تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٣٥

المانوية من المجوس المعبود (أهرمن) وهو عندهم رب الشر والضر ويرمزون إليه بعنصر الظلمة وأنه تولد من خاطر سوء خطر للرب (يزدان) إله الخير ، قال المعري :

فكّر يزدان على غرة

فصيغ من تفكيره أهرمن

والحصر المستفاد من تقديم المعمول في قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) حصر حقيقي لأن المؤمنين الملقّنين لهذا الحمد لا يعبدون إلا الله. وزعم ابن الحاجب في «إيضاح المفصل» في شرح ديباجة «المفصل» عند قول الزمخشري «الله أحمد» أن التقديم لا يفيد إلا الاهتمام دون حصر وأن قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) تقديم المفعول للاهتمام دون قصر وأن تمسكهم بقوله : (بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ) [الزمر : ٦٦] ضعيف لورود : (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) [الزمر : ٢] وإبطال رأيه مقرر في كتب علم المعاني.

وأنا أرى استدلاله بورود قوله تعالى : (فَاعْبُدِ اللهَ) لا يليق بمقامه العلمي إذ لا يظن أن محامل الكلام متماثلة في كل مقام ، (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) جملة معطوفة على جملة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) وإنما لم تفصل عن جملة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) بطريقة تعداد الجمل مقام التضرع ونحوه من مقامات التعداد والتكرير كلا أو بعضا للإشارة إلى خطور الفعلين جميعا في إرادة المتكلمين بهذا التخصيص ، أي نخصك بالاستعانة أيضا مع تخصيصك بالعبادة.

والاستعانة طلب العون. والعون والإعانة تسهيل فعل شيء يشق ويعسر على المستعين وحده ، فهي تحصل بإعداد طريق تحصيله من إعارة آلة ، أو مشاركة بعمل البدن كالحمل والقود ، أو بقول كالإرشاد والتعليم ، أو برأي كالنصيحة. قال الحريري في المقامة : «وخلقي نعم العون» ، أو بمال كدفع المغرم ، بحيث يحصل الأمر بعسير من جهود المستعين والمعين.

وأما الاستعانة بالله فهي طلب المعونة على ما لا قبل للبشر بالإعانة عليه ولا قبل للمستعين بتحصيله بمفرده ، ولذلك فهي مشعرة بأن المستعين يصرف مقدرته لتحصيل الفعل ويطلب من الله العون عليه بتيسير ما لا قبل لقدرة المستعين على تحصيله بمفرده ، فهذه هي المعونة شرعا. وقد فسرها العلماء بأنها هي خلق ما به تمام الفعل أو تيسيره ، فتنقسم قسمين ضرورية أي ما يتوقف الفعل عليها فلا يحصل بدونها أي لا يحصل بدون توفر متعلقها وهي إعطاء الاقتدار للفاعل وتصوره للفعل وحصول المادة والآلة ، ومجموع هاته الأربعة يعبر عنه بالاستطاعة ، ويعبر عنها بسلامة الأسباب والآلات وبها يصح تكليف المستطيع.

١٨١

القسم الثاني المعونة غير الضرورية وينبغي أن تخص باسم الإعانة وهي إيجاد المعين ما يتيسر به الفعل للمعان حتى يسهل عليه ويقرب منه كإعداد الراحلة في السفر للقادر على المشي. وبانضمام هذا المعنى للمعنى الأول تتم حقيقة التوفيق المعرف عندهم بأنه خلق القدرة والداعية إلى الطاعة ، وسمى الراغب هذا القسم الثاني بالتوفيق ولا تعارض بين كلامه وبين تعريفهم إياه لما علمت من أنه لا يحصل إلا بعد حصول المعونة بالمعنى الأول فتم التوفيق ؛ والمقصود هنا الاستعانة على الأفعال المهمة كلها التي أعلاها تلقي الدين وكلّ ما يعسر على المرء تذليله من توجهات النفوس إلى الخير وما يستتبع ذلك من تحصيل الفضائل. وقرينة هذا المقصود رسمه في فاتحة الكتاب ووقوع تخصيص الإعانة عقب التخصيص بالعبادة. ولذلك حذف متعلّق (نَسْتَعِينُ) الذي حقه أن يذكر مجرورا بعلى ، وقد أفاد هذا الحذف الهامّ عموم الاستعانة المقصورة على الطلب من الله تأدبا معه تعالى ، ومن توابع ذلك وأسبابه وهي المعارف والإرشادات والشرائع وأصول العلوم فكلها من الإعانة المطلوبة وكلها من الله تعالى فهو الذي ألهمنا مبادئ العلوم وكلفنا الشرائع ولقننا النطق ، قال : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد : ٨ ـ ١٠] ـ فالأول إيماء إلى طريق المعارف وأصلها المحسوسات وأعلاها المبصرات ، والثاني إيماء إلى النطق والبيان للتعليم ، والثالث إلى الشرائع.

