الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

الشيخ محمد الصادقي

الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن والسنّة - ج ١٦

المؤلف:

الشيخ محمد الصادقي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: انتشارات فرهنگ اسلامى
المطبعة: اسماعيليان
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٤٤

موصول بالله ، فائض بخاصة الله ، فاض عما سوى الله ، فما لصاحبه ألا يتوكل على الله؟! أيا كانت العقبات في سبيل الرسالة الشائكة بالشبكات ، المليئة بالأشلاء والدماء ... فتصبرا دونما زعزعة وزحزحة ، ودون انفراط وانفلات وحتى النفس الأخير.

ولمّا يرى الطغيان ذلك الصمود السائد في وجوه حاملي رسالات الله وواجهاتهم ، ولم تبق له أية باقية من حجة إلّا داحضة ، هنالك يتوسل بجبروت القوة وكما هي السنة السائدة بين حماقى الطغيان :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ)(١٤).

تهدّد من الذين كفروا لرسلهم بإخراجهم من أرضهم نفيا عن بلادهم ، ام عودا في ملتهم ، ثم توعّد من ربهم (لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ).

ترى هذا إخراجهم من أرضهم فكيف عودهم في ملتهم ولم يكونوا فيها بدء حتى يرجعوا فيها عودا؟.

ألأن هذه مقالة الكفار ودعواهم أنهم كانوا قبل دعوى الرسالة في ملتهم ثم تحولوا عنها الى ملة التوحيد ودعوى الرسالة ، وكيف يصدق الكافر في قولته على المرسلين؟ ولكنما الدعوة الكافرة الباطلة لا تظل في كتاب الدعوة الحقة دون إبطال وإجابة! ولا نراها هنا!

أم خيّل إليهم انهم كانوا من قبل في ملتهم إذ لم يكونوا يتظاهرون بشيء من هذه وتلك ، فليعودنّ فيما كانوا؟ فكذلك الأمر!

ام ان العودة هي الصيرورة فلا تستلزم بداية الشرك؟ ولو عنتها لجيء بلفظ الصيرورة دون العودة!.

٤١

ام وان كانوا على علم بما كانوا قبلئذ فليعودن في ملتهم كأحد منهم سكوتا عما يدعون ف «ملتنا» لا تعني الملة الروحية بل هي هنا الملة والسلطة الزمنية ، فليست الملة لتخص الروحية منها ، وهنا القرينة على الزمنية ان المرسلين ليسوا قبل الرسالة الا مؤمنين وفي قمة الايمان نسبة الى سائر المؤمنين ، واحتمال الملة هنا الشرعة ليس يصنع حجة يمس ساحة الرسالة ، او يناحر حجة الرسالة بسابقة الايمان وهي لزام الرسالة ، كما ان آيات الاجتباء والاصطفاء ك (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) وأضرابها تصريحات بهذه السابقة السابغة ، اضافة الى برهان إمكان الأشرف ، فلتكن الملة ـ إذا ـ الملة الزمنية بسلطتها الجبارة. وقد تفي «في» دون «الى» دلالة على هذا المعنى ، فقد كانوا فيهم كما هم في ظاهر الحال فليعودوا فيهم كما كانوا على تقية دون دعوة ظاهرة؟ وعله ـ فقط ـ ما يعنون ، ام هم مختلفون فيما يختلقون ، فالمعاني الثلاثة ـ إذا ـ معنية ، وكفى الثالث معنى أصيلا لا يحتاج إلى ابطال.

ثم الخطاب لا يخص المرسلين حيث يهدفون بما يتهددونهم حسم مادة الرسالة والدعوة لها ، فبقاء المؤمنين دون المرسلين بقية للدعوة ، وتوطيد للداعية مهما خرجت عن محيط الدعوة ، وكما صرحوا في شعيب (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا ..) (٧ : ٨٨) واما ذيل الآية (قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ) فلا يدل ـ ايضا ـ على الملة الروحية ، حيث البقاء تحت السلطة الزمنية الكافرة دون دعوة جاهرة باهرة ، وبعد انقضاء زمن التقية ، ذلك افتراء على الله في هذه السلبية ان الرسالة لا تحمل دعوة جاهرة ، وانما هي سرية خفية على تقية! فتقية الرسل في الوقت الذي تحرم فيه التقية ، تحسب من شاكلة الرسالة ، وهكذا رسالة خاملة خامدة فرية على الله كذبا (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) ان نعود الى التقية في تلك الملة المشركة.

