الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٤٤

(لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ) بيانا عيانا بواقع البعث وما فيه من الفتح بين المختلفين ، وفصل القضاء لهم (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا) عين اليقين (أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ) فيما كانوا يحلفون ويختلقون من شبهات حول البعث.

وهنا البيان الموعود لهم يوم البعث ، منه واقع البعث فانه بيان العيان ، ومنه ظهور كافة الحقائق التي أنكروها يوم الدنيا ، تقصيرا عنها لا قصورا فيها ، إذ حجبوا أنفسهم عنها فأنكروا ، ولكنهم في الأخرى يزّيل بينهم وبينها فيصدقونها متحسرين من تكذيبها في الاولى : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ).

ومن ثم بيان العيان لملكوت عقائدهم وأعمالهم حيث تبرز فيها ف (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً).

ففي مثلث البيان العيان (لِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ) ويعلم الذين آمنوا صدقهم أنفسهم فيشكرون.

وازاحة عن شبهة القدرة لذلك البعث الباعث لتحقيق عدل الله وفضله :

(إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ٤٠.

إنما قوله تعالى ـ فيما يريده تكوينا ـ فعله ، تعبيرا بما نعرفه سهلا هيّنا ، فكما القول ـ أيا كان في التكوين ـ عندنا سهل ، دون حاجة إلى أية محاولة إلّا لفظة القول ، كذلك الله ربنا سبحانه في فعله أيا كان ، ليست له محاولة إلا مجرد حوله وقوته ، دونما أية صعوبة ولا اي فصل زمني إلّا ان يشاء ذلك قضية الحكمة العالية الربانية.

ونفاذ مشيئته بالنسبة لاي تكوين هو على حد سواء ، سواء أكان تكوينا للكائن الاوّل لا من شيء ، ام تطويرا له بعد تكوينه الى أطوار أخرى كما

٣٤١

يشاء وعلى اية حال «فإرادته احداثه لا غير ذلك» (١) فلو ان «كن» هنا قول فليكن له مخاطب ، وكون المخاطب قبل الخطاب او حينه يحيل تكوينه ، فانه تكوين للكائن ، فانما هي ارادة تتعلق بتكوين غير الكائن ، إما في أصله كالكائن الاول : المادة الأمّ ، فانه تكوين لا من شيء ، ام في تحويره تكوينا للشيء شيئا آخر ، فانه تكوين من شيء ، و «كن» يعمهما مهما اختلف تكوين عن تكوين.

والشيء المراد تكوينه في البعث ليس إلّا خلق الأمثال ، فالأرواح كائنة كما هيه ، والأجساد بموادها كما هيه ، وكل ما حصل هنالك بالموت هو انفصال الروح عن هذا البدن ، ثم تحول البدن رميما رمادا ، فلا معاد في

__________________

(١) في الكافي باسناده عن صفوان بن يحيى قال قلت لابي الحسن (عليه السلام) اخبرني عن الارادة من الله ومن الخلق ـ قال : الارادة من الخلق الضمير وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل ، واما من الله تعالى فإرادته احداثه لا غير ذلك لأنه لا يروّي ولا يهم ولا يتفكر وهذه الصفات منفية عنه وهي صفات الخلق ، فارادة الله الفعل لا غير ذلك يقول له : كن فيكون بلا لفظ ولا نطق بلسان ولا همة ولا تفكر ولا كيف لذلك كما انه لا كيف له.

وفي الدر المنثور ٤ : ١١٨ ـ اخرج احمد والترمذي وحسنه وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في شعب الايمان واللفظ له عن أبي ذر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : يقول الله يا ابن آدم كلكم مذنب إلّا من عافيت فاستغفروني اغفر لكم وكلم فقراء الا من أغنيت فسلوني أعطكم وكلكم ضال إلا من هديت فسلوني الهدى أهدكم ومن استغفرني وهو يعلم اني ذو قدرة على ان اغفر له غفرت له ولا ابالي ولو ان اوّلكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ، ويابسكم اجتمعوا على قلب أشقى واحد منكم فانقص ذلك من سلطاني مثل جناح بعوضة ، ولو ان اوّلكم وآخركم وحيكم وميتكم ورطبكم ، ويابسكم سألوني حتى تنتهي مسألة كل واحد منهم فأعطيتهم ما سألوني فانقص ذلك مما عندي كغرز ابرة لو غمسها أحدكم في البحر وذلك اني جواد ماجد واحد عطائي كلام وعذابي كلام انما امري لشيء إذا أردته ان أقول له كن فيكون.

٣٤٢

المعاد إلّا خلق الصورة الإنسانية كما الاوّل (كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ) واعادة الروح في البدن بنفس الصورة.

صحيح ان اعادة المعدوم بحذافيره ممتنعة ، ولكن لا معاد في المعاد معدوما ، وانما وصل بعد فصل للروح مثل الاول ، وخلق للصورة مثل الاولى ، إنشاء كما الاول ، دون أية اعادة للاوّل.

