الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٤٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (٤) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٥) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (٦) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا

٢٦١

بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٧) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (٨) وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (٩) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (١٠) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١١) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً

٢٦٢

لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (١٦) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (١٧) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨) وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (١٩) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (٢٠) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) (٢١)

إنها سورة النحل حيث تذكر في عداد النعم البارعة سيرة النحل بما نحلها الله فانتحلت ، ولماذا «النحل» والسورة تعالج موضوعات العقيدة الكبرى : الالوهية والوحي والبعث ، مع إلمام بموضوعات جانبية اخرى ، هي في ظاهر الحال أحرى ان تتسمى السورة بأسمائها؟

علّه اشعارا بتحليق القرآن سورا بأسمائها وآياتها كل اسم ورسم ، وإشارة الى ان مثل النحل والنمل والبقرة والفيل امّا هي من هذا القبيل وما فوقها وما دونها ، كل ذلك على حد سواء في ميزان الله ، خلقا وحكمة بارعة ف (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها ..) وفي النحل صلة بوحي النبوة حيث يوحى إليها مهما اختلفت مراتبه : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ...) فكما الجن والإنسان والملائكة ، لكلّ سورة ، ومن النبيين لكل سورة ، ومن الكائنات شمسا وقمرا وبروجا ، إمّا ذا من مختلف الكائنات حية وميتة ، كذلك للنحل والنمل والعنكبوت ، كما للبقرة والفيل ، لان خلق الله كلها من فعل الله ، لها اهميتها لمن تدبر (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).

٢٦٣

وكما ان القرآن كتاب تدوين تشريع يحلق على كتاب التكوين ويجاوبه على أية حال ، كذلك اسماء سوره تحلق على كل الكائنات ، حية وميتة ، ظاهرة وباطنة ، ارضية وسماوية ، دنيوية واخروية إمّا هيه ، طبقا عن طبق ونسخة طبق الأصل ، حيث الكاتب لكلا الكتابين واحد هو الله الواحد القهار.

وتراها مكية كلّها ام مدنية كلها؟ جوّ السورة يلمح بمكيتها إلا آيات عدة ، كآيتي الهجرة (١) وآية التبديل (٢) والارتداد (٣) والمعاقبة (٤) أمّاهيه كاضرابها ، فهي مدنية لأقل تقدير بينها ، ولمحة اخرى انها مكية ومدنية نازلة قرب بعض ، وقد تكون من آية الهجرة الاولى مدنية وما قبلها مكية ، نازلة هي وتلك وراء بعض دونما فصل ، ام بفصل غير فاصل ، هذا ولكنما احتمال مكية آيتي الهجرة قائم إذ قد تعنيان الهجرة الاولى ، وآية التبديل والارتداد تعمان العهدين المكي والمدني ومكيتها أولى ، حيث الإكراه على الارتداد لم يكن إلّا فيها! وآية المعاقبة لا تختص حالة الحرب غير الموجودة في مكة ، فقد تعني المعاقبات الشخصية المناسبة جو مكة ، او الحربية بالنسبة للمدنية كضابطة شاملة للعهدين.

اجل مثل قوله تعالى (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) لا تناسب

__________________

(١) «وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً ...» (٤١) «ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ» ١١٠.

(٢) «وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ» ١٠١.

(٣) «مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ ..» ١٠٦.

(٤) «وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ» ١٢٦.

٢٦٤

إلّا المدنية فانها نازلة بشأن سلمان وقد آمن في المدينة ، وعلى اية حال فلا ريب ان بعض الآيات فيها مدنية ، والاكثرية الساحقة بين مكية ام مرددة بين العهدين. ٩٩ (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١).

المعنى المناسب هنا من معاني الأمر الثلاثة هو الحكم والفعل إذ لا معنى لإتيان شيء الله ، ولان حكمه ايضا من فعله فهو ـ إذا ـ الفعل ، وهو هنا بطبيعة الحال فعل يستعجل به المستعجلون له مؤمنين ام كافرين.

وهنا أيا كان «امر الله» فهو الآتي مستقبلا عاجلا ام آجلا ، بدليل (فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) حيث الماضي لا يستعجل له في الحال ، و «ان الله إذا أخبر أن شيئا كائن فكأنه قد كان» (١)

إذا ف «أتى» هنا ماض يضارع المضارع في المعنى لأنه متحقق الوقوع كأنه قد مضى ، فانه ماض في ارادة الله ، ماش في حكم الله ، ام يعم الماضي المستمر في اكتماله الى المستقبل ، ام في نظيره.

