الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٤٤

(وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) (٧ : ٢٠١).

وهل الاستعاذة واجبة للقراءة للأمر بها في الآية ، ام واجبة على الإطلاق لأمر المعوذتين؟

لا! إنما هي راجحة للقراءة حيث القراءة في نفسها غير واجبة ـ الا قدر الواجب من المعرفة ـ فكيف تجب لها الاستعاذة ، وباحرى في غير القراءة ، ولكنها قلبيا وعمليا واجبة ارشادية لكيلا يقع المؤمن في فخ الشيطان ، او يعني الأمر بالاستعاذة ايجابيا انها ـ ولا سيما قلبيا ـ هي شرط صحة القراءة ، ثم ولا منافاة بين ندب القراءة ووجوب الاستعاذة عندها ، كرد السلام فانه واجب عند بدئه وهو راجح ، ام ان الاستعاذة الواجبة هي القلبية قدر المستطاع ، فلأن مهبط القرآن لسانا وسمعا وقلبا وعملا ، يتطلب نزاهة من الشيطان ، فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم قبل القراءة تسلم قراءتك عن وساوسه ، واستعذ بالله فيه بعد ختامها لتسلم قراءتك من هواجسه ، واستعذ بينهما لئلا يداخلك في هذا البين ، والاستعاذة القلبية في هذه الثلاث هي لزام سلامة القراءة ، وهي باللسان ادب البداية وحدب النهاية.

فلتعش الاستعاذة في قراءتك منشور ولاية ربك ، لتعيش في ظلالهما القرآن بقلبك وقالبك.

ولتعارض كل شيطان ـ من انس او جان يمنعك عن القرآن ـ بكل طاقاتك وإمكانياتك كفاحا صارما بالأسلحة المضادة المناسبة لمصائد الشيطان ومكائده.

اننا ما أمرنا بالاستعاذة من الشيطان في أية عبادة ام قراءة إلا القرآن ، لأنه الشامل لكل وظائف الولاية الإلهية ، فالاستعاذة عند قراءته تحلق على

٤٨١

كل ما يرضاه الرحمان ، (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)!

ولماذا نستعيذ بالله من الشيطان الرجيم؟ ل :

(إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ٩٩ إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) ١٠٠.

ف «آمنوا» متمثل في قراءة القرآن ، وهنا نعرف المعني منها انها قراءة التفهم فالتصديق والايمان ، (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) متمثل في استعاذتهم ، وهنا نعرف انها ليست فقط لفظة تقال والقلب خاو ، فالإيمان بالله والتوكل على الله على ضوء كتاب الله هو الضمان الأمان عن سلطان الشيطان ، فكل من الايمان دون توكل والتوكل دون ايمان خاويان ، وسلطان الشيطان مستقر فيهما كما كان فيمن يفقدهما معا ، مهما اختلف سلطان عن سلطان ، فالإيمان في بعدي الجنان والأركان يتكفل الواجهة الاختيارية للإنسان قدر الإمكان ، ثم التوكل ضمان لبقاء الايمان وتكامله.

وليس سلطانه أية وسوسة منه تحمل المؤمن على لمم ام يزيد ، بل هو سلطان له على اصل الايمان ، ان يتولاه المؤمن ويشرك به ، كما هو المستفاد من الحصر (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) : (قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ. إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ. وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) (١٥ : ٤٣) والمؤمن العاصي ليس من اهل الجحيم ، فليست الغواية بسلطانه إلّا خروجا عن سلطان الرحمن الى سلطان الشيطان بزوال الايمان.

إذا «فليس له ان يزيلهم عن الولاية (الإلهية) فأما الذنوب وأشباه ذلك فإنه ينال منهم كما ينال من غيرهم» (١) فقد «يسلط والله من المؤمن

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٨٦ في تفسير العياشي عن حماد بن عيسى رفعه الى أبي عبد الله (عليه السلام) قال سألته عن قول الله : انما سلطانه .. قال : ليس له ...

٤٨٢

على بدنه ولا يسلط على دينه» (١) : قضاء عليه ام نيلا منه تركا له الى دين الشيطان ، ومهما اخطأ المؤمن بوسوسته ليس ليستسلم له متوليا له ولاية المحبة ام ولاية السلطة ، بل يتولى عنه إذا مسه : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ. وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) (٧ : ٢٠٢).

وكما أن مس الشيطان مس للروح ، كذلك التذكر الذي يطرده دحرا هو تذكر الروح سلبا بالاستعاذة وإيجابا بالبسملة ، مهما استعاذ وبسمل بلسانه ، كما بقلبه وسائر أركانه ، فالأصل هو القلب ثم القالب ومن ثم اللسان الحاكي عنهما ، استعاذة مثلثة الزوايا ، قاعدتها القلب ، وعمودها القالب واذاعتها اللسان والله خير مستعاذ به ومستعان.