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (٤٤) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (٤٥) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (٤٦) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٤٧) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ

٣٤٣

يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (٤٨) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٥٠) وَقالَ اللهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٥١) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللهِ تَتَّقُونَ (٥٢) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (٥٣) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٥٤) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٥٥) وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨)

٣٤٤

يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢) تَاللهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(٦٤)

(وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) ٤١

قد تلمح «هاجروا» بمضيها أنها هي السابقة على نزول الآية إذا فهي

٣٤٥

الهجرة إلى المدينة ، فالآية إذا مدنية في سورة مكية ، ولكنها قد تعني الهجرة إلى الحبشة ، السابقة على هذه الآية في مكة ، ثم المهاجرة هي حجر الأساس في حكم الآية ، سواء أكانت سابقة ام لاحقة ، إذا فهي تشمل بتجريدها عن مضيها كل مهاجرة في الله من بعد ما ظلموا ، من مكة الى الحبشة ، ومن المدينة الى مكة حيث كان من الأنصار مهاجرون لان المدينة كانت دار شرك ، ثم من مكة الى المدينة ، ومن ثم كل انتقالة في الله من مكان الى مكان أيا كان وأيان ما طلعت الشمس وغربت.

فقد يهاجر ـ للحفاظ على ايمانه أم نشر الايمان ـ عن وطن أم مال وأهلين ، وأخرى عن حياة عن بكرتها حيث تكون حياة الإيمان في خطر السقوط ، فإذا دار الأمر بين حياتي انا وحياة الايمان فالإيمان أحرى بالبقاء.

وفي الخبر «لا يدخل الجنة إلا من هاجر» حيث تعم صيغة المهاجر كلّ اهل الجنة ، وغير المهاجر في النار ، فليس ـ فقط ـ مهاجرة خاصة من مكان إلى آخر ، بل هجران المعاصي والتباعد عن المآسي ، وتحقيقا لكلمة الحق (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ).

«لا اله» تقتضي المهاجرة عن ابعاد ثلاثة من المحرمات وهي النفسية والجماعية والمعيشية تحت السلطة الطاغوتية ، كما «إلا الله» تثبيت لثلاثة أخرى هي النفسية والجماعية وتثبيت السلطة الربانية ، فالمؤمن مهاجر على أية حال ما دام هنالك فسق او كفر فردي ام جماهيري ام في الحكم حيث المسؤولية لنفي الباطل وتحقيق الحق تشكّل الحياة الإيمانية.

ثم المهاجرة هي التباعد فقد تكون مهاجرة في الله كما هنا ، ام مهاجرة في الشيطان ، ثم الأولى قد تكون من بعد ما ظلموا كما هنا وهي أفضلها ، وأخرى من بعد ما ظلموا بمقامهم في دار المجرمين ثم تابوا وهاجروا وهي أوسطها ، وثالثة لم يظلموا ولم يظلموا وانما يهاجرون لبسط الدعوة الإلهية فكالأولى ، أم تزيدها فضلا حيث تكون الدعوة أفضل وأشمل دون اختصاص بالحفاظ على إيمان المهاجر.

٣٤٦

فكلما كانت الهجرة في الله أصعب ، والدعوة فيها الى الله أتم واتعب ، كانت الهجرة أفضل وأوعب ، والآية تبين موقف المهاجرة الفضلى الشاملة للرسول والذين معه وهي ذات درجات حسب الدرجات ، مهاجرة الى الحبشة (١) ثم الى المدينة المنورة (٢) وفي الكل مهاجرة من الشهوات والإنيات والأنانيات الى الله وفي الله ، مهما كان فيها تنقّل مكاني ام لم يكن حيث ان حجر الأساس فيها التباعد عما سوى الله الى الله وفي الله ، مهما اختلفت الظروف والاشكال ، فالمهاجرة في الله لا تحدّ بحدود المكان والزمان وانما هي المكانة والايمان يهاجر للحافظ عليه والمزيد فيه. ف «ان المهاجر من هجر ما نهى الله عنه ، هجر السوء والخطايا والذنوب» (٣) ولقد «كان من الأنصار مهاجرون لان المدنية كانت دار شرك» (٤) «كانوا من المهاجرين لأنهم هجروا المشركين» (٥).

فالمسلم المصابر على ايمانه ، المتثابر في الله ، انه من المهاجرين أينما حل او ارتحل ام سكن واستكن ، وجملة القول في المهاجرة ككل انها تنقسم حسب الأحكام التكليفية ، خمس بخمسة فصالحاتها درجات كما طالحاتها دركات.

ثم المهاجرة في الله هي تجسّد كلمة التوحيد بسلبها : «لا اله» في

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١١٨ ـ اخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال : هم اصحاب محمد ظلمهم اهل مكة فاخرجوهم من ديارهم حتى لحق طوائف منهم بأرض الحبشة ثم بوأهم الله المدينة بعد ذلك فجعلها لهم دار هجرة وجعل لهم أنصارا من المؤمنين ..

