الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٤٤

(قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ) معترفين هناك بربوبيته الوحيدة ، معتذرين من ذلك الإشراك الخانق الماحق ، وهنالك الطامّة الكبرى حين يكذبون: (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) كاذبون في أننا شركاء الله ، وذلك التكذيب هو طبيعة الحال من الملائكة والنبيين المعبودين ، فكما كانوا يكذبونهم يوم الدنيا يكذبوهم يوم الدين.

وهو قضية الحال للطواغيت إذ يظهر لهم كذبهم في دعواهم وكذب من اتخذوهم شركاء الله ، وهو خارقة الحال للأصنام حيث يجعلها الله تتكلم تكذيبا لمعبوديها.

فهم ـ إذا ـ في مثلث من ألوان التكذيب إن كانوا عابديهم أجمعين ، ام زاوية او اثنتين فيما دون ذلك ، فالشيطان وهو أطغى الطواغيت يكذبهم في إذاعته الجهنمية (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ..) (١٤ : ٢٢) والأصنام (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) (٣٥ : ١٤).

والصالحون يكذبونهم وبأحرى لهم وأولى كما في عيسى (عليه السلام) : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ...) (٥ : ١١٦).

والملائكة : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ. قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) (٣٤ : ٤١).

ذلك تكذيبهم في انهم شركاء ، ومن ثم تكذيب لعبادتهم إياهم : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ. فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا

٤٤١

وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ) (١٠ : ٢٩) (كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) (١٩ : ٨٢).

إذا فلا واقع لشرك لهم بالله ، ولا عبادتهم من دون الله ، فإنهم انما عبدوا أهوائهم فخيّل إليهم انهم يعبدون شركائهم ، فأصبحوا صفر اليدين من إشراك وعبادة ، وحتى الطواغيت الذين دعوهم الى أنفسهم ، إذ لم يستجيبوا لهم إلا اجابة لأهوائهم ، فهم ـ إذا ـ عابدوا أهوائهم.

ثم (فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) لا تحتمل ان المشركين هم الملقون ، حيث الطواغيت ـ فقط ـ هم الذين يكذبون في دعواهم ، دون الأصنام التي لا دعوى لها ، فضلا عن الصالحين الداعين الى توحيد الله فكيف هم يكذّبون في يوم الله.

ام هم يكذبّون طواغيتهم ضمن ما يكذّبون من قبل كافة المعبودين ، وإلقاء القول هو إخراج الكلام مع ضرب من الخضوع والاستكانة والإسرار والخفية تخوفا من الله ، وكشفا للحق في يوم الله شاءوا أم أبوا.

واحتمال ثالث في «القوا إليهم» ان العابدين ألقوا الى أنفسهم القول (إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) خطابا لأنفسهم ، وانما «إليهم» حتى تضم المعنيين الأولين ، والجمع بين الثلاثة محتمل لفظيا وصالح معنويا ، ان العابدين يكذّبون من قبل المعبودين ويكذّبون هم أنفسهم وطواغيتهم في اتخاذهم آلهة ، ودعواهم انهم آلهة ، فهم ـ إذا ـ في ثالوث التكاذب ، ثم :

(وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) ٨٧.

«ألقوا» كل من العابدين والمعبودين (إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) ولا ينفع يومئذ السلم إلا لمن ألقى اليه السلم يوم الدنيا ، كالملائكة والنبيين المعبودين ، واما العابدون فلا ينفعهم السلم بعد ما ماتوا مشركين (وَضَلَ

٤٤٢

عَنْهُمْ) العابدين (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من ألوهة هؤلاء المعبودين وعبادتهم : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (٦ : ٩٤) (وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ)(١٠ : ٣٠) ولماذا هناك (أَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) وهنا «ألقوا القول»؟

لان قول السلم لا يكفي هناك ، بل هو واقع السلم في كافة أبعاده ، مهما لا ينفعهم ان كانوا هم المشركين العابدين ، كما و «يومئذ» تجعلهم أصلا في الملقين وكانوا قبل اليوم من الملغين.