هذا ولكن حذار حذار من خطوات الشيطان حيث يخطو من الصغائر إلى الكبائر والى الشرك بالله والإلحاد في الله ، ولذلك يومر الذين آمنوا ان يعيشوا الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم بكل طاقاتهم وامكانياتهم متوكلين في كل ذلك على الله.

وهنا تتقدّم (الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) على (الَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) تلميحا ان توليه قبل الإشراك به ، فكل دركة من دركات تولّيه حركة الى دركة من الإشراك به ، ف (الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ) هم غير المشركين ، مهما اختلفا في درك الضلال ، كما اختلف سلطان عن سلطان ، حيث الاول خطوة الى الثاني ، كما ودوامة السيآت خطوات الى توليه.

__________________

(١) المصدر في روضة الكافي بسند متصل عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قلت له : فإذا قرأت ... وعلى ربهم يتوكلون فقال : يا أبا محمد يسلط ... قلت قوله عز وجل : انما سلطانه .. قال : الذين هم بالله مشركون يسلط على أبدانهم وعلى أديانهم.

٤٨٣

وهنا «به مشركون» قد يعني يشركون بالشيطان حيث أشركوا بالله سواه بواسطته ، ام «بالله مشركون» (١) والمعنيان علهما معنيّان ، حيث الإشراك بالله ليس الا بالشيطان ، مهما اختلف المعني من الباء هنا وهناك سببية وتعدية (٢) والاولى مقدمة على الثانية حيث الإشراك بالله ليس الا بسبب الشيطان.

ثم الشيطان تعم كافة شياطين الجن والانس ، فان الاسم الخاص لزعيم الشياطين هو إبليس ، وهو يضل أولياءه والذين هم به مشركون بخيله ورجله ، بذريته الشياطين وسواهم من الشياطين ، كما ويضلهم بنفسه ، حيث يتولونه ويستسلمون له بشهواتهم ونزواتهم حتى يشركوا بالله ، وعوذا بالله.

(وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(١٠١).

«آية» هنا هي الآية الإلهية الدالة بنفسها على انها من قبل الله ، سواء أكانت آية الرسالة المثبتة لها كسائر معجزات المرسلين وأفضلها القرآن العظيم وهي آية رسولية ، ام آية رسالية كالآيات القرآنية وكل منها آية في بعدين

__________________

(١) تفسير البرهان ٢ : ٣٨٤ عن الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قلت له : فإذا قرأت القرآن ... فقال يا محمد يسلط والله من المؤمن على بدنه ولا يسلط على دينه وقد سلط على أيوب فشوه خلقه ولم يسلط على دينه وقد يسلط من المؤمنين على أبدانهم ولا يسلط على دينهم قلت له قوله عز وجل (إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ)؟ قال : الذين هم بالله مشركون يسلط على أبدانهم وعلى أديانهم.

(٢) فان أشرك بالشيطان يعني بسببه وأشرك بالله يعني أشرك غيره به فهذه للتعدية وتلك للسببية.

٤٨٤

رسوليا ورساليا ، ولسائر المرسلين آية ذات بعد واحد هي الرسولية الدالة على الرسالة.

ف «آية مكان آية» هنا تعني في الأصل الآية الرسولية ، الخارقة للعادة ، كما تلمح له «قل نزله ..» دون «نزلها» حيث يعني القرآن كله كآية واحدة رسولية ، ولمحة ثانية في ثانيتها : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ..).

فهي ـ إذا كآية البقرة : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) (٢ : ١٠٦) فقد بدل الله في هذه الرسالة الاخيرة آية القرآن معجزة عقلية خالدة على مر الزمن ، مكان آية الرسالات السابقة كلها وهي الآيات البصرية العابرة الغابرة دونما استمرار ، فلانهم كانوا متعوّدين على تلكم الآيات ففاجئتهم آية القرآن الخالدة زعموا انه ليس آية معجزة : (وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٧ : ٢٠٣) (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (٦ : ٣٧) (وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللهِ اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ ..) (٦ : ١٢٤) (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) (١٣ : ٧).

اجل (لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) رسولي بمعجزة إلهية تناسبهم ، ولا تناسب قوم الرسول محمد ـ وهم العالمون أجمعون منذ رسالته الى يوم الدين ـ إلا آية خالدة مستمرة مع الزمن واهله تكون حجة لهم وعليهم ما طلعت الشمس وغربت ، وهي القرآن العظيم.

إذا فقولتهم الفاتكة (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) ليست لنسخ في آيات احكامية

٤٨٥

لا تعدوا أربعا وليست هي مكية ، ولا ان المشركين يعرفونها ، فان معرفتها بحاجة الى سبر في اغوار القرآن ، وعيشة دائبة في جو الوحي ، بل هي بذلك الحصر والتأكيد الشامل لكامل الرسالة بأسرها ، لأنهم لم يعتبروا آية القرآن آية رسولية ، ومدعي الرسالة دون أية آية هو بطبيعة الحال مفتر في كل ما يحمله زعم الرسالة ، ولو كانت هي فقط الآية الناسخة لخصتها الفرية وانحصرت فيها دون حصر شامل لكل ما يفعل او يقول الا ناسخة الآيات.