(٢) المصدر اخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في الآية قال : انهم قوم من اهل مكة هاجروا الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ظلمهم وظلمهم المشركون.

(٣) صحيح البخاري باب الايمان ٤.

(٤) سنن النسائي البيعة ١٣.

(٥) سنن النسائي البيعة ١٣.

٣٤٧

سلبيات المهاجرة ، وبإثباتها : «الا الله» في إيجابياتها ، فكل من يحمل كلمة التوحيد فهو مهاجر في بعديها على أية حال ، حيث الحواجز في السلوك الى الله كثير ، فالموحد هو دائب المهاجرة في الله.

(لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) حياة حسنة كما يطلبونها ليل نهار : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) فالمهاجرة في الله تسهّل كل صعب ، وتحسّن كل سوء (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (٤ : ١٠٠).

لا تفكر أنك إذا هاجرت وطنك وشغلك في الله تلقي بنفسك الى التبعثر والحيرة دون بواء ، فقد وعدك الله بترك بوائك في الله (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) رغم ان الدنيا دار عناء وشقة سيئة ، وذلك طرف من الأجر ضئيل فان متاع الدنيا أيا كان قليل (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ) وحسنتها «اكبر» من اجر الدنيا وحسنتها (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) والبواء هنا لا تخص دار الهجرة مهما كانت من البواء الحسنة ، حيث النص (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) سواء أكانت بواء دار الهجرة ام الرجوع الى ارض الوطن ام فيهما ، وعلى اية حال فهي البواء والحياة الحسنة ، الملائمة للحفاظ على كرامة الايمان ، مهما كانت فيها صعوبات في ظاهر الحال ..

وترى من هم المعنيون هنا ب «يعلمون»؟ أهم المهاجرون في الله؟ وهم بطبيعة الحال يعلمون ، وإلّا فلم يهاجرون ان لم يكونوا يعلمون! ، ثم و «لو» المحيلة عاديا لمدخولها تحيل لهم ان يعلموا خير أجر الآخرة ، وانه اكبر ، فليسوا ـ إذا ـ إلّا المشركين السابق ذكرهم ، ثم وليست (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) لتختص علمهم بحسنى الآخرة ، بل وقبلها حسنى الدنيا ، والكفار لا يعلمون الحسنيين ، إذ لا يعرفون حسنى الحياة الدنيا ، ولا يصدقون الاخرى فضلا عن حسناها!

٣٤٨

فليعلموا ولن .. ان للمهاجرين في الله من بأسهم ، في الدنيا حسنة رغم انها سجنهم ، (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)!.

ثم هناك مهاجرة عوان بين ما في الله وما في الشيطان ، مهاجرة عن ارض الوطن تجارية أماهيه ، مباحة لا واجبة ولا راجحة ، ام راجحة لا تنوي بها رجحانها عند الله ، وحتى إذا كانت واقعا في الله ولكنك لا تنوي تلك النية الخالصة ، أم لا تهوى إلّا متاع الدنيا المباحة ، فكل هذه خارجة عن المهاجرة في الله ، فلا اجر لها لا هنا ولا في يوم الله ، مهما لم يكن لها وزر ام كان ، اللهم إلّا لتقصد الحلال ابتعادا عن الحرام ، فانه عبادة ومرضاة لله ، فلتكن من مصاديق المهاجرة في الله مهما كان من أدناها.

(الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) ٤٢.

والمهاجرون في الله الذين لهم أجرهم هنا وفي الأخرى ، هم (الَّذِينَ صَبَرُوا) قبل ان

يهاجروا او بعدها ، صبرا على الظلم حيث لا يطيقون دفعه ، حفاظا على ايمانهم مهما ظلموا دونه ، ثم هاجروا ابتعادا عن الظلم وعن نقصان الايمان في تداوم الظلم ، وصبروا في مهاجرهم على بعد الوطن والمال والعيال ، دون ان يفتكروا في الرجوع اليه ، ام يغتموا للبعد عنه (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) في مهاجرتهم في الله ، وتصبّرهم في سبيل الله ، دونما اعتماد على طاقاتهم النفسية مهما كانت نفيسة

(وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ٧ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) ٨.

(أَهْلَ الذِّكْرِ) هنا وفي الأنبياء (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ)(٨).

إنهم هم المسؤول عنهم في كيان الرسل والرسالات من قبل ، أهم

٣٤٩

ملائكة لا يأكلون الطعام ولا يمشون في الأسواق ، ام هم البشر جسد لا يأكلون الطعام وهم خالدون لا يموتون؟.

«من قبلك» هنا تضرب الى اعماق الماضي منذ خلق رجال ونساء من إنس او جان أو أيا كان ، قبل هذا النسل الموجود من القبيلين وبعده.