وترى ما هو «امر الله» هنا؟ إنه يحمل سمات عدة اضافة الى استقباله ، أنه مستعجل ، وفيه ترح للمشركين وفرح للمؤمنين.

انه ليس امر الوحي والرسالة المحمدية فإنهما ماضيان غير مستعجلين لأحد اللهم الا في استكمال مستقبل! ولا امر الموت لكل احد لأنه يشمل مثلث الزمان دون اختصاص بالمستقبل منذ ذلك العهد المكي ، ولا أي أمر

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٣٨ في تفسير العياشي عن هشام بن سالم عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال سألته عن قول الله : أتى امر الله فلا تستعجلوه ـ قال : إذا اخبر الله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بشيء الى وقت فهو قوله (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) حتى يأتي ذلك الوقت وقال : ان الله ...

٢٦٥

مضى ام يعمه والحال والاستقبال.

انه امر انتصار الحق واحتضار الباطل ، بعد ما نكب الحق في العهد المكي من قبل السلطات والدعايات الشركية الحمقاء ، فيشمل امر الدولة الاسلامية التي أسسها الرسول في المدينة : (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) (٢ : ١٠٩) وكما يشمل انتصارات مستقبلة اخرى للمؤمنين ونكبات لآخرين.

إذا فهو «خروج محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)» (١) ثم خروج القائم من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) (٢) ثم خروج الأموات يوم

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١٠٩ ـ اخرج ابن مردويه من طريق الضحاك عن ابن عباس في الآية قال : خروج محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

(٢) المصدر : ١١٠ ـ اخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والحاكم وصححه عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): تطلع عليكم قبل الساعة سحابة سوداء من قبل المغرب مثل الرّس فما تزال ترتفع في السماء حتى تملأ السماء ثم ينادي مناد ايها الناس فيقبل الناس بعضهم على بعض هل سمعتم فمنهم من يقول : نعم ومنهم من يشك ثم ينادي الثانية ، يا ايها الناس فيقول الناس هل سمعتم فيقولون : نعم ـ ثم ينادي ايها الناس (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) ـ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فو الذي نفسي بيده ان الرجلين لينشران الثوب فما يطويانه وان الرجل ليملأ حوضه فما يسقي منه شيئا وان الرجل ليحلب ناقته فما يشربه ويشغل الناس.

أقول : هذا ينطبق على خروج المهدي (عليه السلام) وكما في نور الثقلين ٣ : ٣٨ عن كتاب كمال الدين وتمام النعمة باسناده الى ابان بن تغلب قال قال ابو عبد الله (عليه السلام) اوّل من يبايع القائم (عليه السلام) جبرئيل ينزل في صورة طير ابيض فيبايعه ثم يضع رجلا على بيت الله الحرام ورجلا على بيت المقدس ثم ينادي بصوت ذلق تسمعه الخلائق : أتى امر الله فلا تستعجلوه.

وفي تفسير البرهان عن أبي عبد الله (عليه السلام) في الآية قال هو أمرنا امر الله عز وجل فلا يستعجل به يؤيده بثلاثة أجناد الملائكة والمؤمنين والرعب وخروجه كخروج ـ

٢٦٦

القيامة من أجداثهم وفي كل ذلك فرحات للمؤمنين وترحات للكافرين ، فقد يعم الاستعجال كلا الفريقين ، ومنه استعجال الكافرين عذابات الاستئصال قبل يوم الدين دون اختصاص ل «فلا تستعجلوه» بهم مهما ذكروا باستعجالهم في آيات عدة ، ومما يؤيد الشمول «عما يشركون» دون «عما تشركون» والخطاب الثاني هو قضية الحال بعد الخطاب الاوّل لو كان يخصهم.

فهنالك استعجالات كافرة ناكرة ليوم الدين : (يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ) (٤٢ : ١٨) واخرى ناكرة لعذابات الاستئصال الموعودة للظالمين قبل يوم الدين (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) (٢٦ : ٢٠٤) (وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) (٣٨ : ١٦).