ولكن التكذيب من العابدين والمعبودين يكفيه القول (إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ) دون إلقاء لواقع الكذب إذ ليس بأيديهم.

وعلى اية حال (أَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ) استسلاما له عن ضرع ذلة وانقطاع حيلة.

وكما يقال : ألقى يد العاني ، اي : ذل ذلّ الأسير ، وخضع خضوع المقهور.

ولا ينتهي ذلك الموقف العسيب إلا بتقرير مضاعفة العذاب لهم بما كانوا يفسدون كما هم فاسدون :

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) ٨٨.

فهنالك عذاب لكفرهم أنفسهم وهو «العذاب» و (عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ) لصدهم عن سبيل الله على قدره (بِما كانُوا يُفْسِدُونَ).

فكما العذاب الاول ليس إلا قدر الكفر ، كذلك الذي فوقه هو قدر الإفساد ، وهو اكثر منه حيث يخلّف فسادا جماعيا كسنة سيئة عليهم منها مثل العذاب الذي على المضلّلين بهم ، وقد تلمح لعظمه تنكير «عذابا» ولمحة

٤٤٣

اخرى توكدها (فَوْقَ الْعَذابِ) تفوق الضلال الجماهيري على الشخصي.

وهكذا الأمر في المضلّلين إذا هم كشياطينهم أضلوا آخرين ، مهما اختلفت دركات بين مضلّل اوّل ومضلّل ثان (وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً).

ومن عذابهم فوق العذاب «عقارب أمثال النخل الطوال ينهشونهم في جهنم» (١) كما كانوا ينهشون بدعاياتهم الشركية الزور من يصدونهم عن سبيل الله ، جزاء وفاقا.

ثم و «كفروا» هنا في تحرّر عن خصوص الكفر بالله شركا وإلحادا ، تشمل كافة دركات الكفر والكفران ، كما و «سبيل الله» تعم كافة سبل الله ، حيث الصد عنها إفساد مهما اختلفت دركات الإفساد المخلّفة عن دركات الكفر ، وكذلك (عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ).

فهذه ضابطة شاملة لكل ضلال ذي بعدين ثانيهما الإضلال من كفر أو فسوق وعصيان.

(وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) ٨٩.

«يوم» و «امة» و «شهيد» هي كما مضت ، حيث يبعث يوم البعث من كل امة شهيد ، وهو جنسه الشامل لعديد الشهيد ، حيث يحمل الأعمال والنيات والأقوال والحالات القلبية عن حضور عندها بإحضار الله

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١٢٧ ـ اخرج ابن مردويه والخطيب في تالي التلخيص عن البراء ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سئل عن قول الله (زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ) قال : عقارب ...

٤٤٤

تعالى ، ام هو نفس الأعمال بقريناتها.

ثم هنا زيادة منقطعة النظير في كل آيات الشهادة هي «من أنفسهم وجئناك ـ ونزلنا».

«من» في (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) كما تحتمل الجنس ، فالشهيد ـ إذا ـ من جنس المشهود عليهم ، كذلك تحتمل النشوء والابتداء ، فهو إذا ناشئ من أنفسهم ، والمعنيان معنيّان حيث تحملان كافة الشهادات المسرودة في الذكر الحكيم ، فشهادة الأعضاء والأجواء والنبيين والكرام الكاتبين كلها ناشئة من أنفس المشهود عليهم ، دون اختلاق ، ولا بينة قابلة للكذب او الخطاء ، ولا استماع ام رؤية دون حيطة علمية بحق الأعمال ، بل (مِنْ أَنْفُسِهِمْ) طابق النعل بالنعل ، دون زيادة ولا نقصان.

ومن الشهداء من هم من جنس المشهود عليهم كنبيّ كل امة او امامها ، فالإنس للإنس والجن للجن ، نبيا او اماما كما تدل عليه آية البقرة (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (١٤٣) وآية الحج : (لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) (٧٨).

