الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٤٤

المرضية ، فهو من الأخسرين اعمالا وآمالا ف (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ).

أمل خارف ، وإلهاء جارف في متعة الحياة الدنيا ، وهو للذين كفروا واضرابهم (١). ثم امل عوان بين هذا وذاك ، يأمله ضعفاء الايمان ، قد يلهيهم كما إذا طال ، وقد لا يلهيهم إذا قصر ، أعاذنا الله شره وضره.

قل للمقيم بغير دار اقامة

حان الرحيل فودّع الأحبابا

ان الذين لقيتهم وصحبتهم

صاروا جميعا في التراب رميما (٢)

ف «من أيقن انه يفارق الأحباب ويسكن التراب ويواجه الحساب ويستغني عما خلف ويفتقر الى ما قدم كان حريا بقصر الأمل وطول العمل» (٣) و «لولا الأمل علم الإنسان حسب ما هو فيه ولو علم حسبما هو فيه مات من الهول والوجل كفرا» (٤).

فالأمل الصالح فيه حياة الإنسان ، والأمل الصالح فيه هلاكه ، فانه

__________________

(١) المصدر عن الامام الصادق (عليه السلام) ان الله تعالى يقول : وعزتي وجلالي ومجدي وارتفاعي على عرشي لاقطعن امل كل مؤمل من الناس امل غيري ولأكسونه ثوب المذلة عند الناس ولأنحينه من قربي ولأبعدنه من وصلي أيؤمل غيري في الشدائد والشدائد بيدي ويرجو غيري ويقرع بالفكر باب غيري وبيدي مفاتيح الأبواب.

(٢) سفينة البحار ١ : ٣٠ للحسن بن علي (عليهما السلام) : ..

(٣) المصدر عن الكنز قال امير المؤمنين (عليه السلام) :

(٤) المصدر عن امير المؤمنين (عليه السلام) : ... وفيه ان اسامة بن زيد اشتري وليدة بمأة دينار الى شهر فسمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال : الا تعجبون من اسامة المشتري إلى شهر إن اسامة لطويل الأمل.

١٢١

صورة حية وسيرة ميتة ، لا يزال يخايل هذا الإنسان ، جاريا وراءه كالماء والهواء وهو منشغل به ومستغرق فيه حتى يجاوز منطقة الامان ، فيغفل حتى الله ، وعن كل ما يعنيه في حياته الإنسانية ، وهذا هو إلهاء الأمل الطائل لهذا الإنسان الغافل.

فحين يبلغ الإنسان الى ذلك الهلاك العامد والكفر الصامد ، لم تك لتنفعه الذكرى ، إذا ف «ذرهم ..» (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ) (٢٣ : ٥٤).

(فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) (٥٢ : ٤٥) (قُلِ اللهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) (٦ : ٩١).

ذرهم في تلك الدوامة الدائمة والمصيبة القائمة ، حيث الأمل يلهي والمطامع تغر ، والعمر يمضي والفرصة تضيع ، ذرهم فلا تشغل نفسك بهؤلاء الحماقى الهلكى الذين ضلوا في متاهة الأمل الغرور.

(وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) (٥).

فكما سنة الله لا تتخلف وهي جارية في كل فرد ، كذلك في كل امة وقرية ، فلها (كِتابٌ مَعْلُومٌ) عند الله مهما جهلوه وأنكروه ، وعلى حسب الأمل والعمل يكون الأجل ، دونما فوضى جزاف ، و (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها) المكتوب لها (وَما يَسْتَأْخِرُونَ) عنه (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ) (٧ : ٣٤).

فلا تحسبنّ امة ولا تحسبنّهم أنه يلهى عنهم فيما هم فيه مقترفون ، حيث الأجل ينتظرهم قريبا ام بعيدا ، و (إِنْ مِنْ أُمَّةٍ) تعم امم الخير والشر ، فقد يعجّل لامة الشر أجله ، أو يؤجل لامة الخير اجله وكل في كتاب.

١٢٢

ومن قالات الكافرين ضد هذه الرسالة السامية ، هي المندّدة بساحة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) المستهزءة به

(وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ)(٦).

ناكروا الوحي والرسالة والذكر المنزّل يخاطبون صاحب الرسالة بهذه القالة الساخرة ، مسا من كرامته ونيلا من ساحته (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) وما فريته بالجنون إلّا لأنه يذكّر عقولهم المدخولة ، وهم لا يحبون الناصحين ، فليفتكوا به ويلطّخوه بسوء الحالات المزرية حتى يفل عنه من حوله ، ويقلّ قوله من هذا الذكر العظيم.