(ما أَرْسَلْنا .. إِلَّا رِجالاً) رسالة دون وسيط الى العالمين ، حيث إن رسل الوحي الملائكية مرسلون إلى هؤلاء الرجال ، ثم هم إلى العالمين ، والأوّلون لا رجال ولا نساء ، فالحصر حقيقي يستغرق كافة الرسالات المتصلة بالمرسل إليهم طول التاريخ الرسالي دونما استثناء ، لأنهم هم المعروفون عند أهل الذكر بالرسالات ، عرفانا شهوديا بالرسل الذين هم لصقهم في الدعوة دون وسيط ، دون الملائكة الذين هم مادة المشكلة عند المرسلين : لماذا ما أرسلوا ، هم إليهم؟.

(رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ) وحي الرسالة الشرعة التكليفية ، مما يؤكد انحصار هذه الرسالات في الرجال دون النساء او الخناثى ، ام صنف آخر هو سنخ واحد بلا ذكور وإناث كالملائكة ، فذلك الوحي ـ إذا ـ منحصر فيهم منحسر عمن سواهم ، وهذه قضية الحكمة العالية الربانية ان يرسل الى كل صنف من صنفه ومن أفضله : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ...) (٦ : ١٣٠) ـ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) (١٢ : ١٠٩) ولا ريب ان قبيل الرجال أفضل من قبيل النساء فإنهم قوامون على النساء ، وهم أصلح دعوة وأحرى منهن في الواجهة الجماهيرية دعاية سليمة عن النزعات المعرقلة عن مسير الرسالات ومصيرها.

وأنتم معشر المشركين الشاكين في نوعية الرسل والرسالات ، عليكم ان تسألوا في ذلك اهل الذكر حتى يعلّموكم ما لا تعلمون ، ف «لا ينبغي للعالم ان يسكت على علمه ولا ينبغي للجاهل ان يسكت على جهله وقد قال الله :

٣٥٠

(فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فينبغي للمؤمن ان يعرف عمله على هدى ام على خلافه (١) فلو لا واجب الجواب عن السؤال لم يكن مجال لواجب السؤال ، إذا فواجب الجواب مستفاد من الأمر بالسئوال ، ومهما كان الجواب مشروطا بشروط ، فكذلك السئوال دونما فوضى هنا او هناك.

وهذه ضابطة قائمة دائمة لقبيلي العلماء والجهال ، ضابطة عن التردي في هوّات الجهالات ، فالعلم مطلوب لكل ذي مسكة وإدراك ، والجهل مرفوض ، والبقاء على الجهل مع إمكانية التعلم جهل على جهل لا يرتضيه اي عاقل ولا مجنون ، ولا سيما بالنسبة للأمور التي هي محور الحياة الإنسانية وفي قمتها قصة الوحي الرسالي حيث يتبنى الحياة جديدة جادة في كافة الحقول الحيوية.

والإنسان أيا كان له إحدى حالات أنفسية أربع بالنسبة لأي أمر كان ، علما او ظنا او شكا او احتمالا ، ولا بد لكلّ من حجة تثبته ، فاي ادعاء في هذه الأربع سلبا أو إيجابا لا يحتمل القبول عند اصحاب العقول إلّا بدليل.

والمشركون لا برهان لهم لسلب الوحي مادة وكيفية وحملة ، اللهم إلا ادعاءات جوفاء ، أم أحلاف هي لا تنفع في امور الشرعة الأصلية ، إلّا في الدعاوي الشخصية عند فقدان الدليل ، فهم لا يستطيعون سلب الوحي بدليل ، وإذا هم لا يصدقونه بالبينات وبالزبر ، فهل لهم البقاء على ما لا يعلمون؟ كلّا! (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فالذين عاشوا جو الرسالات على مدار الزمن ولا سيما علماءهم ، هم المسؤل عنهم للمشركين الشاكين في نوعية الرسالات.

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١١٩ ـ اخرج ابن مردوية عن جابر قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ...

٣٥١

فأنتم المتشككون في كيان الرسل والرسالات عليكم لزاما فطريا وعقليا ان تسألوا اهل الذكر ، المحشورين بهذه الرسالات ، فأهل البيت أدرى بما في البيت ، واهل الوحي ـ رسلا وأئمة ومؤمنين به ـ هم أدرى بكيانات الوحي والموحى إليهم ، فاسألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون ، فأهل الذكر (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) حيث يتذكرون بهما طبيعة الرسالات هم أدرى بها وأحرى ان يسألوا ممن لا ذكر له بهما إذ ليس من أهلها كالمشركين والملحدين.

(فَسْئَلُوا ... إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فحين يكون الإنسان ممن يعلم ، او بامكانه ان يعلم دون مراجعة الى من يعلم ، فلا سئوال إذا ممن يعلم ، فأنتم الناكرون لرجولة الرسالات لو تعلمون شريطة الرجولة والمسانخة بين الرسل والمرسل إليهم فهو الحجة عليكم ، وإذ لا تعلمون فاسألوا الذين هم يعلمون ، ولا حجة لكم ثالثة في ذلك الحقل انكم تعلمون شريطة اختلاف الجنس بين الرسل والمرسل إليهم ، فان كانت ولن فاتونا بسلطان مبين او علم يقين!.

