الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٤٤

مفعولا ومقرونا بكل مؤشرات الصدق وبينات الحق ، دون وعد الشيطان إذ ليس له من سلطان :

(وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) سلطان البرهان ، ام سلطان القوة السالبة الإختيار فانه ـ ككل ـ من السلاطة وهو الممكن من القهر أيا كان ، كما وقد يلمح «من» لاستئصال اي سلطان للشيطان ، وليس له إلّا كيد و (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) (٤ : ٧٦) (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ).

ثم (وَما كانَ) تضرب الى اعماق المضي مهما مضى ولا قل تقدير منذ التكليف لأهله.

(ما كانَ .. إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) : دعوة فاضية خاوية ، دون ان تملك اي برهان في اي حقل من الحقول ، اللهم الا مصائد ومكائد ، لا يصاد بها ولا يكاد إلا من تناسى كرامة العقل والفطرة وهدي الشرعة ، وبصيغة عامة ، من تغافل عن آيات الله آفاقية وانفسية ، وأخلد إلى الأرض واتبع هواه وكان أمره فرطا : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) (١٥ : ٤٢).

فهنا الاستثناء منقطع ، حيث السلطان السالب للاختيار ينافي تكليف الاختبار ، والدعوة الكائدة الصائدة السائدة في كل حركات الشيطان لا تجد سبيلا لتحقيقها في (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) : (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ، إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) (١٦ : ١٠٠) سلطان ليس إلّا استجابة من الذين يتولونه ويتقبلونه ، فليس ـ إذا ـ سلطانا مستقلا قاهرا ، بل مستغلا ظاهرا حين يجد له ظرفا مطاوعا.

فلان سلطانه على الذين يتولونه تابع لمطاوعتهم فليس هو سلطانا له عليهم ، بل تسليطا له منهم عليهم.

٦١

فان صدق عليه سلطان ـ ولا يصدق ـ فهو سلطان لا ينافي التكليف ، والاستثناء إذا متصل ، ولكنه لا يلائم معناه لغويا وهو التمكن من القهر إذ لا قهر في سلطانه ، إلا تجريدا له عن القهر في المستثنى ، فهو مطلق التأثير ، إذا فلا فرق معنويا بين انقطاع الاستثناء واتصاله ما لم يكن له سلطان القهر.

وهذه وخزة معيرة مغيرة على أتباعه إذ قضي الأمر فلا مناص ولات حين خلاص : (إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي).

دعوة تزيّن لهم الباطل فيحسبونه حقا ، وتصوّر لهم الحق باطلا ، فهنالك استحوذ الشيطان على أولياءه ونجى الذين سبقت لهم من الله الحسنى.

وللشيطان دعوات عدة في مختلف الحقول ، ولمختلف العقول ، لا تملك أية برهنة وسلطان إلّا نفسها بكل زور وغرور فانه غرور.

(إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) تشمل كافة دعواته وكافة الإجابات له على طول الخط ، مهما اختلفت في الصورة ، فانها سيرة واحدة.

ليست دعوة الشيطان لغير المخلصين على حدّ سواء ، بل له خطوات يخطو بها الى أهدافه حسب الظروف والإمكانيات.

فقد يدعو ويستجاب بسهولة ، وهذه لمن يتولونه وهم به مشركون ، وأخرى بصعوبة ومحاولات عدة وهي لمن يؤمنون بالله ، وهنالك صراعات وصدامات بين الشيطان بخيله ورجله وبين هؤلاء قد يغلبون وقد يغلبون وأخرى عوان بين ذلك ، وثالثة مستحيلة وهي بالنسبة للمخلصين من عباد الله حيث أخلصوا أنفسهم فأخلصهم الله ، فلا سبيل إليهم من الشيطان.

وبصيغة جامعة الغاوون هم الذين له إليهم سبيل وعليهم سلطان

٦٢

حسب دركات الغواية مهما كانوا من المؤمنين : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) (١٥ : ٤٢).

واما (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) و «المخلصون» فليس له عليهم اي سلطان : (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ، إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (٣٨ : ٨٢).

وهذه تعابير ثلاث عن ثالث ثلاثة من المكلفين : «غير الغاوين» (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) «المخلصين» وليخصص الأولان بكونهم من المخلصين ، فهم المؤمنون المتوكلون القمة ، وغير الغاوين القمة ، وهم المعصومون ، ام يعني من سلطانه السلطة الإلحادية أو الشركية فيعم (الَّذِينَ آمَنُوا ...) كل المؤمنين المتوكلين وكما قد يستفاد من آيات سلب السلطان.

(فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) ... أفلا لوم على الشيطان في إضلاله الدائب ، وإنما هو على المضلّلين المستضعفين؟ أجل إنه ملوم بما أضل ، وهم ملومون بما ضلوا ، ولكن حجر الأساس في ذلك اللوم هو الذي تولاه وتقبل سلطانه عليه ، فهم بالنسبة لأنفسهم أظلم وأشطن من الشيطان حين يحنون ظهورهم ليركبهم كما توعدهم : (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً).

«ما أنا بمصرخكم ولا أنتم بمصرخي» خلاف ما وعدتكم أني مصرخكم يوم الصرخة: (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ ..).

انه لا إصراخ هنا او هناك إلّا صراخا أجرد عن اي مصرخ ، وترى هذا الشيطان لا يصرخ خلاف ما وعد ، (ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ) فما هو موقف (وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ) ولم يكن فيه وعد لا من الشيطان ولا من أولياءه؟.

٦٣

علّه تتمة لاستئصال أي إصراخ من الجانبين ، موعودا وغير موعود ، ولان الأتباع قد ينفعون المتبوعين يوم الدنيا ويظن كذلك يوم الدين ، فلسلبية الإصراخ منهم موقع كما منه.

ثم استئصالا لأية صلة مصرخة بينه وبينهم يكفر بما أشركوه : (إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) مما يدل على أن كل اتّباع للشيطان فيه إشراك له بالله مهما اختلفت الدركات.

ومهما كان (إِنِّي كَفَرْتُ) هنالك إيمانا منه ولكنه لا يقبل منه ، وإنما هو تبكيت وتنديد بالذين يتولونه والذين هم به مشركون.

(إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) وذلك من أظلم الظلم أن يتسامح الإنسان عن كل ما منحه الله من ضمير وعقلية وشرعة ، أمام من؟ أمام الشيطان عدو الله وعدو الإنسان.

(وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ)(٢٣).

وإذا كان تحية أهل الجنة «سلام» فهي هي التحية الإيمانية لهم يوم الدنيا ، حيث الأخرى مثال للأولى ، وأين تحية سلام للذين يتولون الرحمن وتحية سام للمتولين الشيطان (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟

والخلود بإذن الرب يؤذن بأنه رحمة فائضة زائدة على التي يستحقونها ، وإنما الربوبية الرحيمية هي الموجبة لفائضة الرحمة الخالدة اللانهائية.

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ (١) يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ)(٢٦).

٦٤

(كَلِمَةً طَيِّبَةً) بتنكرها تعم كل كلمة طيبة في كافة حقولها الدلالية والواقعية ، من لفظة تقال ، او عقيدة وعلم ، او عمل صالح أو حال ، أم اشخاص خصوص من سائر المعصومين ومن يحذو محذاهم ، حيث الكلمة هي كل ما تدل مهما اختلفت الدالات والدلالات قوة وضعفا ، ومن أقواها الكلمة المحمدية العليا فانها جامعة الكلمات الطيبات لأعلى قيمها وقممها (١).

ففي حقل اللفظ نرى كلمة التوحيد رأس الزاوية (٢) ومنطلق الطيبة لكل كلمة طيّبة ، وقد يحملها داعية التوحيد العليا الرسول الأقدس محمد (صلى الله عليه وآله) والمحمديون من عترته المعصومين (عليهم السلام) يحملونها لفظيا وعقيديا وعلميا وعمليا وعينيا ، دون إبقاء لمدرجة منها إلا درجوها وعرجوها لحدّ لا يعرجها لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا مؤمن امتحن الله قلبه للايمان.

وهذه الكلمة الطيبة هي القول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة كما في تالية الآية.

وهل لهذه الشجرة الطيبة التي هي مثل لتلك الكلمة الطيبة واقع خارجي نعرفه او نتعرف اليه؟ الظاهر نعم حيث الواقعية في أمثال القرآن

__________________

(١) لقد تظافرت الرواية من طريق الفريقين في تطبيق الكلمة الطيبة على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) واهل بيته المعصومين عليهم السلام.

(٢) الدر المنثور ٤ : ٧٦ ـ اخرج ابن أبي حاتم عن قتادة ان رجلا قال يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذهب اهل الدثور بالاجور فقال : أرأيت لو عمد الى متاع الدنيا فركب بعضها الى بعض أكان يبلغ السماء أفلا أخبرك بعمل أصله في الأرض وفرعه في السماء تقول : لا اله الا الله والله اكبر وسبحان الله والحمد لله عشر مرات دبر كل صلاة فذلك أصله في الأرض وفرعه في السماء.