وهنا استعجال خير للنبي والذين معه والله ينهاه الى ما هو خير منه (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) (٢٠ : ١١٤) (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) (٧٥ : ١٦) وبطبيعة الحال يستعجل اهل الخير خيرهم رغبة فيه كما المنتظرون لخروج المهدي (ع) يستعجلونه ، والمنتظرون قبله في اقامة دولة الحق تقدمة له يستعجلونه! ، مهما لم

__________________

ـ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والشيخ ابو جعفر محمد بن جرير الطبري في مسند فاطمة قال اخبرني ابو الفضل محمد بن عبد الله قال أخبرنا محمد بن همام قال أخبرنا جعفر ابن محمد بن مالك قال حدثنا علي بن يونس الخزاز عن إسماعيل بن عمر عن ابان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : إذا أراد الله قيام القائم بعث جبرئيل في صورة طائر ابيض فيضع احدى رجليه على الكعبة والاخرى على بيت المقدس ثم ينادي بأعلى صوته (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) قال فيحضر القائم (عليه السلام) فيصلي عند مقام ابراهيم ركعتين ثم ينصرف وحواليه أصحابه وهم ثلاثمائة وثلاث عشر رجلا ، ان فيهم لمن يسرى من فراشه ليلا فيخرج ومعه الحجر فيلقيه فتعشب الأرض.

٢٦٧

يذكر استعجالهم في القرآن إلّا الرسول (ص) وكفى به ذكرا عنهم ، وقد ذكر في أحاديث.

فأمر الله الآتي يعم كل أمر آت يسر المؤمنين ويضر الكافرين ، وكل يستعجله ولكن «لا تستعجلوه» فانه يأتي في دوره الصالح وفق الحكمة العالية الربانية ، دون تعجيل ولا تأجيل عن اجله المقرر له ، صيغة سائغة حاسمة جازمة في مطلع السورة ، ذات وقع في النفوس مهما تماسكت او تكابرت : (أَتى أَمْرُ اللهِ ..) موحيا بصدور امر جازم كأنه واقع ولما يقع.

و «امر الله» مذيّلا ب (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) تلميحة بينة انه امر التوحيد بكل أبعاده ، إزالة للشرك بكل إبعاد له في أبعاده في آخر الزمن حيث دولة القائم المهدي (ص) (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) وفي القيامة الكبرى جزاء بما كانوا يعملون ، وقد يحتمل ان امر الله هنا هو دين الله كما (وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ ... ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها) (٤٥ : ٨).

وشرعة القرآن وإن كانت شريعة من الأمر ، ولكنها في الحق شريعة هي كل الأمر حيث تجمع الشرائع كلها وزيادة هي رمز الخلود ، وذلك أمر يحتوي على كل امر مستعجل فيه ، بمستقبله فقط أم تلو ماضيه.

ف (أَتى أَمْرُ اللهِ) تعني ماضي ذلك الأمر ومستقبله ، فماضيه يطمئن اليه ، ومستقبله يستعجل به ، للذين ذاقوا بأس المشركين في العهد المكي ، وقد كانوا يوعدون : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً. إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) فأين هو اليسر المستقبل في ذلك الأمر الآتي من ذي قبل؟

فقد كان يستعجل نضوب ذلك الأمر ونضوجه الرسول والذين معه ، استعجالا لاستكمال امر القرآن المفصل ، بعد ما أتى امره المجمل وشيء من المفصل ، حتى نهي الرسول ان يعجل به : (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ

٢٦٨

يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) (٢٠ : ١١٤) وعن ان يحرك به لسانه (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) (٧٥ : ١٦).

ومن ثم استعجال في امر الجهاد والدفاع ذريعة للحفاظ على كيان الإسلام وتأسيس دولة الإسلام ، ولكن (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) (٢ : ١٠٩).

ثم انتصارات للمسلمين تلو بعض ولحد الدولة الإسلامية العالمية الموعودة زمن المهدي من آل محمد عليهم السلام ، وما الى ذلك من بعدي الأمر : شرعة ودولة تضمن تطبيقها ، فأمر الشرعة بلا دولة ـ كأمر الدولة بلا شرعة ـ أمر إمر ، والجمع بين الأمرين بكما لهما هو بغية كل مؤمن بالله ، وهو لعبة الاستهزاء لكل كافر بالله.

ف (أَتى أَمْرُ اللهِ) بشارة للأولين ونذارة للآخرين الذين كانوا يستعجلونه مستهزئين ومستهترين ، هارعين الى أذى المؤمنين.

فالفريقان ـ إذا ـ مستعجلان لذلك الأمر الآتي من ذي قبل ، بشأن استقباله ، فريق يستبشرون ، وآخرون يستهزءون.

والشرعة القرآنية في بعديها حكما وحكومة (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) (٤٨ : ٢٩) فهكذا (أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ).