هنا مورد الآية هو السئوال عن نوعية الرسالات ، وقد يكفي للجواب عن هذا السئوال «اهل الذكر بالبينات والزبر» وهم كافة اهل الكتاب ولا سيما علماءهم أيا كانوا ، فان الشرعة الكتابية ذكر لهم بالغ دون ريبة ان طبيعة الرسالات الإلهية بشرية في رجال كسائر البشر ، إلّا انه يوحى إليهم.

ثم السئوال عن المهام الحيوية والجواب عنها لا يفرضها ـ فقط ـ وحي الله ، حيث الفطرة والعقلية المتكاملة الانسانية فطريا ، هما الحاكمان بفرضهما قبل حاكم الوحي.

ومن ثم «فاسألوا» وفي نطاق عام يتخطى ذلك السئوال من هؤلاء المشركين ، الى كل سئوال في اي زمان او مكان ، من اي انس او جان او أيا كان ، لكل من يجهل ما يتوجب عليه علمه ، وليس ليعلم بمحاولته نفسه

٣٥٢

حيث الجملة المستقلة في آية ، ولا سيما كضابطة لمقدمتها ، ليست لتختص بمورد نزولها ، او المذكور قبلها ، ولا سيما إذا كانت مبرهنة ، وهنا «فاسألوا» تفريعه على (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) والمسلمون أحرى بذلك.

وهنا المعنيون من (أَهْلَ الذِّكْرِ) هم الرعيل الأعلى الذين لا يجهلون ، وهم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والمحمديون من عترته المعصومون ، ومن ثم العلماء الربانيون الحاملون علومهم.

فحين يجب السئوال عن اهل الكتاب وليسوا هم في عصمة علمية ولا عملية ، فهلا يجب السئوال عن المعصومين عليهم السلام؟ وهم اصدق مصاديق اهل الذكر! فالذكر هو محور المسئولية ـ أيا كان ـ و (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) هو محور السائلية ، وهما درجات حسب درجات العلم فرضا ونفلا.

ف «الذكر» هو كل كتاب سماوي (١) وهو بالأحرى القرآن (٢) وهو رسول القرآن (٣) ، فأهله هم في مثلث من الدرجات كما الذكر درجات ، ولكل سائل حال ، ولكل سئوال مجال.

__________________

(١) كما في قوله تعالى : «ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ».

(٢) «وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ» (٤٣ : ٤٤) وفي نور الثقلين ٣ : ٥٥ عن بصائر الدرجات عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) في الآية قال : الذكر القرآن وآل الرسول اهل الذكر وهم المسئولون.

(٣) «فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً. رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ» وفي نور الثقلين ٣ : ٥٤ عن اصول الكافي عن أبي جعفر (عليه السلام) في الآية قال رسول الله (ص) الذكر انا والائمة عليهم السلام اهل الذكر وفيه عن عبد الرحمن بن كثير قال قلت لابي عبد الله (عليه السلام) فاسألوا اهل الذكر ... قال : اهل الذكر محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ونحن المسئولون.

٣٥٣

وأحرى بائمة المؤمنين ، الاثني عشر المعصومين ، ان يعنوا كقمة عليا من أهل الذكر بعد الذكر نفسه قرآنا ورسول القرآن ، فهم اهل الذكر : الرسول ، وهم اهل الذكر : القرآن ، أهلوه بأهلية ذات بعدين ، نسبيا ، وأحرى منه روحيا (١) وأحرى منهم من هم به (أَهْلَ الذِّكْرِ) كالرسول الأقدس

__________________

(١) المصدر عن الوشاء قال : سألت الرضا (عليه السلام) فقلت جعلت فداك : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فقال : نحن اهل الذكر ونحن المسئولون ، فقلت : فأنتم المسئولون ونحن السائلون؟ قال : نعم ـ قلت : حقا علينا ان نسألكم؟ قال : نعم ـ قلت : حقا عليكم ان تجيبونا؟ قال : لا ـ ذلك إلينا ان شئنا فعلنا وان شئنا لم نفعل اما تسمع قول الله تبارك وتعالى : هذا عطاءنا فامنن او امسك بغير حساب.

وفيه عن اصول الكافي عن حمزة بن الطيار انه عرض على أبي عبد الله (عليه السلام) بعض خطب أبيه حتى إذا بلغ موضعا منها فقال له : كف واسكت ثم قال (عليه السلام) : لا يسعكم فيما ينزل بكم مما لا تعلمون إلّا الكف عنه والتثبت والرد على أئمة الهدى حتى يحملوكم فيه على القصد ويجلو عنكم فيه العمى ويعرفوكم فيه الحق قال الله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).

وفيه عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال : ان من عندنا يزعمون ان قول الله عز وجل : فاسألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون ـ انهم اليهود والنصارى؟ قال : إذا يدعونكم الى دينهم ثم قال بيده الى صدره : ونحن اهل الذكر ونحن المسئولون.