٦٥

واقع لا مرد لها ، فانها بعيدة عن الافتراضات الخاوية والخيالات الفاضية ، ولان المثل ليس موقعه إلّا تقريب الممثّل له ، فليكن اقرب منه الى المعرفة ، وأقربه ما يعرفه الممثّل لهم بسهولة مهما لم يكن المثل بتمامه واقعا ملموسا ، ما هو واقع بشطر منه معروف.

إذا فما هي هذه الشجرة ، هل هي الكرمة؟ وهي لا تؤتي أكلها كل حين ، وانما في فصلها ام فصولها ما يتعدد إثمارها! ام هي النخلة (١)؟ فكذلك الأمر! إلّا ان يعني «كل حين» أحيان بقاء الثمر ، سواء التي يكون على الشجر رطبا او يابسا ، ام التي ليس على الشجر ، كما الزبيب والتمر ومنتوجاتهما.

إذا فتشمل هذه الشجرة الزيتونة ، واضرابها من الشجرات التي تبقى أثمارها مهما اختلفت درجاتها.

وهنا مواصفات اربع لمثل الكلمة هي : طيبة ـ أصلها ثابت ـ وفرعها في السماء ـ تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ـ وهذه هي قمة الكمال للشجرة المثل وللكلمة الممثّل لها ، ولا تنطبق هذه المواصفات تماما على أية شجرة

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٧٦ ـ اخرج الترمذي والنسائي والبزاز وابو يعلى وابن جرير وابن أبي حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردويه عن انس قال أتي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقناع من بسر فقال : مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة ـ حتى بلغ ـ تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها قال : هي النخلة ، ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة ـ حتى بلغ ـ ما لها من قرار قال : هي الحنظلة. واخرج احمد وابن مردويه بسند جيد عن ابن عمر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله كشجرة طيبة قال : هي التي لا ينقص ورقها هي النخلة. أقول ورواية النخلة متظافرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلّها لأنها المعروفة في محط الوحي ، والمفضلة على سائر الشجرة الطيبة زيتونة وسواها.

٦٦

معروفة نخلة ام زيتونة إمّا هيه ، حيث هي بأصولها وفروعها وأثمارها غير ثابتة ، و «كل حين» تعم كافة احيانها منذ كونها حتى القيامة الكبرى والى غير النهاية ، ولا شجرة هكذا اللهم إلّا شجرات الجنة ، فقد يأخذ ذلك المثل حصة من الواقع المعروف كالنخلة والزيتونة ، ثم تكملة لها هي غير معروف حتى يكمل المثل بيانا للمثّل.

وهذان المثلان لا يحلّقان على كل كلمة طيبة او خبيثة ، بل الطيبة المطلقة التي لا خبث فيها او زوال ، والخبيثة المطلقة التي لا طيبة فيها ولا بقاء ، فالمزيجة من طيبة وخبيثة هي عوان بينهما ، ولكنها إذا غلبت طيبتها على خبثها تحسب بحساب الطيبة في هامشها ، وإذا عكست فبحساب الخبيثة في هامشها ، وإذا تساوت الكفتان فهي ـ إذا ـ طيبة وخبيثة ـ خبيثة وطيبة ، وكل واجهة منها محسوبة بحسابها نفسها دون تخالط بينهما ، اللهم فيما يحبط خبثها طيبتها.

وكلمة التوحيد بمصاديقها هي «طيبة» مصدرا وموردا ، فاعلا ومفعولا ، لا خبث فيها ولا قيد شعرة ، طيبة في كافة وجهاتها كما الشجرة الطيبة ، منظرا بنضارتها ، وطيبة برائحتها ، ولذة بطعمها ، وكذلك كلمة التوحيد ، الصادرة من مصدر طيب ، الواردة في مورد طيب ، الفاعلة مفعولة طيبة علميا وعقيديا وعمليا.

(أَصْلُها ثابِتٌ) بجذور عريقة عميقة في ارضها ، راسية في عمقها ، جاسية في مختلف أطرافها ، لا تزعزعها الأعاصير العواصف ، ولا تزيلها القواصف ، ولا تقوى عليها معاول الطغوى ، شامخة سامقة متعالية.

وهكذا تكون كلمة التوحيد ، مهما زاحمتها كلمة الشرك ، فإنها تظل في زحامها ذاهبة جفاء ، نافشة هشّة ، ثم لا تبقي إلّا هيه «وأما الزبد فيذهب جفاء ، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض».

٦٧

فالكلمة الطيبة التي لا ثبات لأصلها ، هي خبيثة المآل مهما كانت طيبة في الحال ، حيث الدوام هو أطيب الطيب لكل طيب ، فالطيّب درجات كما الخبيث دركات.

