الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٤٤

قد تزول بمكرهم.

(وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ) فليس لتزول منه شيء من ساحة الرب المتعال (١) ، لا يتفلت منه عن علمه شيء ، ولا يتلفت اليه منه شيء ، فهم لا يضرون الله شيئا.

(فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ)(٤٧).

قد يحسب الحاسبون الذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ، ان الله مخلف وعده رسله ، في نصرهم والإنتصار لهم ، لما يرون من تغلب الباطل وتألب الحق : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) (٣٧ : ١٧٣) (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) (٥ : ٥٦).

ولكن (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) في علمه وقدرته وحكمته ، فكيف يخلف وعده رسله ، وهو «ذو انتقام» من الظالمين مهما طال الزمن وتطاولت المحن ف (إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ).

وإخلاف وعد الرسل قد يكون من مخلّفات الغفلة (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) ام دون غفلة لجهالة ام عجز ام ظلم وخيانة ، وايّ من هذه وتلك لا توجد في ساحة الربوبية (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ).

فما لذلك المكر الذي تزول به الجبال من مجال على اية حال ، تعويقا لتحقيق وعد الله ، أم إخلافا ام أي خلاف ، فليس الله ليدع الظالم

__________________

(١) ف «ان شرطية وصلية مهما تعارك فيها المفسرون والأدباء ، فلا يستقيم لها الا هذا المعنى.

١٠١

يفلت ، والماكر يلفت ، مهما طال يومه ولن يطول ، ف (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ) :

وترى كيف ينتقم الله من الظالمين ولا يضارونه شيئا ، وليس الانتقام على أية حال الا تشفيا لقلب المنتقم الجريح ، وليس لله قلب ولا يجرح باي جارح؟

ان انتقامه ليس لنفسه تشفيا ام سواه ، وانما للمظلومين المحطومين ، فهو ـ إذا ـ «ذو انتقام» من الظالمين للمظلومين.

ونرى العزة قبل انتقام هنا وفي آياتها الاخرى الثلاث (١) مما يفرّع انتقامه تعالى على عزته ، وقضية عزته عدله ورحمته على علمه وقدرته ، دون ان يطلب بذلك عزا على عزه ، وانما تحقيقا لعزته بين عباده ، وتطبيقا لعدله ورحمته.

(يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (٤٨).

للأرض بعد الدنيا تبدّلان اثنان ، تبديل التدمير وتبديل التعمير ، ففي قيامة الإماتة : التدمير ، وفي الإحياء : التعمير ، ثم (وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ، وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ ..) هنا دليل التعمير ، ففيه (تُبَدَّلُ الْأَرْضُ) الخربة بقيامتها الاولى (غَيْرَ الْأَرْضِ) غيرا عن حياتها الدنيا ، وآخر عن قيامتها الاولى ، فلا هي عامرة عمارة الدنيا ولا هي خربة خربتها في تدمّرها ، بل هي كما قال الله «بارزة» (لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً)

__________________

(١) «اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ» ٣ : ٤ و ٥ : ٩٥ «أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ» (٣٩ : ٣٧).

١٠٢

(٢٠ : ١٠٧) وكما عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «يبدل الله الأرض غير الأرض فيبسطها ويمدها مد الأديم العكاظي فلا ترى فيها عوجا ولا امتا» (١).

وبصيغة اخرى ليس تبدّل الأرض على أية حال انعداما لها عن أسرها بصورتها ، حيث التبديل تحوير لشيء من حالة الى اخرى ، وللإعدام صيغة تخصه ك «يوم تعدم الأرض» وأضرابها.

فهذه الأرض ، المبدلة بقيامتها الاولى : التدمير ، الى حالة خربة ، تبدل غيرها في الحالتين بصورتها وأجواءها في الحياة الاخرى ، فلا هي عامرة كما الاولى ، ولا خربة كما الثانية ، بل هي عامرة أعمر من الاولى وكما تناسب الحياة الأخرى.

وهكذا السماوات تبدّل غيرها كما الأرض ، فالقيامة حافلة لهذه السماوات والأرضين بصورة اخرى هي أحرى.