٤٢

وبعد ذلك التهديد اللهيب يطمئنهم الوحي الحبيب : (لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) باستئصالهم قبل ان يحققوا وعيدهم على المرسلين (وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ) وعدا لهم عليهم غير مكذوب ، وأصدق المصاديق لهلاك الظالمين ـ ككل ـ وإسكان النبيين الأرض مكانهم ، هو آخر الزمن حيث يقوم القائم المهدي (عليه السلام) بالحق والعدل المطلق (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ. إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ) (٢١ : ١٠٥ ـ ١٠٦).

ذلك مهما صدق هلاك هؤلاء وإسكان أولاء ، خلال الزمن الرسالي أحيانا حيث تقوم دويلات الحق ، ولكنها لا تدوم ولا يهلك الظالمون عن بكرتهم في هذه الدويلات.

إذا ف (لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) تعني ذلك الزمن حيث الهلاك الجماهيري للظالمين كونا وكيانا وسلطة ، ثم (لَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ) بعد هلاكهم مهما كانوا موجودين ، فإن في زوال سلطتهم اضمحلالهم.

وهكذا وعد المرسلون ـ ككل ـ ولم يحقق وعده تعالى طول حياتهم السابقة ، فليكن في رجعتهم الخاصة زمن المهدي المظفر المنصور من آل محمد (ص) حيث يرجعون أنصارا لهذه الدولة المباركة ، واصحاب الالوية ، ثم من بعد موته (ع) يحكمون كما حكم.

وعل «الظالمين» هنا هم أئمة الظلم والضلالة حيث يرجعون مع أئمة الايمان والعدالة وكما في الخبر المستفيض «يرجع من محض الايمان محضا ومن محض الكفر محضا» وهذه رجعة بالاستعداد عامة ، كمن قبلهم خاصة من النبيين وأئمة الدين المعصومين (عليهم السلام) ثم رجعة بالاستدعاء لمن التمس من متوسطي الايمان ان يرجع مع من محض الايمان محضا.

وهكذا يجاب عن مشكلة «لنسكننكم» إذ لم يسكنوا أرضهم حيث

٤٣

الظلم وحملته الرؤس والهوامش احتلوا طول التأريخ حتى أراضي الدعوة للمرسلين ، فكيف «لنسكننكم أرضهم» وبعد (لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ)

وترى ما هو مقام الرب وليس له قيام مصدرا ام زمنا او مكانا كما هي معاني المقام؟

اضافة المقام الى الله تجرّده عن كل مقام لمن سوى الله ، وتستخلص له من المقام قيامه بذاته وبأمر الربوبية في الدنيا والآخرة ، فهو القيوم في ذاته وصفاته وأفعاله ، مقامات ثلاث ، وهي دون الأولى بين جمال وجلال ، ومقام جلاله جل جلاله هو موقف القدرة والجبروت ومكانة العزة (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) (٧٩ : ٤٠) (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) (٥٥ : ٤٦)(١).

فمن قيامه تعالى بالقسط جزاءه العدل يوم القيام حيث (يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) والى سائر قيامه في سائر الحياة و «ذلك» الانتصار التام ليس لكل مدع للايمان ، وانما (لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ) والخائف مقام الرب ووعيده لا يخاف مقام سواه في تحقيق مرضاة الرب وتطبيقها في المجتمع قدر المستطاع ، وقد عبر عنهم في بشارة اخرى بالصالحين (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) وفي ثالثة ب (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ومن أصلح الصالحات الإيمانية محاربة الظلم ومحاولة بسط العدل دون تساهل وخمول ، والساكت عن الظلم شيطان أخرس.

ومن الخائفين مقام ربهم ووعيده قوم يضحكون جهرا في سعة رحمة ربهم ويبكون سرا من خوف عذاب ربهم يذكرون ربهم بالغداة والعشي في البيوت الطيبة والمساجد ويدعونه بألسنتهم رغبا ورهبا ويسألونه بأيديهم

__________________

(١). راجع الفرقان ج ٣٠ ص ٩٦ ـ ٩٧ و ٢٧ : ٤٨ ـ ٤٩.