فيا لوحي القرآن وحامله من قمة عليا وروحية منقطعة النظير ، يتهم بأرذل التهم وهي الجنون ، جنة في صاحب الوحي ، وبطبيعة الحال جنة في الوحي يسقّطه عن أعين الناظرين واسماعهم ليفلوا عنه ولا يدنوه ، دعاية عارمة على هذه الرسالة السامية لتموت في بدايتها ، وكبرهان على كذبها :

(لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)(٧).

ويكأن الملائكة ترى بالصورة الملائكية؟ وهم لا يرون! (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) (٦ : ٩) فهم ـ إذا ـ لا يأتون في دنيا التكليف.

(ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ)(٨).

نزولا لإنزال العذاب «بالحق» ترى وما هو «بالحق»؟ علّه لان نزولهم معه تأييدا لرسالته باطل حيث يبطلونه كما أبطلوا الرسالات المزودة بالبينات : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ)

١٢٣

(٦ : ١١١).

ولان نزول الملائكة يوم التكليف ليس إلا على من يشاء من عباده : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ) (١٦ : ٢) حيث تشرط في نزول الملائكة المسانخة وليست إلا لمن يشاء من عباده : (قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً) (١٧ : ٩٥). أجل (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) (٢٥ : ٢٥) لا وحيا إليهم ، بل عذابا لهم وثوابا لسواهم ، وكما ينزل الملائكة ايام عذابهم ، (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً) (٢٥ : ٢٣).

وحتى (لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) (٤ : ٩) فترجع مشكلتهم كما كانت.

ف (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا) نزولا «بالحق» بحق التكليف كملائكة الوحي ، ام حق الموت كملائكة التوفي ، ام حق التكوين كعماله فيما يأمر الله ، ام حق التعذيب ، ثم في نزول الملائكة بحق التوفي او العذاب ، (ما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ).

فليس ليفيدهم فيما يبغون ويتطلبون إذ كانوا قبل ذلك منذرين ، ولكنهم سخروا من المنذرين وتلاعبوا بآيات الله البينات ، ولو انهم يبغون بهذه القالات السوء مسا من كرامة الذكر الحكيم ف :

(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(٩).

تأكيدات عشر ، خمس لنزول الذكر وخمس أخرى للحفاظ عليه ، ففي الاولى جمعيات ثلاث «نا ـ نحن ـ نا» اضافة الى «إن ـ و ـ نزل» حيث

١٢٤

التفعيل تأكيد ، وفي الاخرى «نا ـ و ـ حافظون» اضافة الى «ان ـ له ـ ل».

فالذكر منزّل على ضوء جمعية الصفات ، ومحفوظ كذلك بجمعية الصفات ، مما يحيل تنزله ممن سوى الله ، وتحريفه او تجديفه بعد حفظ الله ، فما هو ذلك الذكر؟.

أهو الرسول وكما الله يقول (.. فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً. رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ..) (٦٥ : ١٠ ـ ١١)؟.

ولكنه هنا ليس الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مهما كان ذكرا من الذكر ، فانه الذكر المنزل دفعيا والقرآن ذكر منزّل تدريجيا! وليس الرسول ذكرا في هذه الآية واضرابها إلّا لأنه (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ) فهو ذكر على هامش الآيات (١) ، ثم القرآن ذكر في سائر الذكر (٢).

ولأنهم ذكروا قبله ذكر القرآن : (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) فلأن فرية الجنون بصاحب هذا الذكر تسري الى الذكر نفسه انه ليس صراح الوحي

__________________

(١) كما «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ» ١٢ : ١٠٤ و «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ» (٣٦ : ٦٩) «وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ» (٦٨ : ٥٢) ثم سائر الذكر هو القرآن اللهم إلّا بقرينة تدل على سائر كتابات السماء.

(٢) كقوله تعالى : «وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ» (٤٣ : ٤٤) «ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ» (٣ : ٥٨) و «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ» (١٦ : ٤٤) و «وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ» (٢١ : ٥٠) و «أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي» (٣٨ : ٨) وكذلك الآيات ٣٨ : ٤٩ و ٧٨ و ٤١ : ٤١ و ٥٤ : ٢٥ وغيرها.

١٢٥

وصارمه ، لذلك فهو ـ هنا ـ بحاجة الى تأكيدات الصيانة والحفاظ ، فبحفظ القرآن يحفظ الرسول ، لأنه رسالته الاصيلة الخالدة ، وهو سنده الأصيل في رسالته ، ثم ليس في حفظ محمد حفظ القرآن ، اللهم إلا كرسول ، وحفظ الرسول تماما هو حفظ القرآن تماما عن اي تحريف وتجديف.

ثم نرى محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) كبشر لم يحفظ من اي هتك وجرح وتشريد ، ثم أخيرا مات او قتل ، وهذا خلاف الحفظ ، ولكنه سلمت دعوته وصرمت وخلّدت بقرآنه المجيد ، وفي ذلك حفظ الرسول خالدا الى يوم الدين.