ثم سائر الشهداء كالكرام الكاتبين وان لم يكونوا من جنس المشهود عليهم ، ولكنهم ناشئون في شهاداتهم عن انفس المشهود عليهم دون اي وسيط يحتمل الخطاء ، اللهم الا الوسيط الأصيل المعصوم العاصم وهو إشهاد الله وإحضاره لهم كل الحقائق الصادرة منهم دون إبقاء ، وأفضل من مجرد السماع والرؤية وأمتن ، حيث يحتملان الخطاء إذ قد يختلف المرئي والمبصر عن واقع الأمر ، خطأ من السمع والبصر ، ام خبأ الحقيقة عن المسموع والمبصر.

فتلك الشهادة الإلهية بإلقاء الله وبعثه ، هي بطبيعة الحال شهادة

٤٤٥

عاصمة كل ما يحصل ، معصومة عما لم يحصل ، وكلها مشمولة لاستنساخ الله : (وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤٥ : ٢٩).

إذ (وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (١٠ : ٦١).

ثم بعث الشهداء يختلف حسب نوعيتهم ، فشهيد الأعضاء والأرض والفضاء ، هو صورة الأعمال وصوت الأقوال وحالة الأحوال قلبيا وفي النية ، وبعثها هو إظهارها بعد خفاءها حيث كانت مستنسخة مسجلة (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً. اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (٤٧ : ١٤) ـ (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها. بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) (٩٩ : ٥) فالأعمال المسجلة في الأعناق وفي الأرض بفضائها تخرج يوم القيامة عن كمونها وتحضر حيث يحشر عاملوها : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) (٣ : ٣٠).

وبعث الملائكة والأنبياء والأولياء ليس كبعث المشهود عليهم ، وانما هو انتقال من الحياة البرزخية قفزة دون موت عنها الى الحياة الأخرى ، حيث ليسوا من المصعقين في قيامة الإماتة : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (٣٩ : ٦٨) ، وهم ممن شاء الله ألا يصعقوا بصعقة الموت

٤٤٦

الجماهيري قبل إحياءه.

فالشهود إذا في مثلث من البعث يجمعها الحضور للشهادة كما تلقّوا دون إبقاء ولا إخفاء «والله من ورائهم رقيب» ... ثم :

(وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) و «هؤلاء» هنا لا تخص المشهود عليهم من امة الإسلام امّن هم من المكلفين منذ الرسالة الاسلامية الى يوم القيام ، فان من المشهود عليهم شهداء على امم كما دلت آية البقرة والحج انهم هم الامة الوسط : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (٢ : ١٤٣) وعلّ الناس هنا هم كافة الناس طيلة التاريخ الرسالي ، من الرسل والمرسل إليهم ، فهم امة وسط بين هذا الرسول وكل الناس ، ثم الرسول شهيد عليهم كما هو شهيد ـ وباحرى ـ على الناس.

إذا ف «هؤلاء» هنا هم كل امة بشهيدها ، ومنهم امة الإسلام بشهدائها الأئمة ، فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) شهيد الشهداء ، شهادة على اعمال الناس ، واخرى على مقامات ومسئوليات رسالية أماهيه للشهداء عليهم ، فهو في أعلى قمة من الشهادة يوم يقوم الأشهاد وذلك من المقام المحمود : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) (١٧ : ٧٩) ـ (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) (٤ : ٤١).

ثم ولا فحسب انك أنت شهيد الشهداء ، مما يبرهن على موقفك الرسالي القمة من الإمامة المطلقة على كافة الائمة رسلا وسواهم ، بل وكذلك كتابك القرآن العظيم ، حيث يحلّق على كل كتابات السماء ، كما تحلّق أنت على كل رسالات السماء :

(وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ ..) ذلك الكتاب تبيان لكل شيء دون إبقاء ، فكما (جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) فأنت شهيد

٤٤٧

الشهداء ، كذلك (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) فأنت تعرف به كل شيء.

فلك المقام المحمود في الاولى (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) ولك المقام المحمود في الاخرى (وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً)!

وقد يذكر الكتاب ردف الشهداء بعد النبيين يوم يقوم الاشهاد : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ. وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ) (٣٩ : ٧٠) وان كان الكتاب هنا يعم كتاب الأعمال وكتاب الشرعة ولكن القرآن هو المحور الأصيل ، وهو الميزان الذي توزن به الأعمال ، ويشهد على ميزانه الشهود ، وترى ما هو كل شيء الذي يكون له القرآن تبيانا؟ وهنا شيء كثير لا نجد له في القرآن أثرا ولا بيانا!