(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ان تبديل آية القرآن مكان سائر آيات الرسالات ، إنه لزام خاتمية الرسالة ، وأقلهم يعلمون ، فهذه القلة العالمة الناكرة معاندة وهم رؤوس الضلالة ، ثم وتلك الثلة الجاهلة تقصيرا بتقليدهم إياهم دون قصور ، هم أتباع وهوامش الضلالة.

ان المشركين لا يدركون مسئولية هذه الشرعة الاخيرة والكتاب الأخير لآخر بشير ونذير ، لا يدركون انه جاء لإنشاء مجتمع عالمي على مدار الزمن ، الرسالة الاخيرة التي ختمت بها الرسالات كلها ، فإذا بدل آية رسولية مكان آية اخرى انتهى أجلها واستنفدت أغراضها ، آية اخيرة هي الصالحة للحالة الجديدة ، وكافة الأنسال المتجددة الى يوم القيامة ، إذا بدلت هكذا حكيمة صالحة مصلحة (قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ).

والآية في تفسير شمولي على هامش الآية القرآن ، تشمل الآيات الناسخة (١) التي تدفع الناكرين لوحي القرآن على اعتراض : ما ذلك التناقض بين احكامه ان كان من الله؟ (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) على الله فانه لا

__________________

(١) نور الثقلين عن تفسير القمي في الآية قال : إذا نسخت آية قالوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنت مفتر فرد الله عليهم فقال قل لهم يا محمد : نزله ... يعني جبرئيل.

٤٨٦

يناقض كلامه بكلامه!

ثم «قل نزله» يعني تنزيل القرآن كله ، ناسخه ومنسوخه قضية المصلحة الوقتية ، وسائر القرآن هو أكثريته المطلقة حيث الناسخ ليس إلا في آيات اربع ام تزيد.

(قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ)١٠٢.

الضمير المذكر في «نزله» راجع الى «آية» لأنها القرآن ولو كان القصد الى آية ناسخة لكان حق التعبير «نزلها»! ثم «ليثبت ..» لا تمت بصلة لآية ناسخة فانها تزعزع ضعفاء الايمان ، ويحيّر اقوياءه ، فضلا عن المسلمين الذين هم دون المؤمنين.

وترى كيف تكون آية ناسخة مزعزعة لفريق من المؤمنين بشرى للمسلمين ، اللهم إلا آية القرآن الخالدة فانها تثبيت لايمان المؤمنين على طول خط الزمن الرسالي لخلودها على مرّ الزمن بمرّ الحق ، وبشرى سارة متلاحقة للمسلمين الذين أسلموا ولما يدخل الايمان في قلوبهم ، فان مزيد التفكر فيها والمراس لتدبر آياتها بشريات تلو بعض لكونها آية إلهية منقطعة النظير عن كل بشير ونذير.

ثم الصيغة الصالحة للنسخ : «وإذا بدلنا حكما مكان حكم» حيث النسبة بين الآية والحكم عموم من وجه لا يجتمعان إلا في وجه تحمل كلّ من الناسخة والمنسوخة حكما ، فقد لا تحمل آية حكما ام تحمل أزيد من حكم.

و «روح القدس» المذكور هنا لا يذكر في سواه إلا للمسيح (عليه السلام) في آيات ثلاث (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) (٢ : ٨٧ و ٢٥٣) (إِذْ

٤٨٧

أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ) (٥ : ١١٠).

وهذه الأربع تقول ان «روح القدس» منفصل عن الرسول في الكون ، مهما اتصل به في الكيان لإبلاغ الوحي المفصل ، فهو ملك الوحي المعبر عنه في سائر القرآن بالروح الأمين : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (٢٦ : ١٩٣) وروح الله (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) (١٩ : ١٧) وجبريل : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ) (٢ : ٩٧).

و «روح القدس» إضافيا دون «الروح القدس» وصفيا ، يبرهن ان جبريل ليس قدسا ملائكيا كسائر الملائكة ، بل هو روحهم وسيدهم مهما كان منهم (١) ، فكما ان روح محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هو روح الأرواح ، وقرآنه روح الأرواح ، فليكن الملك الحامل لوحيه روح الأرواح ، أرواح ثلاث في أعلى القمم الروحية تجتمع في الكيان القدسي المحمدي (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فروحه ـ إذا ـ اقدس الأرواح الملائكية والبشرية أما هيه

ولأن القدس هي الطهارة القادسة ، فروح القدس هي روح الطهارة ولها مصاديق ثلاثة : روح القدس الملائكي وهو جبريل ، وروح القدس الوحي وهو القرآن ، وروح القدس الرسالي وهو (صلى الله عليه وآله وسلم) روح الأرواح الرسالية.