أقول : هذا رد على اختصاص اهل الذكر باهل الكتاب والآية مطلقة في السائلين والمسئول عنهم ، فالسائل المسلم لو سأل اهل الكتاب عما يحتاج اليه لدعاه الى دينه ـ ولكن الآية مطلقة واصدق مصاديق المسئول عنهم هم الرسول وعترته المعصومون ، واصدق مصاديق السائلين هم المسلمون ، ومن الشاهد على ان المقصود نفي الانحصار ، ما رواه في عيون الأخبار في باب مجلس الرضا (عليه السلام) مع المأمون في الفرق بين العترة والأمة حديث طويل وفيه قالت العلماء : فأخبرنا هل فسر الله تعالى الاصطفاء في الكتاب؟ فقال الرضا (عليه السلام) فسر الاصطفاء في الظاهر سوى الباطن في اثني عشر موطنا وموضعا فأول ذلك قوله عز وجل ـ الى ان قال ـ واما التاسعة فنحن اهل الذكر الذين قال الله تعالى : فاسألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون ـ فقالت العلماء : انما ـ

٣٥٤

محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

هذه هي سنة الرسالة الإلهية كعادة مستمرة طول الخط الرسالي : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ) (٤٤ : ٩) ولا رسالتي بدعة بين الرسالات ، فإنها سلسلة موصولة بين الله وبين العالمين ، و (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) (٢ : ٢٨٥) رسالة واتجاها.

فلا هم حاملون مشيئة الله تكوينيا حتى يحملوا عباد الله على طاعته ، كيف! والله هو نفسه لا يحمل خلقه هكذا على طاعته او يزجرهم عن

__________________

ـ عنى بذلك اليهود والنصارى ـ فقال ابو الحسن (عليه السلام) سبحان الله وهل يجوز ذلك إذا يدعونا الى دينهم ويقولون انه أفضل من دين الإسلام؟ فقال المأمون : فهل عندك في ذلك شرح بخلاف ما قالوا يا أبا الحسن (عليه السلام) فقال : نعم ـ الذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ونحن اهله وذلك بين في كتاب الله عز وجل حيث يقول في سورة الطلاق : (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ) فالذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ونحن اهله فهذه التاسعة ، ولقد اخرج تفسير اهل الذكر بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وبالعترة الطاهرة عليهم السلام جماعة من الحفاظ والمؤلفين والمفسرين من إخواننا منهم الطبري في تفسيره (١٤ : ٦٩) عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) في الآية قال : نحن اهل الذكر والثعلبي كما في العمدة لابن بطريق ص ١٥٠ عن جابر الجعفي لما نزلت هذه الآية قال علي (عليه السلام) نحن اهل الذكر ، وابن كثير في التفسير (٢ : ٥٧٠) عن أبي جعفر (عليه السلام) مثله والقطان في تفسيره كما في كفاية الخصام ٣٣٨ روى نزول الآية في علي (عليه السلام) والحافظ محمد بن مؤمن الشيرازي في المستخرج من التفاسير الاثني عشر كما في الكفاية في الآية أي فاسألوا عن اهل البيت والله ما سمى المؤمن مؤمنا الا بسبب حب علي بن أبي طالب (عليه السلام) وابو الثناء الالوسي في روح المعاني (١٤ : ١٣٤). أورد اختصاصهم بائمة اهل البيت (عليهم السلام) والقندوزي في ينابيع المودة عن الثعلبي عن جابر عن علي (عليه السلام) نحن اهل الذكر (تعليقات احقاق الحق لسماحة الحجة المرعشي النجفي (٣ : ٤٨٢ ـ ٤٨٣).

٣٥٥

معصيته (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) : (١٠ : ٩٩).

ولا انهم ملائكة ، ام جسد لا يأكلون الطعام او هم خالدون ، (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فانما هم يحملون بلاغا لمشيئة الله التشريعية الى المكلفين ، ومن ذلك ابطال القالة الجاهلة القاحلة ، (لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا .. وَلا حَرَّمْنا ..).

وترى بماذا تتعلق (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ)؟ إنها صالحة التعلق ادبيا ومعنويا بكلّ من «أرسلنا ـ نوحي إليهم ـ فاسألوا ـ الذكر ـ ان كنتم لا تعلمون» وخماسية التعلقات تجعل الإرسال والوحي والسئوال والذكر ولا تعلمون ، مربوطة بالبينات والزبر (١).

فلا تخلو اية رسالة إلهية عن البينات والزبر : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ ..) (٥٧ : ٣٥) حيث يوحى إليهم بالبينات المعجزات كما بالزبر ، وليسأل اهل الذكر بهذه البينات والزبر ، سؤالا بهما لأنهما خير مادة لسئول الاستعلام ، وذلك (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) واما الذي يعلم طبيعة الرسالات بنفس البينات والزبر فلما ذا يسأل وليس المسئول بأحرى من السائل.