وحتى إذا ترددنا هنا في المعني من الذكر المضمون حفظه ، فالقدر المتيقن هو أصل الذكر : القرآن ، الذي أصبح الرسول بحمله والدعوة به ذكرا (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) (٤٣ : ٤٤) فهو إذا ذكر للرسول الذكر ، وبحفظه تحفظ رسالته التي تتبنى ذلك الذكر!. ثم ولا امتنان في حفظ الرسول سليما في جسمه ، خالدا في عمره ، ماضيا في أمره ، لو لم يحفظ القرآن مصونا ، وهو ممنون عليه بأمته حين يصان القرآن ، مهما ظلم ـ هو ـ ما ظلم ، وهتك ما هتك ، وشرّد وهاجر ثم مات أو قتل ، ما دامت دعوته الرسالية سليمة خالدة في القرآن المجيد ، على ان الرسول ليس ذكرا إلّا برسالته القرآنية فحفظها ـ إذا ـ حفظه.

ثم وليس يخص ذلك الحفظ بالكتاب المكنون واللوح المحفوظ قبل نزوله على الرسول ، إذ لا مدخل إلى ضياعه هناك حتى يحتاج الى هذه الصيانة المؤكدة ، على انه بعد لم ينزل فكيف «نزلنا»؟ ولا بالمحكم النازل عليه ليلة القدر ، فانه منزل دفعة ، وليس منزّلا تدريجيا! ولا منة فيه على الامة ، ولا بالمفصل المنزل عليه طيلة البعثة ، ان يحفظ ـ فقط ـ عنده ، ثم يضيع في أمته ، فلا منة فيه ـ إذا ـ على الامة ، ولا عليه لما تضيع رسالته

١٢٦

القرآنية التي أرسل بها ولها الى الأمة ، ولا حفظه ـ فقط ـ عند الائمة ثم عند القائم المهدي (عليه السلام) فكذلك الأمر ، فليس المراد حفظ نسخة منه ام نسخ معيّنة ، وانما حفظ المنزّل من عند الله في اي منزل من منازل نسخه ، المنشور بين الامة وسواهم ، لأنه لعامة المكلفين : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ) (٣ : ١٥٩) (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) (١٤ : ١) ولا حفظه عن القدح فيه ، ابطالا لحجته ، وتضليلا عن محجته ، حيث القدح فيه كثير ، والإضلال عنه وفير ، مهما كانت حجتهم بجنبه داحضة ف (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) مهما أتاه المبطلون.

«الذكر» هنا هو القرآن المنزل من عند الله العزيز الحكيم ، فكما انه نزّله محكما ومفصلا ورتّبه ، كذلك حفظه بكل مراحل الحفظ التي تتطلب صيانته ذكرا خالدا للعالمين ، ثم وأي ضياع في ذلك الذكر المنزل يتنافى وحفظه ، سواء في نقيصته عما نزل ، ام زيادته على ما نزل ، ام نقضا لترتيبه كما رتب بالوحي ، او انتقاضا لصرحه بيانا وتبيانا معجزا خالدا عبر الزمن ، ف (إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (٤١ : ٤٣).

كتاب عزيز ، تنزيل من عزيز حميد ، مضمون عن كل ضياع بحفظ العزيز الحميد ، فمن هذا الذي يقدر على النيل من ساحته ، والمس من كرامته؟! ولو انه لم يحفظ وحيه الأخير لم يكن حكيما ولا حميدا قضية انقطاع الحجة البالغة عن العالمين أجمعين.

ولئن قلت فكيف يكون حكيما حميدا ولم يحفظ سائر كتابات الوحي عن التحريف؟ فالجواب ان في صيانة القرآن صيانة سائر كتابات الوحي فانه مهيمن عليها ومبين كل شارد عنها وكل دخيل فيها.

١٢٧

ومن الحكمة في عدم صيانتها دون القرآن اضطرار معتنقيها للرجوع الى القرآن قضية ضرورة حجة ما بالغة بين العالمين ، فإذ لم تكن هي تلك الكتب فليفتشوا عن كتاب بعدها هو الحجة البالغة على العالمين.

ثم الكتابات المتواصلة السماوية كل لاحقة منها تبين مواضع التحريف في كل سابقة ، فلم يخل عصور الرسالات الإلهية ـ على تحرّف كتاباتها ـ عن بيان لمواضع تحرفها ، اللهم إلّا الفترة الرسالية بين عيسى ومحمد عليهما السلام وهي فترة المحنة والابتلاء ، مع ما فيها من بقية انجيلية صالحة هي إنجيل المسيح وإنجيل برنابا الحواري ، مهما لم تكن هذه البقية البغية بمتناول كل من يبتغيها.