و «نزله» قد تعم أرواح القدس الثلاث إلا روح القدس فانها منزّلة

__________________

(١) المصدر في تفسير العياشي عن محمد بن عرامة ، الصيرفي عمن أخبره عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ان الله تبارك وتعالى خلق روح القدس فلم يخلق خلقا اقرب اليه منها وليست بأكرم خلقه عليه ...

٤٨٨

لا منزّلة ، ثم هو القرآن المفصل في «نزله» بين تنزيل فاعلي (مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ) وهو جبريل ، وتنزيل قابلي هو قلب الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

فكما انه لو لا تنزيل جبريل من ربك لم يكن للرسول وحي القرآن المفصّل كذلك لو لا قابلية وجاذبية قلب الرسول لذلك الوحي لم ينزله جبريل من ربك بالحق.

فقد نزل روح القدس القرآن ، روح القدس جبريل فاعليا على روح القدس الرسول قابليا ، فاجتمعت ـ إذا ـ أرواح القدس الثلاث في وحي القرآن نازلا ومنزلا ومنزلا!.

(رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ) حيث خلقه وبعثه إليك لحمل الوحي وبلاغه ، ف (رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ) «نزله من ربك» كما «نزله بالحق ـ من ربك بالحق».

وتراه يقول كما امر (نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ) ام «من ربي بالحق»؟

إنه بطبيعة الحال لا يقول إلا مقالة الرب دون تحويل حتى في قوله «قل» فضلا عما سواه ، و «من ربك» بديل «من الله» للتدليل على بالغ الرحمة والعناية في حقه ، وان القرآن يحمل التربية القمة المحمدية ، ثم الخطاب هنا يعم ـ في توسعة على الأبدال ـ كافة المخاطبين بالقرآن ، اجل وانه مسرح القمة التربوية ، صاعدة الى الرسول ، ونازلة الى اقل العالمين تفهما ، وبينهما عوان ، فانه رحمة للعالمين كما الرسول : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ).

و (مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ) لا منه ، ولا هو من عند الرسول نفسه ، ثم ولا

٤٨٩

تعنتا على الرب ان ينزله ، وانما (مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ) فهو الحق مصدرا وصادرا ومحطة دون اية ريبة.

ولماذا (نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ)؟ ألحاجة الرسول الى وسيط في ذلك التنزيل؟ وهو أعلى محتدا وأوسع صدرا من جبريل ومن فوقه! وقد اوحي اليه ليلة المعراج دون اي وسيط ملائكي وسواه!

كلا! وإنما ذلك (لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا) على الإيمان بانه بشر رسول كما يثبتهم على أنه آية إلهية ، فلو أوحي إليه دون وسيط لخيّل إلى بسطاء الإيمان أمّن فوقهم معهم ـ أنه إله ، كما قالوا في المسيح (عليه السلام) إذ ولد دون أب ، ومعجزة القرآن أغلى بكثير وأقوى من هذه الولادة بسائر الآيات لوليدها وسائر رجالات الوحي.

صحيح ان المؤمنين لم يكونوا ليروا روح القدس ، ولكن إخبار الصادق الأمين انه نزله روح القدس يكفيهم تصديقا لهذا الواقع المكرور طيلة الرسالة ، وكما صدقوا رسالته من ذي قبل.

و (الَّذِينَ آمَنُوا) هنا تعم من كان يفتش عن ذلك الإيمان قبل وصوله اليه ، متثبتا عنه حتى وصل اليه فثبتّه على ذلك الإيمان لأن آية إلهية تمس القلوب والعقول ، ومن آمن به حيث يزداده ذلك التنزل تدريجيا ايمانا على ايمان ، وانه ليس وحيا لفترة قصيرة قاصرة ، وانما هو أجزاء متلاحقة لصق بعض نورا على نور ، ثم والذين يؤمنون بعد ارتحال الرسول ، حيث الآية الباقية بعد الرسول تثبيت على الايمان ، دون الآية الماضية مع الرسول حيث المؤمن الآتي بعده لا يجد سبيلا لتثبيت الايمان فضلا عن بدايته.

٤٩٠

ومن ثم (وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) الذين اسلموا ولما يؤمنوا ، فإنهم يهتدون على نجومه المتواترة المتقاطرة ، فلو انزل دفعة واحدة كان عبئا عليهم بل وعلى المؤمنين أيضا.

كما وهم يستبشرون بنجومه العدّة تلو بعض ولصق بعض ، حيث تزيدهم إسلاما على إسلام ومن ثم ايمانا ، ثم (هُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) المتكاملين في الايمان ، تسليما لله خالصا دونما أية شائبة.

ف «المسلمين» هنا تعم مثلث الإسلام ، الإيمان وقبل الإيمان وبعد الإيمان في تكامله ، ففي أصل نزول القرآن آية معجزة أخيرة ، وفي تنزله نجوما هدى متواصلة وبشرى للمسلمين أيا كانوا وأيان (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)!