انه ـ بمناسبة الحكم والموضوع ـ هو الشيء الذي يناسب كتاب الشرعة والهدى ، فهو ـ إذا ـ كل هدى من الله : آفاقيا وانفسيا ، تكوينيا وتشريعيا ، فهو الشيء السبيل الى الله ، لكل متحر عن سبيل الله ، محلّقا على كافة سبل الهدى ، معلقا على كافة سبل الردى ، مستغرقا كل درجات السبل الى الله ، مجتثا كل دركات الضلالات الصادّة عن سبيل الله.

(لِكُلِّ شَيْءٍ) هنا بين محتملات عدة صالحة وطالحة ، ومن الثانية الشيء الغيب الخاص علمه بالله ، المستحيل ان يعلمه او يعلّمه غير الله ، والشيء البين الذي لا يحتاج الى تبيان ، فان تبيانه تحصيل للحاصل.

ولان الشيء هنا هو شيء الهدى فالمعني منه أصالة ما ليس للعالمين اليه سبيل لو لا وحي الله ، وعلى هامشه ماله سبيل ولكنه قليل سواء أكان من المعرفيات ام المخترعات والمكتشاف ، فتبيان القرآن للهدى الاولى صريح ، مهما كان بصورة ضابطة يرجع إليها في المتفرعات ، وللثانية بين

٤٤٨

صريح وغير صريح ، لكيلا يلزم تعطيل الطاقات المكتشفة عنها الهادية إليها.

فلو كان القرآن بيانا صريحا لما يتمكن الإنسان من الحصول عليه بمحاولات ميسورة لديه لزمن مستقبل طال ام قصر ، لكان في ذلك تعطيل للطاقات الفكرية والمحاولات المندوب إليها ، ولكنّه يشير ام يذكر أصولا تبتنى للحصول على تلك المعلومات المرغوبة للإنسان ، ام يصرح ما سوف يصل اليه على ركب العلم الدائب في مسيره الى مصيره ، وليعلموا انه كتاب الوحي وليس من اختلاق بشر ، ولا سيما في تلك الظروف القاحلة الجاهلة في الجزيرة العربية.

ولان القرآن هو الوحي الأصيل واصيل الوحي على خاتم رجالات الوحي ، فهو الحاوي لأصول المعارف مبدء ومعادا وما بين المبدء والمعاد وما من امر يختلف فيه اثنان إلا وله أصل في كتاب الله ولكن لا تبلغه عقول الرجال (١). وانما يعرف تفريع الفروع على أصوله من خوطب به ، وكما تلمح له (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ) فكونه (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) لا يقتضي ان يكون تبيانا لكل احد ، والقدر المتيقن المفروض انه تبيان لكل شيء لمن عليه بيان كل شيء وكما يروى «انما يعرف القرآن من خوطب به».

اجل ، وكل شيء تحتاج اليه الأمة (٢) إلى يوم القيامة هو لا محالة في

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٧٥ في اصول الكافي عن المعلى بن خنيس قال قال ابو عبد الله (عليه السلام) : ....

(٢) المصدر في اصول الكافي عن مرازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ان الله تبارك وتعالى انزل في القرآن تبيان كل شيء حتى والله ما ترك شيئا تحتاج اليه العباد حتى لا يستطيع عبد يقول لو كان هذا انزل في القرآن الا وقد أنزله الله فيه ، وفيه عن عمر بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال سمعته يقول : ان الله تبارك وتعالى ـ

٤٤٩

القرآن كائن ، بين ظاهر وكامن بين بطون وتأويلات ، ومآخذ الحقايق والأحكام ، وان كتاب الله على اربعة أشياء على العبارة والإشارة واللطائف والحقائق فالعبارة للعوام والإشارة للخواص واللطائف للأولياء والحقائق للأنبياء. (١)

هناك التورات وهو أعظم كتب السماء بعد القرآن (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ) (٧ : ١٤٥) ـ ثم الإنجيل (.. جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ) (٤٣ : ٦٣) وهنا القرآن (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ)(٢) وهذه قضية خلوده وخاتميته وهيمنته على كتابات الوحي كلها : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) (٥ : ٤٨).