ثم الذكر المنزّل هنا قد يعني كلا الذكرين ، نازلا ومنزلا عليه ، ولكنه ذكر على هامش النازل وانه يتلوه ويذكّر به ويبيّنه ، وقد حفظ تحت ظلال حفظ القرآن برعاية الملك المنّان كما في ليلة المبيت والحروب الطاحنة وكل الدوائر المتربصة به ، حتى قضى امره ومضى دوره الرسالي إكمالا لتنزّل الذكر ، وبيانا له بسنته الجامعة المانعة ، ثم قضى نحبه عند اكتمال الدعوة الخالدة في القرآن الحكيم.

فلولا اكتمال الدعوة القرآنية ، في العهدين المكي والمدني ، لم يكن الله ليقبض نبيه ما قبض ، ولكن دور الرسالة القرآنية لا ينقضي الا بانقضاء دور التكليف وهو عمر العالم حتى القيامة الكبرى ، فليظل محفوظا في كل حقوله ومراحله تحت رعاية الله وحفظه ، مصونا عن اية إصابة سيئة ، بتمام أمره وطوال عمره ، حيث «الذكر» هنا معني في حفظه بكل كيانه وزمانه ومكانه ، فلان كيانه الخلود ، فهو ـ إذا ـ مخلد في حفظه ، دون الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث يعني حفظه طول عمره المفروض لتحقيق الدعوة القرآنية ، ولولاه لم يحفظ القرآن ، كما انه لولا

١٢٨

حفظ القرآن في عمره الخالد طول الزمن لم يحفظ الرسول في رسالته الخالدة.

فما قالة التحريف في القرآن بزيادة او نقصان ام أيا كان إلّا تجديفا خارفا وتهريفا جارفا من البعيدين عن الذكر الحكيم ، مهما تناقلوا روايات بهذا الصدد هرفت بها رواتها ، من إسرائيليات ام كنسيات تسربت الى أحاديث الإسلام فترسبت فيها وخيّل الى الجاهلين كأنها صادرة من مصادر الوحي والتنزيل!.

وهل تجد في سائر القرآن تأكيدات كهذه التي أكدت بها صيانة القرآن عن التحريف؟ ام تجد الله جاهلا ام غافلا عما يحتاله المحرفون ، ام عاجزا عن الإحالة دون تحريفه؟!

فما قيلة التحريف إلّا حيلة وغيلة رذيلة من المجرمين ، تسربت ـ وعوذا بالله ـ إلى جماعة من المسلمين ، تناقلوها دون تثبت ، مهما اشتهر البعض منهم بالعلم الجامع في التحديث.

فالقرآن يشهد جملة وتفصيلا بصيانته عن اي تحريف ، جملة بآية الذكر والعزيز واضرابهما ، وتفصيلا بكل آياته ، فان جمال الوحي القمة فيها باهر ، وواقع التحدي فيها ظاهر.

ففي رزانة الألفاظ والمعاني ، ورصانة المباني ، تلمع حصانته بكل المعاني ، ولو ان آية زيدت فيها أو آيات ، ثم اختلطت بآياته البينات ، لم يصدق التحدي الصارم في تلكم البينات ، حين تختلط وتتشابه بمقحمات دخيلة (وَلَنْ تَفْعَلُوا) تحيل هذه الفعلة الخائنة ، ان يأتوا بمثله ولو بآية منه ، فكيف أتوا بها ثم اختلطت دون تمييز! ثم ومن المستحيل اجتماع المسلمين في كل عصر ومصر على ما حرّف وإن في حرف منه ، فكيف اجمعوا بمن فيهم من الائمة المعصومين على محرف حرّف عن جهات من

١٢٩

أشراعه ، واعتمدوه عمادا وحيدا غير وهيد في كل شارد ووارد ، وأصلا على مدار الزمن لقياس كل صادر وسادر!.

وهنالك أخبار متواترة ، كحديث الثقلين وأحاديث العرض واضرابهما ، تجعل هذا القرآن أصلا يرجع اليه ، وفصلا في كل خلاف على مدار الزمن ، فلا تصدّق اخبار التحريف ، ام تؤول الى تفسيرات لفظية ام تحريفات معنوية إمّا هيه ، وكما في الباقري (عليه السلام): «وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرفوا حدوده فهم يروونه ولا يرعونه ، والجهال يعجبهم حفظهم للرواية والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية» (١).

وتضارب النقل حول جمع القرآن يكفي نقضا لكون جمعه تأليفا من عند غير الله و (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) تجرفها جرفا سحيقا ، لا تبقي ولا تذر احتمالة من احتمالات جمع التأليف لمن سوى الله ، مهما كان عليا (عليه السلام) فضلا عن سواه.

