكون النعم كلها من الله ، بعد انه الخالق المدبر المشرّع ، فليكن الشكر وأعلاه العبادة ، كلّه لله ، حيث النعمة ـ ولا سيما هذه الغزيرة ـ هي التي تتطلب الشكر اضافة الى جمال الذات والصفات الذي ليس فوقه جمال ولا

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٦١ ، عن اصول الكافي بسنده عن ابان بن تغلب قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول :

(٢) المصدر عن تفسير القمي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حديث طويل وفيه يقول (صلى الله عليه وآله وسلم) :

٣٧٤

يدانيه او يساميه.

هذا! ثم بعد تمام النعمة وكمالها حسب القدر الحكيم (إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ) بفقدان نعمة أو نقصانها امتحانا أو امتهانا حسب الحكمة الربانية «فإليه» لا سواه من آلهة تتخذونها مع الله «تجأرون» : تنعرون وتنهرون ، نعرة البقار ونهرة الوحوش.

فأنتم ـ إذا ـ بين حقين واقعين من واجب التوحيد لساحة الربوبية : واقع توحيد النعم ، وواقع حكم الفطرة انه تعالى هو المنجي لا سواه ، (إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ) ساعة الضيق والعسر ، وحين تنقطع كلّ الأسباب وتحار دونه الألباب ، وعند ما يصهركم الضر وينفض عنكم أو شاب الشرك وأعشابه ، حينذاك (فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) شئتم ام أبيتم ، جئورا فطريا اتوماتيكيا من هؤلاء المشركين بالله او الملحدين في الله.

فكل براهين التوحيد آفاقية وانفسية إمّا هيه معسكرة دائبة أمام البصائر والأبصار ، مثبتة لتوحيد الذات والصفات والأفعال ، وقضيتها عقليا وفطريا وواقعيا توحيد العبودية لله ، سبحانه وتعالى عما يشركون.

(ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ٥٤ لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ٥٥.

هنالك فريق وهم قلة قليلة يفيقون راجعين الى توحيد ربهم ، بعد الانتباه الى وحدة المنعم ، والمجئر المرجع عند الضر ، وبعد كشف الضر ، وفريق آخر وهم ثلة عليلة (بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) «ليكفروا» جاهلين او متجاهلين ، كفرا او كفرانا (بِما آتَيْناهُمْ) من النعم قبل البأساء والضراء وبعدهما «فتمتعوا» يا حماقى الطغيان ، في الكفر او الكفران ، تمتعوا من زخرفات الحياة الدنيا حتى حين ، متعة الحيونة الدانية والشهوة الفانية (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) بعد جهل عامد ، او تجاهل عاند ، «تعلمون» ان الله هو الحق المبين ، وان العذاب على من كذب وتولى.

٣٧٥

ثم «ليكفروا» هذه ، قد تجمع بين الأمر والغاية ، امرا تعجيزيا في تنديد شديد هو أشد من النهي ، وكما امر إبليس زعيمهم (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ ..) (١٧ : ٦٤).

وغاية مقصودة لفريق من المشركين في تجاهل عاند لنعم الله تعالى وهم من أحمق الحماقى ، ام غاية قاصدة لآخرين على جهل مقصر حيث تغافلوا عن نعم الله وأخلدوا إلى أسباب مادية كأنها هي الأسباب فقط ، ثم لا شغل لله فيها ، وهم العارفون ان (ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ).

انه ليس التمتع بمتع الحياة منهيا عنه محرما ، وانما التمتع الملهي عن الله لا سيما من المشرك بالله ، او الملحد في الله ، فكل ما يتمتعون به سوف يؤاخذون عليه لكفرهم بالمنعم وكفرانهم بالنعمة (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ان هذه النعم المتعة ستبدّل لهم نقما متعبة ، ف (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ) (١٤ : ٧) (وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ) (٣٩ : ٤٧).