__________________

ـ لم يدع شيئا تحتاج اليه الأمة إلا أنزله في كتابه وبينه لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وجعل لكل شيء حدا وجعل عليه دليلا وجعل على من تعدى ذلك الحد حدا ، وفيه عن الكافي عن أبي الجارود قال قال ابو جعفر (عليه السلام): إذا حدثتكم بشيء فاسألوني من كتاب الله قال في بعض حديثه : ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى عن القيل والقال وفساد المال وكثرة السؤال فقيل له يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اين هذا من كتاب الله؟ قال : ان الله عز وجل يقول : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ) وقال : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً) وقال : (لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ).

(١) سفينة البحار عن الامام الحسين (عليه السلام) عن أبيه امير المؤمنين (عليه السلام).

(٢) نور الثقلين ٣ : ٧٣ في تفسير العياشي من عبد الله بن الوليد قال قال ابو عبد الله (عليه السلام) قال الله لموسى (وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) فعلمنا انه لم يكتب لموسى الشيء كله ، وقال الله لعيسى (لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) وقال الله لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) : وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء.

٤٥٠

ومما يروى عن الإمام علي (عليه السلام) : ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق لكم .. فلو سألتموني لعلّمتكم (١) وعن حفيده الإمام الصادق (عليه السلام) : لقد ولدني رسول الله وانا اعلم كتاب الله ... اعلم ذلك كما انظر الى كفي ان الله يقول : «فيه تبيان كل شيء» (٢).

ثم «كل شيء» وهو هنا شيء الهداية الإلهية ، له اصول وفروع ، فأصوله في وحي القرآن ، وفروعه فيه وفي السنة ، ام ان الكتاب هو مطلق كتاب الوحي الشامل للكتاب والسنة ، ام ان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) نبئ بالفروع حين ألقي اليه الأصول ، لصق بعض وتلو بعض ، مع العلم بالبطون والتأويل ، وكذلك الأئمة من آل الرسول صلوات الله عليهم أجمعين.

ف (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) يختص بمن عليه بيان كل شيء ، دون كافة

__________________

(١) المصدر في اصول الكافي عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال قال امير المؤمنين (عليه السلام) ايها الناس ان الله تبارك وتعالى أرسل إليكم الرسول ـ الى ان قال ـ فجاءهم بنسخة ما في الصحف الاولى وتصديق الذي بين يديه وتفصيل الحلال من ريب الحرام ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق لكم أخبركم عنه ان فيه علم ما مضى وعلم ما يأتي الى يوم القيامة وحكم ما بينكم وبيان ما أصبحتم فيه تختلفون فلو سألتموني عنه لعلمتكم.

(٢) المصدر عن الكافي عن عبد الأعلى بن أعين قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول قد ولدني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنا اعلم كتاب الله وفيه بدء الخلق وما هو كائن الى يوم القيامة وفيه خبر السماء وخبر الأرض وخبر الجنة وخبر النار وخبر ما هو كائن اعلم ذلك كما انظر الى كفي.

وفيه عن تفسير العياشي عن منصور عن حماد اللحام قال قال ابو عبد الله (عليه السلام): نحن والله نعلم ما في السماوات وما في الأرض وما في الجنة وما في النار وما بين ذلك ، قال : فبقيت انظر اليه فقال : يا حماد! ان ذلك في كتاب الله ثلاث مرات ـ قال : ثم تلا هذه الآية : («وَيَوْمَ نَبْعَثُ .. تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ).

٤٥١

المسلمين ولا بعضهم حيث نصيبهم على ضوء ذلك التبيان ببيان الرسول (هُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) ـ «هدى» على قدر تبيانه لهم «ورحمة» على قدر هداه «وبشرى» على قدر رحمته ، ولكن كل هدى وكل رحمة وكل بشرى للنبي وسائر المعصومين ، حيث المعروف على قدر المعرفة.