ففي تنزيل روح القدس هذه الآية الأخيرة جنبات عدة من المصلحة ، لصالح المؤمنين والمسلمين ، ذودا عن التبنّي لله او الإشراك به في سواه ، وعن خمول الايمان أم زواله بخمول الآية المعجزة ام زوالها بزوال الرسول.

(وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) ١٠٣

فرية قاحلة خاوية اخرى على رسول الهدى (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) ومن هذا الذي يعلمه القرآن ولا يدعيه هو لنفسه؟ واي بشر او غير بشر ممن سوى الله يقدر على ان يأتي بسورة ام آية من مثله؟ والقرآن بنفسه آية كونه من عند الله : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)!

ثم و (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ) ـ أيا كان سلمان وسواه ـ (١)

__________________

(١) قيل إنه سلمان الفارسي كما في الدر المنثور أخرجه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك في الآية قال : كانوا يقولون انما يعلمه سلمان الفارسي وانزل الله ... ـ

٤٩١

«اعجمي» فارسي ام رومي ، وهو لم يتقن بعد اللسان العربي ، فكيف يعلّم محمدا العربي هذا العربيّ المبين الذي يعجز عن الإتيان بمثله العالمون.

والأعجمي مهما اتقن العربي فلا يصل الى مدرجة التعليم لعربي قاصع متضلع قاطع كمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) مهما ساواه ام ساماه ، وحتى إذا تفوقه كمعلم فكيف يؤمن بتلميذه ولا يدعيه هو لنفسه ، ام كيف يعلم هذا العربي المبين؟

هنا القرآن يترك هذه المشاكل واضرابها في هذه الفرية ، صارحا في ذلك المسرح اللعين بأوضح المشاكل : (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ) فلو كان عربيا ام ذا لسانين عربيا وأعجميا لما صح تخصيص لسانه بانه اعجمي ، إلا ألا يعرف العربي ، ام لم يتقنه بعد وهو في طريق تعلّمه ، حيث بالإمكان ان يصبح اي اعجمي بارع عربيّ اللسان ، متضلعا متفوقا عربيا أميا وسواه ، كما ان الكثير من أدباء العربية هم من الأعاجم! ولكن الذي لسانه اعجمي ليس بامكانه ان يعلّم ذلك

__________________

ـ وقيل كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعلم قينا بمكة اسمه بلعام وكان اعجمي اللسان فكان المشركون يرون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يدخل عليه ويخرج من عنده فقالوا انما يعلمه بلعام فانزل الله ... ـ أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه بسند ضعيف عن ابن عباس.

وقيل هو عبدة بن الحضرمي اسمه عداس وهو صاحب الكتب وقد كان لسانه روميا أخرجه الحاكم وصححه والبيهقي في شعب الايمان عن ابن عباس.

وقيل هو مقيس كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقرءه وهو غلام لبني المغيرة اعجمي ـ أخرجه ابن جرير عن عكرمة ، وقيل هو عبد لبني عامر بن لؤي يقال له يعيش وكان يقرء الكتب ، وقيل عداس غلام عتبة بن ربيعة ، وقيل جبرا انه كان يعلم خديجة وهي تعلم محمدا.

٤٩٢

العربي المبين ، وهو القمة العليا من الفصاحة والبلاغة ، فالفاقد لشيء كيف يعطيه؟!

ثم (وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ) لا كسائر العربية حتى يتمكن الاعجمي المتضلع من تعليمه ، ام العربي الضالع من تدوينه بل هو «مبين» لمن يتبين ، انه ليس إلا من الله ، فأين ـ إذا ـ الاعجمي وهذا اللسان العربي المبين؟

ومن اعجب العجاب ان هؤلاء السبعة المتردد بينهم الذي يلحدون اليه ، كلهم عبيد اعجميون ، كانوا يتعلمون عند الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ام سواه ، ثم حماقي طغيان الإشراك ألحدوا اليه هذا العربي المبين ، فأين الثرى والثريا ، واين الأعجمي القحّ من عربي مبين؟

ولماذا هذه الدركة النازلة من حماقة الفرية على رسول القرآن ، وهم عارفون لغة القرآن ، وهم اخبر ممن سواهم بقيمة هذه القيّمة في قمة الفصاحة والبلاغة ، فلما ذا لم ينسبوه الى متضلع في العربية ، وهم على نخوتهم القومية لا يرتضون تقديم اعجمي على عربي في اللغة؟

هكذا يريد الله ان يفضحهم فيما بينهم وعلى مر الزمن ، انهم يلحدون القرآن الى عبد اعجمي ، وهم على نخوتهم وضخامة الفصاحة فيهم عاجزون عن ان يأتوا بسورة من مثله.