٤٤

خفضا ورفعا ويقبلون بقلوبهم عودا وبدأ فمؤنتهم على الناس خفيفة وعلى أنفسهم ثقيلة يدأبون في الليل حفاة على اقدامهم كدبيب النمل بلا مرح ولا بذخ يقرؤن القرآن ويقربون القربان ويلبسون الخلقان عليهم من الله تعالى شهود حاضرة وعين حافظة يتوسمون العباد ويتفكرون في البلاد أرواحهم في الدنيا وقلوبهم في الآخرة ليس لهم هم إلا أمامهم أعدوا الجوار لقبورهم والجواز لسبلهم والاستعداد لمقامهم (ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ)(١).

(وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ)(١٥).

الاستفتاح هو طلب الفتح في معركة صاخبة دائبة بين الرسل والمرسل إليهم ، وترى من هم المستفتحون هنا؟

هل هم الرسل؟ ف (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) (٨ : ١٩) وكما في نوح : حيث (قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ. فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ. ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ) (٢٦ : ١٢٠) وفي محمد (ص) (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) (٤٨ : ١) وهكذا من بينهما من النبيين قائلين : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) (٧ : ٨٩).

ام وهم المرسل إليهم الكافرون ، استفتاحا بدعاياتهم الزور الغرور وما هددوا به المرسلين وفعلوا ما افتعلوا (وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) واستفتاحا

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٥٧٢ أخرجه الحاكم من طريق حماد بن أبي حميد عن مكحول عن عياض بن سليمان وكانت له صحبة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خيار امتي فيما انبأني الملأ الأعلى قوم ... لمقامهم ثم تلا (صلى الله عليه وآله وسلم) «ذلك ..».

٤٥

ليوم الدين : (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ، قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) (٣٢ : ٢٩) (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) (٣٤ : ٢٦) ولقد كانوا باستفتاحهم يوم الدين يستعجلون العذاب الأليم (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٨ : ٣٢) (١)(ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) (٣٩ : ٣٩).

__________________

(١) نور الثقلين ٢ : ٥٢٠ : ح ٢٦ في روضة الكافي عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن محمد بن سليمان عن أبيه عن أبي بصير قال : بينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جالسا إذ اقبل امير المؤمنين (عليه السلام) فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ان فيك شبها من عيسى بن مريم لو لا ان يقولوا فيك طوائف من امتي ما قالت النصارى في عيسى بن مريم لقلت فيك قولا لا تمر بملاء من الناس الا أخذوا التراب من تحت قدميك يلتمسون البركة قال : فغضب الأعرابيان فانزل الله على نبيه (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) ... فغضب الحارث بن عمرو الفهري فقال : (اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا ..) ان بني هاشم يتوارثون هرقلا بعد هرقل (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) فانزل الله عليه مقالة الحارث ونزلت هذه الآية : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) ثم قال له : يا عمرو اما تبت واما رحلت؟ فقال : يا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)! بل تجعل لسائر قريش شيئا مما في يديك فقد ذهبت بنو هاشم بمكرمة العرب والعجم ، فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : ليس ذلك الي ذلك الى الله تبارك وتعالى فقال يا محمد! قلبي ما يتابعني على التوبة ولكن ارحل عنك فدعا براحلته فركبها فلما صار بظهر المدينة أتته جندلة فرضت هامته ثم أتى الوحي الى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال : سأل سائل بعذاب واقع ، للكافرين ليس له دافع ، من الله ذي المعارج فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لمن حوله من المنافقين : انطلقوا الى صاحبكم فقد أتاه ما استفتح به قال الله عز وجل (وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ).

٤٦

ولكن فتاح الأمر هو وعد الله (لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ) وختامه تحقيقه (وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) وبينهما استفتاح من أولاء ومن هؤلاء وأين استفتاح من استفتاح؟.

(.. كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ. مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ)(١٧).

(كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ. مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ) إذا مات جبارا عنيدا ، ولماذا (مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ) و (عَذابٌ غَلِيظٌ) وهما أمام كل جبار عنيد حيث يستقبلونهما في مسيرة الحياة ومصيرتها؟

علّه لأنهم يستدبرونهما ايمانا إذ هم بهما كافرون ، مهما يستقبلونهما كواقع ، فجاء التعبير بالواقع المختار كما يزعمون دون الواقع على أية حال.

