الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٤٤

نرى تبديل التفريع الشيطاني بتفريع رحماني تغليطا لقياس الشيطان ، وتصحيحا لقياس العدل من الرحمن :

(قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ)(٣٨).

فللفاء هنا موقفها من التفريع على اللعنة الى يوم الدين ، فالنظرة الى يوم الوقت المعلوم من يوم الدين وهو قيامة الاماتة ، لتطابق اللعنة أمد الإنظار ، وقد تلمح «فانك» دون «إنك» اضافة الى تفريع ، ان ذلك الإنظار هو طبيعة الحال لمن يلعن الى يوم الدين ، فليس ـ إذا ـ استجابة لدعاء الملعون فانه ليس من مستجابي الدعوة فضلا عن هذه السرعة اللّامعة ، وإنما هناك مصالح لذلك الإنظار ، شاءه الشيطان ام أباه ، ولكنه استدعاه ، فوافقت المصلحة لو لا الدعاء دعاءه (١) كما أسلفناه من خطبة الامام امير المؤمنين (عليه السلام) :

استحقاقا للسخطة فلو لا انظاره الى يوم الدين لم يستحق اللعنة السخطة الى يوم الدين.

واستتماما للبلية لمن يبتلى بمكائده ومصائده ، وكذلك لنفسه فيما يبلى ويبتلى.

وإنجازا للعدة حيث وعد الصالحين الناجحين في نضال الشيطان

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ١٤ عن تفسير العياشي عن الحسن بن عطية قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : ان إبليس عبد الله في السماء الرابعة في ركعتين ستة آلاف سنة وكان انظاره إياه الى يوم الوقت المعلوم بما سبق من تلك العبادة.

أقول : (يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) ولم تكن عبادته مقبولة إذ انه في الباطن (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) (٢ : ٣٤) حيث تضرب «كان» الى الماضي قبل امره بالسجود وعصيانه ، ففي صدور هذه الرواية عن المعصوم ـ لأقل تقدير ـ تردد.

١٨١

خيرا ، ووعد الطالحين ، في نضاله شرا ، ولا تنجز هذه العدة وتلك إلا بذلك الإنظار.

و (مِنَ الْمُنْظَرِينَ) دون «منظر» دليل ان هناك منظرين آخرين ، وطبعا هم من الشياطين ، حيث الإنظار هو الامهال لمن يعصي (١) إملاء واملالا ، وليس (يُبْعَثُ حَيًّا) إنظارا ، بل هو تكريم لأهله ، ألّا تشملهم الصعقة الشاملة للأحياء عن بكرتهم : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) (٣٩ : ٦٨).

ثم الإنظار المستجاب له هنا وفي (ص) (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) (٨١) وفي الأعراف ـ فقط ـ (إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ)(٢) وطبعا ليس انظارا إلى يوم يبعثون ، وانما (إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) ، وهو قبل (يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (يَوْمِ الْوَقْتِ) للصعقة الجماهيرية «المعلوم» عند الله ، وعند من يتلوا آيات الله (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (٣٩ :) ٦٨) (٥٢).

__________________

(١) وكما في نفس السورة (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ) (٨) والدخان : (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) (٢٩).

(٢) نور الثقلين ٣ : ١٣ عن علل الشرايع للصدوق باسناده الى يحيى بن أبي العلا الرازي عن أبي عبد الله (عليه السلام) حديث طويل يقول فيه (عليه السلام) وقد سئل عن قول الله عز وجل لإبليس (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ، إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) قال : ويوم الوقت المعلوم يوم ينفخ في الصور نفخة واحدة فيموت إبليس ، بين النفخة الاولى والثانية وفي الدر المنثور ٤ : ٩٩ ـ اخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : أراد إبليس ان لا يذوق الموت فقيل انك من المنظرين ، الى يوم الوقت المعلوم ، قال : النفخة الاولى يموت فيها إبليس وبين النفخة والنفخة أربعون سنة قال فيموت إبليس أربعين سنة.

١٨٢

واما انه «فيضرب عنقه المهدي» (عليه السلام) تفسيرا ل (يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) بيوم قيامه (عليه السلام) (١) فهو من باب الجري والتأويل ، حيث الإنظار له مرحلتان ، يوم موته كسائر الخلائق ، وهو (يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) في الحق أصالة ، ويوم ضعفه وانكساره عن حريته في سلطته لقيام الدولة الاسلامية العالمية ، فلا مجال إذا للشيطان إلا قليلا وكأنه مضروب عنقه ، ام ان «عنقه» شوكته قبل القيام حيث تكسر فهو ـ إذا ـ مقطوع العنق!.