(وَفَرْعُها فِي السَّماءِ) فالأصل الذي لا فرع له ام هو خامل واطئ ليس هو في كمال الطيب ، كالمؤمن الذي لا ينفع بإيمانه مهما ينتفع هو في نفسه قدره ، وقد يزول من أصله حين لا فرع له في سماء الدعوة والدعاية الحقة.

(تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها) إيتاء في كل الأحيان ، بإذن الله الملك العلام ، فلا إيتاء هنا دون إذن ، ولا أن الإذن يخص أحيانا دون اخرى ، من ستة أشهر وما دونها أو ما فوقها ، حيث الكل المضاف يستغرق الأحيان كلها ، والممثل له لا فترة او فطرة في إيتاءه اكله ، مهما اختلف حين عن حين وثمر عن ثمر.

فحين اتصال الثمرة الناضجة بالشجرة هو أفضل الأحيان ، ثم تتلوه سائر الأحيان في الثمرة المنفصلة ، فحين الرسالة والإمامة ، المنقسم الى عهد الرسول والائمة وبعده ، يقسم ثمرة الرسالة والنبوة إلى عهديهما وبعدهما ، مهما اختلف العهدان قربا وبعدا ، إلّا أنهما في خط واحد تربطه كلمة القرآن وهي المحور الأصيل والثقل الأكبر ، ولا تنقص الثمرة المنفصلة إلّا عدم اتصالها بالشجرة الثانية وهم الحملة المعصومون.

وإذن الرب زمن الحضور اثنان هما القرآن وحملته المعصومان ، وزمن الغياب واحد هو وفقها للقرآن.

فكما الله ثابت في أصل الالوهية السرمدية ، والربوبية الدائبة ، لا تأخذه سنة ولا نوم ، وكل يوم هو في شأن ، وهو معكم أينما كنتم ، كذلك تكون كلمة الله ، مختصرة في (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) ومفصلة في القرآن العظيم ،

٦٨

شجرة طيبة متشجرة الى ارجاء الكون وأجوائه ، في الطول التاريخي والعرض الجغرافي (أَصْلُها ثابِتٌ) دون تزعزع بنسخ او تحريف او تجديف وتزييف ، (وَفَرْعُها فِي السَّماءِ) حيث يحلّق على سماوات الدعوات ، دائبا مشرفا مشرّفا مشرقا.

وقد اذن الله لدائب الدعوة القرآنية على محور التوحيد ، بكل داعية لها حقه ، معصومة كأهل بيت الرسالة القدسية ، ام دونها كما في العلماء الربانيين الذين يحملون دعوة القرآن في كل عصر ومصر ، وعلى طول خط الرسالة.

وانها تطمئن كل دعوة حقة بداعيتها على مر الزمن ، وهي ـ مهما صعبت الظروف والتوت ـ ثابتة ناجحة (وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى).

وكلمة خبيثة هي ما تناحر الطيبة ، وانها كشجرة خبيثة كما الحنظلة (اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ) فلا اصل لها راكزا في الأرض ولا فرع ، وحتى إذا كان لها اصل وفرع فإنهما خبيثان (ما لَها مِنْ قَرارٍ) : ليس لها اي قرار في قرارة الأرض فضلا عن فرع في السماء ، وليس لها أكل ، ولو كان فهو زقوم من حنظلة ، وهكذا يكون دور كلمة خبيثة ، ف (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ)!

(يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) (٢٧).

(بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) ـ وليس فقط من مقولة القول ـ هو كلمة التوحيد (١) ، كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ، الثابت في مثلث

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٧٨ ـ اخرج الطيالسي والبخاري ومسلم وابو داود والترمذي ـ

٦٩

الزمان وقبله وبعده ، وليس (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) إلّا قرارا على غرار الموحدين ، فإنهم لا يتخطون الزمان أيا كان.

وقد تعني «الآخرة» هنا منذ الموت برزخا والى قيامة الإحياء الى ما لا نهاية له ، لأنها تقابل ـ ككل ـ الحياة الدنيا (١) وفي التعلقات الادبية ل «بالقول ـ في الحياة ..» اختلافات معنوية لعلها كلها معنية إلّا «آمنوا في الآخرة» حيث لا يقبل فيها حتى يثبت.

فالباء في «بالقول» للتعدية او السببية ، والظروف على الحالين قد يتعلق ب «يثبت» (٢) واخرى ب «آمنوا» و (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) متعلقة ب «يثبت» ام «الثابت» ام «آمنوا» ، ولا يطرح منها إلّا «آمنوا في الآخرة».