ثم «من وراءه» لا تخص وراء الأخرى ، بل والأولى ، فإن جهنم الحياة هنا هي من وراء ما يعتقدون وما يعملون خلفيّة لا حول عنها إلا بحول الله وقوته ، فالجبار العنيد يعيش جهنم الحياة ويعيّش من تحت وطأته إياها في الحياتين : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى ..) ف «من وراءه» هنا وهناك ، تعني مخلفات وراء تخلفاتهم ، سواء أكان لهم في مثلث الحياة ، ام والآخرين حيث العمليات الكافرة تظلم الجو على عائشيه : (إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً) (٧٦ : ٢٧) (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (٢٣ : ١٠٠) (مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً) (٤٥ : ١٠).

فلان الناكرين للقيامة يجعلونها وراءهم نكرانا ، وهم مقبلون الى الدنيا وشهواتها ، فجاعلون الأخرى وراءهم يوما ثقيلا ، لذلك نرى القيامة

٤٧

لهم ـ لا للمؤمنين ـ وراء ، فهم في دنيا الحياة في وراء وعراء.

فالوراء ـ إذا ـ قد تكون الواقع الذي لا حول عنه ولا حول في إيجابه او سلبه ، والحياة الحساب ليست وراء بل هي أمام ، وقد تكون حياة الحساب حسب العقيدة والعمل الصالح لها ، فهي وراء لمن لا يعتقدها ولا يعمل لها ف (يَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً) وهو أمامهم في الواقع ، ونرى الوراء في الحياة الحساب تختص في آياتها بناكريها دون المؤمنين فإنها لهم أمام.

وعل الوراء الأول هو البرزخ والثاني هو القيامة ، وقد يلمح له (عَذابٌ غَلِيظٌ) حيث البرزخ أمامه غير غليظ ، وهو وراء جهنم.

و (ماءٍ صَدِيدٍ) هو القيح السائل من الجرح (١) وهذه مرة يتيمة يعبر فيها عن ماء الجحيم بصديد ، وعلّه صدّ الحياة كحياة وإن كان ليس بميت.

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٧٣ ـ اخرج احمد والترمذي والنسائي وابن أبي الدنيا في صفة النار وابو يعلى وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابو نعيم في الحلية وابن مردويه والبيهقي في البعث والنشور عن أبي امامة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الآية قال : يقرب اليه فيتكرهه فإذا دنا منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه فإذا شربه قطع امعائه حتى يخرج من دبره يقول الله تعالى : وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم وقال : وان يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه.

وفي نور الثقلين ٢ : ٥٣٢ عن تفسير العياشي عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده (عليه السلام) قال قال امير المؤمنين (عليه السلام) ان اهل النار لما غلى الزقوم والضريع في بطونهم كغلي الحميم سألوا الشراب فأتوا بشراب غساق وصديد (يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) وحميم يغلي به جهنم منذ خلقت ، (كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً).

٤٨

«يتجرعه» جرعة جرعة ، حيث لا يتجرأ على ابتلاعه دفعة ، ولا يستغني عنه حتى لا يتجرع ، ضرورة العطش الهالك الحالك ، (وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ) ويروّيه ، بل ويزداده عطشا على عطش ، فقد يشرب الشارب ماء ولا يسيغه لمرض العطاش ، فقد يسيغه لو لا العطاش ، ولكنه ماء (لا يَكادُ يُسِيغُهُ) لأنه لا يروي ، بل ويزيده عطشا!

ثم (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) في الجحيم (يَأْتِيهِ ... وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) فهو ذائق طعم الموت بكل بواعثه وكوارثه من كل مكان خارج وجوده ، ومن كل مكان من جسمه ، وحتى من مكان حياته وهو فمه الآكل الشارب ، فإنهما مميتان كسائر بواعثه ، وعلّه من أتعسه حيث يختص بالذكر بينها ، فأصبح باعث الحياة باعث الموت وكارثه! ولكنه لا يموت ، فهو ـ إذا ـ أموت من الموت ببأسه ، وأحيى من الحياة ببؤسها ، جمعا بين كوارث الموت والحياة ، حياة خالدة مارجة بموت خالد ، لا حظوة في تلك ولا خلاص عن ذلك (وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ).

اجل! وان غواشي الكروب ، وحوازب الأمور تطرقه من كل مطرق ، وتطلع عليه من كل مطلع ، حيث (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ. لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ ...)! وقد يوصف المغموم بالكرب ، والمضغوط بالخطب بأنه في غمرات الموت ، مبالغة في عظيم ما يغشاه ، وأليم ما يلقاه.