__________________

(١) المصدر عن تفسير العياشي عن وهب بن جمعي مولى إسحاق بن عمار قال : سألت أبا عبد الله (ع) عن قول إبليس (فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) قال فانك من المنظرين ، الى يوم الوقت المعلوم قال وهب : جعلت فداك أي يوم هو؟ قال : يا وهب أتحسب أنه يوم يبعث الله فيه الناس؟ ان الله انظره الى يوم يبعث فيه قائمنا فإذا بعث الله قائمنا كان في مسجد الكوفة وجاء إبليس حتى يخبو بين يديه على ركبته فيقول يا ويله من هذا اليوم فيأخذ ناصيته فيضرب عنقه فذلك اليوم الوقت المعلوم.

وفي تفسير القمي باسناده عن محمد بن يونس عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال : يوم الوقت المعلوم يذبحه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على الصخرة التي في بيت المقدس ، أقول وذلك في رجعته (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد قيام القائم (عليه السلام) وذبحه مرة ثانية هو نفس المعنى من ذبحه بالقائم وهو كسر السورة الابليسية.

وفي تفسير البرهان ٢ : ٣٤٣ ـ ابن بابويه عن سعد بن عبد الله بسند عن عبد الكريم بن عمرو الخثعمي قال : سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول : ان إبليس قال : انظرني الى يوم يبعثون فأبى الله ذلك عليه فقال : (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ، إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) فإذا كان يوم المعلوم ظهر إبليس في جميع أشياعه منذ خلق الله آدم الى يوم الوقت المعلوم وهي آخر كرة يكرها امير المؤمنين (عليه السلام) ... أقول : تأمل كما كنت متأملا فيما سبق.

١٨٣

و (يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) قد تشمل يومي الإنظار متنا وهامشا ، وعلّه لذلك عبر عنه بذلك ، دون يوم الصعقة الاولى ، رغم صراحته في اليوم الأصل ، دون الوقت المعلوم معلوما لدى الكل في أصله ، وهو يوم يموت الخلائق أجمعون ومعلوم ـ فقط ـ لدى الله في أمده : (إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ) (٧ : ١٨٧) وترى اللعين تفهّم ما فهمناه من (يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ)؟ طبعا! لأنه المخاطب ، وتفهّم الخطاب هو قاعدته على أية حال ، وإلّا فلا خطاب ، ثم وفي تهدّده إغوائهم أجمعين دليل ثان لبقائه الى آخر زمن التكليف حيث العصيان لا يتخلف ـ مهما نقص ـ على مدار الزمن ، وهو من إغواء إبليس.

وفي بقاء شطر من اليهود والنصارى الى يوم القيامة (فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) (٥ : ١٤) دليل بقاءه مغويا الى يوم القيامة ، مهما خف زمن الدولة السعيدة المهدوية ، ويا عجبا ممن يجد هذه الصراحة في إنظار الشيطان ، حيا لا يموت الى يوم الوقت المعلوم ، ثم لا يحنّ الى تصديق عمر طويل للقائم المهدي (عليه السلام).

فهل المصلحة لاستتمام البلية وانجاز العدة واستحقاق السخطة في ذلك الانظار أقوى وأحرى بالتصديق والتطبيق من المصلحة لتأسيس الدولة الاسلامية العالمية بالثاني عشر من خلفاء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)؟.

فان كانت الاستجابة هناك لدعاء الشيطان الرجيم ، فهنا الاستجابة أحرى لأدعية الصالحين على مدار الزمن.

وان كان هناك انجاز العدة لفريقي الصالحين والطالحين ، فهنا العدة للعباد الصالحين (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) (٢١ : ١٠٥).

وان كان هناك استحقاقا للسخطة ، فهنا السخطة على سلطات

١٨٤

الشيطان كما وعد الرحمن : (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) (٣٢ : ٢١) (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) (٢١ : ٩٥) (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ)(٣٧ : ٨٢).

وان كان هناك استتماما للبلية ، فقد تمت هنا البلية وحان زمن الوراثة العالمية للصالحين ، مهما بقيت بليّات صغيرة منذ المهدي (عليه السلام) حتى يوم الوقت المعلوم!.

ولقد طلب إبليس النظرة ، لا ليتندم على خطيئة ، بل لينتقم من هذه الخليقة الخليفة ، حيث امر بالسجود له ، فاستكبر واندحر :

(قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)(٤٠).

«فلعمري لقد فوق لكم سهم الوعيد ، وأغرق لكم بالنزع الشديد ، ورماكم عن مكان قريب فقال : (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي ..) قذفا بغيب بعيد ، ورجما بظن غير مصيب ، صدقه به أبناء الحمية ، واخوان العصبية ، وفرسان الكبر والجاهلية (١).

هنا (بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ ..) وفي الأعراف : (لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ. ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ)(١٧).

وعلها عبارة اخرى تفصيلا لما هنا حيث التزيين مقدمة للإغواء ، وهي قعود لهم صراطه المستقيم. ثم .. و «ما» هنا مصدرية تعني

__________________

(١) نهج البلاغة عن الامام علي امير المؤمنين (عليه السلام).