إذا فكل امر مستقبل مستعجل به لكتلتي الإيمان والكفر مطوي في ذلك الأمر ، سواء أتى ماضيا بنفسه ويأتي مستقبلا بكما له ، ام أتى ماضيا بنظيره ، ثم المستقبل يستقبل ذلك النظير ، كما هي سنة الله للمؤمنين وللكافرين على مدار الزمن.

ف (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) حيث يظهر في الأمر الآتي توحيده

٢٦٩

تعالى ونفي الشركاء.

(يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ)(٢).

ظاهر مقابلة الملائكة بالروح انه غيرهم ، فانما ينزّلون به ، فهل ينزّل كائن بنفسه؟ فما هو ـ إذا ـ الروح من أمره؟

الروح من امره في وجه عام هو كل روح : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (١٧ : ٨٥) ولكنه على كل عباده دون (مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا ...)!.

وفي وجه خاص كما هنا هو روح النبوة وروح الوحي (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) (٤٠ : ١٥) وفي وجه أخص هو روح الرسالة القرآنية ، وجبريل : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) (٤٢ : ٥٢) والروح زعيم الملائكة (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها).

فالروح ـ أيا كان ـ ليس إلّا من أمر الله مهما اختلفت درجات ذلك الأمر ، وهو ـ ككل ـ فعل الرب إنشاء يختلف عن سائر المواد لأنه سلالة الكائن المادي ، مفاضة من الرب.

وقد تتعلق «من امره» ب «ينزل» : تنزيلا صادرا من امره ، وكذلك بمقدر في وجهيه : «الملائكة الكائنة من امره» «الروح الكائن من امره» فهو ـ إذا ـ مثلث الأمر ، وهو صالح لفظيا ومعنويا.

و «بالروح» هي بمصاحبة الروح وبسببه ، فالروح المصاحب للملائكة هنا هو روح

العصمة (١) والوحي (٢) وجبريل ، ولا تنافيه المقابلة بين الملائكة

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١١٠ ـ اخرج ابن أبي حاتم عن الحسن في الآية قال : بالنبوة وكذلك (٢) عنه قال : القرآن.

٢٧٠

والروح ، فانه من ذكر الخاص بعد العام في زاوية واحدة من الأربع تتحملها الآية كلها ، وذلك تشريف من الله لأنبيائه ان ينزل الوحي مع جموع الملائكة وجبريل الأمين.

ثم واشرف من ذلك الروح زعيم الملائكة فانه أفضل من جبريل وسواه.

وقد تعني الباء كلا المعنيين ، كما ان (مِنْ أَمْرِ رَبِّي) تتعلق بمتعلقاتها الثلاث ، والروح تعني روح الايمان ، وروح العصمة ، وروحي الوحي قرآنا وسواه ، وروح القدس ، والروح زعيم الملائكة ، فالمحتملات ـ إذا ـ ثلاثون ، بضرب البائين في مثلث التعلقات ، ثم ضرب الستة في الأرواح الخمسة ، ومهما كانت كلها صالحة من الواجهة الادبية ، ولكن البعض منها غير صالحة معنويا.

والسببية منها تعنيها في بعدين : بشري هو صلاحية مهبط التنزيل ، وإلهي هو الحكمة الربانية المقتضية لذلك التنزيل مكانا وزمانا ومكانة ، فالبعد البشري هو بعض السبب حيث لا يكفي بنفسه لذلك التنزيل ، كما البعد الإلهي لا يسبّب إلّا بعد اكتمال البعد البشري.

فالمعنى ـ إذا ـ ينزل الملائكة على من يشاء من عباده بسبب الروح من أمره وهو الايمان الصالح لكون القلب مهبط الوحي او الإلهام او العصمة ، وبسبب روح الوحي الواجب نزوله على محطة مّا ليتحقق الإنذار بالوحي ، فان التنزيل من قضية الحكمة الربانية على من يشاء من عباده ، والروح السبب لذلك التنزيل هو ذو بعدين ، بشري هو الظرف لذلك التنزيل ، أن يكون القلب صافيا وافيا ضافيا لحد يصلح لتنزل الروح : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ) وإلهي هو امر الله الملائكة ان يتنزلوا (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ

٢٧١

عِبادِهِ)(١)(وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ).