والحصر المستفاد من التقديم في قوله : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) حصر ادعائي للمبالغة لعدم الاعتداد بالاستعانات المتعارفة بين الناس بعضهم ببعض في شئونهم ، ومعنى الحصر هنا لا نستعين على عظائم الأمور التي لا يستعان فيها بالناس إلا بالله تعالى. ويفيد هذا القصر فيهما التعريض بالمشركين الذين يعبدون غير الله ويستعينون بغيره لأنهم كانوا فريقين منهم من عبد غير الله على قصد التشريك إلا أن ولعه واستهتاره بغير الله تعالى أنساه عبادة الله تعالى كما عبدت سبأ الشمس وعبد الفرس النور والظلمة ، وعبد القبط العجل وألّهوا الفراعنة ، وعبدت أمم السودان الحيوانات كالثعابين. ومن المشركين من أشرك مع عبادة الله عبادة غيره وهذا حال معظم العرب ممن عبد الأصنام أو عبد الكواكب ، فقد عبدت ضبة وتيم وعكل الشمس ، وعبدت كنانة القمر ، وعبدت لخم وخزاعة وبعض قريش الشّعرى ، وعبدت تميم الدبران ، وعبدت طيئ الثريا ، وهؤلاء كلهم جعلوا الآلهة بزعمهم وسيلة يتقربون بها إلى الله تعالى ، فهؤلاء جمعوا العبادة والاستعانة بهم لأنّ جعلهم وسيلة إلى الله ضرب من الاستعانة ، وإنما قلنا إن استفادة الرد على المشركين ونحوهم بطريق التعريض أي بطريق عرض الكلام لأن القصر الحقيقي لا يصلح أن يكون لرد الاعتقاد إلا

١٨٢

تعريضا لأن معناه حاصل على الحقيقة كما أشار إليه السلكوتي في «حاشية التفسير».

فإن قلت كيف أمرنا بأن لا نعبد إلا الله ولا نستعين إلا به حسبما تشير إليه هذه الآية ، وقد ورد في الصحيح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما علّم عبد الله بن عباس قال له «إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله» فلم يأت بصيغة قصر. قلت قد ذكر الشيخ الجد قدس الله روحه في تعليقه على هذا الحديث أن ترك طريقة القصر إيماء إلى أن المقام لا يقبل الشركة وأن من حق السؤال أن لا يكون إلا لله القادر العليم ، وقد قال علماء البلاغة إذا كان الفعل مقصورا في نفسه فارتكاب طريق القصر لغو من الكلام ا ه.

وأقول تقفية على أثره إن مقام الحديث غير مقام الآية فمقام الحديث مقام تعليم خاص لمن نشأ وشب وترجل في الإسلام فتقرّر قصر الحكم لديه على طرف الثمام ولذلك استغنى عنه وأما مقام هذه الآية فمقام مفتتح الوحي والتشريع واستهلال الوعظ والتقريع ، فناسب تأكيد الحكم بالقصر مع التعريض بحال الشرك الشنيع على أن تعليق الأمر بهما في جواب الشرط على حصول أيّ سؤال وأية استعانة يفيد مفاد القصر تعريضا بالمشركين وبراءة من صنيعهم فقد كانوا يستعينون بآلهتهم. ومن ذلك الاستقسام بالأزلام الموضوعة عند الآلهة والأصنام.

وضميرا (نَعْبُدُ) و (نَسْتَعِينُ) يعودان إلى تالي السورة ذاكرا معه جماعة المؤمنين. وفي العدول عن ضمير الواحد إلى الإتيان بضمير المتكلم المشارك الدلالة على أن هذه المحامد صادرة من جماعات ، ففيه إغاظة للمشركين إذ يعلمون أن المسلمين صاروا في عزة ومنعة ، ولأنه أبلغ في الثناء من أعبد وأستعين لئلا تخلو المناجاة عن ثناء أيضا بأن المحمود المعبود المستعان قد شهد له الجماعات وعرفوا فضله ، وقريب من هذا قول النابغة في رثاء النعمان بن الحارث الغساني :

قعودا له غسان يرجون أوبة

وترك ورهط الأعجمين وكابل

إذ قصد من تعداد أصناف من الأمم الكناية عن عظمة النعمان وكثرة رعيته. فكأنّ الحامد لما انتقل من الحمد إلى المناجاة لم يغادر فرصة يقتنص منها الثناء إلا انتهزها.