فالإيمان هنا مبدء للتثبيت وسبب له ، وجامع المعنى الذي يجمع صالحة المحتملات انه:

يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت ، يثبتهم بسبب القول الثابت ، تثبيتا في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، تثبيتهم للقول الثابت في الحياة الدنيا

__________________

ـ والنسائي وابن ماجة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن البراء بن عازب ان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال : المسلم إذا سئل في القبر يشهد ان لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله فذلك قوله سبحانه : يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

(١) الدر المنثور ٤ : ٧٩ ـ اخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول في هذه الآية قال : وفي الآخرة القبر ـ أقول : لقد تظافرت أحاديث الفريقين ان ذلك عند المسائلة في القبر وهو تفسير لا قرب المصاديق.

(٢) تعلق «بالقول» ب «يثبت» لا يصح الا ضمن تعلقه ب «آمنوا» حيث الصحيح في الاول «على القول الثابت».

٧٠

وفي الآخرة ، فان كلمة التوحيد الثابتة في الحياة الدنيا هي أثبت في الآخرة ، لأنها يوم تبلى السرائر كما هي ، وهي مثال الدنيا باعمالها كما هي ، وبصرك اليوم حديد.

(وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) عن القول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، ومن أظلمهم المشركون ف (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) اضلالا بما زلوا وضلوا : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) إضلالا في الحياة الدنيا فلا يهتدون ، وفي الآخرة فيضلون طريق الجنة كما ضلوا عن طريقها في الحياة الدنيا (وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ) ولا يشاء إلا صالح العباد ، فرحمة بتثبيته لصالحهم ، وإضلالا لطالحهم ، عدلا هنا وفضلا هناك ولا يظلمون نقيرا.

ثم الايمان بالقول الثابت ـ وهو اصل المعني بين المحتملات ـ هو ايمان بما تقتضيه كلمة التوحيد من ملاحقة واستقامة : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ ..) (٤١ : ٣٠).

ولو لا تثبيت من الله بالقول الثابت لم يكن ثبات حيث الزلات والضلالات كثرة ، والطاقة الانسانية قلة.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ)(٢٩).

(نِعْمَتَ اللهِ) هنا هي الإيمان إذ قوبلت بالكفر ، وأنه قمة النعمة ، فهم بدلوا الايمان كفرا ، ثم (أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) أن بدلوا إيمانهم كفرا كما بدلوا على أنفسهم ، تبديلا ذا بعدين بعيدين عن (نِعْمَتَ اللهِ) فلذلك (جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها) إيقادا لها لأنهم أئمة الكفر (وَبِئْسَ الْقَرارُ).

أترى أئمة الكفر كانوا مؤمنين ثم بدلوه كفرا ، وهم ما آمنوا من ذي قبل حتى يبدلوه كفرا ، اللهم إلّا بعضا منهم بإيمان النفاق وليس إيمانا؟.

٧١

هذه الآية على غرار آية البقرة (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) قد تعني ـ فيما عنت ـ الايمان الكامن في فطرهم ، المصدّق بعقولهم ، الكائن بآياته الآفاقية والأنفسية بمحضرهم ، فهم بدلوه. كفرا تعاميا عنه وتناكرا له وتغافلا : (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٢ : ٢١١) (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) (٢ : ١٠٨) ، والنعم الآفاقية من رسل وبينات هي ايضا مما تبدّل كفرا

ف (نِعْمَتَ اللهِ) تعم الأنفسية فطرية وعقلية وايمانية ، وتبديل الأخيرة هو بالارتداد ، وآفاقية وهي كل النعم المنفصلة المفصلة في الكائنات ، وكلّ هذه النعم تتمحور توحيدا لله فإنه نعمت الله الوحيدة غير الوهيدة ، المحلّقة دلاليا ومدلوليا على كافة الآيات الآفاقية والأنفسية.

ثم إن نعمت الله ولا سيما الإيمان تتطلب شكرا ، ولكنهم لم يشكروا ، بل وبدلوه كفرا ، فلو أنهم لم يكفروا ، أم كفروا ولم يحلوا قومهم دار البوار ، لم يكن لهم صلي جهنم وبئس القرار ، مهما دخلوها على هوامش من هم صالوا النار.

ولان البوار هو فرط الكساد لحد الفساد ، كما يقال كسد حتى فسد ، فدار البوار لهم تشمل الآخرة والأولى ، فقد أحلوهم بداية دار البوار الدنيا ، إذ حملوهم على الإخلاد إلى الأرض واتباع الهوى وفرط الأمر ، ومن جرّاءها دار البوار الأخرى ، بوار أبور من الأولى ، حيث (يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ).