وهذه آية منقطعة النظير في تبدل الأرض يوم قيامة الإحياء ، إلّا اشارة من آية الراجفة : (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ. تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) (٧٩ : ٧) فالرجفة الرادفة للأولى هي رجفة التعمير الإحياء بعد التدمير ، كما الرجفة التي تعيشها الأرض في دنياها تعيّشها في حركاتها ، لأنها معدّلة بالراسيات

__________________

(١) تفسير الفخر الرازي ١٩ : ١٤٦ روى ابو هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : ... وفي الدر المنثور ٤ : ٩٠ ـ اخرج مسلم وابن جرير والحاكم والبيهقي في الدلائل عن ثوبان قال جاء حبر من اليهود الى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال : اين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هم في الظلمة دون الجسر وفي نقل آخر قال : على الصراط وفيه عن ابن مسعود قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الآية : ارض بيضاء كأنها فضة لم يسفك فيها دم حرام ولم يعمل فيها خطيئة.

١٠٣

من جلاميدها ، وذوات الشناخيب الصم من صياخيدها ، فسكنت على حركتها من ان تميد باهلها او ان تسيخ بحملها.

هذه الأرض ، وهكذا تكون تبدّل السماوات ، فانها بعد انفطارها وكشطها ومشطها عن كواكبها في قيامتها الاولى ، تبدّل إلى غيرها ، عن حياتها الدنيا وعن موتها ، فلا هي كالأولى ولا كالثانية ، بل هي غيرها في حالتيها كما الأرض ، وقد تعنى «تبدّل» كلا التبدلين ، في قيامة التدمير والتعمير ، تبدل عن حالتها الدنيوية تدميرا وتعميرا ، فكما ان حالة تدميرها غير الاولى ، كذلك حالة تعميرها غير الثانية والاولى ، حالة ثالثة تناسب الحياة الاخرى ، فالأرض الساهرة هناك هي بساط عرصات الحساب ، والسماوات ـ علّها ـ بساطات الجزاء ثوابا وعقابا ، حيث الجنة هي فوق السماء السابعة : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى. عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) (٧٩ : ٧) فالنار ـ إذا ـ تحتها ، إن في السماوات ام في الأرض والأرضين الاخرى.

اجل ـ فليست لتبطل الأرض والسماوات عن بكرتها ، انمحاء على اصل الكينونة ، ام تداوما في خرابهما بقيامة الإماتة ، فكما إنسان الأرض يحيى وأناسي السماوات في قيامة الإحياء ، كذلك الأرض والسماوات ، ليعيش الأحياء في الأحياء.

فصحيح ان هذه الشمس تكور بقيامتها الاولى ، ولكنها قد ترجع في الثانية وكما تدل عليه آيات الظلال في الجنة ك (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً) (٧٦ : ١٣) وهل يخلق الله للسماوات والأرضين الجديدة بعد القيامة خلقا آخر يكلفهم كما كلفنا؟ لا ندري نعم ام لا ، والقرآن ساكت عن هذا او ذاك فلنسكت عما سكت الله عنه!

وإذا كانت الجنة (عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) (٥٧ : ٢١) ام

١٠٤

(عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) (٣ : ١٣٣) فما هو طولها؟ ثم واين النار؟

العرض هنا هو السعة دون المقابل للطول؟ حيث (السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) ليس لها العرض ـ فقط ـ مقابل الطول ، بل هما العمق بالطول والعرض ، حجما يتبنى مثلثه الهندسي! ف (عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) تفسر (عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) ثم لا معنى لعرض العرض مقابل الطول لما نجهل طوله وعرضه!.

ثم الجنة المأوى هي عند السدرة المنتهى فوق السماء السابعة وليست لا في السماوات ولا في الأرض : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى ، عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى) (٥٣ : ١٤).

فالنار ـ إذا ـ تحتها ، إن في السماوات او الأرضين ام فيهما ، ولكنها بحيث يمكن الترائي بين أهل الجنة والنار كما في آياتها.

وعلّ «الأرض» هذه تعني الأرضين السبع كما السماوات ، ام هي مطوية في السماوات دلاليا كما هي كونيا ، حيث الأرض والسماوات تعنيان الكون كله دون إبقاء.

إذا ففي ذلك اليوم تبدّل الكائنات بأسرها غيرها ، ترى أرضا عامرة غير هذه ، وسماوات مبنية غير هذه ، صورة لماعة لم تخلد بخلد قط إلا من شاء الله ، وكل أتوه داخرين.