ووجهه تقديم قوله (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) على قوله : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) أن العبادة تقرّب للخالق تعالى فهي أجدر بالتقديم في المناجاة ، وأما الاستعانة فهي لنفع المخلوق للتيسير عليه فناسب أن يقدّم المناجي ما هو من عزمه وصنعه على ما يسأله مما يعين على ذلك ،

١٨٣

ولأن الاستعانة بالله تتركب على كونه معبودا للمستعين به ولأن من جملة ما تطلب الإعانة عليه العبادة فكانت متقدمة على الاستعانة في التعقل. وقد حصل من ذلك التقديم أيضا إيفاء حق فواصل السورة المبنية على الحرف الساكن المتماثل أو القريب في مخرج اللسان.

وأعيد لفظ (إِيَّاكَ) في الاستعانة دون أن يعطف فعل (نَسْتَعِينُ) على (نَعْبُدُ) مع أنهما مقصودان جميعا كما أنبأ عنه عطف الجملة على الجملة لأن بين الحصرين فرقا ، فالحصر في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) حقيقي والقصر في (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ادعائي فإن المسلم قد يستعين غير الله تعالى كيف وقد قال تعالى : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) [المائدة : ٢] ولكنه لا يستعين في عظائم الأمور إلا بالله ولا يعد الاستعانة حقيقة إلا الاستعانة بالله تعالى.

[٦] (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ).

تهيأ لأصحاب هذه المناجاة أن يسعوا إلى طلب حظوظهم الشريفة من الهداية بعد أن حمدوا الله ووصفوه بصفات الجلالة ثم أتبعوا ذلك بقولهم : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) الذي هو واسطة جامع بين تمجيد الله تعالى وبين إظهار العبودية وهي حظ العبد بأنه عابد ومستعين وأنه قاصر ذلك على الله تعالى ، فكان ذلك واسطة بين الثناء وبين الطلب ، حتى إذا ظنوا بربهم الإقبال عليهم ورجوا من فضله ، أفضوا إلى سؤال حظهم فقالوا : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) فهو حظ الطالبين خاصة لما ينفعهم في عاجلهم وآجلهم ، فهذا هو التوجيه المناسب لكون الفاتحة بمنزلة الديباجة للكتاب الذي أنزل هدى للناس ورحمة فتتنزل هاته الجملة مما قبلها منزلة المقصد من الديباجة ، أو الموضوع من الخطبة ، أو التخلص من القصيدة ، ولاختلاف الجمل المتقدمة معها بالخبرية والإنشائية فصلت هذه عنهن ، وهذا أولى في التوجيه من جعلها جوابا لسؤال مقدر على ما ذهب إليه صاحب «الكشاف».

والهداية الدلالة بتلطف ولذلك خصت بالدلالة لما فيه خير المدلول لأن التلطف يناسب من أريد به الخير ، وهو يتعدى إلى مفعول واحد بنفسه لأن معناه معنى الإرشاد ، ويتعدى إلى المفعول الثاني وهو المهدى إليه بإلى وباللام والاستعمالان واردان ، تقول هديته إلى كذا على معنى أوصلته إلى معرفته ، وهديته لكذا على معنى أرشدته لأجل كذا : (فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ) [الصافات : ٢٣] ، (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) [الأعراف : ٤٣]

١٨٤

وقد يعدى إلى المفعول الثاني بنفسه كما هنا على تضمينه معنى عرف قيل هي لغة أهل الحجاز وأما غيرهم فلا يعديه بنفسه وقد جعلوا تعديته بنفسه من التوسع المعبر عنه بالحذف والإيصال. وقيل الفرق بين المتعدي وغيره أن المتعدي يستعمل في الهداية لمن كان في الطريق ونحوه ليزداد هدى ومصدره حينئذ الهداية ، وأما هداه إلى كذا أو لكذا فيستعمل لمن لم يكن سائرا في الطريق ومصدره هدى ، وكأن صاحب هذا القول نظر إلى أن المتعدي بالحرف إنما عدي لتقويته والتقوية إما أن يقصد بها تقوية العامل لضعفه في العمل بالفرعية أو التأخير ، وإما أن يقصد بها تقوية معناه ، والحق أن هذا إن تم فهو أغلبي على أنه تخصيص من الاستعمال فلا يقتضي كون الفعل مختلف المعنى لأن الفعل لا تختلف معانيه باعتبار كيفية تعديته إلا إذا ضمن معنى فعل آخر ، على أن كلا من الهدى والهداية اسم مصدر والمصدر هو الهدي. والذي أراه أن التعدية والقصور ليسا من الأشياء التي تصنع باليد أو يصطلح عليها أحد ، بل هي جارية على معنى الحدث المدلول للفعل فإن كان الحدث يتقوم معناه بمجرد تصور من قام به فهو الفعل القاصر وإن كان لا يتقوم إلا بتصور من قام به ومن وقع عليه فهو المتعدي إلى واحد أو أكثر ، فإن أشكلت أفعال فإنما إشكالها لعدم اتضاح تشخص الحدث المراد منها لأن معناها يحوم حول معان متعددة. وهدى متعد لواحد لا محالة ، وإنما الكلام في تعديته لثان فالحق أنه إن اعتبر فيه معنى الإراءة والإبانة تعدى بنفسه وإن اعتبر فيه مطلق الإرشاد والإشارة فهو متعد بالحرف فحالة تعديته هي المؤذنة بالحدث المتضمن له.