وترى إذا (ما هُوَ بِمَيِّتٍ) فأين موت النار بمن في النار صيانة على العدالة الربانية؟ ان «كل مكان» هنا هي مكانات الجحيم ، فما دام الجحيم (يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ) منها ، فإذا زال الجحيم فلا مكان ـ إذا ـ يأتيه الموت منه ، ولا هو كائن حتى يأتيه الموت!.

ثم الموت الآتي من قبل الله حين ختام العذاب العدل ، ليس هو من أي مكان فضلا عن كل مكان ، وانما هو من خالق الزمان والمكان ولذلك

٤٩

يؤثر أثره ، دون سائر عوامل الموت حين لا يريد الله تأثيراتها في الموت.

ومن ثم فالظاهر من (كُلِّ مَكانٍ) هنا مكانات الجحيم البرزخية ، ثم (مِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ) في الجحيم الأخروية.

إذا فلا دلالة ولا إشارة في (وَما هُوَ بِمَيِّتٍ) الى فرية معروفة على الله ان اهل النار مؤبدون فيها الى غير النهاية! (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ)(١٨).

(الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله وآياته قلبا وقالبا «أعمالهم» قالبا وقلبا «كرماد ..» فطالحات أعمالهم هباء دونما حاجة الى إهباء وإحباط ، وصالحات اعمالهم حابطة لأنها خابطة دون رباط بإيمان.

ولماذا (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ ..) إبدالا ، دون «مثل أعمال الذين كفروا»؟ علّه تعبير عن احتصار كيانهم الكافر في اعمالهم الكافرة ، باطنة وظاهرة ، علما وعقيدة وطوية ونية ، ثم بروزا لما في الجوانح في الجوارح ، فقد استأصل ذلك المثل كيانهم ـ ككل ـ في اعمالهم الهباء الخواء ، حيث الله منها براء : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) (٢٥ : ٢٣). إذا (فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) (١٨ : ١٠٥) إذ خفت موازينهم! فمثل هذه الأعمال الخاوية عن الإيمان ، كرماد مركوم ، متصلة الظواهر ، منفصلة بعضها عن بعض وعن مكانها ، يخيّل إلى الناظر الغافل أنه شيء ، ثم إذا اشتدت به الريح في يوم عاصف ، تراه هباء منثورا (لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ)! .. وهكذا تكون الريح العاصفة يوم الحساب ، تعصف بأعمالهم فتجعلها هباء منثورا.

٥٠

ولان «اعمالهم» جمع مضاف ، فقد تستغرق كل اعمالهم صالحات وطالحات ، ولكنما الطالحة حابطة في ذاتها دون حاجة الى ريح تشتد بها ، فقد تعني ـ فقط ـ صالحاتهم ، إلّا انها كطالحاتهم حابطة دون إحباط لفقدها شريطة الايمان ، وهذا المثل بيان لواقع اعمالهم في حساب الله ، وانهم يحسبون طالحاتهم ـ كما الصالحات ـ صالحات ، والله ينبئهم انها كلها حابطات ، إن في بعد كصالحاتهم ، ام في بعدين كالطالحات ، ف «أعمالهم» ـ إذا ـ تعني كل اعمالهم ، كما ان (ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ) تؤيد العموم : (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) بخلاف الصالحين حيث يعاكس أمرهم : (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) (٣٥ : ٧٠).

وهنا تبرز حقيقة ناصحة ناصعة أن ليس العمل هو ـ فقط ـ المعوّل ، وانما هو باعث العمل ، إن ايمانا فصالح ، وان كفرا فطالح.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (٢٠) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ

٥١

مَحِيصٍ (٢١) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦) يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ (٢٧)

٥٢

أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)(٣٤)

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) (٢٠).

«الم تر» يا رسول الهدى ـ استفهام تقرير ـ : رؤية المعرفة اليقين القمة

٥٣

وهو حق اليقين ببصيرة الفطرة والعقل ، المزودة بالوحي ، و «الم تر» ايها المخاطب العاقل رؤية دون الوحي من انسان وجان وسواهما من العالمين المكلفين الصالحين لخطابات الله شرعة وتكليفا ، (أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) وهما الكون كله «بالحق» : الله بالحق ، خلق بسبب الحق ومصاحبته ولغايته ، وبالارادة الحقة والنظام الحق ، دون فوضى جزاف في كمّ الخلق وكيفه ، في بدايته او غايته ونهايته ، ومن هذا الخلق أنتم المخاطبون المكلفون من الجنة والناس واضرابكم.