١٨٥

بإغوائك إياي ، والباء سببية وليست للقسم إذ لا يقسم إلّا بمعروف ، فالإغواء سبب «لأزينن .. ولأقعدن» (رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) (٢٨ : ٦٣) (فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ) (٣٧ : ٣٢).

وكيف ينسب اللعين غوايته الى الله ثم لا يرد عليه الله ان كانت هذه النسبة خاطئة؟ قد يكون الإغواء بدائية دون غواية سابقة في الغاوي ، وقد لا يعنيه الشيطان ، ولو عناه فالجواب مقدم من ذي قبل (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ. إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ..) فانه غوى هناك فأغواه الله برجمه واللعنة عليه الى يوم الدين جزاء وفاقا لاستكباره ، واستمراره في استكباره مهما طال الزمن (قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ ..) وهنا (قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ. وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ) إخراجا ورجما ولعنة بما خرج عن العبودية والتعن فيها ، أفكان يرجو ان يبقيه الله فيما كان وعلى ما كان في مكانة ومكان ، وذلك عدل له بالملائكة الطائعين وخلاف عدل من اعدل العادلين.

وانما كضابطة شاملة للغاوين الزائفين (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) (٦١ : ٥) وللمهتدين : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) (٤٧ : ١٧).

فذلك الإغواء كان جزاء لما غوى ، لزاما له الى يوم الدين ، وكما صمم على استكباره ما دام حيا : (لَمْ أَكُنْ ..).

فسبب الغواية هو نفسه من ذي بدء ، وهي هي سبب غواية الرجم واللعنة (فَبِما أَغْوَيْتَنِي ..) وما رحمتني ، غواية مختارة مني ، واخرى جزاء لها منك ، وأنا أحمل بعدي الغواية ، وانما غويت بسبب هذا الإنسان ، فسوف انتقم ما كنت وما كان الى يوم الوقت المعلوم ، إغواء مخيرا لا مسيرا ، كما غويت من ذي قبل تخيرا دون تسيّر ، فالإغواء البدائي ظلم أجيب عنه من ذي قبل ، والإغواء الجزاء عدل هو قضية الربوبية العادلة ،

١٨٦

وكذلك اظهار الغواية بسبب الأمر بالسجود لآدم ، فلو لاه لم تظهر ، ولكنه ابتلاء عادل قضية التربية الإلهية عدلا منه وفضلا.

ولكن اللعين يتربص بآدم وذريته الدوائر ، لان آدم هو رأس الزاوية في ابتلاء الغواية ، وذلك من ردّات الفعل الإبليسية حيث لا يستطيع الانتقام من ربه او محاربته او الفرار عن رجمه ولعنته ، لذلك عزم على إخراجه وذريته عن اهليتهم لذلك التكريم ، ولكي يثبت ان امر السجود لم يكن في محلّه اللايق ، ولقد غفل اللعين ان المعني من ذلك السجود هم المخلصون من ذريته وليس له سلطان عليهم ، فلم يرجع من كيده إلّا إلى ميده ، (وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ)!.

وهنا الشيطان يفوّق لنا سهم الوعيد ، تهددا عارما ماكرا يحدد فيه ساحة المعركة الساخبة الدائبة انها «الأرض» وطبعا هي الحياة الارضية بحذافيرها ، من إنسان الأرض بأفكاره وأعماله ، ومن زخرفات الأرض.

وهنا «أغرق لكم بالنزع الشديد ورماكم عن مكان قريب» هو الأرض التي نعيشها والأعمال التي نعملها : (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) (٢٩ : ٣٨) مهما لا يستقل فيما يستغل من تزيين اعمالهم لو لا ان فسح الله له المجال ، ولذلك قد ينسبه الى نفسه المقدسة : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) (٢٧ : ٤) :

تزيينا للقبيح وتجميلا ، او زيادة للجميل تزيينا وتجميلا ، إغراء للغاوين الذين (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) (٣٠ : ٧).

فلا زينة مصطنعة مختلقة إلّا وعليها مسحة شيطانية إغراء للبسطاء والوسطاء وللأخسرين اعمالا (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ

١٨٧

يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (١٨ : ١٠٤).

وذلك التزيين قد يكون للعقل او العلم ، واخرى للنفس الأمارة والحس ، تزيينا للمعصية كأنها مباحة ام عبادة ، ام تزيينا للعبادة اكثر مما هيه لكي يغترّ بها صاحبها ، إمّا ذا من تمويه لخلاف الحق ، منافقة فيه غير موافقة ، للواقع هنا ام في الاخرى ، ولكي يضل الإنسان عن الصراط المستقيم ، وفي كل ذلك يصدقه أبناء الحمية ، واخوان العصبية ، وفرسان الكبر والجاهلية (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً).

وفي مسرح التزيين مصرح الغواية (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) كما الجحيم : لا تبقي ولا تذر ، (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ).