وترى كيف (وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) وهم بارزون منذ كونهم وقبله وبعده؟ انه بروزهم فيما يعرفون ويعترفون يوم الدين ، بعد نكرانهم يوم الدنيا ، بروزا في علمهم امام الله ، لا في علمه ، ثم وبروزا لأعمالهم لهم كما كان لله حيث يرونها دون إبقاء ، ثم بروزا لجزاءهم الكامن يوم الدنيا :

١٠٥

(لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) وبروزا ـ بالأخير ـ لوحدانيته القهارة ، بعد ما اتخذوا له شركاء ، فأحسوا انهم مكشوفون لله لا يسترهم ساتر ولا يقيهم واق من الله إذ ليسوا في دورهم ولا في قبورهم ، بل هم في عراء الساهرة امام الله الواحد القهار.

(وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) (١٨ : ٤٧) وذلك بعد تبدلها غير الأرض فانها ليست الآن بارزة بما فيها من مرتفعات ومنخفضات وبنايات ، ولا في قيامة الإماتة فانها مدمّرة ، ولكنها في قيامة الإحياء بارزة ، وهم معها ، (وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) (١٤ : ٢١) (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ)(٤٠ : ١٦).

انهم كانوا يرونهم يوم الدنيا بين ارباب متشاكين ام هم أرباب ، ولا قهار واحدا هنا وهناك ، ولكنهم يوم تبدّل الأرض وبروزها (بَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) حيث يتناسى كل قاهر ظاهر او متظاهر ، ويتلاشى كل شيء ، فهنالك يذهب كل ظلم وظلام وظلام عن الأرض ، ولا يرى من آثارهم شيء على الأرض فترى الأرض بارزة وهم بارزون : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٣٩ : ٦٩)(١).

(وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ)(٥٠).

التقرين هو جمع الشيء الى نظيره ، فالمجرمون ـ إذا ـ مقرنون الى

__________________

(١) هنا حول تبديل الأرض غير الأرض روايات من طريق الفريقين في مثلث من موافقة الآية ومخالفتها ، وما لا توافقها ولا تخالفها لكلّ حكمه كما فصل في أحاديث العرض.

١٠٦

نظائرهم في الإجرام «في الأصفاد» وهي الأغلال الجامعة بين الايدي والأعناق ، ام هي مطلق السلاسل الجامعة ، فهم مقرّنون الى بعض ، وبالأصفاد : (وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً) (٢٥ : ١٣).

ذلك هناك وكما كانوا هنا مقرنين الى بعض في اصفاد الإجرامات والشهوات ، قد احتنكهم الشيطان ، لا يتحللون عن أسرهم له بأسرهم وهم في حيوناتهم دائبون.

(سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ) أقمصة سوداء منتنة تطلى بموادها الآبال ، يلبسونها لباس المنتن المحرق فانها مادة شديدة القابلية للاحتراق ، وهي في نفس الوقت قذرة منتنة سوداء. (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ) كل وجوههم «النار» فالوجوه الظاهرة تغشاها النار القاهرة ، وكما الوجوه الباطنة وهي أحرى وأنكى : (نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ. إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ ، فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) (١٠٤ : ٧) فلا يبقى لهم وجه على اي وجه إلا وتغشاه النار ، وكما كانت وجوههم يوم الدنيا بكل اتجاهاتهم الى النار ، فقد «البسهم سرابيل القطران ومقطعات النيران في عذاب قد اشتد حره ، وباب قد اطبق على اهله» (١).

ويا له من مشهد متلظّ مذلّ مخز جزاء الماكر الظالم المستكبر :

(لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ)(٥١).

«ما كسبت» هنا في موقف المفعولية ل (لِيَجْزِيَ اللهُ) مما يدل على ان العمل هو الجزاء بملكوته الظاهرة يوم الجزاء ، فليس الجزاء انتقام التشفي لله وسبحانه ، بل هو العمل بعينه ، وفي مظهر الحق بأثره (وَلا يُظْلَمُونَ

__________________

(١) نهج البلاغة عن الامام امير المؤمنين (ع).

١٠٧

فَتِيلاً) ومثالا على ان الجزاء هو نفس العمل بحقيقته غير الظاهرة يوم الدنيا ، الذرة ، فان فيها نارا خامدة ، وحين تتفجر تظهر ، كذلك الأعمال الشريرة تتفجر يوم القيامة بنيرانها ، والأعمال الخيرة تتفجر بنورها هناك.