فالخطاب هنا مطلق لا يقيد بالناس ، مهما يخص في الفاطر بالناس كأصدق مصاديقه : (يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ، إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ)(١٦) والخلق الجديد هنا ـ أعم من الناس.

(خَلَقَ .. بِالْحَقِّ) فان اخلدتم الى الباطل (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) جديد قد لا يكون هم من الناس : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ) (٤ : ١٣٣) ام جديدهم من الناس ولكنهم قرن آخرون : (وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) (٦ : ١٣٣).

وهكذا يتهددنا ربنا إن عشنا خلاف الحق (وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) وكما قضى على قوم نوح أجمعين إلا شرذمة صالحين ، ثم أتى منهم بآخرين.

(وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ)(٢١).

ترى ومتى برزوا لله جميعا وهم بارزون منذ كونهم في كونهم وقبل

٥٤

كونهم في علم الله بكيانهم ، هل هو يوم القيامة؟ : (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) (٤٠ : ١٦) وهم في مثلث الزمان ، وفي اللازمان بارزون لله جميعا! : (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) (٣ : ٥).

ان واقع بروزهم لله كائن على أية حال ، ولكنهم لكفرهم بالله يخفى عنهم يوم الدنيا بروزهم لله ، ثم هم بعد الدنيا بارزون في اعترافهم بالله : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)! ومن «هذا» بروزهم بأعمالهم لله سرا وعلانية.

بارزون لا يقدرون على تستر واستخفاء رغم ما كانوا يظنون : (بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) (٦ : ٢٨) (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ) (٦٩ : ١٨) ثم وصيغة الماضي «وبرزوا» تبرز مضي واقع البروز لله منذ برزوا الى الوجود وبروزهم لعلمه قبل الوجود مهما كان البروز هو الظهور بعد الاستتار ، فحين كانوا مستترين عن اصل الوجود كانوا بارزين لله كعلم سابق ، وحين أوجدهم كانوا بارزين كما كانوا على سواء مهما خيل إليهم انهم بأعمالهم مستورون عن الله ، وحين يردون على الله في يوم الله يتحقق بروزهم بكل زواياه ، حيث هم يعلمون بروزهم لله ، فهم بارزون لله قبل بروزهم الى الوجود وبعد موتهم وبعد بعثهم وبعد موت من في النار مع النار ، وبقاء من الجنة في الجنة عطاء غير مجذوذ (لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ).

كما وأن هذه الصيغة الماضية بجنب هذه اللمحة اللامعة ، تحقّق مستقبل بروزهم كأنه ماض ، فقد كانوا بارزين لله لا يخفى عليه منهم شيء ، وسوف يبرزون دون أية غطاء ولا في أنفسهم أنهم بارزون لله!.

ولما (بَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) كافة المكلفين ، وفيهم الضعفاء والذين

٥٥

استكبروا ، (فَقالَ الضُّعَفاءُ) تقصيرا دون قصور ، حيث الضعف القاصر عاذر كما (الْمُسْتَضْعَفِينَ ... لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) وانما ضعف من ضعيف مقصر ، حيث سامح عن عقله ، وتغافل عن فطرته ، وتغرّب عن إنسانيته ، تنازلا عامدا عن أخص خصائص الإنسان وهو الحرية والاستقلال في التفكير وانتخاب المسير والمصير ، فقصارى ما يملكه المستكبرون هي تحديد الحياة المادية وتحبيسها ، اما الحياة الروحية والفطرية والعقلية فلا مدخل لاي مستكبر إليها إلّا من الضعفاء الذين يفتحون أبواب أرواحهم بمصارعها لاي غادر مغادر.

إن المستضعفين هم ثلة على طول الخط ، والمستكبرون قلة ، فلما ذا تخضع تلك الثلة لهذه القلة ، إلا لضعف الروح ، وسقوط الهمة ، وعدم استقلال الارادة ، والتنازل الداخلي عن اية كرامة انسانية موهوبة لكل إنسان.