و (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) لا تعني فوضى المشيئة حيث المنزّل هو الله العدل الحكيم ، والمنزل «عباده» فالعبودية القمة هي الشرط الأصيل في ذلك التنزيل ، ثم الله يصطفي من الأصفياء من يشاء ويرضى كأصلح من في الكون ، ولأصلح درجات الدعوة ، حسب الحكمة البالغة الإلهية ، ف (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) (٦ : ١٢٤) رسالة يتبناها العلم والتقى وكما هي تتبنى العلم والتقى.

ومما تنزله لنا (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ) أن هناك سنة إلهية دائبة كقاعدة رصينة ، ألّا ينزّل الوحي على الأنبياء إلا بواسطة ملائكة الوحي ، وان كان نبي الأنبياء محمد (ص) يستثنى منها في حلقات من الوحي كما في ليلة المعراج لما وصل الى عمق المعراج ، وكذلك في ليلة القدر حيث اوحي اليه فيهما ـ على اقل تقدير ـ وحي بلا حجاب ، ف (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ) (٤٢ : ٥١).

ولماذا هذا التنزيل الفضيل ككل على اهل التنزيل؟

ل (أَنْ أَنْذِرُوا ..) كما هنا ، و (لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) كما في المؤمن ، فالإنذار هو المحور العام الرئيسي في كافة الدعوات الرسالية لكافة المرسل إليهم ، وله دعامتان اثنتان : (لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) بكل ما للتوحيد من مبان ومعان تحلّق على كافة العقائد والنيات وسائر الطويّات والأقوال والأعمال.

و «فاتقون» كنتيجة حاسمة جازمة لذلك التوحيد المنذر به ، وعلى المؤمن بالله ان يحلق على حياته كلها (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) سلبا لكل باطل على هامش سلبها ، وإيجابا لكل حق على ضوء إيجابها ، فيطارد كل منكر بقلبه

__________________

(١) لقد فصلنا البحث حول الروح بكل ابعاده ومصاديقه في الأسرى والقدر ـ فراجع.

٢٧٢

ولسانه ، ببيانه وكل إسراره وإعلانه في كافة ميادين الحياة ، ثقافية وعقائدية ، سياسية واقتصادية أمّا هيه من أطوارها.

وللتقوى واجهتان ، معرفية بدافع حب الله وهي للأخصين من عباد الله ، أن لولا الجنة ولا النار لكانوا يتقون الله ولا يطغون.

ومن ثم تخويفية موصولة بواقع يوم التلاق ، فلولا يوم التلاق لما اتقى الله إلّا الأقلون عددا ، الأكثرون في المعرفة الصالحة عددا.

فالتقوى بكافة بنودها ودرجاتها هي قضية للتوحيد المنذر به بكافة بنوده ودرجاته ، كل تلو بعض ولصق بعض ، فالتوحيد الخاوي عن التقوى ليس إلّا صورة تصورية خاوية عن المعنى ، ام وتصديقية عقلية ، ولمّا تصل الى درجة من اليقين المبتغى.

وكيف تتفرع التقوى هنا على التوحيد ، وليس فيه بمجرده عقيدة يوم التلاق؟

إن الإنذار بالتوحيد لا يعني الا خالص التوحيد وصائبه دون شائبه ، ولزامه عدل التوحيد وتوحيد العدل ، اضافة الى العلم والقدرة والحكمة الإلهية وهذه تتطلب يوم التلاق ، ما لولاه لكان الله ـ والعياذ به ـ جاهلا ام عاجزا أم ظالما ام متعددا أمّا هي من لزامات ترك الجزاء للذين أحسنوا والذين أساءوا.

و «فاتقون» تعم التقوى العلمية والعقائدية والعملية بين المبدء والمعاد ، فهي والتوحيد هما تمام الشرعة بأصولها وفروعها دون إبقاء ، مهما اختلفت بعض الفروع شكليا بين شرايع الدين ، وفي تقديم (لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) على «فاتقون» إعلان بتقدم التوحيد على سائر الأصول والفروع ، وتقدم القوة النظرية على العملية ، وان الثانية من مخلّفات ونتائج الاولى.

٢٧٣

ثم ل «ينزل» حالة ماضية عن حالة نزولها ، ومستقبلة حتى خاتمة الوحي على خاتم الرسل ، ومستقبلة اخرى وماضية ، ماشية ماضية على اصحاب الإلهام غير رجالات الوحي ، كما كانت تنزل وحتى الآن على العترة الطاهرة المحمدية (عليهم السلام) في الدرجة العليا ، ثم على سائر السابقين والمقربين والصديقين والشهداء والصالحين حسب درجاتهم ، وعلى كل هؤلاء (الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ ..)(٤١ : ٣١).