وكما المريض بعصيانه دستور الطبيب يشتد مرضه حالا أو بعد حال ، وليس اشتداده جزاء من الطبيب فانه قد لا يعلم بعصيانه ، او يعلم ولا يقدر ان يجعل شدة في مرضه بمشيئته ، فاشتداد المرض هو اثر اتوماتيكي بما جعل الله لذلك العصيان ، كذلك الأعمال خيّرة وشريرة لها آثار غير ظاهرة يوم الدنيا إلّا قليلا ، نورا ام نارا تظهران يوم يقوم الأشهاد.

وما جزاء كل نفس ما كسبت بالذي يعيي ربنا (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) لا سيما وان واقع الحساب هو العمل كما هو واقع الجزاء.

فهنا «ما كسبت» تفسير «ذو انتقام» انه نقمة في نفس الأعمال ، دونما تأثر حتى يتشفى بانتقام.

وفيما إذا سئلنا فما ذا يعني الاستغفار عن الذنوب وغفرها ، إذا كانت العقوبات هي نفس التخلفات؟

فالجواب ان الله الذي كوّن النار على ابراهيم بردا وسلاما ، كذلك يزيل النيران الخامدة في المعاصي التي يغفرها ، والغفر هو الستر.

(هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٥٢).

«هذا» المذكور في هذه السورة ، و «هذا» القرآن ككل (بَلاغٌ لِلنَّاسِ) كل الناس ، أعلام جاهر في إعلان باهر ، عالي الصدى ، بعيد المدى ، بلاغا للناس طول الزمان وعرض المكان (بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) (٤٦ : ٣٥).

١٠٨

القرآن «بلاغ» و (الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) (٦ : ١٤٩) ورسول القرآن بلاغ (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (٢٤ : ٥٤) كما وهو حجة بالغة ، فالدعوة القرآنية بلاغ في بعدي المدعو به والداعية.

وترى «بلاغ» فقط في الحقل العلمي والمعرفي؟ كلا! بل (وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) نذارة نفسية وعملية ، تذرعا لبلاغ العلم الى بلاغ العقيدة والعمل ، كقاعدة اساسية هي رأس الزاوية لهذا البلاغ. ف (لِيُنْذَرُوا بِهِ) هي من اهداف البلاغ ، والواو هنا تعطف الى محذوف معروف من نفس البلاغ ، ف (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ) ليعلموه وليصدقوه ثم (وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا .. وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ).

وهذه الزوايا الثلاث نذارة وعلما وتذكرا هي الغاية القصوى من (بَلاغٌ لِلنَّاسِ) علميا وتصديقيا وتطبيقيا.

ثم (وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ) قياما لعمودي العلم والعمل على قاعدة توحيدية عريقة تتبنى الحياة كلها في كل حقولها هي (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) فانها ليست مجرد عقيدة مستكنة في الضمائر ، فانما البلاغ الصالح للدعوة القرآنية المحمدية ، هو دمج التوحيد في كل شؤون الحياة ، آفاقية وانفسية أماهيه ، كروح تعمل بين الجوارح والجوانح ، في الأرواح والأشباح.

ثم وفي قمة التأثير لهذا البلاغ (وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) فبعد ما أخذ ناس من هذا البلاغ ـ بتصديقه عقيديا وعمليا ـ لبّا ، فهذا البلاغ يزيدهم لبا على ألبابهم فيذكروا لباب الذكر.

وكما نرى هذه الآية الختامية لهذه السورة تنعطف الى آيتها الاولى ، محلّقة معها على أجواء السورة كلها ، ومختصرة لها والقرآن كله في النذارة والعلم والتذكار ، على محور التوحيد ، والله على ما نقول شهيد.

١٠٩
١١٠

سورة الحجر مكيّة

وآياتها تسع وتسعون

١١١
١١٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥) وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(٩)

١١٣

مكية الحجر بارزة بطيّات آياتها ، لا سيما آية الدعوة المعلنة بعد استتارها : (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) (٩٤ ـ ٩٥) مفسّرة بروايات من طريق الفريقين انه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يكتتم الدعوة في البداية سنين عدة حتى نزلت هذه الآية ، آمرة بالدعوة المعلنة.

وان الصبغة المكية لائحة في سبك آياتها كلها ، واتجاهاتها ، حيث الإنذار الحاسم القاصم في مطلعها ملفعا بظل من التهويل والتحويل : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ ، ذَرْهُمْ ..) ثم متابعات وتعقيبات على الذين كفروا جاسمين ، وتشجيعات وتعزيات للرسول الجريح القريح من هجمات المشركين وهمجاتهم ، كل ذلك تؤيد مكية السورة.