ثم «فاسألوا» لا تختص بالمشركين الناكرين للرسالات الإلهية مهما كانوا هم مورد نزول الآية حيث المورد لا يخصص ، بل هو عام لكلّ من هو داخل في نطاق (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أيا كان اللّاعلم ، في الشرعيات : عقليات او تعبديات ، وسواها من العلوم المرغوبة لأمور الدنيا المباحة وامور الآخرة. فان كان العلم واجبا فالسؤال واجب ، وان كان راجحا فراجح ، و (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) هو الحد النهائي لسماح السئوال ام وجوبه ، فان لا تعلم

__________________

(١) والباء في الاول معية سببية وفي الثاني مصاحبة وفي الثلاثة الباقية سببية.

٣٥٦

الآن ولا تفوت الأوان وتستطيع ان تعلم قبل فوات الأوان ، دون عسر ولا حرج ، ولا فوت لواجب العلم عملا ، فلا تشملك (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فإنها تنفي الكينونة الممكنة للعلم ، دون كل جهل وإن بالإمكان إزالته دون سئوال ، ففرق بين «إن لا تعلم» و (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ف «فإن كنتم» تضرب الى عمق الكينونة في «لا تعلمون» كما هو المقرر ادبيا (١) ولو فرض السئوال ام سمح له مع امكانية العلم بمحاولة غير محرجة ولا عسيرة ، لكان في ذلك إهمال الطاقات النفسية ، بتلة وبطلة لما منح الله الإنسان من التعقل والتفكير ، والآيات الآمرة بالتدبر والتفكير والتذكر بالتدبير تؤصّل العلوم النفسية الناضحة من ذوات الأنفس ، الناضجة على ضوء المزيد من التدبر الناضج.

وهذه طبيعة الحال في كافة الحاجيات الحيوية أن للسعي الذاتي أصالة فائقة حسب الإمكانيات الميسرّة الميسورة ، بل والمعسورة لمن لا تحرجه ، ثم إذا كلّت فسعي وراء الذات ممن له هذه الفعليات أو الامكانيات ، ام إذا قلت فعوان بينهما جمعا بين سعيك مساعي الآخرين ، فالسؤال وكذلك الجواب عنه بين واجب وراجح ، فأصل العلم اصليا وفرعيا واجب على كل مكلف في ابعاده الثلاثة الحيوية ، ثم المزيد راجح ، وعلى الجملة ف «اعلم الناس من جمع علم الناس الى علمه» (٢).

فما دامت الأصالة كائنة او ممكنة فالوكالة غير صالحة ، الّلهم إلا تكملة للأصالة ، وأهم الحاجيات الحيوية هو العلم الواجب ثم الراجح ، أنك إن كنت لا تعلم ، ولا تكفي فعليتك ولا قابليتك ولا فاعليتك لان تعلم دون حرج منفي في الشريعة ، فلا تكفي للعلم الكافي ، إذا (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ

__________________

(١) فإن تلحيق الماضي بالمضارع هكذا نفي بات يحلق على أكثر مما مضى.

(٢) الخصال للصدوق عن الامام امير المؤمنين علي (عليه السلام).

٣٥٧

إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) سؤالا (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) بعلم أو أثارة من علم ، مسنودا الى عقل ضروري ام كتاب وحي.

وان كنت عالما ام كنت تعلم بمحاولات ذاتية فلا عليك سئوال ولا لك ذلك ، اللهم الا تكملة لما علمت ، لا تسطع لها حيلة دون سئوال.

وكما العلم الذاتي يجب كونه باستدلال دون خيال او ظن غير مسنود الى برهان : (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) كذلك فليكن السئوال بالبينات والزبر دون تقليد أعمى ، ف «البينات» وهي البراهين العقلية المجردة والحسية «والزبر» وهي كتابات الوحي ، هما المحور الأصيل في كل سئوال وجواب جملة وتفصيلا.

فبينات الرسل تصدّق زبرهم ، وزبرهم تجاوب بيناتهم ، إذا فهم المحور الأصيل لكل دليل ، وقد يعبر عنهما ب «علم أو أثارة من علم» وعلى أية حال لا يغني غير العلم عن الحق شيئا ، والاجتهاد والتقليد كلاهما يتبنّيان (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) هنا جملة وهناك تفصيلا.

ولان القصد من السئوال في اصول الدين حصول العلم ثم التصديق والعمل ، فالعلم هنا موضوعي وطريقي ، فإذا سأل واقتنع ببرهانه فهو مصيب اخطأ أو أصاب ، وإذا لم يسأل فلم يقتنع وبقي على ظنه ، فهو مخطئ وافق الواقع ام خالف ، والاوّل اقل خطأ.