فهؤلاء هم أئمة الكفر ، وحملة رايات الضلال كما :

(وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ)(٣٠).

والند هو المثل (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) والأمثال المجعولة لله تعم حقل

٧٢

العبادة وسواها ، وهي أهمها ضلالا ، وأعمها إضلالا ، ثم و (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) تعم الجاعلين والأنداد المجعولة ، فإنهن يضللن كالداعين إليهن : (.. وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ ...) (١٤ : ٢٦).

(قُلْ تَمَتَّعُوا) بكفركم وجعل الأنداد ، تمتعوا قليلا (فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ).

(قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ)(٣١).

«قل» يا رسول الهدى (لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) والوصف دليل ان غير المؤمنين ايضا عباد الله مهما تخلفوا عن كونهم عبادا لله في كيانهم المختار ، فإنهم في أصل كونهم عباد (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً. لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) (١٩ : ٩٣) .. إذا فإفراد (الَّذِينَ آمَنُوا) بالأمر لانفرادهم بالانتماء دون الكافرين المتعنتين.

وترى (الَّذِينَ آمَنُوا) لا يقيمون الصلاة ولا ينفقون حتى يؤمروا بهما وهما من اصول لزامات الايمان عمليا؟ (الَّذِينَ آمَنُوا) تعم كل من آمن ومنهم من لا يصلي ، ومنهم من يصلي ولا يقيمها ، ثم المقيمون لها قد يقيمونها في أجزائها وشروطها الظاهرية دون الباطنية الروحية ، والمقيمون لها تماما يؤمرون باستمراريتها وتكاملها ، وهكذا في الإنفاق ، فالآية في شطر من مضمونها كمثل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) (٤ : ١٣٦) أمرا بمزيد الإيمان قلبيا وعمليا.

أجل وإن من أصول لزامات الإيمان إقام الصلاة والإنفاق مما رزقوا

٧٣

(سِرًّا وَعَلانِيَةً) (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) (٢ : ٢٧١) فالإخفاء خير للمنفقين ابتعادا عن الرئاء ، والإبداء خير للكتلة المؤمنة لكي يجعلوا الإنفاق سنة متظاهرة لتتبّع ثم وفي إنفاق السر تصان كرامة الآخذين ومروءة المنفقين ، فلا يكون تفاخرا وتظاهرا ومباهات ، وفي العلانية إعلان بطاعة الله في واجب الإنفاق ومندوبه ، وكلّ متروك لحساسية الضمير ومقدرة الأحوال.

أم إنه سر في مندوبه وعلانية في مفروضه ، حيث الرئاء قد لا تتأتى ـ بطبيعة الحال ـ إلّا في خاصة الأحوال ندبا دون عامتها فرضا.

(يُقِيمُوا ... وَيُنْفِقُوا ... مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ ..) هو يوم الموت إذ ينقطع التكليف ، ف (لا بَيْعٌ فِيهِ) ليشتري ثوابا ، إذ لا مال هناك إلا التقوى ولاتباع ، وانما تظهر ثوابا وفاقا ، (وَلا خِلالٌ) ولا خلة ولا شفاعة ، إلا خلال التقوى وشفاعتها : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (٤٣ : ٦٧) وخلة التقوى انما تنفع في شفاعة بشروطها.

و (مِمَّا رَزَقْناهُمْ) يعم عامة الرزق وخاصته ، ما يمكن إنفاقه ويجوز ، بين راجح الإنفاق وواجبه حسب مختلف الظروف المواتية له ، كما وإقام الصلاة يعم مندوبها ومفروضها ، وقد تلمح (مِمَّا رَزَقْناهُمْ) دون «مما عندهم» بأن رزق الله هو الحلال فقط ، ولا يجوز الإنفاق إلّا مما رزق الله ، وأما الحرام فلا هو من رزق الله ولا يجوز الإنفاق منه ف (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ).

وكما «هم» تعم الأرواح والأجسام ، ف «ما رزقناهم» تعم الأرزاق الروحية والجسدية متصلة بهم أم منفصلة عنهم ، ومن الأرزاق المادية أجزاء من أبدانهم ، بالإمكان تحويلها إلى المحاويج ، كالدم للجرحى المفتقرين اليه ، ام استخدامها في سبيل حوائج المحاويج ، كأن تنفعهم قدر المستطاع

٧٤

بطاقاتك البدنية.

ثم وأحرى من الأرزاق المادية هي المعنوية أن تنفعهم بعقلك وعلمك وتدبيرك وخلقك وتقواك لتقوى ما ضعف منهم دون ان تضعف أنت في ذلك الإنفاق.

وترى إذ لا يكون منذ الموت بيع ولا خلال ، فكيف تنفع العبادات الاستيجارية تاركيها بعد الموت؟.