و «ان أنذروا» تشمل كل منذر إلهي بوحي او الهام أيا كان ، مهما كان الإنذار بالوحي هو رأس الزاوية في هندسة الإنذار وحسابه.

وكما ان هناك أرواحا شخصية توحيدية كذلك ـ وعند توفر الشخصيات ـ روح جماعي للإنذار ، كما في الدولة الإسلامية المحمدية والمهدوية المحمدية ودويلات اسلامية هي عوان بينهما.

فلا تحمل الرسالات الإلهية عن بكرتها إلّا الإنذار بالمبدء والمعاد بعد تثبيتهما وإياها ، كما تحملها آية النحل هنا ، وهناك آية المؤمن ، متجاوبتين في تلازم الأصلين : المبدء والمعاد ، وبينهما ما بينهما من النبوءات وشرايع الدين ، ثم الإنذار أعم من التبشير.

فالنفس التي لا توحّد المعبود نفس حائرة حالكة هائلة تتجاذبها السبل المتفرقة ، وتخايل لها الأوهام ، وتمزقها التصورات المتناقضة وتناوشها الوساوس والهواجس.

ومن هنا عرض لا فواج الكائنات بادئا بخلق الأرض والسماوات ، فسحا لمجال التفكير في الآفاق وفي أنفسهم ، وكما قدم الآفاق على أنفسهم :

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)(٣).

٢٧٤

فالحق قوام الخلق ، وهو قوام تدبير الخلق ، وحق التدبير هو وحدة النظام ، ومن حقه قيام يوم القيام ، ثم لا تدخّل لغير الله خلقا وتدبيرا وقياما (تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)! في تكوين ام تشريع إمّا ذا من شؤون الربوبية.

و «بالحق» هنا تتعلق بالكائن المقدر للسماوات والأرض ، كما تتعلق ب «خلق» ومن ثم :

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ)(٤).

«الإنسان» هنا بنو آدم فلا يشمل آدم وزوجه ولم يخلقا من نطفة فانما هو من تراب ، وهي منه نفسه ام من ترابه ، و «من نطفة» هي نطفة من مني يمنى وقد عبر عنها في العلق بالعلق : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) فالنطفة هي العلق حيث تعلق بالرحم وهي كالدودة العالقة ، والعلق هي جنس ما تتعلق من علقات ، وهي البحر المنوي الغائص في خضمّه ملايين العلقات والدودات الجرثومية.

ويا لها من نقلة قصيرة بين المبدء والمصير ، بين النطفة العالقة الساذجة ، وبين الإنسان المعلّق الخصيم ، يخاصم خالقه وكل حق منه! فمالك أيتها الدودة الضئيلة والحشرة الذليلة والخصام مع احسن الخالقين جهرة دونما استحياء؟! وعلى حدّ المروي عن رسول الله (ص) يقول الله ا تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه حتى إذا سويتك فعدلتك مشيت بين برديك وللأرض منك وئيد فجمعت ومنعت حتى إذا بلغت الحلقوم قلت أتصدق وأنى أوان الصدقة (١).

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ١١٠ ـ اخرج ابن سعد واحمد وابن ماجة والحاكم وصححه عن بسر بن جحاش ، قال : بصق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في كفه ثم قال : يقول الله ...

٢٧٥

هذا! كما ويخاصم في سبيل الله ليحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين.

أترى بعد «خصيم» هي ـ فقط ـ صفة ذم للإنسان جدالا بالتي هي أسوء ام سوء ، لمكان الذم في يس (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ. وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ)(٧٧)؟ ام في سواها؟

وهذا من ضرب القرآن بعضه ببعض ، وتفسير آية بما ليس في محتواها! فهناك الذم لائح فخصامه ـ كذلك ـ مذموم ، ومنه خصامه المذكور في إحياء الموتى ، وهنا لا ذم ولا مدح فتعم الخصامين : ممنوحة ممدوحة جدالا بالتي هي احسن ، وهو منطق الحق ، تفكرا فتحدثا عن كل ما جلّ ودق ليحل الحق في أعلى محلّ ، «فيكون خصيما متكلما بليغا» (١) ، ثم مذمومة مقبوحة كالجدال بغير التي هي أحسن كمن يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير.