ذلك ، ولكن ربما تدل ثانية آياتها أنها مدنية ، ام هي واضرابها ، حيث الذين كفروا في العهد المكي ما كانوا يودون لو كانوا مسلمين ، اللهم إلّا على تأويل تحسرهم الى يوم الدين ولكنه «إنما» وليس «ربما» حيث المشهد الضارع الهارع يدعوهم لذلك التحسر يوم الدين ، اضافة الى «ذرهم» فانه لا يناسب يوم الدين.

وربما تعني «ربما» هنا بدخولها على «يود» المستقبل ، كل حالات تحسرهم منذ الدولة الاسلامية في المدينة المنورة ، ويوم الرجعة وما بينهما من حالات متقدمة للمسلمين ، ويوم البرزخ ويوم القيامة (١). توسعة في «ربما» وتأويلا له ـ بعد تفسير الدنيا ـ الى يوم الدين ، فالمعنيان معنيان مهما كان

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٩٢ ـ اخرج الطبراني في الأوسط وابن مردويه بسند صحيح عن جابر بن عبد الله قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ان ناسا من امتي يعذبون بذنوبهم فيكونون في النار ما شاء الله ان يكونوا ثم يعيرهم اهل الشرك فيقولون : ما نرى ما كنتم فيه من تصديقكم نفعكم فلا يبقى موحد الا أخرجه الله تعالى من النار ثم قرء رسول ـ

١١٤

الاول أصلا في تفسيرها والثاني فرعا في تأويلها وتطبيقها.

هذا ، ولكن «لو» لها تلويحتها باستحالة ايمانهم المترجّى ، وليست إلّا يوم الدين ، ام وعلى هامشه يوم الدنيا للذين جحدوا بآيات الله واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ، الحاملين مشاعل الضلالة ، حين يرون كتلة الايمان متغلبة عزيزة.

وعلى اية حال لكل من المعنيين حجة ، والجمع بينهما جماع الحجة وبلوغ المحجة في تفسير آي الذكر الحكيم.

«الر» كسائر الحروف المقطعة هي من مفاتيح كنوز القرآن وعلّ المشابهة بتكرارها في سورها تلمح إلى وحدة بينها في هامة من مغازيها ومعانيها ، وكما هي بارزة في مباديها :

(كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ) ـ (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) ـ (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ)(١) وهنا :

(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ)(١) وعلّ الكتاب في هذه الثلاثة هو كل ما كتبه الله على عباده وحيا الى رسله وهذا الكتاب هو جملته بهيمنة (وَقُرْآنٍ

__________________

ـ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) أقول واخرج مثله بتفاوت يسير عن جماعة عن أبي موسى الاشعري عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن أبي سعيد الخدري عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن انس عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن علي بن أبي طالب (عليه السلام) عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) وعن أبي امامة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلّا ان لفظه في الخوارج.

وفي نور الثقلين ٣ : ٢ عن تفسير القمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : إذا كان يوم القيام نادى مناد من عند الله عز وجل لا يدخل الجنة الا مسلم فيومئذ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين.

(١) وهي على الترتيب ١٤ : ١ و ١١ : ١ و ١٠ و ١٢ : ١.

١١٥

مُبِينٍ) يقرء على العالمين ، ويبين لهم كافة بينات الدين.

فليست الإشارة في «تلك» الى آيات الحجر فقط ، فانها من آيات الكتاب ، وليست آيات الكتاب كلها ، ولا ـ باحرى ـ «الر» فانها غير بين ولا مبين.

والقرآن منه مبين لسائر المكلفين وهو «تلك» ومنه غير مبين لهم إلّا لشخص الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كمحكم الكتاب النازل عليه ليلة القدر والحروف المقطعة كما هنا ، ومنه غير مبين حتى لشخصه وهو القرآن قبل نزوله عليه لا جملة ولا تفصيلا.

ولأنه (قُرْآنٍ مُبِينٍ) في كافة حقول البيان والإبانة ، ولكافة العقول غير المعقولة بطوع الهوى ، لذلك :

(رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ)(٢).