وانها لنموذجة مكرورة طول التاريخ الإنساني ، ففي المضايق الفادحة الكادحة تتوجه القلوب الى الله وتتعلق بالله بحكم الفطرة التي فطر الناس عليها ، ثم في المفارج والمفارح تتلهى بالنعمة بمختلف الإلهاءات والملهيات واللهوات ، من تأليه قيم وأوضاع وموافقات قد تسمى اتفاقيات ، ام قابليات مهما لم تسم باسم الآلهة ، ولكنها في الواقع كآلهة حيث تستغل مستقلة بجنب الله ، ام وكأن لا حول فيها لله.

(وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) ٥٦.

هؤلاء المشركون الحماقى يتشطّرون رزق الله بين الله وبين ما لا

٣٧٦

يعلمون من شركاء مختلقة لله (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (٦ : ١٣٦) «تلك إذا قسمة ضيزى» لو صحت قسمة هنا ، ولا تقاسم بين الله وخلقه في رزقه أيا كان!.

ولو أنهم كانوا يعلمون ما يجعلون له نصيبا لكان أخف ضلالا وعذرا ، ولكنهم ليس لهم اي سلطان ، من كتاب او علم او اثارة من علم (وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (٥٣ : ٢٨).

ووجه آخر (لِما لا يَعْلَمُونَ) ان ضمير الجمع تعني الشركاء المجعولة لله ، فهم لا يعلمون شركهم بالله ، ولا نصيب الرزق قربانا لهم ام تأثيرا في أصله ، والوجهان معا معنيان لصلوح اللفظ والمعنى ، وانما جيء بضمير العقلاء في «لا يعلمون» رجوعا الى «ما» غير العقلاء ، اعتبارا بالمعنى الاوّل ، ام ولان «ما» تعم الشركاء العقلاء ، فإنهم كغير العقلاء «لا يعلمون» قربانا ولا تأثيرا في الرزق ، فهم لا يعلمون رزق أنفسهم فضلا عن رزق العابدين لهم!.

والواو في «ويجعلون» تعطف الى «يشركون» اشراكا بالله في تقريب القربان نصيبا من رزقه لسواه ، كما أشركوا في عبادة الله.

وقد يعم هذا النصيب ذلك الذي فصّل في آية الأنعام ، نصيبا سواه هو في اصل الرزق ، ان الآلهة المجعولة هي شركاء لله فيما رزقهم الله ، وهم يعلمون بأصل الفطرة انه ـ فقط ـ من الله ، كما العبادة فقط هي الله.

ومن قاطعة الشهود له (فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ) دون سواه ، وهذه هي قسمة ضيزى بين واقع المعبودية والرازقية وما إليها من شئون الألوهية كما تحكم به الفطرة ، وبين ما يعملون دون تجاوب وتعامل مع الواقع الحق ، ومحتمل

٣٧٧

ثالث تحتمله الآية ما صرحت به آية المائدة : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) (٥ : ١٠٣).

إذا ف «نصيبا» هو ثالوث النصيب حيث اختلقها المشركون مفترين على الله (تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) اشراكا بثالوثه وسواه.

فكل قربان يقرب لغير الله دون ان يأمر الله شرك ، كما وان كل توسل بغير الله إلا ما امر الله شرك بالله ، وكل اختصاص لشيء بغير الله شرك (تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ).

فانما الطقوس الدينية هي نية وعملا ـ فقط ـ لله وكما امر الله ، وحتى الرسول محمد (ص) (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) كما لا حلف إلّا بالله ، ولا عهد ولا ندر إلّا لله ، وما سواه إمّا باطل أو إشراك بالله ، مهما اختلفت دركاته

(وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) ٥٧.

فهم لا يشتهون البنات وانما البنين ، ثم (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ) : ملائكة الله وهم يعبدونهم قربانا آلهة من دون الله ، ثالوثا من الجعل الجهل منحوسا ، مسا من كرامة الله انه يلد بنات ، وهو لا يلد لا بنين ولا بنات ، ومسا من كرامة الملائكة وهم لا ذكور ولا إناث ، وثالثا من كرامتهم أنفسهم حيث يعبدون ما لا يشتهون! : (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ. وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ. أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ. وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ. وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (٤٣ : ٢٠).

وجعل الملائكة بنات لله ، أعم من الولادة الاصلية او التشريفية

٣٧٨

«سبحانه» عنهما فإنهما مس من ساحته وحط من كرامته ، واثبات لحاجته.