ف «عبادك» دون العباد ، تخصهم بعباد الله دون عباد الشيطان ، ولكن فيهم من يتبعه بعض الأحيان ، سواء شمله الغفران ام لم يشمله ، ف «المخلصين» يخرجهم أولاء عمن لا يغويهم ، وتحتصر الغواية بغير المخلصين ، وهم الذين أخلصهم الله لنفسه بعد ما أخلصوا له أنفسهم قدر الطاقة دون تقصير.

فالعباد ثلاثة عبّاد الشيطان وعباد الرحمن وبينهما عباد عوان خلطا بين طاعة الشيطان وطاعة الرحمن ، فالأولون كالكرة أمام اللاعب بها ، تتوجه حيث توجّه دون صعوبة ، والآخرون يتعبون الشيطان على قدر تمسكهم بالرحمن ، واما عباد الرحمن فليس للشيطان عليهم اي سلطان ، لأنهم في صيانة العصمة الإلهية علما وعملا.

وليس انه لا يزين في الأرض للمخلصين ، فانه يزين لهم ولمن سواهم ، ولكن لا يقدر على إغواء المخلصين ، إذ لا ينغرّون بإغراءاته ولا يستغفلون بإغفالاته حيث يبصرون بالدنيا غايتها فتبصّرهم ، ولا يبصرون إليها فتعميهم.

١٨٨

فالاستثناء ـ إذا ـ يخص «لأغوينهم» رعاية لادب اللفظ والمعنى.

ام ويعمه حيث لا يؤثر فيهم تزيينه كما لا يؤثر اغوائه ، فهو آيس من المخلصين تزيينا وإغواء ، ام انه يحاول لهم أقوى تزيين وأغوى الإغواء ، ولكن هؤلاء الأكارم ليسوا لينغروا بمغرياته مهما ملأت الدنيا وهلعت ، فسواء غربت لهم ام طلعت هم عنها آمنون ، لا مدخل له إليهم ولا سبيل له عليهم ، والله على ما نقول وكيل (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (١٢ : ٢٤) (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ. إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (٣٧ : ٧٤). فهم في عصمة بكافة حقولها ، عقلية وعلمية وإيمانية وعملية ، لا يخطئون في الله تقصيرا ولا قصورا (كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً).

وليست فرية الغواية لأحدهم إلّا غواية من الشيطان في تفهّم المرام والمرام ، من كتاب الله وسواه من حجة بالغة تتحدث عنهم ، ام تحدّثهم أنفسهم القاصرة المقصرة فيحسبون المخلصين كأمثالهم! وهم في صيانة الله وعصمته وكما القرآن (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (١٥ : ٩) وهم الذكر الناطق ، المفسّر للصامت ، المطبّق له على أنفسهم وسواهم ، فكيف يعصم ولا يعصمون! فالله يستخلص لنفسه من يخلص نفسه لله ، ويجرّدها له وحده ، ويستخدمها له وحده ، ويعبده كأنه يراه ، وهذه الرؤية الدائبة هي العاصمة له بإذن الله.

(قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ)(٤٢).

هنا من المضحك المبكي الرواية المختلقة أن «صراط علي» بالاضافة

١٨٩

(١) وهي لا تستقيم ادبيا إذ إن «مستقيم» نكره فكيف تأتي صفة ل «صراط علي» وهي معرفة على الاضافة! فهي ـ إذا ـ قيلة نكرة ، ولا تستقيم معنويا ، إذ لو كان المعني هنا غير صراط الله لكان محمد أحرى بكونه رأس الزاوية في الصراط ، وعلى هامشه علي (عليه السلام) وقد نسي المختلق النكرة ان يضيف لام التعريف إلى «مستقيم» النكرة بعد ما حذف التنوين عن «صراط»!.

«قال» الله بعد قال الشيطان بتهدّده عباده «هذا» الذي قلت من شريطة الإخلاص المستفادة من المخلصين هو «صراط علي» ثابت ، فرضته على نفسي ، رحمة للمخلصين ، ونقمة على غير المخلصين ام بلية

__________________

(١) تفسير البرهان ٢ : ٣٤٤ بسند عن أبي حمزة الثمالي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال سألت عن قول الله عز وجل (قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) قال : والله علي (عليه السلام) وهو والله الميزان والصراط المستقيم.

أقول : تأويله انه من باب الجري بيانا لمصداق ثالث من الصراط المستقيم وقبله الرسول وقبل الكل ومع الكل صراط الله ، ومثله تأويلا ما رواه العياشي عن أبي جميلة عن أبي عبد الله (عليه السلام) وعن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) في الآية قال : هو امير المؤمنين (عليه السلام).

وفيه عن أبي الحسن محمد بن احمد بن علي بن الحسين بن شاذان في مناقب امير المؤمنين (عليه السلام) المائة قال : الخامس والثمانون عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن الحسين قال قام عمر بن الخطاب الى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال : انك لا تزال تقول لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) أنت مني بمنزلة هارون من موسى وقد ذكر هارون في القرآن ولم يذكر عليا؟ فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يا غليظ يا اعرابي انك ما تسمع الله يقول : هذا صراط علي مستقيم.