وربما قيل في «ربما» أقاويل ، كأنها لا تدخل إلا على الماضي إذ لم يجدوها في استعمال العرب جاهليا وسواه تدخل على المستقبل؟ وكلام الله أقوى واجل واشرف مستند لصحة دخولها عليه!

ثم وفي استقبال فعلها هنا شمول لمثلث الزمان ، يوم الدنيا والبرزخ (١) ويوم الدين ، في الاوّل ربما هو قليل ، وفي الآخرين غير قليل ، إذ يعرفون فيها خطأهم ، ويتحسرون ان (لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ). ولكن هيهات ، ولات حين مناص ، وقد فات يوم خلاص.

__________________

(١) تفسير البرهان ٢ : ٣٢٥ بسند عن جابر بن يزيد قال قال ابو عبد الله (عليه السلام) قال امير المؤمنين (عليه السلام) في الآية هو إذا خرجت انا وشيعتي وخرج عثمان وشيعته وثقل بني امية فعندها يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين.

١١٦

(رُبَما يَوَدُّ ..) ولكنه حيث لا ينفع التمني ولا يجدي الوداد ، وذلك تهدّد خفي واستهزاء ملفوف بالذين كفروا منذ الموت ، وحث على انتهاز الفرصة المعروضة للإسلام قبل الموت.

«ولو انهم يودون هنا لو كانوا مسلمين وما هم بمسلمين فإن هم إلا كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون» ف :

(ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) (٣).

«ذرهم» في خوضهم يلعبون ، حين لا يرجى منهم إسلام وهم يترجون ، أتركهم وما هم فيه من حيونات الحياة وشهواتها «يأكلوا» حيث هو بغيتهم من الحياة «ويتمتعوا» بسائر المتع البهيمية (وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ) البعيد الطويل في الحياة الدنيا عن الحياة الاخرى إذ لا يعلمون : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) (٣٠ : ٧)(فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) منذ الموت والى القيامة الكبرى حين يرون العذاب ، يعلمون انه الحق من ربهم ، عين اليقين ، مهما كانوا يعلمون هنا علم اليقين (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) (٢٧ : ١٤).

فيا لصاحب الأمل الخاطئ الخابط من خبط وخطل «يتعاطى الأمل فيختلجه الأجل دون ذلك» (١) فهو عائش بين الأمل والأجل ، ولكن لا يمهله الأجل ، مهما أهمله الأمل.

فانما أخاف عليكم اثنتين : اتباع الهوى وطول الأمل ، اما اتباع

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٩٤ ـ اخرج احمد وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري ان رسول الله (صلى الله عليه وآله) غرس عودا بين يديه وآخر الى جنبه وآخر بعده قال : أتدرون ما هذا؟ قالوا : الله ورسوله اعلم قال : فان هذا الإنسان وهذا اجله وهذا أمله فيتعاطى ..

١١٧

الهوى فانه يصد عن الحق واما طول الأمل فينسي الآخرة (١) ف «إذا استحقت ولاية الله والسعادة جاء الأجل بين العينين وذهب الأمل وراء الظهر ، وإذا استحقت ولاية الشيطان والشقاوة جاء الأمل بين العينين وذهب الأجل وراء الظهر» (٢) و «ما أطال عبد الأمل إلا ساء العمل» (٣). و «ما أنزل الموت حق منزلته من عد غدا من اجله» (٤) «واعلموا أن الأمل يسهي القلب وينسي الذكر فاكذبوا الأمل فانه غرور وصاحبه مغرور» (٥) ف «إن صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين وهلاك آخرها بالشح والأمل» (٦)

والأمل المذموم في آيته هنا هو الملهي (وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ) وفي روايته : طول الأمل ، فنفس الأمل إذا ليس مذموما فمنه ممدوح ومنه مذموم ، واجمع تعبير لمذمومه (وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ).

ثم وطول الأمل مقابل قصره دون تركه عن بكرته حيث الأمل في أصله زاد الحياة وراحلتها ، فقد يأمل أطول مما يعمل ، رجاء زائدا على ما ينتجه العمل ، فهو طول الأمل ، وإذا كان دون عمل فهو أطول ، وإذا كان أمل الخير من عمل الشر فأنكى وأعضل.

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٣ عن اصول الكافي بسند عن يحيى بن عقيل قال قال امير المؤمنين (عليه السلام) : ...

(٢) المصدر عن الكافي بسند عن أبي شيبة الزهري عن أبي جعفر (عليه السلام) قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ...