ثم (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) تعم خصوص الرسول (صلى الله عليه وآله) وذويه المعصومين (عليهم السلام) ، في شموليتها نصا وظاهرا واشارة ولطيفة وحقيقة : بطونا وتأويلات ، وكذلك سائر من بإمكانه تفهّم القرآن قبل إسلامه له وبعده.

ومن ثم (وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) سواء البدائيين كالذين أقروا بالشهادتين ولما يؤمنوا قصورا دون تقصير : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (٤٩ : ١٤).

او الذين آمنوا ولمّا يسلموا تسليما بكمال الايمان القمة ، فإنهم الوسطاء في الإسلام ، او الذين اسلموا بعد الايمان وهو نتاج قمة الايمان ، دون الذين اسلموا منافقين فانه ليس لهم لا هدى ولا رحمة ولا بشرى ، بل ضلال ونقمة وإنذار.

ثم هذه الثلاث درجات حسب درجات الإسلام ، فهداه للمسلم غير المؤمن قصورا هي هدى الايمان بعد الإسلام ، وللمؤمن مزيد في هدى الايمان : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) وللمسلم بعد الايمان مزيد في هدى الإسلام.

ثم «ورحمة» تعم الرحمات في مثلث النشآت ، كما البشرى تعم ما وعد الله للمسلمين.

ويا له ملتقى عالية غالية ان يجتمع (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) القرآن ، بيان كل شيء من القرآن لأهل بيت القرآن ، نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء.

٤٥٢

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٩١) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ

٤٥٣

اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧) فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ

٤٥٤

اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥) مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(١١١)

٤٥٥

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ٩٠.

آية غرة بين الغرر ، تقرء في ختاميات خطب الجمعة (١) مما يدل على موقعها العظيم الجماهيري ، دفعا الى الخير واندفاعا عن الشر ، عظة كاملة شاملة لايجابيات وسلبيات ثلاث ، امرا بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، ونهيا عن الفحشاء والمنكر والبغي (يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) فهي إذا تحمل تبيان كل شيء من محبور ومحظور ، وهذه آية واحدة! فضلا عن القرآن كله!

وهي كسائر آي الذكر الحكيم مما امر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ان يضعها موضعها من سورتها وعلى صورتها الآن (٢).

وقد كان يقرءها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على المستهدين كأجمع آية تهديهم في البداية (٣) وقد كفانا الله المروءة كلها فيها «فالعدل

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٧٧ في الكافي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) في خطبة يوم الجمعة الخطبة الاولى الحمد لله ونستعينه ـ وذكر خطبة طويلة وآخرها : ان الله يقول : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ..) ثم يقول : اللهم اجعلنا ممن يذكر فتنفعه الذكرى ثم ينزل.

(٢) الدر المنثور ٤ : ١٢٨ ـ اخرج احمد عن عثمان بن أبي العاصي قال كنت عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جالسا إذ شخص بصره فقال اتاني جبريل فأمرني ان أضع هذه الآية بهذا الموضع من السورة : ان الله يأمر بالعدل والإحسان ـ الى قوله ـ تذكرون.

(٣) المصدر اخرج البارودي وابن السكن وابن المنذر وابو نعيم في معرفة الصحابة عن عبد الملك بن عمير قال بلغ اكتم بن صيفي مخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأراد ان يأتيه فأتى قومه فانتدب رجلين فاتيا رسول الله صلى الله عليه وآله

٤٥٦

الإنصاف والإحسان التفضل» (١).

ولقد حلت محلها اللائق في ذلك المسرح العصيب ، أمام الأشداء الالداء من الكفار ، كدعوة جامعة جامحة ، لو انهم سمحوا لأنفسهم ان يسمعوها ويعوها ، كمنطلق للهدى الإسلامية السامية.