وقد قيل إن حقيقة الهداية الدلالة على الطريق للوصول إلى المكان المقصود فالهادي هو العارف بالطرق وفي حديث الهجرة : «إن أبا بكر استأجر رجلا من بني الديل هاديا خريتا» وإن ما نشأ من معاني الهداية هو مجازات شاع استعمالها. والهداية في اصطلاح الشرع حين تسند إلى الله تعالى هي الدلالة على ما يرضي الله من فعل الخير ويقابلها الضلالة وهي التغرير.

واختلف علماء الكلام في اعتبار قيد الإيصال إلى الخير في حقيقة الهداية فالجمهور على عدم اعتباره وأنها الدلالة على طريق الوصول سواء حصل الوصول أم لم يحصل وهو قول الأشاعرة وهو الحق. وذهب جماعة منهم الزمخشري إلى أن الهداية هي الدلالة مع الإيصال وإلا لما امتازت عن الضلالة أي حيث كان الله قادرا على أن يوصل من يهديه إلى ما هداه إليه ، ومرجع الخلاف إلى اختلافهم في أصل آخر وهو أصل معنى رضى الله

١٨٥

ومشيئته وإرادته وأمره ، فأصحاب الأشعري اعتبروا الهداية التي هي من متعلق الأمر ، والمعتزلة نظروا إلى الهداية التي هي من متعلق التكوين والخلق ، ولا خلاف في أن الهداية مع الوصول هي المطلوبة شرعا من الهادي والمهدي مع أنه قد يحصل الخطأ للهادي وسوء القبول من المهدي وهذا معنى ما اختار عبد الحكيم أنها موضوعة في الشرع لقدر المشترك لورودها في القرآن في كل منهما قال : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) [القصص : ٥٦] وقال : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) [فصلت : ١٧] والأصل عدم الاشتراك وعدم المجاز.

والهداية أنواع تندرج كثرتها تحت أربعة أجناس مترتبة : الأول إعطاء القوى المحركة والمدركة التي بها يكون الاهتداء إلى انتظام وجود ذات الإنسان ، ويندرج تحتها أنواع تبتدئ من إلهام الصبي التقام الثدي والبكاء عند الألم إلى غاية الوجدانيّات التي بها يدفع عن نفسه كإدراك هول المهلكات وبشاعة المنافرات ، ويجلب مصالحه الوجودية كطلب الطعام والماء وذود الحشرات عنه وحك الجلد واختلاج العين عند مرور ما يؤذي تجاهها ، ونهايتها أحوال الفكر وهو حركة النفس في المعقولات أعني ملاحظة المعقول لتحصيل المجهول في البديهيات وهي القوة الناطقة التي انفرد بها الإنسان المنتزعة من العلوم المحسوسة.

الثاني نصب الأدلة الفارقة بين الحق والباطل والصواب والخطأ ، وهي هداية العلوم النظرية. الثالث الهداية إلى ما قد تقصر عنه الأدلة أو يفضي إعمالها في مثله إلى مشقة وذلك بإرسال الرسل وإنزال الكتب وموازين القسط وإليها الإشارة بقوله تعالى في شأن الرسل : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) [الأنبياء : ٢٣]. الرابع أقصى أجناس الهداية وهي كشف الحقائق العليا وإظهار أسرار المعاني التي حارت فيها ألباب العقلاء إما بواسطة الوحي والإلهام الصحيح أو التجليات ، وقد سمى الله تعالى هذا هدى حين أضافه للأنبياء فقال : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٩٠].