أقول : هذه فرية وقحة على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والغليظ الاعرابي هو المفتري عليه مهما كان عمر ما كان.

١٩٠

ليتوبوا ويثوبوا اليّ او يذوقوا وبال أمرهم ، فلا صراط الي مستقيما إلا (هذا صِراطٌ عَلَيَ .. إِنَّ عِبادِي ...) وقد يعني «هذا» كلا السلب والإيجاب في كلمة الإخلاص (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) طردا للشيطان في اختلاقه آلهة دون الله ، وذلك السلب يتطلب وجود الشيطان وإنظاره في إضلاله ، ثم اثباتا للرحمن ، فهما «صراط علي» لأنهما «صراط الي» صراط مستقيم لا عوج له ، وبيان آخر ل «هذا ..» : «إنّ عبادي ..» فلم يجعل الله سلطانا للشيطان على عباده ، بل لهم السلطان عليه.

وقد يعني (هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) شطرا مما تقوّله إبليس مع تصحيحات تالية ، ثم كل ما يتلوه الى (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ).

إذا ف «صراط علي» هو تحقيق كلمة التوحيد سلبا وإيجابا في الدنيا ، ثم الجزاء الوفاق في الاخرى جنة او نارا.

ثم وليس «هذا» الذي تتهدد به عبادي استقلالا منك واستغلالا تتغلب به على إرادتي أنا ، كما يلمح له قولك (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) كأنني بذلك أفقد ما أريد ، حيث تعاكس أنت ما أنا أريد ، كلا! (هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) فرضته عليّ قبل ان تخلق وتعصي وتتهدد.

ف «صراط الي» تقربا وزلفي للسالكين ، ليس إلّا «هذا» الذي قلت هو (صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) لا يصل السالكون إليّ إلا بمكافحة كافة العراقيل دونما تقصير ، ثم علي ان أجذبهم اليّ إتماما لتلك المكافحة ، فالغاوي ـ إذا ـ ليس آويا اليّ خالصا ، واصلا دونما حجاب إلّا حجاب الذات ، فلا بد لهذه الرحلة من راحلة الإخلاص وخرق كافة الحجب بينك وبين ربك ، والشيطان كلب هراش لا يدعك تكفّي رحلتك إلّا بإطلاق العبودية لله والإخلاص فيها ، ومهما كانت نيته وطويته سيئة ولكنما الصراط صالح (لِيَمِيزَ اللهُ

١٩١

الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) (٨ : ٣٧).

ذلك هو حكمي بحكمتي العالية (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) (١٦ : ١٠٠).

فلو شئت لمنعتك وما أنظرتك ، فليس تهددك في عبادي عليّ ، فان (هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) لا صراطك إلّا بما سمحت لك تكوينا ، ولم أرضه تشريعا ، «انك لا تملك ان تدخلهم جنة ولا نارا» (١).

والسلطان المنفي عنه يعم سلطان البرهان فطريا وعقليا ورساليا وسائر البرهان ، وكذلك سلطان القوة البدنية ، فانما هو يكيد كيدا (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) (٤ : ٧٦) ومن يتبعه من الغاوين الذين يتولونه وهم به مشركون ، هم الذين يسلطونه على أنفسهم تغافلا عن كافة البراهين وتخاملا ، فإذا خفّوا استحوذ عليهم الشيطان ونجى الذين سبقت لهم من الله الحسنى.

أترى الشيطان قرر لنفسه نفس ما قرره الرحمان دون زيادة ولا نقصان ، إذا فهو على صراط الله المستقيم؟ كلّا! فان هناك فوارق عدة في نفس التعبير وشاكلة المعنى ، اضافة الى ان هذا صراط تكويني من الله لحكمة ، والشيطان يسلكه بسوء طوية وعناد.

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ١٦ عن تفسير العياشي عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال قلت أرأيت قول الله (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) ما تفسير هذه الآية؟ قال : قال الله انك لا تملك ان تدخلهم جنة ولا نارا.

١٩٢

فقد حصر الشيطان عباد الله في المخلصين (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) وكأنّ من سواهم عباده وهم الاكثرية الساحقة من العباد حيث المخلصون المعصومون قلة قليلة!

(وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) اقتساما للعباد بينه وبين ربه ، ثم الله يرد عليه ب (إِنَّ عِبادِي ...) انهم كلهم عباد الله أطاعوه ام عصوه ، وقصر سلطان إبليس على الغاوين منهم وهم اهل الجحيم ، كما انه ادعى استقلالا في استغلال الغاوين «لأغوينهم» فيرد الله عليه انه باذنه تكوينا وقضاء (قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ) حيث الصراط إليّ يتطلب سلب الشيطان بمكائده ، وقضيته وجود الشيطان بشيطناته منظرا الى يوم الوقت المعلوم ، وهذا هو الجانب السلبي من الصراط : «لا إله» ثم يلحقه الجانب الإيجابي «إلّا الله» وكما خيّل إليه أن له إغواء غير المخلصين ابتدائيا ، بقوة له ذاتية ام بإذن الله ، وهذا ظلم في ساحة الربوبية ، فأجاب عنه (إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) فتغويهم كما غووا ، وذلك التسليط من الله جزاء وفاق (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) مهما كان بيد الشيطان أمّن هو؟.