ولقد بلغ بهؤلاء الأنذال الذل وحياة التبعية اللاشعورية لحدّ يستطير الى مسرح الآخرة حيث يسألونهم (إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) عرضا لموقفهم المتخاذل أمامهم كأنه يحرضهم او يمكّنهم لمقابلة الحسنى بالحسنى وهنا «تبعا» مصدرا مفردا دون : أتباع جمع «تابع» وقضية الجمع في «انا كنا» هي «أتباع»؟ عله تأشيرا إلى مبلغ هذه التبعية اللعينة الأعمى كأنهم نفسها دون فاعل لها ، فهم كأنهم تجسيد لأصل التبعية ، إذ لم يبق من كيانهم إلّا هيه (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) ذلك العذاب الأليم الذي هو من خلفيات تلك التبعية الملعونة المرذولة ، وقد تلمح (فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ) بمقال سابق للمستكبرين وكما كانوا يقولون للمؤمنين : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا (١) سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ ، وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) (٢٩ : ١٣)

٥٦

ثم (مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) وتثنية «من» المبعّضة تثنّي التبعيض ، عناية إلى بعض من بعض ، استئصالا لإغنائهم عنهم شيئا من عذاب الله وان قليلا في ذلك اليوم العصيب : (وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ. قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ) (٤٠ : ٤٨) فحين (كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً) في مطلق التبعية كالعبودية المطلقة ، فهل يقابلها هنا ـ وفي كمال الحاجة والاضطرار ـ أن تغنوا عنا شيئا وإن ضئيلا قليلا من عذاب الله؟!

(قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ) وعلّها هدى الأولى والأخرى ، إلا أن «لو» في الأولى إحالة للهدى بما زاغوا فأزاغ الله قلوبهم ، فلما لم يهتدوا لم يكن منهم إلا الإضلال لأتباعهم وامتناع الهدى باختيار لا ينافي الإختيار حيث اختاروا الضلال فلم يكن الله ليهديهم سبيلا إلا سبيل جهنم ، ثم «لو» في الأخرى إحالة لهدى الثواب ، او التنحي عن العقاب ، فمثلنا كمثلكم سواء (سَواءٌ عَلَيْنا) جميعا ضعيفا ومستكبرا (أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ).

ان الضال في طبعه ، هو من طبعه الإضلال ، كما المهتدي في طبعه من طبعه الإهداء ، فكونكم تبعا لنا ككوننا جميعا تبعا للشيطان لا يبرّر لنا حياة التبعية الضالة ، فكما كان مسيرنا واحدا في ضلال ، كذلك مصيرنا و (ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) حيث الآخرة هي مثال الدنيا في ضلال وهدى : (وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ) (٧ : ٤٣).

لقد قضي الأمر ، وانتهى الجدال ، وما كاد تنفع الحوار ، وبجنبنا الشيطان هاتف الغواية لنا جميعا يعترف بمثواه ومأواه ، محلقا في إذاعة

٥٧

جهنمية على كافة الضالين من الضعفاء والمستكبرين ، منددا بهما جميعا ، ومرددا ضلاله وضلالهم جميعا ، كافرا بما اشركتموه من قبل (إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) :

(وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ)(٢٢).

اجل! «إنه يعظم إبليس لجهنم» (١) ويقول قولته النادمة ، الصارخة الصارحة للحق ، إذاعة بمذياعه الحاشر أتباعه ، الحاسر عن مكائده ومصائده وعن كل شيطناته طول حياة التكليف ، فتبدو شخصيته هناك على أتمها كما بدت شخصية الضعفاء والمستكبرين ، في طعنة اليمة نافذة ناشزة ، حيث لا يملكون عليه ردا ، ولا لأنفسهم مردا ، فانه مصارحة له (لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) وما هو هذا الأمر؟ هل إنه أمر حياة التكليف منذ الموت في الحياة البرزخية؟ ولما يقض كل الأمر إلا إشخاص الأمر لأشخاصه! «وقال» تلمح لمرة واحدة في ذلك الخطاب للضالين كلهم! والحساب فيه مؤقت برزخ! أم إنه أمر التكليف ككل عند قيامة الإحياء قبل الحساب؟ ولم يقض كل الأمر ، فان امر الحساب إمر هو امرّ من أصل القيامة!

__________________

(١) الدر المنثور ٤ : ٧٤ ـ اخرج ابن المبارك في الزهد وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه وابن عساكر عن عقبة بن عامر قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقضى بينهم ـ وفيه ذكر تسلسل الشفاعة من آدم الى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم : ويقول الكافرون عند ذلك قد وجد المؤمنون من يشفع لهم ما هو الا إبليس فهو الذي أضلنا فيأتون إبليس فيقولون قد وجد المؤمنون من يشفع لهم قم أنت فاشفع لنا فانك أنت اضللتنا فيقوم إبليس فيثور مجلسه من أنتن ريح شمها أحد قط ثم يعظم لجهنم ويقول عند ذلك : ان الله وعدكم وعد الحق ..