ولقد قرأها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على الوليد بن المغيرة فقال : يا بن اخي أعد فأعاد ، فقال : ان له حلاوة ، وان عليه لطلاوة ، وان أعلاه لمثمر ، وان أسفله لمغدق وما هو قول البشر (٢) كما قرأها على قبائل

__________________

ـ وسلم) فقالا نحن رسل اكتم يسألك من أنت وما جئت به فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنا محمد بن عبد الله ورسوله ثم تلا عليهم هذه الآية : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ ..) قالوا : ردد علينا هذا القول فردده عليهم حتى حفظوه فاتيا اكتم فأخبراه فلما سمع الآية قال : اني أراه يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن ملائمها فكونوا في هذا الأمر رؤساء ولا تكونوا فيه اذنابا ، ورواه الاموي في مغازيه وزاد : فركب متوجها الى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فمات في الطريق قال : ويقال نزلت فيه هذه الآية : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ).

(١) المصدر ـ اخرج ابن النجار في تاريخه من طريق العكلي عن أبيه قال مر علي بن أبي طالب بقوم يتحدثون فقال فيم أنتم فقالوا نتذاكر المروءة فقال : او ما كفاكم الله عز وجل ذاك في كتابه إذ يقول الله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) فالعدل الإنصاف والإحسان التفضل فما بقي بعد هذا؟

(٢) نور الثقلين ٣ : ٧٨ عن المجمع عن عكرمة قال ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قرأ هذه الآية ...

وروى القاضي في تفسيره عن ابن ماجه عن علي (عليه السلام) انه قال : امر الله نبيه ان يعرض نفسه على قبائل العرب فخرج وانا معه وابو بكر فوقفنا على مجلس عليهم الوقار ، فقال ابو بكر ممن القوم؟ فقالوا من شيبان بن ثعلبة فدعاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الى الشهادتين والى ان ينصروه فان قريشا كذبوه فقال مقرون بن عمرو : الى م تدعون أخا قريش ، فتلا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه ـ

٤٥٧

العرب ، ولان فيها جماع التقوى (١) سلبا وإيجابا ، بل «جميع شرايع الدين» (٢).

وما يروى بعد (ذِي الْقُرْبى) ـ من «حقه» (٣) ليس من حقه ، فانه خلاف تواتر الآية في القرآن ، وخلاف ما يروى عن الرسول والائمة عليهم السلام ، إذا فهو تفسير ل (إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى).

ومن الرائع فيها ان واجباتها ومناهيها هي جميع شرائع الدين (٤) محلّقة على الشرائع كلها دونما نسخ ، فانها الأحكام الاصيلة الدائبة التي لا تقبل النسخ ، فهي خير ما يتلى على الناس كافة صالحين وطالحين ، طاغين ومتقين ، بل وكتابيين وسواهم ، لأنها احكام فطرية تحكم بها الفطرة اجماليا وفي شرايع الدين تفاصيلها.

ثم العطف بين الثلاثة المأمور بها ، والاخرى المنهي عنها ، دليل التقابل بينها دون وحدة مكرورة ، والتعامل بينها دون هوّة ووهدة منكورة ، فتفسير بعضها ببعض تعتير لها كلها ، وإفراد كل في تفسير تعطير عبير ، وتعبير منير.

__________________

ـ الآية فقال مقرون دعوت والله الى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال ولقد افك قوم كذبوك وظاهروا عليك.

(١) المصدر في روضة الواعظين وقال (صلى الله عليه وآله وسلم) جماع التقوى في قوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ).

(٢) المصدر في كتاب الخصال عن أبي مالك قال قلت لعلي بن الحسين (عليه السلام) اخبرني بجميع شرايع الدين قال : قول الحق والحكم بالعدل والوفاء بالعهد ، هذه جميع شرايع الدين.

(٣) المصدر في كتاب الخصال عن أبي مالك قال قلت لعلي بن الحسين (عليه السلام) اخبرني بجميع شرايع الدين قال : قول الحق والحكم بالعدل والوفاء بالعهد ، هذه جميع شرايع الدين.

(٤) المصدر في تفسير العياشي عن إسماعيل الحريري قال قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) قول الله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ ...) قال : اقرء كما أقول لك يا إسماعيل : (.. وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى) قال : أداء امام الى امام بعد امام ...