ولا شك أن المطلوب بقوله (اهْدِنَا) الملقّن للمؤمنين هو ما يناسب حال الداعي بهذا إن كان باعتبار داع خاص أو طائفة خاصة عند ما يقولون : اهدنا ، أو هو أنواع الهداية على الجملة باعتبار توزيعها على من تأهل لها بحسب أهليته إن كان دعاء على لسان المؤمنين كلهم المخاطبين بالقرآن ، وعلى كلا التقديرين فبعض أنواع الهداية مطلوب حصوله لمن لم يبلغ إليه ، وبعضها مطلوب دوامه لمن كان حاصلا له خاصة أو لجميع

١٨٦

الناس الحاصل لهم ، وذلك كالهداية الحاصلة لنا قبل أن نسألها مثل غالب أنواع الجنس الأول.

وصيغة الطلب موضوعة لطلب حصول الماهية المطلوبة من فعل أو كف فإذا استعملت في طلب الدوام كان استعمالها مجازا نحو : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) [النساء : ١٣٦] وذلك حيث لا يراد بها إلا طلب الدوام. وأما إذا استعملت في طلب الدوام للزيادة مما حصل بعضه ولم يحصل بعضه فهي مستعملة في معناها وهو طلب الحصول لأن الزيادة في مراتب الهداية مثلا تحصيل لمواد أخرى منها. ولما كان طلب الزيادة يستلزم طلب دوام ما حصل إذ لا تكاد تنفع الزيادة إذا انتقض الأصل كان استعمالها حينئذ في لازم المعنى مع المعنى فهو كناية. أما إذا قال : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) من بلغ جميع مراتب الهداية ورقى إلى قمة غاياتها وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإن دعاءه حينئذ يكون من استعمال اللفظ في مجاز معناه ويكون دعاؤه ذلك اقتباسا من الآية وليس عين المراد من الآية لأن المراد منها طلب الحصول بالمزيد مع طلب الدوام بطريقة الالتزام ولا محالة أن المقصود في الآية هو طلب الهداية الكاملة.

والصراط الطريق وهو بالصاد وبالسين وقد قرئ بهما في المشهورة وكذلك نطقت به بالسين جمهور العرب إلا أهل الحجاز نطقوه بالصاد مبدلة عن السين لقصد التخفيف في الانتقال من السين إلى الراء ثم إلى الطاء قال في «لطائف الإشارات» عن الجعبري إنهم يفعلون ذلك في كل سين بعدها غين أو خاء أو قاف أو طاء وإنما قلبوها هنا صادا لتطابق الطاء في الإطباق والاستعلاء والتفخم مع الراء استثقالا للانتقال من سفل إلى علو ا ه. أي بخلاف العكس نحو طست لأن الأول عمل والثاني ترك. وقيس قلبوا السين بين الصاد والزاي وهو إشمام وقرأ به حمزة في رواية خلف عنه. ومن العرب من قلب السين زايا خالصة قال القرطبي : وهي لغة عذرة وكلب وبني القين وهي مرجوحة ولم يقرأ بها ، وقد قرأ باللغة الفصحى (بالصاد) جمهور القراء وقرأ بالسين ابن كثير في رواية قنبل ، والقراءة بالصاد هي الراجحة لموافقتها رسم المصحف وكونها اللغة الفصحى.

فإن قيل كيف كتبت في المصحف بالصاد وقرأها بعض القراء بالسين؟ قلت إن الصحابة كتبوها بالصاد تنبيها على الأفصح فيها ، لأنهم يكتبون بلغة قريش واعتمدوا على علم العرب فالذين قرءوا بالسين تأولوا أن الصحابة لم يتركوا لغة السين للعلم بها فعادلوا الأفصح بالأصل ولو كتبوها بالسين مع أنها الأصل لتوهم الناس عدم جواز العدول عنه

١٨٧

لأنه الأصل والمرسوم كما كتبوا المصيطر بالصاد مع العلم بأن أصله السين فهذا مما يرجع الخلاف فيه إلى الاختلاف في أداء اللفظ لا في مادة اللفظ لشهرة اختلاف لهجات القبائل في لفظ مع اتحاده عندهم.

والصراط اسم عربي ولم يقل أحد من أهل اللغة إنه معرب ولكن ذكر في «الإتقان» عن النقاش وابن الجوزي أنه الطريق بلغة الروم وذكر أن أبا حاتم ذكر ذلك في كتاب «الزينة» له وبنى على ذلك السيوطي فزاده في «منظومته في المعرب».

والصراط في هذه الآية مستعار لمعنى الحق الذي يبلغ به مدركه إلى الفوز برضاء الله لأن ذلك الفوز هو الذي جاء الإسلام بطلبه.

والمستقيم اسم فاعل استقام مطاوع قومته فاستقام ، والمستقيم الذي لا عوج فيه ولا تعاريج ، وأحسن الطرق الذي يكون مستقيما وهو الجادة لأنه باستقامته يكون أقرب إلى المكان المقصود من غيره فلا يضل فيه سالكه ولا يتردد ولا يتحير.