وعلى اية حال فالمخاصمة الباطلة خصام باطل والمخاصمة الحقة خصام حق ، فلا يحق تفسيره ـ فقط ـ بالباطل لأنه في بعض آياته مذموم بقرينة انه باطل ، فانه تفسير باطل ، فمثل قوله (ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) (٤٣ : ٥٨) كآية يس واضرابها ، مقرونة بذم الخصام.

ثم (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) (٤ : ١٠٥) خصيمها الرسول (ص) هو خصيم حق ، ولكن لا يحق له ان يجادل الخائنين الذين لا يسمعون ، ومن خصام الحق اختصام الملإ الأعلى : (ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ) (٣٨ : ٦٩) و (ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) (٣ : ٤٤)

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٣٩ وفي تفسير القمي عن أبي جعفر (عليه السلام) في الآية قال : خلقه من قطرة من ماء نتن فيكون خصيما متكلما بليغا.

٢٧٦

و (هَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) (٣٨ : ٢١) ومنه حقا او باطلا وانما هو مجرد الجدال : (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ) (٤٣ : ١٨) برهانا لواقع فضل الذكور على الإناث.

ثم من الخصيم حقا او باطلا مبين ، ومنه من لا يكاد يبين لكلل وضعف في أداة البيان ، لسانا وغير لسان.

ومن قوة الاختصام تحليقه على كافة القوّات جوارحية وجوانحية ، استخداما لها لتثبيت ما يرام ، فإن حقا فقوة للحق وعزّة ، وان باطلا فقوة له وغرّة.

فيا عجبا من نطفة قذرة ضئيلة كيف تصبح خصيما مبينا ، فإن حقا فليشكر خالقه ، وإن باطلا فليختجل من خالقه «سبحان الخلاق العظيم»! إذا فآيتنا (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ) تتحمل الحسن والقبيح ، والحسن هنا احسن بمناسبة المقام وهو الاستدلال بخلق الله على الله ، دون تقرير وقاحة الناس وتماديهم على الله!.

(وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) (٥).

«والانعام» مذكورة جمعا في (٣٢) موضعا اضافة الى سورة الأنعام ، مما يدل على عظم النعمة فيها ، وهي ثمانية ازواج : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) (٣٩ : ٦) (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ .. وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ..) (٦ : ١٤٤) إذا فهي اربعة اصناف ، وبدمج الأوليين مع بعض باسم الغنم فهي ثلاثة.

وترى «الانعام» ككل هي ـ فقط ـ هذه الأربع؟ (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ) مذكورة بعدها كاصناف منها كما (وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً) (٤ : ١٤٢) لا تناسب هذه الأربعة إلّا الإبل! وهناك منها صنوف اخرى كالظبي واضرابها مذكورة في القرآن وغير مذكورة!

٢٧٧

ان هذه الأربعة هي رؤس الأنعام ورؤسائها ، ثم الخيل والبغال والحمير ، ثم اضرابها ، و «من الانعام» في (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) مما يلمح بعدم انحصارها فيها ، وانما تذكر فيها تذكر لبالغ أهميتها ، لا وانحصارها فيها ، وكما تشهد له ذكر الثمانية بعد (وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً) فان الثمانية ليست حمولة وفرشا إلّا الإبل ، فلتكن هي أهم الانعام وجلّها لا كلها : كما وتلمح ان منها ما خلقها في غير هذه الأرض ، نظيرة لما في الأرض ام مغايرة ، إذا فآيات تحليل الأنعام تشمل الثمانية وسواها ، اللهم إلّا بقرينة قاطعة تخرج من سواها كما قد تخرجها من الحلّ في بعض حالاتها كالصيد حالة الإحرام (.. أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) (٥ : ١) فصيد الأنعام حالة الإحرام يستثنى من الحل ، فليكن قسم من الصيد من الأنعام ولا صيد في هذه الأربعة ، اللهم إلّا في الوحش كالظبي وأمثالها ، فآية المائدة ـ هذه ـ وهي آخر ما نزلت ، انها من الأدلة القاطعة على عموم الأنعام دون اختصاص بالاربعة.

و «لكم» في (خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ) ذات تعلقين اثنين ، أحدهما ب «خلقها» اعلاما بأنها مخلوقة لصالحكم في الحياة مادية ومعنوية ، وثانيهما ب (فِيها دِفْءٌ).

فقد (خَلَقَها لَكُمْ) و (لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ) ـ (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ ..).

وليست الأنعام فحسب (خَلَقَها لَكُمْ) بل (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) (٢ : ٢٩). ف «كم» ايّا كان ، هم المحور الأصيل في خلق الأنعام وكافة النعم ، (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)!