ولقد كان هذا الجعل الجاهل تقليدا أعمى عن السابقين (يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ) كأمثال البرهميين والبوذيين والصابئين.

ثم (وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) قد يكون معطوفا على «لله» ـ : ويجعلون لهم ما يشتهون ، مطاردة لمواليد الإناث وأدالهن ، ام حالا ـ : ويجعلون .. حال ان لهم ما يشتهون.

وما قد يتقول من ان الفاعل إذا كان ضميرا متصلا لا يتعدى الفعل إلى ذلك الضمير بنفسه إلّا بفاصل ، إنه منقوض ب (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) (١٩ : ٢٥) (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ) (٢٨ : ٣٢) دون «الى نفسك» فيهما ، فلا ضرورة في «ولأنفسهم ما يشتهون» والقرآن هو محور الأدب ككل الإرب ، ولا يحول حول سائر الأدب!

(وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ٥٨ يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) ٥٩؟!.

«بشّر» هنا حقيقة ناصعة ، أن الأنثى كما الذكر يبشّر بها ، وهم يعتبرون بشراها نذارة فنكارة منها ، وذلك رسم لصورة نكرة ، بالية نخرة ، عن سيرة المشركين من قبل ، معاملة سيئة ، ونظرة وضيعة إلى البنت المشرقة الوضيئة ، خشية العار والفقر ، فالفرار عن الفقر والعار بوأد البنات ، فإنهن لا يكسبن فيعشن كلّا عليهم ام يتزوجن ، ام يقعن في السبي عن الغارات فيكسبن العار ، سيرة جاهلة قاحلة في تضادات ماحلة ، بغض البنات لحد الوأد باسوداد وجه وتوار من القوم ، وهم يعبدون نظيراتهن ملائكة الله زعم انهن بنات الله!.

(أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) هنا وهناك ، هنا حكما بوأدهن ، وهناك عبادتهم للملائكة كبنات لله ولهم ما يشتهون.

٣٧٩

أفليس هؤلاء الحكام الحماقى من مواليد الأناث ، فليئدوا أنفسهم لأنهم من مواليد الهون والعار ، ولم تكن الأنثى ـ فقط ـ مغبونة مهتوكة في المجتمع الجاهلي ، وانما هو الإنسانية جمعاء ، فالأنثى نفس إنسانية ولدت إنسانة من إنسانين وتلد أناسي كثيرا ، ومن ذكر وأنثى ، فإهانتها مهانة للعنصر الإنساني عن بكرته ، ووأدها وأد للإنسانية ، وإهدار لشطر شطير من حياتها.

وان تعجب فعجب من ناعقة الجاهلية المعاصرة ، اللامزة الهامزة بالعقيدة الاسلامية حول المرأة لماذا تحتجب ولا تشارك الرجال في الأعمال بحريّة مطلقة؟.

وذلك رفع لكرامتها ، ودفع لكل قزامة عنها ، وهم يعتبرونها سئول الحاجة الجنسية ، ولعبة الهوسات الحيوانية ..

(ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) من بؤس البشرى (وَهُوَ كَظِيمٌ) في نفس الوقت عن بغضه ، فلولا كظمه لكان يموت فورا ، أو يغشى عليه ، ام يئد بنته فور البشرى.

(يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ) والقوم معه كلهم من مواليد ذلك السوء ، وهم يعبدون الملائكة البنات بزعمهم السوء! «يتوارى» مفكرا مترددا (أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ) واختجال من ذلك السوء الوبال (أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ) دسا لهونه في التراب «ألا» فانتبهوا أيها النبهاء (ساءَ ما يَحْكُمُونَ) في ثالوث حكمهم : على الله ، وعلى أنفسهم وعلى البنات.

(لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ٦٠.

(وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٣٠ : ٢٧) آيتان تثبتان لله المثل الأعلى في الكون كله ، ثم ثالثة تحيل له ايّ مثل في الكون كله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (٤٢ : ٨١) والمثل هو الشبيه والمثل هو الآية ، ولأنه لا مثيل له ، فلا تماثله آيته وقد فصلناهما في الشورى.

٣٨٠