والمستقيم هنا مستعار للحق البين الذي لا تخلطه شبهة باطل فهو كالطريق الذي لا تتخلله بنيّات ، عن ابن عباس أن الصراط المستقيم دين الحق ، ونقل عنه أنه ملة الإسلام ، فكلامه يفسر بعضه بعضا ولا يريد أنهم لقنوا الدعاء بطلب الهداية إلى دين مضى وإن كانت الأديان الإلهية كلها صرطا مستقيمة بحسب أحوال أممها يدل لذلك قوله تعالى في حكاية غواية الشيطان : (قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) [الأعراف : ١٦].

فالتعريف في (الصراط المستقيم) تعريف العهد الذهني ، لأنهم سألوا الهداية لهذا الجنس في ضمن فرد وهو الفرد المنحصر فيه الاستقامة لأن الاستقامة لا تتعدد كما قال تعالى : (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) [يونس : ٣٢] ولأن الضلال أنواع كثيرة كما قال : (وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ) [المائدة : ١٠٠] وقد يوجه هذا التفسير بحصول الهداية إلى الإسلام فعلمهم الله هذا الدعاء لإظهار منته وقد هداهم الله بما سبق من القرآن قبل نزول الفاتحة ويهديهم بما لحق من القرآن والإرشاد النبوي. وإطلاق الصراط المستقيم على دين الإسلام ورد في قوله تعالى : (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً) [الأنعام : ١٦١].

والأظهر عندي أن المراد بالصراط المستقيم المعارف الصالحات كلها من اعتقاد وعمل بأن يوفقهم إلى الحق والتمييز بينه وبين الضلال على مقادير استعداد النفوس وسعة

١٨٨

مجال العقول النيرة والأفعال الصالحة بحيث لا يعتريهم زيغ وشبهات في دينهم وهذا أولى ليكون الدعاء طلب تحصيل ما ليس بحاصل وقت الطلب وإنّ المرء بحاجة إلى هذه الهداية في جميع شئونه كلها حتى في الدوام على ما هو متلبس به من الخير للوقاية من التقصير فيه أو الزيغ عنه. والهداية إلى الإسلام لا تقصر على ابتداء اتباعه وتقلده بل هي مستمرة باستمرار تشريعاته وأحكامه بالنص أو الاستنباط. وبه يظهر موقع قوله : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) مصادفا المحز.

[٧] (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) (٧).

(صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ).

بدل أو عطف بيان من (الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) ، وإنما جاء نظم الآية بأسلوب الإبدال أو البيان دون أن يقال : اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم المستقيم ، لفائدتين : الأولى : أن المقصود من الطلب ابتداء هو كون المهدى إليه وسيلة للنجاة واضحة سمحة سهلة ، وأما كونها سبيل الذين أنعم الله عليهم فأمر زائد لبيان فضله. الفائدة الثانية : ما في أسلوب الإبدال من الإجمال المعقب بالتفصيل ليتمكن معنى الصراط للمطلوب فضل تمكن في نفوس المؤمنين الذين لقنوا هذا الدعاء فيكون له من الفائدة مثل ما للتوكيد المعنوي ، وأيضا لما في هذا الأسلوب من تقرير حقيقة هذا الصراط وتحقيق مفهومه في نفوسهم فيحصل مفهومه مرتين فيحصل له من الفائدة ما يحصل بالتوكيد اللفظي واعتبار البدلية مساو لاعتباره عطف بيان لا مزية لأحدهما على الآخر خلافا لمن حاول التفاضل بينهما ، إذ التحقيق عندي أن عطف البيان اسم لنوع من البدل وهو البدل المطابق وهو الذي لم يفصح أحد من النحاة على تفرقة معنوية بينهما ولا شاهدا يعين المصير إلى أحدهما دون الآخر.

قال في «الكشاف» : «فإن قلت ما فائدة البدل؟ قلت فائدته التوكيد لما فيه من التثنية والتكرير» ا ه فأفهم كلامه أن فائدة الإبدال أمران يرجعان إلى التوكيد وهما ما فيه من التثنية أي تكرار لفظ البدل ولفظ المبدل منه وعنى بالتكرير ما يفيده البدل عند النحاة من تكرير العامل وهو الذي مهد له في صدر كلامه بقوله : «وهو في حكم تكرير العامل كأنه قيل : اهدنا الصراط المستقيم اهدنا صراط الذين ، وسماه تكريرا لأنه إعادة للفظ بعينه ،

١٨٩

بخلاف إعادة لفظ المبدل منه فإنه إعادة له بما يتحد مع ما صدقه فلذلك عبر بالتكرير وبالتثنية ، ومراده أن مثل هذا البدل وهو الذي فيه إعادة لفظ المبدل منه يفيد فائدة البدل وفائدة التوكيد اللفظي ، وقد علمت أن الجمع بين الأمرين لا يتأتى على وجه معتبر عند البلغاء إلا بهذا الصوغ البديع.