(٣) و (٤). المصدر الكافي عن امير المؤمنين (عليه السلام).

(٥) نهج البلاغة عن امير المؤمنين (عليه السلام).

(٦) المصدر عن كتاب الخصال عن عبد الله بن حسن بن علي (عليه السلام) عن امه بنت الحسين (عليهم السلام) عن أبيها قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ...

١١٨

وقد يكون اقصر من العمل ، وفيه فشل في العمل ، وسوء ظن بالله الذي وعد على الصالحات عشر أضعافها ، فان امل اقل منها ، ام اقل من قدر العمل فسوء ظن بوعد الله.

واما إذا كان املا على قدر العمل فهو عدل في الأمل.

إذا فأمل الخير في عمله بين إفراط هو طوله وتفريط هو قصره ، وعوان هو قصره على حدّ العمل ، واما الأمل دون عمل ، ام امل الخير من العمل السوء ، ام امل المستحيل بعمل ودون عمل ، فكل ذلك هباء خواء ، تجمعها (وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ) ويقابلها أمل دون إلهاء وهو الأمل الحق على ضوء العمل الحق ، او الوعد الحق وان كان دون عمل ، كما وعد الله المؤمنين على نياتهم الحسنة خيرا حين لا يقدرون على العمل بها.

فحين تحصل موافقات بين القول والعمل والنية والأمل والسنة ، فهنا الأمل الصالح ، وفي منافقاتها في أية دركاتها الأمل الملهي ، فهناك درجات وهنا دركات.

(ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا) ـ (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) (٤٧ : ١٢) فالأمل أملان ، أمل في الحياة الدنيا تزيفه هذه الآية الوحيدة في سائر القرآن ، وآخر فيما عند الله له وحيدة اخرى : (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) (١٨ : ٤٦).

فمن يأمل رحمة الله ، ويعمل لأمله بمرضات الله. فهو آمل ما عند الله مهما طال.

ومن يأمل دنيا الحياة وزينتها ، فهو عامل لها عاصيا لله ، آملا ما لا يرضاه الله مهما قصر.

فليس طول الأمل ذميما إلّا بعيدا عن مرضات الله ، والمؤمن أمله طويل فيما

١١٩

عند الله لدنياه وعقباه (وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) (٢٠ : ١٣٢) : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ) (٢ : ٢٠١).

وكضابطة عامة لا أمل إلّا بعمل يوافقه ، فلا أمل دون عمل كما لا عمل دون أمل ، صالحين كانا ام طالحين ، ثم لا أمل إطلاقا فيما لا يمكن ذاتيا ام عرضيا فانه باطل قاحل.

ففي مثلث وفاق الأمل مع العمل ام نفاقه او كون أحدهما دون زميله ، الحق هو الاوّل ان كان في مرضات الله كما امر الله.

فما كل أمل بمكروه ، حيث الإنسان أيا كان يعيش الأمل ويعيشه الأمل ، فان كان أملا في مرضات الله على عمل وفيما وعد الله فهو قضية الايمان ، كما القائم المنتظر والعدل المؤمل يأمله كل مؤمن كما وعد الله ، ولكن شرط العمل وفق الأمل ، أمل يشجّعه على العمل الصالح لكي يصلح ان يكون من شعبه وتحت لواءه ، وقد يروى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في صالح الأمل قوله : «الأمل رحمة لأمتي ولولا الأمل ما وضعت والدة ولدها ولا غرس غارس شجرا» (١).

وان كان املا في غير مرضاته ، ولا سيما دون عمل يستقبله ، وانه يلهيه عن كل أمل وعمل في مرضات الله ، وما يعنيه في صالح الحياة الراضية

__________________

(١) سفينة البحار ١ : ٣٠ عن روضة الكافي وفيه ايضا قيل بينما عيسى بن مريم جالس وشيخ يعمل بمسحاة ويثير الأرض فقال عيسى اللهم انزع منه الأمل فوضع الشيخ المسحاة واضطجع فلبث ساعة فقال عيسى (عليه السلام) اللهم اردد اليه الأمل فقام فجعل يعمل فسأله عيسى عن ذلك فقال بينما انا اعمل إذ قالت لي نفسي الى متى تعمل وأنت شيخ كبير فألقيت المسحاة ، واضطجعت ثم قالت لي نفسي والله لا بدّ لك من عيش ما بقيت فقمت الى مسحاتي.

١٢٠