ونموذجا ضاحكا مما ادعي روايات من طرق السنة انه كان من القرآن ثم أسقط : سورتا الخلع والحفد ، فالخلع «بسم الله الرحمن الرحيم ، اللهم انا نستعينك ونستغفرك ونثني عليك ولا نكفرك ونخلع ونترك من يفجرك» والحفد : «بسم الله الرحمن الرحيم ، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد ، نرجو رحمتك ونخشى نقمتك ان عذابك بالكافرين ملحق»! في حين يدعي ان سورة أبي لهب مقحمة لأنها تنديدة

__________________

(١) الوافي للفيض الكاشاني آخر كتاب الصلاة ٥ : ٢٧٤.

وقد ذكرنا شطرا من البراهين على صيانة القرآن عن التحريف في المقدمة ، وعلى ضوء آية العزيز وآيات أخرى كما في القيامة (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ) وآية الأسرى (اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) واضرابها.

١٣٠

شديدة بعم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)! ومن المضحك المبكي ان تحسب هذه الأغلوطات الخارفة ، والمقحمات الهارفة من السور القرآنية الساقطة عنه ، وفي الحق هي ساقطة عن كونها كلام الله ام اي اديب ام واي عربي لاه.

ومثله القيلة الجاهلة القاحلة ان ثلثا من القرآن سقط بين (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ) لان القائل لم يفهم الرباط بين جزئي الآية فأسقط ثلث القرآن بينهما ، وقد ـ والله ـ ما سقط هناك إلّا كل عقله!

فكيف يعقل ان اكثر من ألفي آية تسقط في موضع واحد ، ولا يتنبه له إلّا هذا العبقري! فلم يعرفه الحفاظ الأولون ، ولا الائمة المعصومون ، ولا الجامعون للقرآن.

وكما تقولوا : ان البراءة كانت مبسملة تعدل البقرة ، فسقطت البسملة وسائر آيها إلّا الموجودة ، وأن الأحزاب كانت كالبقرة فسقطت منها مائتا آية!!!

وقيلة القائل ان «الذكر» هو كل ما نزل من عند الله على رسله ، وكلها محرفة بتصاريح هذا الذكر ، فليعن من الحفظ سائر الحفظ غير التحريف.

إنها مزيفة ، بان الحفاظ على هذا الذكر الأخير حفاظ على سائر الذكر ، والتحريف فيه كما فيها هدر لكل ذكر ، فأين هو الحفظ المؤكد الممنون به على المسلمين إذا كان القرآن محرفا؟ ، وكيف يعرف الغث من السمين والخائن من الأمين إن كان القرآن مزيفا؟ والى م يرجع المسلمون وسائر اهل الكتاب إذا انقطعت الحجة عن القرآن كما عن سائر كتب السماء!

١٣١

ولعمر إلهي الحق ان هذا القرآن هو النور المبين ، والحق المتين ، وهو ـ فقط ـ مقياس للرد والقبول ، حتى في نقطه وإعرابه وترتيبه وتركيبه ، فضلا عن جمله وآياته وسوره ، وكما يستفاد من إطلاقات أحاديث العرض وعموماتها ، ونصوص منها ، ان هذا القرآن هو المدار لكلما دار على الألسن وبين الكتب.

ولقد كان القرآن مؤلفا كما الآن ، مجموعا قبل ان يقبض الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بإشارات الوحي (١) ، كما تدل عليه آية القيامة

__________________

(١) وكما في صحيح النسائي عن ابن عمر قال جمعت القرآن فقرأت به كل ليلة فبلغ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال : اقرأه في شهر (الإتقان النوع ٢٠ ج ١ ص ١٢٤). وفي الإتقان عن ابن أبي داود بسند حسن عن محمد بن كعب القرظي قال. جمع القرآن على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خمسة من الأنصار : معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأبي بن كعب وابو الدرداء وابو أيوب الانصاري وفيه عن البيهقي في المدخل عن ابن سيرين قال : جمع القرآن على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) اربعة لا يختلف فيهم : معاذ بن جبل وأبي بن كعب وابو زيد واختلفوا في رجلين من ثلاثة : أبي الدرداء وعثمان وقيل عثمان وتميم الداري.

وفيه عنه وعن ابن داود عن الشعبي قال : جمع القرآن في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ستة : أبي بن زيد ومعاذ ، وابو الدرداء وسعيد بن عبيد وابو زيد ومجمع بن حارثة وقد اخذه الاسورتين او ثلاث وفيه ايضا عن ابن اشتة في كتاب المصاحف من طريق كهمس عن ابن بريدة قال : أول من جمع القرآن في مصحف سالم مولى أبي حذيفة اقسم لا يرتدي برداء حتى يجمعه فجمعه.