أقول : انها تنفع على شروط وفي ظروف خاصة نفعا قليلا ، وليس البيع هنا من التاركين لها ، وانما من الوارثين له استيجارا ومن العاملين ايجارا ، استجابة لدعائهم ان كانت صالحة ، ولتفصيل البحث عنه محله الأنسب.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ)(٣٢).

«الله» مرفوعا دليل انه بديل عن «الله» في (يُثَبِّتُ اللهُ ..) «ويضل الله ويفعل الله» ثم يلحقه وعلى هامشه «الله» في (نِعْمَتَ اللهِ .. وَجَعَلُوا لِلَّهِ .. قُلْ لِعِبادِيَ) تعديدا لنعم ناعمة قائمة في الكون خلقا وتسخيرا وإيتاء من كل ما سألتموه ، ثم (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) ولا سيما النعمة القمة وهي التثبيت (بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ ..).

(وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ)(٣٣) تسخيرا لصالحكم خلقا منه وسعيا منكم ثم :

(وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)(٣٤).

٧٥

في تعديد هذه النعم السابغة حملة جميلة بسياط الكون النعمة ، بسماواته وارضه وما فيهما وما بينهما ، سياط ذات إيقاع ورنين على هذا الإنسان الظلوم الكفار اللعين يختم بدوره الدائر الحائر بتعجيز الإنسان عن إحصاء نعمت الله ، فضلا عن شكرها والحيطة بها.

هذا الكون الهائل الكبير ، سخره الله لهذا الإنسان الغافل الصغير ، فيا ليته استشعر النعمة وشكرها لصالحه استمرارا صالحا له ، في حياة مشرقة مشرّفة ، ولكن (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)!

(آتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ) أترى السؤال هو بلسان القال ام والحال على أية حال؟ ثم الكل هل يستغرق كل سؤال من كل سائل بلسان قال ام حال؟ وهنالك سائلون كثير لا يستجابون!

«من» قد تعني التبعيض ، ولأن الاسئولة المختارة ليست كلها بحق ولصالح السائل ام سواه ، فسؤال الحال ، المقتضية لرحمة ربانية ، مستجاب على أية حال ، ف (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (٢٠ : ٥٠) هداية الى قضية الحال وهي من خلقه تعالى.

واما الاسئولة المقالية ، واقعية ام لفظية ، فقد تستجاب حين تتوفر شروطها ، وقد لا تستجاب إذ لا تتوفر ، ام تستبدل بما لم يسأله وهو قضية الحال ، تقديما لسؤال الحال الصالحة على سؤال القال غير الصالحة.

والسؤال ـ ككل ـ يعم من في السماوات والأرض : (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (٥٥ : ٢٩)(١) ولان (ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) (١٦ : ٥٣) وسؤال الكائنات من ايّ سئول كان يبتدء بسؤال الذات والأفعال والصفات ، ثم ما تقتضيه الحال ثم المقال ،

__________________

(١) راجع الرحمن ٣٠ في الجزء ٢٧ ص ٣٧ ـ ٤٠ تجد فيه قولا فصلا عن «يسأله».

٧٦

وبصيغة أخرى هي أحرى : الكون كله سئول وسؤال عن المكون القدير المتعال ، حاجة ذاتية ، وتعلقة حقيقية جوهرية لا ينفصل عنها ولا تنفصل عنه ، فالسؤال الذاتي هو لزام الذات على أية حال ، والسؤال الحالي هو ما تقتضيه الحال من كل هدى تقتضيه حال الكائن ، فهما مستجابان دونما استثناء ، حيث الاوّل قضية الفقر الذاتي والثاني قضية الحاجة الحيوية ، واما سؤال القال فهو مستجاب إذا اقتضت الحال.

و (نِعْمَتَ اللهِ) هنا هي جنس النعمة الشامل لكل نعمة كمجموعة ، فلا حدّ لنعمة الله حتى تحد وتحصى ، ونفس العدّ كذلك نعمة فكيف لك عدها وحدها ، فنحن غارقون ـ إذا ـ في نعمت الله ، ولكننا في الأكثر نظلمها ونكفر بها (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) ـ (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ) (١٦ : ٨٣) فلنعترف بالتقصير عن إحصاء نعمة الله بعد ما نعرفها ، ف «سبحان من لم يجعل في أحد من معرفة نعمة إلا المعرفة بالتقصير عن معرفتها ، كما لم يجعل في أحد من معرفة إدراكه اكثر من العلم انه لا يدركه ، فشكر جل وعز معرفة العارفين بالتقصير عن معرفة شكره ، فجعل معرفتهم بالتقصير شكرا ، كما علم علم العالمين انهم لا يدركونه فجعله ايمانا ، علما منه انه وسع العباد فلا يتجاوز ذلك ، فان شيئا من خلقه لا يبلغ مدى عبادته وكيف يبلغ مدى عبادته من لا مدى له ولا كيف ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا» (١).