واما الفروع ، فان اجتهد او قلّد او جمع بينهما تجزئة للاجتهاد والتقليد او احتاط ، وكان متبعا في كل ذلك واجبه الشرعي ، فهو مصيب أخطأ ام أصاب ، مهما كان للمصيب أجران وللمخطئ اجر واحد ، وان ترك الكل فان وافق عمله الواقع صح ، وان خالف بطل مهما وافق رأي الأعلم ، فان صحة العمل محصورة في إصابة الواقع ، ام تطرق إحدى هذه الطرق الأربع العاذرة ، فالتارك للكل ، غير المصيب للواقع ، لا إصابة له ولا عذر ، ولا تفيده الموافقة الواقعية لرأي الأعلم ، فان العذر ليس في واقعه ، وانما هو في تقليد وهو غير واقع.

٣٥٨

ولان القصد من السئوال هو معرفة الحق وهي ذريعة العمل وفقها ، فان وافق العمل الواقع دون سئوال صح ، ام وافق من يحق منه السئوال فكذلك ، ام وافق رأي البعض من المجتهدين الجامعي شرائط التقليد ولكنه غير الأعلم الأتقى ففي الصحة تردد أصحه البطلان ، لوجوب تقليد الأعلم ، وان خالف الإجماع او الضرورة بطل بالإجماع او الضرورة.

والعلم بالاحكام مرحلي ابتداء بالاجتهاد المطلق ، ثم المستطاع ، ثم الاحتياط ، ثم التقليد ، وان لم يجد الأعلم ولا رأيه ويفوت أوان العمل فالأقرب الى الأعلم والأقرب ، ثم إذا وجده سأله ، فان وافق السابق فهو الحق ، وان خالف صح ما سبق فان للضرورات احكامها في محالها.

فليس التقليد تقبلا لقول الغير دون أي دليل ، ولا فارق بين الاجتهاد والتقليد إلّا اجمالا هنا وهناك التفصيل ، فإذا تأكدت من صلاحية أهل الذكر للسؤال ، ويجيبك (بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) وهما في الإسلام الكتاب والسنة القاطعة ، وتعرفت قدر المستطاع الى مستند الجواب ، عندئذ سمح لك ان تسأل أهل الذكر ، تقليدا عاقلا عالما عن العالم العاقل ، ومادة لجواب في السئوال على أية حال هي «البينات والزبر» فالأولى هي البراهين القاطعة العقلية كما المعجزات ، دون ان تحتمل أيّ شك وريبة ، والثانية هي البراهين النقلية من كتاب وحي وسنة قاطعة ، وهما مجموعان في القرآن بل هو أفضل البينات والزبر ، وكضابطة عامة فيما يسئل عنه آية الزمر : (فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ) (١٧).

ف (أَهْلَ الذِّكْرِ) هنا هم الأحسن قولا في الزمر ، دون اي عالم وهناك من هو اعلم ، اللهم إلّا إذا لم تجد سبيلا الى الأعلم ، ام تتحرج في الفحص عنه. ف (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) وقد يروى التعميم عن

٣٥٩

الرسول (ص) انه لا ينبغي للعالم ان يسكت على علمه ولا ينبغي للجاهل ان يسكت على جهله ، وقد قال الله : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) وينبغي للمؤمن ان يعرف عمله على هدى أم على خلافه ولكن ذلك العموم لا يطارد الخصوص ، إذ لا عسر ولا حرج ، وكما تخصّصه وآية الذكر آية الزمر ، وكما إذا تمكنت من سئوال الإمام المعصوم لا يحل لك ولا يكفي سئوال من سواه ، كذلك السئوال عن أي كتاب وعندك كتاب الله وعلى هامشه سنة رسول الله ، وقد يروى عن الامام الصادق (ع): «العلم ثلاثة كتاب وسنة ولا ادري» فليس وراء الكتاب والسنة ، وأمّا يصدقانه ، إلّا «لا أدري» فانه ـ إذا ـ علم و «أدري» جهل ، لأنه غير مسنود إلى علم أو أثارة من علم.

وكما ان أفضل الذكر هو القرآن ، كذلك اعلم اهل الذكر هو رسول القرآن ، ثم اهله المعصومون وهم اهل الذكر : القرآن ، واهل الذكر : رسول القرآن (١) ومن ثم سائر العلماء الربانيين الأمثل منهم فالأمثل علما وتقوى وعقلية أمّا هيه من شروطات الذكر الحجة.

(.. وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) فان القرآن هو اصل الذكر وفصله ، بيانا وافيا لما نزل الى أنبياء الله من قبل ، وأفضل اهله هو الرسول فاسألوه (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ) ـ (لِتُبَيِّنَ .. وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) في معانيه ومغازيه.

هنا «لتبين» تلمح صارحة ان رسول القرآن بيان للقرآن بالقرآن :

__________________

(١) في غاية المرام نقلا عن الحافظ محمد بن مؤمن الشيرازي في كتابه المستخرج من تفاسير الاثني عشر في تفسير هذه الآية يعني فاسألوا اهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومهبط الملائكة ، فو الله لا يسمى المؤمن مؤمنا الا بمحبة علي بن أبي طالب وفي تفسير الثعلبي عن جابر لما نزلت هذه الآية قال علي (عليه السلام) نحن اهل الذكر ، وفي تفسير يوسف ـ

٣٦٠