وإن إعادة الاسم في البدل أو البيان ليبنى عليه ما يراد تعلقه بالاسم الأول أسلوب بهيج من الكلام البليغ لإشعار إعادة اللفظ بأن مدلوله بمحلّ العناية وأنه حبيب إلى النفس ، ومثله تكرير الفعل كقوله تعالى : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) [الفرقان : ٧٢] وقوله : (رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) [القصص : ٦٣] فإن إعادة فعل (مَرُّوا) وفعل (أَغْوَيْناهُمْ) وتعليق المتعلّق بالفعل المعاد دون الفعل الأول تجد له من الروعة والبهجة ما لا تجده لتعليقه بالفعل الأول دون إعادة ، وليست الإعادة في مثله لمجرد التأكيد لأنه قد زيد عليه ما تعلق به. قال ابن جني في «شرح مشكل الحماسة» عند قول الأحوص :

فإذا تزول تزول عن متخمّط

تخشى بوادره على الأقران

محال أن تقول إذا قمت قمت وإذا أقعد أقعد لأنه ليس في الثاني غير ما في الأول وإنما جاز أن يقول فإذا تزول تزول لما اتصل بالفعل الثاني من حرف الجر المفادة منه الفائدة ، ومثله قول الله تعالى : (هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) وقد كان أبو علي (يعني الفارسي) امتنع في هذه الآية مما أخذناه ا ه.

قلت ولم يتضح توجيه امتناع أبي علي فلعله امتنع من اعتبار (أَغْوَيْناهُمْ) بدلا من (أَغْوَيْنا) وجعله استئنافا وإن كان المآل واحدا. وفي استحضار المنعم عليهم بطريق الموصول ، وإسناد فعل الإنعام عليهم إلى ضمير الجلالة ، تنويه بشأنهم خلافا لغيرهم من المغضوب عليهم والضالين.

ثم إن في اختيار وصف الصراط المستقيم بأنه صراط الذين أنعمت عليهم دون بقية أوصافه تمهيدا لبساط الإجابة فإن الكريم إذا قلت له أعطني كما أعطيت فلانا كان ذلك أنشط لكرمه ، كما قرره الشيخ الجد قدس الله سره في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كما صليت على إبراهيم» ، فيقول السائلون : اهدنا الصراط المستقيم الصراط الذين هديت إليه عبيد نعمك مع ما في ذلك من التعريض بطلب أن يكونوا لا حقين في مرتبة الهدى بأولئك المنعم عليهم ، وتهمما بالاقتداء بهم في الأخذ بالأسباب التي ارتقوا بها إلى تلك الدرجات ، قال تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الممتحنة : ٦] ، وتوطئة لما سيأتي بعد من التبري

١٩٠

من أحوال المغضوب عليهم والضالين فتضمن ذلك تفاؤلا وتعوذا.

والنعمة ـ بالكسر وبالفتح ـ مشتقة من النعيم وهو راحة العيش وملائم الإنسان والترفه ، والفعل كسمع ونصر وضرب. والنعمة الحالة الحسنة لأن بناء الفعلة بالكسر للهيئات ومتعلق النعمة اللذات الحسية ثم استعملت في اللذات المعنوية العائدة بالنفع ولو لم يحس بها صاحبها. فالمراد من النعمة في قوله : (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) النعمة التي لم يشبها ما يكدرها ولا تكون عاقبتها سوأى ، فهي شاملة لخيرات الدنيا الخالصة من العواقب السيئة ولخيرات الآخرة ، وهي الأهم ، فيشمل النعم الدنيوية الموهوبيّ منها والكسبيّ ، والرّوحانيّ والجثماني ، ويشمل النعم الأخروية. والنعمة بهذا المعنى يرجع معظمها إلى الهداية ، فإن الهداية إلى الكسبي من الدنيويّ وإلى الأخرويّ كلّه ظاهرة فيها حقيقة الهداية ، ولأن الموهوب في الدنيا وإن كان حاصلا بلا كسب إلا أن الهداية تتعلق بحسن استعماله فيما وهب لأجله.