٤٥٨

فالعدل هو المحور الأصيل في كل دقيق وجليل ، لا يعدل به أي أصل من الأصول ، لا فردية ولا جماعية ، وهو العدل المساوات في الحق ، ويقابله الظلم وهو الانتقاص عن الحق ، وأفضله الإحسان والقسط وهما الزيادة على الحق دونما تبذير أو إسراف ، أم إجحاف بحق الآخرين.

فالاستمرار على مر الحق عدل ، والانحراف عنه قل او كثر ظلم ، والزيادة على الحق حقا راجحا قسط واحسان ، فالعدل هو المحور الدائب فيما قل وجل ، فرديا وجماعيا ، كافلا حافلا لكل ضابطة ثابتة للتعامل ، لا تميل مع الأهواء ، ولا تتأثر بالمودّات والبغضاء ، ولا تتبدل مجاراة لسبب او حسب او نسب ، وانما تمضي في طريقها الى تحقيق الحق وابطال الباطل بمكيال واحد وميزان فارد للجميع.

فلان القرآن نزل لينشئ امة عالمية ويقيم نظاما إنسانيا على ضوء الوحي ، دون اي تحسّب او تعصّب ، عنصرية ام قومية او طائفية أمّا هيه ، فالعقيدة الصالحة وصالحة الأعمال هي الرابطة والآصرة الحاصرة ، لذلك نجد في مقدمة دعوته وناصيتها (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ...).

و «العدل» هنا مطلق يحلق على كافة اعمال الجوارح والجوانح ، في كافة الحقول ، بالنسبة للمبدء والمعاد وما بين المبدء والمعاد ، خروجا عن كل افراط وتفريط ، ظلما سلبيا او ايجابيا.

فبالنسبة للمبدء هو كلمة الإخلاص (١) فإفراطه الإشراك بالله وتفريطه نكران وجود الله.

ثم عدلا في كلمة الإخلاص ، دون إفراط في اثبات الصفات الزائدة

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٨٠ عن تفسير العياشي عن أبي جعفر (عليه السلام) في الآية قال : العدل شهادة ان لا اله الا الله ...

٤٥٩

على الذات ، ام تفريط في تعطيل الصفات ، وليس في ذلك المسرح قسط واحسان ، بل العدل فيه هو اصل القسط والإحسان ، والعدل به في ذات ام صفات ام افعال ظلم بحق التوحيد وإمعات.

ثم العدل في مسرح التكليف ان «لا جبر ولا تفويض بل امر بين أمرين» خارجا عن افراط التفويض وتفريط الإجبار والتفويض ، ف «ما عرف الله من شبهه بخلقه ولا وصفه بالعدل من نسب اليه ذنوب عباده» (١).

والعدل بالنسبة للمعاد ، هو العود للحساب العدل والجزاء العدل ، دون افراط المغفرة الشاملة فكلّ الى الجنة ، ام عذاب الخلود لكل معصية ، ام لا نهائية العذاب للخالدين الآبدين في النار ، فالأول تسوية بين المحسن والمسيء والآخر ظلم على المعذبين ان يعذبوا اكثر مما يستحقون ، ودون تفريط نكرانه عن بكرته أو تقليل عن أي عدل صارم فيه.

والعدل في الوحي الرابط بين المبدء والمعاد ، هو حق الوحي والوحي الحق كما هو مسرود جملة وتفصيلا في الذكر الحكيم ، دون افراط في شمولية الوحي لكافة المكلفين ، امن لا يستحقون منهم مع المستحقين ، او تفريط النكران لاصل الوحي ان «لا خبر جاء ولا وحي نزل»! ام لا ينزل الوحي لبشر على بشر.

ثم العدل في الشرعة الإلهية هو كما شرّع ، دون افراط ان تزاد على الواجبات والمحرمات ما لم يشرع ، كما يتقوله قوم من الهنود والمانوية القائلين : يجب على الإنسان اجتناب كل الطيبات والمبالغة في تعذيب

__________________

(١) المصدر ٧٩ في كتاب التوحيد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : ما عرف الله ...

٤٦٠