والمذكور من نعمة الأنعام هنا خمس أولاها (لَكُمْ فِيها دِفْءٌ) وهو خلاف البرد ، وما يدفئ به ، فرجل دفآن وامرأة دفآي وبيت دفيء ، كل ذلك بمعنى ،

٢٧٨

ولم يذكر دفء الأنعام إلّا في هذه اليتيمة.

ومن دفئها البيوت والملابس والأحذية والجوارب المصطنعة من جلودها وأصوافها وأوبارها واشعارها : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ) (١٦ : ٨٠).

ومنه أرواثها التي يتدفأ بها في البرد أم الطبخ أما ذا من تدفيئات.

«ومنافع» من كل اجزائها إلّا ما حرمه الله ، وهذه المنافع ـ على مر الزمن ـ لا تعد ولا تحصى ومن أهمها : (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) من لحومها ومن محاصيل ألبانها جبنا وسمنا وزبدا. ومن منافعها هي الزراعية ، سمادا من أوراثها ككل ، وإثارة للحرث من أبقارها ومن أشباهها ، ومنها شحومها المعمول منها مواد شحمية ، وما إلى ذلك من منافع مكشوفة لحد الآن كاستيلادها ، وبيعها او ايجارها ، او المنافع التي تكشف على مر الزمن والحاجيات المتجددة.

(وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ)(٦).

و «تريحون» من الإراحة ، إراحة لأنفسكم ولها مساء حين ترجعون الى بيوتكم ، (وَحِينَ تَسْرَحُونَ) أنتم معها في المراعي التي تسرحونها فيها سراحا جميلا لكم ولها ، وفي كل ذلك اراحة ومسرحا (لَكُمْ فِيها جَمالٌ) الاستمتاع فارهة رائعة ، واهالي الأرياف يدركون ذلك الجمال تماما أكثر مما يدركه اهالي المدن.

ولماذا يتقدم جمال الإراحة على جمال السرح بعكس الترتيب؟ علّه لأنها ترجع مليئة البطون حافلة الضروع ، حاضرة الألبان ، ولكنها عند السرح جائعة عادمة الألبان ، فهي عند الإراحة أجمل منها من السرح ، مهما كان للسرح جمال آخر ليس فيها.

٢٧٩

فالجمال في الحياة الانسانية عنصر أصيل من عناصرها ، فليست نعمة الأنعام أمّاهيه من نعمة ، هي ـ فقط ـ مجرد تلبية الحاجيات الضرورية الحيوانية من طعام وشراب وركوب أماهيه ، بل وتلبية للأشواق الزائدة على الضروريات الحيوية ، لحاسة الجمال ووجدان الفرح المرتفع عن حمأة الحيوانية ، وكما ان عنصر الجمال للروح كمال ، كذلك للجسم ، مهما كان الأصل هو جمال الروح ، والجسم بجماله تقدمة وذريعة الى جمال الروح ، و «ان الله جميل يحب الجمال».

(وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ)(٧).

(وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ) من القرائن الواضحة على عدم اختصاص الانعام بالاربعة ، فان الحمولة منها ليست إلّا واحدة هي الإبل ، ثم هناك حمولة اخرى هي الخيل والبغال والحمير ركوبا وحملة لسائر الأثقال : (وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً) (٦ : ١٤٢).

وترى ذلك البلد هو ـ فقط ـ مكّة المكرمة كما في رواية؟ (١) ولا يخصه

__________________

(١) نور الثقلين ٣ : ٤٠ عن الكافي ابو علي الاشعري عن محمد بن عبد الجبار عن صفوان بن يحيى عن عبد الله بن يحيى الكاهلي قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول ويذكر الحج فقال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : هو احد الجهادين ، هو جهاد الضعفاء ونحن الضعفاء ، اما انه ليس شيء أفضل من الحج الا الصلاة ، وفي الحج هاهنا صلاة ، وليس في الصلاة قبلكم حج ، لا تدع الحج وأنت تقدر عليه ، اما ترى انه يشعث رأسك ويقشف فيه جلدك وتمتنع فيه من النظر الى النساء وانا نحن هاهنا ونحن قريب ولنا مياه متصلة ما نبلغ الحج حتى يشق علينا فكيف أنتم في بعد البلاد ، وما من ملك ولا سوقة يصل الى الحج الا بمشقة في تغيير مطعم او مشرب او ريح او شمس لا يستطيع ردها ، وذلك قوله (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) وفي العلل رواه مثله.

٢٨٠