لذلك فاللوم الاول هو على الغاوين ، ثم على إبليس اللعين حيث يدعوهم لمزيد : (فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) (١٣ : ٢٢) ف (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) (٧ : ٢٧) (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) (٢٢ : ٤).

وغلطة ابليسية رابعة ان له إغواء غير المخلصين كفرا ، حيث الإغواء هنا يخصه ، لان (جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ) فلا تشمل غواية المؤمنين ، وقد رد الله عليه (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) حملا على الكفر (إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) الكافرين ، او الذين يميلون الى كفر.

ففي واقع الحال ليس يخرج عباد الله عن كونهم عباده مهما عبدوا

١٩٣

غيره ، فالاستثناء في (إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ) متصل كما في (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) دونما انقطاع هنا أو هناك.

ثم وليس سلطانه على الغاوين تسييرا على الغواية (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي). (١٤ : ٢٢) وانما هو بين سلطات ثلاث ، شريرة من الغاوين إذ يتبعونه : (إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) واخرى من الشيطان انه يزيدهم غواية ، وخيرة ابتلائية من الرحمن انه سلطه عليهم جزاء بما كانوا يعملون ، وامتحانا فيما هم يأملون.

إذا فهو في الحق ليس سلطانا ، مهما عبر عنه بسلطان ، لان له اختيارا في اغوائهم دونما إجبار ، ولا قوة في إجبار.

ذلك وهذا الكلب الهراش لا يتلقف إلّا الشاردين ، كما يتلقف الذئب الشاردة من القطيع ، دون الواردين اللازمين الطريق ، الطاردين كل رفيق ، الا من يرافقهم في الله.

وترى «عبادي» و «عبادك» المهدّدين هم فقط ذرية آدم؟ و (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً. لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا. وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) (١٩ : ٩٥)!.

فهم ـ إذا ـ كافة العباد من ملك وإنس وجان ومن لا نعرفهم من سائر العالمين ، فالمخلصون منهم ليس له عليهم أي سلطان ، وله على من سواهم سلطان على قدر غوايتهم ، مهما كان رأس الزاوية هو الإنسان.

(وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ)(٤٣).

أترى جهنم هي موعد غير المخلصين ـ الغاوين ـ أجمعين ، فالجنة ـ إذا ـ تخص المخلصين المعصومين؟ وكما في (ص) : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ

١٩٤

وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ)(٨٥) وفي الأسرى (فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً) (٦٤).

فما هو ـ إذا ـ مصير المتقين غير المخلصين ، والآية التالية لها تقول : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) وهم أعم من المخلصين ، اضافة الى صراح من مئات الآيات التي تعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار ، غفرانا لسيئات بتوبات ام تكفيرات ام شفاعات؟!.

قد تعني الآية في ذلك الشمول آية مريم (إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا. ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) (٧٢) فالذين اتقوا ينجون عن النار بما اتقوا وقدر ما اتقوا ، كما وهنا (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) مآلا لأمرهم ، مهما لاقوا إمرا قبل النار او فيها ، برزخا وفي القيامة.

ام ان آيات تكفير السيئات والتوبة والشفاعة تخصص العموم هنا ، فأبواب الجحيم السبع تختص بمن سواهم ، ام تشمل الداخلين في النار المشفوع لهم بعده ، ثم يبقى الخالدون مؤبدا وسواهم في هذه الدركات.

ام ان السلطان المنفي «ان يحبب إليهم الكفر ويبغض إليهم الايمان» (١) فالمثبت منه هنا على الغاوين وهم الكفار من اهل النار ، لذلك

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ١٥ في كتاب معاني الاخبار باسناده الى علي بن النعمان عن بعض أصحابنا رفعه الى أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال : ليس على هذه العصابة خاصة سلطان ، قال : قلت : وكيف جعلت فداك وفيهم ما فيهم؟ قال : ليس حيث تذهب ، انما قوله : «ليس لك عليهم سلطان ان يحبب إليهم الكفر ويبغض إليهم الايمان».

وفيه عن تفسير العياشي عن أبي بصير قال سمعت جعفر بن محمد (عليه السلام) وهو ـ

١٩٥

(وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) (٢٦ : ٩١) (فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ. وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ) (٢٦ : ٩٤) فهم (إِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ) (٧ : ٢٠٢) ولكن المخلصين لا تثبت عليهم اية غواية وحتى ادنى معصية.

وقد يؤيد ذلك التضيّق في سلطان الشيطان المنفي هنا (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) حيث تشمل كافة المؤمنين المتوكلين ، مخلصين وسواهم.

(إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) فيخص سلطانه من يشرك دون المؤمنين مهما خفت درجاتهم!.

ثم السلطان وهو السلطة ، الظاهرة في السيطرة التامة ، هو بنفسه قاصر ان يشمل كل عصيان ، مهما كان باغواء الشيطان ، فانه استراق في الإغواء هامشيا بمعونة النفس الامارة بالسوء ، ثم في بقاء الايمان والحياة الايمانية سلطان الرحمن ، وفيما له سلطان كما على الذين يتولونه والذين هم به مشركون ، ليس هو في الحق سلطانا له عليهم بل هو تسليط منهم إياه على أنفسهم ، إذا فلا سلطان له تغلبا على عباد الله أيا كان وكما سوف يعترف (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ...).

فالوسوسة الابليسيه لغير المخلصين ليست سلطانا عليهم إذ ما سلطوه على أنفسهم ، ولم يستقبلوه في وساوسه ، وانما تفلتات في تلفتات وغفلات

__________________

ـ يقول : نحن اهل الرحمة وبيت النعمة وبيت البركة ، نحن في الأرض بنيان وشيعتنا عرى الإسلام وما كانت دعوة ابراهيم الا لنا ولشيعتنا ولقد استثنى الله الى يوم القيامة على إبليس فقال : ان عبادي ليس لك عليهم سلطان.

١٩٦

وهي اللمم.

واصحاب الجحيم هم حزب الشيطان ، الذين له عليهم سلطان وسيطرة جامعة جامحة في استلاب عقيدة التوحيد ، اشراكا بالله ام إلحادا في الله ، ثم الموحدون هم مصيرهم الجنة مهما ذاقوا وبال تخلفات لهم في الدنيا أو البرزخ ام وفي الآخرة.

فالسلطان سلطانان ، سلطان الرحمن وسلطان الشيطان ، ولا يستطيع اي مسلط عليه ان يكون إلّا تحت سلطان واحد في العقائد الرئيسية ، إذ لا يمكن الجمع بين التوحيد وخلافه ، وبين عقيدة المعاد وخلافها ، وكذلك النبوة وخلافها ، فمن يعيش تحت سلطان الرحمن معتقدا بهذه الثلاث ، ليس ليعيش تحت سلطان الشيطان نكرانا ، واما الأعمال الصالحة والطالحة فهي تابعة لسلطان العقيدة بمراتبها ، فالطالح عقيديا هو طالح ـ بطبيعة الحال ـ عمليا ، واما الصالح عقيديا فله أحيانا صالح الأعمال مخلصا ، وثانية مخلصا ، وثالثة (خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً) (٩ : ١٠٢) في رجحان الصالحات او الطالحات ، فهؤلاء هم تحت سلطان الرحمن ، وهم من حزبه مهما اختلفت درجاتهم ، ثم الآخرون هم تحت سلطان الشيطان المعنيون هنا من الغاوين (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ. لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ).

فالسلطان ـ وتولي الشيطان ـ والشرك به ـ وان المؤمنين ليسوا من اهل الجحيم ـ هذه عساكر من البراهين على تضيّق معنى الغواية هنا بالشرك ام اي كفر ، إلحادا وما دونه!.

(لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ)(٤٤).

وترى ماذا تعني (سَبْعَةُ أَبْوابٍ)؟ أهي كأبواب الحيطان تهدي الواردين الى عرصة واحدة؟ فلما ذا (لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) وكل

١٩٧

الى عرصة واحدة! و (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) (٤ : ١٤٥) تمانع عرصة واحدة ، بل هي عرصات ، تتطلب كل بابا أم أبوابا! وانها أبواب يدخلها الداخلون لا أن يدخلوا منها : (قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) (٣٩ : ٧٢)(١) فهي ـ إذا ـ دركات وطبقات (٢) فوق بعض وسفل بعض ، فان أهلها دركات ، دركات في دركات كل كما عمل ، مهما تراءوا جميعا مع بعض.

وكما يقال سبعة أبواب من البيوت وهي سبعة بيوت ، ويعبر عن الأمور المختلفة الأنواع ـ درجات ودركات ـ أبوابا ، ولكل باب منهم جزء

__________________

(١) وكذلك نجد أبواب جهنم في ١٦ : ٢٩ و ٤٠ : ٧٦ ، ففيهما كما في الزمر «فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ» لا من أبوابها ..

(٢) الدر المنثور ٤ : ١٠٠ ـ اخرج ابن أبي حاتم عن سمرة بن جندب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله : (لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) قال : ان من اهل النار من تأخذه النار الى كعبيه وان منهم من تأخذه النار الى حجزته ومنهم من تأخذه الى تراقيه منازل بأعمالهم فذلك قوله : لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم ، وفيه اخرج ابن المبارك وهناد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد واحمد في الزهد وابن أبي الدنيا في صفة النار وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي في البعث من طرق عن علي (عليه السلام) قال : أبواب جهنم سبعة بعضها فوق بعض فيملأ الاول ثم الثاني ثم الثالث حتى يملأ كلها.