فاليوم وبعد ما تقدمت البشرية في فنون الفصاحة واذواق البلاغة لم تأت بما يسامي القرآن في آية منه وان في لفظه فضلا عن معناه ، وحتى الماديين الملحدين الذين لا يؤمنون بالله ، في روسيا الشيوعية ، عند ما أرادوا ان يطعنوا في هذا القرآن في مؤتمر المستشرقين عام ١٩٥٤ كانت دعواهم انه لا يمكن ان يكون من عمل شخص واحد ـ أيا كان ـ وهو محمد ، بل هو

٤٩٣

من عمل جموع كبيرة ، صرفوا طاقات كثيرة في نضده ونظمه ، وانه لا يمكن تأليفه في الجزيرة العربية القاحلة الجاهلة!

فيا لحماقي الطغيان العرب ، والناكرين لهذه الرسالة السامية ، من حمق في عمقهم ، وخنق وحنق في حلوقهم ، ان يخرج منها تلك الفرية الفاضحة (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ)! ولئن قلت : علّهم كانوا يلحدون المعاني القرآنية الى اعجمي والألفاظ لمحمد نفسه ، كما قد تلمح له (إِنَّما يُعَلِّمُهُ) حيث التعليم هو للمعاني دون الألفاظ.

فالجواب ان «ه» في «يعلمه» راجع الى القرآن ككل بألفاظه ومعانيه ، والتعليم يعمهما حيث يتعلم اللسان كما يتعلم معاني اللسان.

ثم الأعجمية راجعة إلى الألفاظ دون المعاني ، فإنه لسان اعجمي ولغة اعجمية دون معان اعجمية ، فما لم تلفظ المعاني بلغة فليست هي لا اعجمية ولا عربية ، بل هي معان مدلولة بأية لغة كانت.

إذا فعكس الصورة أحرى بالشبهة ان التعليم كان في الألفاظ دون المعاني ، فالمعاني ـ إذا ـ من محمد والألفاظ من غلام أعجمي ، وهنا الجواب أوقع (لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ) اضافة الى ما طوي عن ذكره في هذه الصورة ، ان المعاني القرآنية هي ارقى من ألفاظه ، فالعارف بها هو أعرف بألفاظه وهو عربي وذاك اعجمي!

ولكن «انما» تحصر تعليم القرآن ككل ب (يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) فجاء الجواب حسما لمادة الكل!

٤٩٤

فهم ـ إذا ـ في أضل الضلال في فريتهم العقيمة الحمقاء ، وهذه سنة الله الدائبة :

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(١٠٤).

«لا يهديهم» إلى آياته إذ زاغوا عنها فأزاغ الله قلوبهم ، و «لا يهديهم» بأحرى لنقضها ، بل ويضلهم عن شبهات مريبة غامضة فيها ، عن ترهات واهيات تفضحهم (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الدنيا ومنه فضحهم بما يتقولون ، وفي الآخرة بما كانوا يكسبون.

(إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ) ١٠٥.

أترى المفتري الكذب على الله هو الرسول المؤمن بآيات الله ، المتمثلة فيه رسالة الله؟ (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ. فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) (٦٩ : ٤٧)!

ام هم المشركون بالله ، الناكرون لآيات الله (وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ).

فهل الحبيب يفتري الكذب على حبيبه ثم العدو يصدّق فيه ويصدّقه؟ (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى)!

فإضافة الى دلالة القرآن الذاتية على انه آية الله ، فالرسول المؤمن بالله وآياته ، الذي عرف منه الصدق مع الخلق قبل رسالته لحد سمي الصادق الأمين ، انه هو أصدق مع الخالق بعد رسالته ، وبينات صدقه واضحة ، وكيف يفتري على الله في كتاب يستحيل كونه من عند غير الله ، ولماذا

٤٩٥

يفترى على الله وهو المؤمن بآيات الله ، فهل الكافرون بآياته صادقون ، والمؤمن بها كاذب مفتر على الله! (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى)!

او يعجز الله ان يحجز المفتري عليه وحيا رساليا ، وذلك الحجز ضرورة تصفوية للرسالات الإلهية؟ وكيف بإمكان المفتري ان يأتي بآية إلهية قاطعة الدلالة فهو يسامي الله في إتيان آية؟

وكيف بالإمكان ان هكذا مفتر ينسب ما أتى به الى الله ان كان يريد مسا بكرامة الله ، ولا يدّعيه لنفسه حتى يظهر مساماته لله؟!

(مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) ١٠٦

وذلك الكفر الماحق هو اكفر الكفر وأسفل دركاته ، وهو المضّلل للبسطاء : أن لو كان الايمان حقا لما ارتد هؤلاء ، وهذه المواصفة الثانية للمفتري على الله قد تلمح ان منهم من كفر بالله من بعد إيمانه لكي تضلّل قولته (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) أكثر وأكثر.