٥٨

ام انه امر الحساب حين استقر اهل الجنة في الجنة واهل النار في النار؟ وهنالك امر لم يقض بعد وهو خروج جمع من اهل النار من النار! وإمر الخطاب هذا لأتباعه عذابا فوق العذاب ليس إلّا بعد قضاء كل أمر!

قد يجمع الأمر هنا كل أمر يرجع إلى أهل الجمع وقد قضي الأمر كله ، وكما يلمح له لام الاستغراق في الأمر ، مهما شمل مثلث الأمر قبله ، ورباعية الأمر لا تنافي «وقال» فانه كل قالة من الشيطان تختصر وتحتصر في هذه القالة.

وترى «الشيطان» هنا تعم شياطين الجن والإنس؟ وظاهر الصيغة إفراده ، وإلّا لكان «الشياطين» كما في أمثالها السبعة عشر الأخرى! وانه رئيس الشياطين المضللين : (قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (٣٨ : ٨٣)! وان «كم» في «وعدكم» و «وعدتكم» تشمل كافة الضالين من مستكبرين ومستضعفين من الجنة والناس أجمعين! ولم يذكر «الشيطان» في موارده السبعين إلّا ويعني إبليس ـ فقط ـ دون حزبه ، اللهم إلا بقرينة ك (طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ) (٧ : ٢٠١) و (شَيْطاناً مَرِيداً) (٤ : ١١٧) و (نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً) (٤٣ : ٣٦).

فالشيطان ـ إذا ـ هو الشيطان ، رئيس المضلين والضالين منذ التكليف الى يوم الدين.

في هذه المحاضرة الشيطانية ـ المحاذرة ، ينهار سائر الشياطين صغارا وكبارا ، وعلى هامشهم كل من استجاب له.

ويا لها من كلمة قصيرة الأداء طويلة المدى ، بعيدة الصدى ، تضرب الى الاعماق ، وتخرق الآفاق ، فتضيف الى جحيم النار لأتباعه جحيم الندامة والحسرة الحاسرة ، حيث يعرّف بنفسه هناك كما عرّف الله به هنا ،

٥٩

والقرآن يجمع بين ما هنا وهناك ، حجة قارعة بارعة لمن القى السمع وهو شهيد.

(قالَ .. إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ) وعدا يملك كل مؤشرات وبراهين الحق من برهان الواقع وواقع البرهان ، دونما تخلف لوعده عن حكم الفطرة والعقل والشرعة والواقع يوم الدنيا ، والذي سوف يقع يوم الدين.

وقد يعني المضي في «قال» إضافة الى مستقبل متحقق الوقوع ، قاله في ماضيه منذ اصطكاكه بالمكلفين ، وطبعا لا يتفهمه إلا من يعتقد في قضاء الأمر ، حيث يتعرف الى قاله من أفعاله ، والى أفعاله من قاله.

ثم (وَعْدَ الْحَقِّ) دون (الْوَعْدُ الْحَقُّ) يلمح لتحقيق الوعد الحق في كل حقوله ، دون الوعد فقط ، فمن الواعدين من يعد حقا ثم يمنعه مانع ام يقضي نحبه قبل قضاء وعده ، وقد لا يعد أمرا ثم يحققه ، ولكن وعد الله هو وعد الحق.

وقد تعني اضافة «وعد» ب «الحق» كل تقديراتها ، وعدا بالحق ووعدا في الحق ووعدا للحق والى الحق ، حقا في الوعد وفي تحقيقه وفي تطابقه لقضية الفطر والعقول ، فلا تجد اي تخلف في وعد الله الحق ، مستغرقا كل حق موعود دونما استثناء ، حقا في الأولى وفي البرزخ والأخرى ، وقد تبين لهم كله في الأخرى ، وهنالك يخسر المبطلون.

(وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ) إخلافا في اصل الوعد لكذبه ، وإخلافا في تحقيقه حيث لا يقدر عليه ولو صدق ، إذ لا يملك من دون الله من شيء.

وذلك الإخلاف ليس ـ فقط ـ يظهر (لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ) بل ويوم الدنيا لمن أبصر بها فبصّرته ، دون من أبصر إليها فأعمته.

فوعده ـ إذا ـ وعد الباطل ، وجاه وعد الحق لله ، وكان وعد الله

٦٠