أقول : هذا هو جمعه في كتاب واما جمعه في الحفظ عن ظهر الغيب فأول جامعيه هكذا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم علي (عليه السلام) وثم .. وما جمع علي (عليه السلام) بعد ارتحال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الا جمعا في كتاب بهوامش تفسير آياته كما سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وما رفضوه الا لهذه الهوامش ـ

١٣٢

(إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) وتقديم جمعه هنا على قرآنه قد يلمح انه مع قرآنه ، فقد كان يقرء عليه القرآن المفصل آية او آيات ام سورا بمختلف النجوم والحاجيات والمتطلبات ، ومعها اشارة الوحي كيف تجمع واين توضع في آيات ام سور ، فأصبح القرآن كما هو الآن بعد نزول آيته الأخيرة (١).

ومتواتر الروايات عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) والائمة من آل الرسول مؤيدة هي الأخرى ان هذا القرآن هو الذي جمعه الرسول وألفه بأمر الله تعالى دون ان تفلت منه نقطة او حركة أمّاهيه ، ثم الشذاذ القائلة بالتحريف تهريف شاذ ممن كانوا يتربصون بالقرآن دوائر السوء ، وهي مخالفة للقرآن ولمتواتر الروايات وأحاديث العرض والثقلين فلا موضع فيها من القبول ، والقرآن الآن هو بنفسه اغنى برهان على انه الآن كما كان زمن

__________________

ـ التي كانت تفضح المنافقين والبعض من هؤلاء الذين سيطروا على عرش الحكم واغتصبوا حق خلافته.

وفي الإتقان للسيوطي عن احمد وأبي داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس قال قلت لعثمان ... فقال عثمان : كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تنزل عليه السورة ذات العدد فكان إذا أنزل عليه الشيء دعاء بعض من كان يكتب فيقول ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا .. (منتخب كنز العمال ٢ : ٤٨) وفي رواية عثمان بن أبي العاص قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ان جبرئيل اتاني بهذه الآية (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ..) وامرني ان أضعها في موضعها من السورة (النحل) ، وكما كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يقرء بعض السور النازلة نجوما كآل عمران والنساء وغيرها ، وكان يسمي هذه السور بأسمائها التي نسميها بها.

(١) كما في منتخب كنز العمال ٣ : ٤٨ عن عثمان عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انه كان إذا انزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول : ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا.

١٣٣

الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) سواء في ذلك آياته وترتيبه الخاص في تأليفه ، فان للتأليف دخلا عريقا في التعرّف الى معانيه وكما في أصله ، تأليف قاصد كما الأصل قاصد ، قصدا بالوحي فقط ، دون الآراء المختلفة المختلقة المتخلفة عن صراح الوحي.

ومن طبيعة الحال في ترتيب التأليف بعد النزول نجوما ان كل آية او آيات كانت تحمل معها اشارة الوحي اين مكانها من سورة وآية نزلت من ذي قبل ، فكان كتّاب الوحي يكتبونها كما يأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالوحي ، فلذلك أصبحت سورا مرتبة كما هي الآن في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقد ختمها نفر من أصحابه عنده فصدقهم عليه وأمرهم فيه بما امر (١).

__________________

(١) قال الشريف المرتضى علم الهدى في جواب المسائل الطرابلسيات ... ان القرآن كان على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مجموعا مؤلفا على ما هو عليه الآن لأنه كان يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان حتى عين على جمع من الصحابة في حفظهم له وانه كان يعرض على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ويتلى عليه وان جماعة من الصحابة مثل عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عدة ختمات وكل ذلك يدل بأدنى تأمل على انه كان مجموعا مرتبا غير مبتور ولا مبثوث وان من خالف في ذلك من الامامية والحشوية لا يقيد بخلافهم فان الخلاف في ذلك مضاف الى قوم من اصحاب الحديث نقلوا اخبارا ضعيفة ظنوا صحتها لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحته وقال البلخي في جامع علوم القرآن فيما نقله عنه السيد ابن طاووس في سعد السعود ما لفظه :

واني لأعجب من ان يقبل المؤمنون قول من زعم ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ترك القرآن الذي هو حجته على أمته والذي تقوم به دعوته والفرائض التي جاء بها من عند ربه ويصح به دينه الذي بعثه الله اليه داعيا اليه معرفا في قطع الحرف ، ولم ـ

١٣٤

فالقرآن نسيج الوحي كما هو نزيل الوحي ، فواقع تدوينه كما هو الآن سائد منذ مطلع نزوله وبزوغه ، وله كتّاب قررهم الرسول ووجههم امكنة الآيات وترتيب السور ، ثم كان يقابل بين المحفوظ في الصدور والسطور.