وفي نور الثقلين ٣ : ١٨ عن الخصال للصدوق في سؤال بعض اليهود عليا (عليه السلام) عن الواحد الى المائة قال له اليهودي فما السبعة؟ قال : سبعة أبواب النار متطابقات.

وفيه وعن المجمع روى عن امير المؤمنين (عليه السلام) ان جهنم لها سبعة أبواب اطباق بعضها فوق بعض ووضع احدى يديه على الاخرى فقال : هكذا ، وان الله وضع الجنان على العرض ووضع النيران بعضها فوق بعض فأسفلها جهنم وفوقها لظى وفوقها الحطمة وفوقها سقر وفوقها الجحيم وفوقها السعير وفوقها الهاوية أقول : والروايات متهافتة من طريق الفريقين في اسماء الطبقات السبع ، ولا حجة ظاهرة في القرآن لواحدة منها.

١٩٨

مقسوم تناسب تلكم الأبواب ، كما (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) (٦ : ٤٤).

ام وهي ـ على ما هيه ـ اسباب الدخول في الجحيم كأبواب سائر العذابات والرحمات ، وكما نجد أمهات الملكات الرذيلة ثلاثا هي الشيطنة : المكر ـ والأكولية : البقر ـ الافتراس : النمر ـ وباجتماع ثنتين منها باختلاف مفرداتها أو الثلاث ، تكتمل الدركات السبع لرذائل الأخلاق ، وهي الأبواب الأسباب لدخول الجحيم ، والى أبواب الطبقات ، مهما كانت لكل طبقة ـ ايضا ـ أبواب! وقد يعني الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) من تقسيمه الثلاثي : «جزء أشركوا بالله وجزء شكوا في الله وجزء غفلوا عن الله» (١) أنهم الأجزاء الرئيسية ، مهما انقسم كل الى هذه السبع ، فقد تجر الغفلة عن الله الى ما لا يجره الشرك بالله والشك في الله.

وقد تعني (سَبْعَةُ أَبْوابٍ) هذه الثلاث كلها ، أبوابا وطبقات وأسبابا لتناسب اللفظ والمعنى.

فأبواب النار تقتسم أصحابها اجزاء مقسومة ، كما وأبواب الجنة وهي عرصة واحدة ، بل والصراط الذي يمشون عليه ف «ان الصراط بين ظهري

__________________

(١) المصدر ـ اخرج ابن مردويه في تاريخه عن انس قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله تعالى : لكل باب منهم جزء مقسوم.

وفيه اخرج ابن مردويه عن أبي ذر قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لجهنم باب لا يدخل منه إلا من اخفرني في اهل بيتي وأراق دماءهم من بعدي وفيه اخرج احمد وابن حبان والطبري وابن مردويه والبيهقي في البعث عن عتبة بن عبد الله عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : للجنة ثمانية أبواب وللنار سبعة أبواب وبعضها أفضل من بعض.

١٩٩

جهنم دحض مزلة والأنبياء عليه يقولون اللهم سلم سلم ، والمار كلمع البرق ، وكطرف العين ، وكأجاويد الخيل والبغال والركاب على شد الأقدام ، فناج مسلم ومخدوش مرسل ومطروح فيها ولها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم» (١).

اجل يتجزأ اهل النار بين أبوابها الطباق اجزاء مقسومة حسب أقسام معاصيهم ومآسيهم قضية العدل ، ولا تجزّء لأهل الجنة بين طبقات ، وانما جنة الرضوان والزلفى والفردوس تقتسم بين أصحابها درجات حسب الدرجات ، وسائر الجنة (لَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) (٤١ : ٣٢).

ولماذا (جُزْءٌ مَقْسُومٌ) دون جماعة مقسومة ، حيث الجزء منطقيا للكل والجماعة والأفراد للكلي؟ علّه مهانة لهم واهانة كأنهم ليسوا أناسا ام وسائر العقلاء ، وانما هم ركام من حطب فإنهم حصب جهنم ، ثم «مقسوم» يعني على نفس الباب ، فالأجزاء الرئيسية سبعة ، ثم كل جزء مقسوم على طابقه ، فكما الطبقات تختلف عذابا ، كذلك كل طبقة تختلف مكاناتها.

فمثلا اصحاب الدرك الأسفل منهم المنافقون ومنهم المكذبون بآيات الله ومنهم من دونهم او فوقهم ولكنهم قريبون مع بعض في العذاب بأسبابه ، فهم اجزاء في باب واحد.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ)(٤٦) «ان المتقين» هم أعم من المخلصين ، من مخلصين على درجاتهم ، العائشين حياة التقوى مهما كان منهم من لمم وصغائر ، ام وكبائر مكفّرة بأسبابها.

__________________

(١) الدر المنثور ـ اخرج ابن مردويه والبيهقي في المبعث عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ان الصراط ..

٢٠٠