واحتمال آخر في «من كفر» انه شرط جزاءه (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ) وعلى الوجهين فله مصداق كافر هو الذي يقول : (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) وأخر مدّعى وهو رسول الهدى ، انه آمن أولا بالله ثم كفر وافترى على الله ، فمتى روئي منه اختلاف الحالة الرسالية حتى يقال : كفر بالله بعد ايمانه؟ وهو منذ الفطام صادق أمين مستسلم لرب العالمين ، فهل إذا وصل الى القمة الرسالية يفتري على الله الذي أرسله؟ والمؤمن الساذج ليس ليكذب على الله (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١٣١ ـ اخرج الخرائطي في مساوي الأخلاق وابن عساكر في تاريخه عن عبد الله بن جراد انه سأل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هل يزني ـ

٤٩٦

فالكفر بعد الايمان من أردئ الكفر (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) على الكفر بعد الايمان (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) وهو اظهار الكفر حفاظا على النفس فيما إذا كانت النفس انفس من إظهار الإيمان.

ولأن الإكراه لا يؤثر إلا في الظاهر ، ف «اكره» لا تعني إلا ظاهر الكفر (وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ) دون تزعزع وتلكع ، وكما حصل لعديد من اصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حين اضطروا الى كلمة الكفر وقلوبهم مطمئنة بالايمان (١).

__________________

ـ المؤمن؟ قال : قد يكون ذلك قال : هل يسرق المؤمن؟ قال : قد يكون ذلك قال : هل يكذب المؤمن قال : لا ، ثم اتبعها نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم) (إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) أقول يعني من الكذب الذي لا يقوله المؤمن الكذب على الله.

وفيه اخرج ابن مردويه عن معاذ بن جبل ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : أخوف ما أخاف عليكم ثلاثا : رجل آتاه الله القرآن حتى إذا رأى بهجته وتردى الإسلام أعاره الله ما شاء اخترط سيفه وضرب جاره ورماه بالكفر قالوا يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أيهما اولى بالكفر الرامي او المرمي به قال : الرامي ، وذو خليفة قبلكم أتاه الله سلطانا فقال من اطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله وكذب ما جعل الله خليفة حبه دون الخالق ، ورجل استهوته الأحاديث كلما كذب كذبة وصلها بأطول منها فذاك الذي يدرك الرجال فيتبعه.

(١) الدر المنثور ٤ : ١٣٢ ـ اخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال لما أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ان يهاجر الى المدينة قال لأصحابه تفرقوا عني فمن كانت به قوة فليتأخر الى آخر الليل ومن لم تكن به قوة فليذهب في أول الليل فإذا سمعتم بي قد استقرت بي الأرض فالحقوا أبي فأصبح بلال المؤذن وخباب وعمار وجارية من قريش كانت أسلمت فأصبحوا بمكة فاخذهم المشركون وابو جهل فعرضوا على بلال ان يكفر فأبى فجعلوا يضعون درعا من حديد في الشمس ثم يلبسونها إياه فإذا ألبسوها إياه قال : احد احد ، واما خباب فجعلوا يجرونه في الشوك ، واما عمار فقال له كلمة أعجبتهم تقية واما الجارية فوتد لها ابو جهل اربعة أوتاد ثم مدها فادخل الحربة في قبلها حتى قتلها ثم خلوا عن بلال وخباب وعمار ـ

٤٩٧

والاستثناء هنا ليس إلا عن ظاهر الكفر فان باطنه لا يكره عليه.

وهل يجوز ترك اظهار الكفر عند التقية النفسية؟ الآية انما تصد العذاب الأليم عمن اتقى ، فبطبيعة الحال لمن صمد على ظاهر الايمان كباطنه ، ولا سيما في تلك الظروف المحرجة ، فإن له جزاء الحسنى يوم الحساب ، فانه صادع بالحق وذلك أخذ برخصة الله (١) اللهم الا إذا كانت نفسه أنفس من ظاهر الايمان وانفع لكتلة الايمان ، فهنا التقية تقتضي تقديم النفس على ظاهر الايمان (٢).

__________________

ـ فلحقوا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبروه بالذي كان من أمرهم واشتد على عمار الذي كان تكلم به فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كيف كان قلبك حين قلت الذي قلت ، أكان منشرحا بالذي قلت ام لا؟ قال : لا ، قال : وانزل الله (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ)

وفيه عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار عن أبيه قال أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وذكر آلهتهم بخير ثم تركوه فلما أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ما وراءك شيء؟ قال : شر ما تركت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير قال : كيف تجد قلبك ، قال : مطمئن بالايمان ، قال ان عادوا فعد فنزلت (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ).

(١) تفسير الرازي ٢٠ : ١٢٢ روي ان مسيلمة الكذاب أخذ رجلين فقال لأحدهما ما تقول في محمد؟ فقال : رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال ما تقول فيّ قال : أنت ايضا فخلاه وقال للآخر ، ما تقول في محمد؟ قال : رسول الله قال ما تقول فيّ؟ قال : أنا أصم فأعاد عليه ثلاثا فعاد جوابه فقتله فبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال : اما الاول فقد أخذ برخصة الله واما الثاني فقد صدع بالحق فهنيئا له.