نسيج وحيه سبحانه إذ يفرض نفسه غزارة وايجازا وقوة تعبير وإنجازا ، محاطا بسور سائر من العصمة الإلهية ، والفرق بينه وبين سواه من كتب الناس وسواهم كالفرق بين الله والناس وسواهم.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥) وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ

__________________

ـ يجمعه ولم يصنه ولم يحكّم الأمر في قرائته وما يجوز من الاختلاف وما لا يجوز وفي اعرابه ومقداره وتأليف سوره وآيه ، هذا لا يتوهم على رجل من عامة المسلمين فكيف برسول رب العالمين (صلى الله عليه وآله وسلم)!.

١٣٥

السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)(٢٥)

(١) هنا تسليات تلو بعض لخاطر الرسول الأقدس (صلى الله عليه وآله وسلم) القريح الجريح عن تسفيههم إياه وتجنينه والاستهزاء به ، انك لست في ذلك بدعا من الرسل:

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ)(١٠).

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) طول التاريخ الرسالي قبلك (فِي شِيَعِ

__________________

(١) في الدر المنثور اخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عباس قال سأل رجل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : أرأيت قول الله (كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ) قال : اليهود والنصارى ـ قال : (الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ) ـ قال : «آمنوا ببعض وكفروا ببعض».

١٣٦

الْأَوَّلِينَ) العائشين تاريخ الرسالات قبلك ، فأنت وشيعتك من الآخرين ، (لَقَدْ أَرْسَلْنا) كما أرسلناك رسلا مبشرين ومنذرين ، بمختلف درجاتهم ودعواتهم.

والشيع جمع الشيعة ، جماعة مشايعة لآخرين ، عائشين حياة التبعية والهامشية (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) (٣٠ : ٣٢) (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) (١٩ : ٦٩).

والشيعة بين خيّرة هم شيعة الحق على بصيرة كما كان ابراهيم (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ) (٣٧ : ٨٣) وشرّيرة هم شيعة الباطل في تقليد قاحل جاهل ، و (شِيَعِ الْأَوَّلِينَ) تعني الآخرين ، حيث شايعوا حملة مشاعل المتاهة والضلالة وكانوا هم من محطات الرسالات لتخليصهم عن تقليدهم الأعمى في مشايعتهم رءوس الضلالة ، مهما حلقت الرسالات على سائر المكلفين من المتبوعين هنا ، ومن سائر المستضعفين الذين يفتشون عن الحق ، ام هم حائرون.

إلّا ان القصد هنا تنظير شيع الآخرين بشيع الأولين ، انهم شرع سواء في تصلّدهم على الباطل وتصلبهم القاحل.

ولماذا «شيع» هنا وفي الروم ، و «شيعة» في مريم ، أطلقت على شيعة الشر؟ لان الشيعة في إطلاقها تعني المشايعة المطلقة دونما حدّ ولا برهان ، وهذه باطلة وان كان في مشايعة الحق ، فان حقها ان تكون على بصيرة وبرهنة ، مهما كانت في استمراريتها مطلقة أمام المعصوم رسولا وإماما ، فانها بالنسبة لغير المعصوم مبرهنة على طول الخط ، وللمعصوم في بدايته ، ومن استمراره على بينة العصمة.

فالشيعة في إطلاقها دون قرينة تعني المشايعة المطلقة الفوضى ، وهي

١٣٧

بقرينة صالحة تقيد بمشايعة صالحة كما في ابراهيم وسائر الشيعة الصالحين.

فحياة التبعية المطلقة هي حياة الشيعة الشريرة ، وحياة التبعية المشروطة بالحق هي حياة الشيعة الخيّرة ، ثم حياة أرقى هي اللاتبعية إلّا وحي الله أو إلهامه كالمرسلين وسائر المعصومين.

(ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ)(١١).

ولقد كان من حالهم البئيسة التعيسة وجاه المرسلين (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ) أيا كان (إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) دونما استثناء ، اللهم إلّا المؤمنين المتحرين عن إيمان ، المستقلين في عقولهم ، لا مستغلين ولا مستغلين ، الذين يشقون أمواج الفتن بسفن النجاة وليسوا اتباع كل ناعق ، بل يستضيئون بنور العلم ويلجئون الى ركن وثيق.

ف (شِيَعِ الْأَوَّلِينَ) ام الآخرين في التقليد الأعمى هم شرع سواء في حياة التبعية ، في تغافل العقول وتقافل القلوب وعمى البصائر وظلم السرائر ، فهم بطبيعة الحال يتبعون ـ وجاه المرسلين ـ كبرائهم المجرمين ، فهم الزاوية الوسطى من مثلث المحطات لهذه الرسالات ، حيث يشايعون طواغيتهم الماكرين دونما بصيرة ام تبصّر ، ثم الزاوية الثالثة هي المتقبلة لهذه الدعوات ، وقليل من الوسطاء البسطاء.

(كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) (١٢).

السلوك هو النفاذ في طريق وسواه ، وسلكه أنفذه ، مما يلمح بتعمّل في النفاذ ، مهما لم يكن السالك متعملا ، حيث المجال مجاله.

وترى ماذا (نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ)؟ اهو الذكر المنزّل؟ وهو بعيد مرجعا لضميره ، وليس سالكا في قلوب المجرمين وهم لا يكادون ليسمعوه (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (٤١ : ٣٦) فكيف يسلك ـ إذا ـ في قلوبهم ولما يصل او يتجاوز آذانهم الى

١٣٨

عقولهم فضلا عن قلوبهم ، ولو انه سلك في قلوبهم لكانوا ـ إذا ـ مؤمنين تسييرا من رب العالمين (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) (٣٢ : ١٣) فكيف يسلكه في قلوب المجرمين ، اللهم إلّا سلكا في قلوب المؤمنين (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) (٤٧ : ١٧) ازالة لسائر الحواجز آفاقية وانفسية عن ركيزة الايمان بعد الايمان ، ثم (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ) ليس لها مشار إليه إلّا (إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) ف «كذلك» الذي نسلكه في شيع الأولين «نسلكه» نحن (فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) ختما على قلوبهم بما أجرمت واختتمت عن تقبل الحق ، ام هو الاستهزاء بالرسل الذي أصبح سنة في شيع الأولين ف «كذلك» الذي كان سالكا فيهم (نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) في شيع الآخرين والى يوم الذين سنة سارية في المستهزئين.

وترى كيف يسلكه في قلوبهم وهو من فعلهم؟ ام يسيّرهم عليه وهو ظلم بهم؟ إنه سلك من الله بعد انسلاكه فيهم بسوء اختيارهم ، ثم الله ليس ليهديهم بعد عتوّهم القاصد المعاند ، بل يذرهم في طغيانهم يعمهون ، (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) (٦١ : ٥) سلكا إلهيا بعد سلك بشري جزاء وفاقا ، فلأنهم كانوا مجرمين لذلك سلكنا الاجرام في قلوبهم (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) (٢ : ٢٦).

فالمجرمون ـ ككل ـ الذين يعيشون حياة الإجرام ، قطعا لثمرات الحياة الإنسانية ، فطرية وعقلية أمّاهيه؟ هؤلاء هم الذين يسلك في قلوبهم المقلوبة الاستهزاء بالرسل ، فانها خاوية عن نور الهدى بما افتعلوه ، خالية عن بغية الحق ، مليئة من ظلمات الهوى ، فهي لا تحمل ـ إذا ـ إلا ما يناسبها من مناحرة أهل الحق ، والاستهزاء برسل الحق ف (كَذلِكَ نَسْلُكُهُ) على مدار الزمن (فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) في مثلث الزمان!.

ومن مخلفات ذلك السلك في بعدية البعيدين :

١٣٩

(لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ)(١٣).

فلأنهم استهزؤا بالرسول ، ثم سلكناه في قلوبهم ، فهم (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) : الله والذكر والرسول (١) إذ ـ (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ ..) (٢ : ٧)(وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ) سنتهم في الاستهزاء بالمرسلين ، وسنة الله فيهم إذ سلكه في قلوبهم ، جمعا بين الأولين والآخرين الى يوم الدين في سنة السلك وسلك السنة ، جزاء جزئيا يوم الدنيا قبل يوم الدين.

ونموذجا من المكابرة المرذولة المتعنتة والعناد البغيض بعد ذلك السلك السالك فيهم :

(وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ)(١٥).

(باباً مِنَ السَّماءِ) كما في غيرها (أَبْوابُ السَّماءِ) تدل على ان للسماء أبوابا ، و «فتحنا» دليل انها مغلقة علينا ، و «لو» تحيل فتحها لنا ، و (فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ) دليل على ان في باب السماء معارج يركبها العارج ، كمراكب اتوماتيكية تعرج براكبيها في جو السماء ، وكما تشير إليها آيات اخرى ، فللسماء أبواب الى الجنة يعرج أهلها فيها دون الكافرين : (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) (٧ : ٤٠) وأبواب الى مياهها المختزنة فيها تخصها : (فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) (٥٤ : ١١) وأبواب الى عذابها : (حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ) (٢٣ : ٧٧) وأبواب

__________________

(١) فضمير الغائب في سلكناه راجع الى الاستهزاء وفي به الى الله والرسول المستهزء به إذ لا معنى ل «لا يؤمنون بالاستهزاء» وهذه المراجع الثلاث كلها صالحة لرجوع الضمير إليها والذكر المنزل عليه.

١٤٠