وهنا التعقيب (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) وفي النحل (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٥٤٥ في روضة الكافي علي بن محمد عن بعض أصحابه رفعه قال كان علي بن الحسين (عليه السلام) إذا قرأ هذه الآية «وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها» يقول : ...

٧٧

اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٨) مما يبشر هذا الإنسان الظلوم الكفار بغفر من الله ورحمة لو أن تنبه وأناب الى الله.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ)(٤١).

٧٨

آيات سبع تختصر في دعاء ابراهيم الخليل كل ما سأل في منحدر عمره وخاتمة أمره ، انسان ذاكر شاكر لنعمت الله ، يدعو ربه في بيته العتيق ، بمشهد خاشع يظلله الشكر وتشيع فيه الضراعة ويتجاوب فيه الدعاء في نعمة رخية تتموج ذاهبة الى السماء : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ..) مما يلمح بكون مكة بلدا حينذاك ، وترى كيف يكون واد غير ذي زرع بلدا ولم يعمّر بعد؟ علّه لأنه أم القرى مهما كان وقتئذ واديا غير ذي زرع ، فهو بلد قبل عماره وبعده ، قبل بناء البيت وبعده ، ولكنه قبل بناء البيت يدعو له كأنه ليس بلدا : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ، رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢ : ١٢٩) وقد يعني جعل الأمن فيه حال كونه بلدا حيث الجعل مركب يكفيه «آمنا» امرا حديثا ولم يكن من ذي قبل.

وقد يلمح اختلاف الدعائين في عديد من بنودهما انهما في ظرفين ، مهما اشتركا في جهات أخرى فمن (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي) في ابراهيم نعرف أنها السفرة الاولى الإبراهيمية حين أخذ اليه إسماعيل الرضيع وأمه.

ومن (إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ) في البقرة نعرف انها الاخرى حين كبر إسماعيل لحد إمكانية المساعدة معه لرفع القواعد من البيت ، ف (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) هي دعائه قبل بناء البيت بسنين ، ولا اقل من عشر ام زاد ، فهل انه كان بلدا حينذاك ولم يكن بعده بسنين

٧٩

بلدا حيث الاول (هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) والآخر (هذا بَلَداً آمِناً)؟.

انه في الاول كان بلدا واقعيا مهما كان واديا غير ذي زرع ، ام في الحق بلدا لأنه يحمل مطاف الموحدين ، وهو في المستقبل عاصمة الرسالة الاسلامية ، ثم هو في الثاني كما الاول ام زاد ، ولا ينافيه (هذا بَلَداً آمِناً) حيث المشار اليه هو البلد ، والجعل هنا لثاني المفعولين ان يجعله آمنا دون اصل البلد.

ثم دعاءه هنا تنقسم الى قسمين بينهما لأقل تقدير عشر سنين ، ف (إِنِّي أَسْكَنْتُ ..) هي في سفرته الاولى ومعه إسماعيل الرضيع ، ثم (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ ..) هي بعد مبلغ إسماعيل الحلم لحد يساعده في رفع القواعد ، وفي قوله (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ..) لمحة انه لم يولد بعد إسحاق وإلا كان ضمن ما يدعو.

وترى «آمنا» في تلك الدعاء تعني الأمن تكوينا؟ وقد نرى خلافه طول تاريخه كما لم يأمن فيه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث ضرب وهتك وحوصر وأحرج حتى اخرج ، لحدّ (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ ، وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) حيث استحلت حرمته في هذا البلد ، كما والحسين (عليه السلام) خرج منه خائفا يترقب ، ولحد الآن لا نرى أمنا واقعيا فيه حيث السلطات المسيطرة فيه لا تبقي ولا تذر حرية للحجاج والمعتمرين وسائر الوافدين ، حتى في تطبيق واجباتهم حسب مذاهبهم الإسلامية ، كما وقد هدم البيت واحرق خلال التاريخ الاسلامي فضلا عما قبله ، فأين ـ إذا ـ امنه تكوينا؟.

ام أمنا تشريعيا؟ وهو يعم طول الزمان وعرض المكان ان شرع الله الأمن في تشاريعه كلها ، وشرعة الله مؤمّنة كلّها.

ام إنه أمن زائد على سائر البلاد؟ وكذلك هو آمن كما نراه في محرمات

٨٠