(٢) نور الثقلين عن تفسير العياشي عن أبي بكر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قال بعضنا : مد الرقاب أحب إليك ام البراءة من علي (عليه السلام) فقال : الرخصة أحب الي اما سمعت قول الله في عمار : الا من اكره مطمئن بالايمان.

٤٩٨

وعلى أية حال في دوران الأمر هكذا ليس عليه اختيار القتل على البراءة (١) إلّا إذا كان موقفه بحيث يحسب براءته قتلا للدين فهنا عليه اختيار القتل ، كما فعل الإمام الحسين (عليه السلام) وكل حسيني صادق في تاريخنا المشرق المشرّف ، وقد ينص القرآن قصة ايمان السحرة وإكراههم على الردة ولكنهم صمدوا ولم يرضوا خنوعا أمام فرعون حتى بشطر كلمة ترضيه حيث الموقف خطير خطير ، والتقية كانت تقتضي التضحية.

هذا (وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) بعد الإيمان ، اكره على ظاهر الكفر ام لم يكره ، إذ لا إكراه في الإيمان ، (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) وعلّ الغضب وجاه عذاب عظيم ، هو القتل في الدنيا ، فكيف يفترى على رسول الهدى (صلى الله عليه وآله) انه أجار عبد الله ابن أبي سرح بما استجار له الخلفاء الثلاث بعد أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بقتله يوم الفتح ثم استعمله عثمان في خلافته!

__________________

(١) المصدر عن تفسير القمي عن هارون بن مسلم عن مسعدة بن صدقة قال : قيل لأبي عبد الله (عليه السلام) ان الناس يروون ان عليا قال على منبر الكوفة : ايها الناس انكم ستدعون الى سبي فسبوني ثم تدعون الى البراءة مني فلا تتبرءوا مني؟ فقال : ما اكثر ما يكذب الناس على علي (عليه السلام) ثم قال إنما قال : انكم ستدعون الى سبي فسبوني ثم تدعون الى البراءة مني واني لعلى دين محمد ولم يقل فلا تتبرءوا مني ، فقال له السائل أرأيت ان اختار القتل دون البراءة؟ فقال والله ما ذلك عليه وما له الا ما مضى عليه عمار بن ياسر حيث أكرهه اهل مكة وقلبه مطمئن بالايمان فأنزل الله عز وجل : الا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان ، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يا عمار ان عادوا فعد فقد انزل الله عز وجل عذرك وأمرك ان تعود ان عادوا.

٤٩٩

فان كان تائبا ـ ولم يؤثر عنه ـ فلما ذا القتل ، وإلّا فلما ذا العفو عنه تقديما لاستجارة هؤلاء على غضب الله؟ على ان الغضب والعذاب الأليم مطلقان لا يقيّدان بتوبة!.

ولماذا (مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) دون «صدره»؟ عله للاشارة إلى أن الكفر بعد الإيمان هو مثار الشرح بالكفر لصدور كافرة ام ضعيفة الايمان ، ولعل الذي يكفر بعد الايمان دون اطلاع الآخرين على كفره ، علّه ليس من مصاديق (مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً) ام يخف عذابه عنه هنا وفي الآخرة.

والإكراه على لفظة الكفر قد يكون توعيدا بالقتل ، نفسه او من هو كنفسه ، ام بمنكر آخر كاللواط والزنا والمساحقة وإشرابه الخمر ام سائر المحرم ، ام أخذ ماله وسائر ما لا يجوز الإقدام عليه من ترك واجب ام فعل محرم.

ومهما صدق الإكراه في كلّ من هذه وأشباهها ، ولكنه لا يصدق في حمله على كلمة الكفر إلّا في نفسه أمّا هو كنفسه ، رخصة من الله ، وذلك هو القدر المتيقن هنا كما هو مورد الآية لا سواه ، وقد يلحق بالنفس أنكر المنكرات التي لا يتحملها المؤمن كالزنا واللواط ، ثم فيما دون ذلك ـ الذي هو أرخص من نفس واضرابها ـ لا رخصة في كلمة الكفر ، ولا بد من رعاية الأهم على أية حال.

ولأن الضرورات تقدر بقدرها لا تجوز كلمة الكفر فيما تجوز إلّا قدر الضرورة المكرهة ، فلو اكره على إحدى كلمات كافرة لا تجوز إلّا الأخف كفرا ، وبنية التورية.

وقد ينقسم الإكراه في حكمه إلى الأحكام الخمسة : إيجابا لما اكره عليه ، ام تحريما ، او تخييرا برجحان لأحد الأمرين ، ام تساويا ، وذلك حسب الضابطة العامة : وهي وجوب تقديم الأهم على المهم ، ولأن حرمة النفس

٥٠٠