فالمراد من المنعم عليهم الذين أفيضت عليهم النعم الكاملة ولا تخفى تمام المناسبة بين المنعم عليهم وبين المهديين حينئذ فيكون في إبدال (صِراطَ الَّذِينَ) من (الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) معنى بديع وهو أن الهداية نعمة وأن المنعم عليهم بالنعمة الكاملة قد هدوا إلى الصراط المستقيم. والذين أنعم الله عليهم هم خيار الأمم السابقة من الرسل والأنبياء الذين حصلت لهم النعمة الكاملة. وإنما يلتئم كون المسئول طريق المنعم عليهم فيما مضى وكونه هو دين الإسلام الذي جاء من بعد باعتبار أن الصراط المستقيم جار على سنن الشرائع الحقة في أصول الديانة وفروع الهداية والتقوى ، فسألوا دينا قويما يكون في استقامته كصراط المنعم عليهم فأجيبوا بدين الإسلام ، وقد جمع استقامة الأديان الماضية وزاد عليها ، أو المراد من المنعم عليهم الأنبياء والرسل فإنهم كانوا على حالة أكمل مما كان عليه أممهم ، ولذلك وصف الله كثيرا من الرسل الماضين بوصف الإسلام وقد قال يعقوب لأبنائه : (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [البقرة : ١٣٢] ذلك أن الله تعالى رفق بالأمم فلم يبلغ بهم غاية المراد من الناس لعدم تأهلهم للاضطلاع بذلك ولكنه أمر المرسلين بأكمل الحالات وهي مراده تعالى من الخلق في الغاية ، ولنمثل لذلك بشرب الخمر فقد كان القدر غير المسكر منه مباحا وإنما يحرم السّكر أو لا يحرم أصلا غير أن الأنبياء لم يكونوا يتعاطون القليل من المسكرات وهو المقدار الذي هدى الله إليه هذه الأمة كلها ، فسواء فسرنا المنعم عليهم بالأنبياء أو بأفضل أتباعهم أو المسلمين السابقين فالمقصد

١٩١

الهداية إلى صراط كامل ويكون هذا الدعاء محمولا في كل زمان على ما يناسب طرق الهداية التي سبقت زمانه والتي لم يبلغ إلى نهايتها.

والقول في المطلوب من (اهْدِنَا) على هذه التقادير كلها كالقول فيما تقدم من كون (اهْدِنَا) لطلب الحصول أو الزيادة أو الدوام.

والدعاء مبني على عدم الاعتداد بالنعمة غير الخالصة ، فإن نعم الله على عباده كلهم كثيرة والكافر منعم عليه بما لا يمترى في ذلك ولكنها نعم تحفها آلام الفكرة في سوء العاقبة ويعقبها عذاب الآخرة ، فالخلاف المفروض بين بعض العلماء في أن الكافر هل هو منعم عليه خلاف لا طائل تحته فلا فائدة في التطويل بظواهر أدلة الفريقين.

(غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ).

كلمة غير مجرورة باتفاق القراء العشرة ، وهي صفة للذين أنعمت عليهم ، أو بدل منه والوصف والبدلية سواء في المقصود ، وإنما قدم في «الكشاف» بيان وجه البدلية لاختصار الكلام عليها ليفضي إلى الكلام على الوصفية ، فيورد عليها كيفية صحة توصيف المعرفة بكلمة (غير) التي لا تتعرف ، وإلا فإن جعل (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ) صفة للذين هو الوجه وكذلك أعربه سيبويه فيما نقل عنه أبو حيان ووجهه بأن البدل بالوصف ضعيف إذ الشأن أن البدل هو عين المبدل منه أي اسم ذات له ، يريد أن معنى التوصيف في (غَيْرِ) أغلب من معنى ذات أخرى ليست السابقة ، وهو وقوف عند حدود العبارات الاصطلاحية حتى احتاج صاحب «الكشاف» إلى تأويل (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ) بالذين سلموا من الغضب ، وأنا لا أظن الزمخشري أراد تأويل غير بل أراد بيان المعنى. وإنما صح وقوع (غير) صفة للمعرفة مع قولهم إن غير لتوغلها في الإبهام لا تفيدها الإضافة تعريفا أي فلا يكون في الوصف بها فائدة التمييز فلا توصف بها المعرفة لأن الصفة يلزم أن تكون أشهر من الموصوف ، فغير وإن كانت مضافة للمعرفة إلا أنها لما تضمنه معناها من الإبهام انعدمت معها فائدة التعريف ، إذ كل شيء سوى المضاف إليه هو غير ، فما ذا يستفاد من الوصف في قولك مررت بزيد غير عمرو ، فالتوصيف هنا إما باعتبار كون (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ليس مرادا به فريق معين فكان وزان تعريفه بالصلة وزان المعرف بال الجنسية المسماة عند علماء المعاني بلام العهد الذهني ، فكان في المعنى كالنكرة وإن كان لفظه لفظ المعرفة فلذلك عرف بمثله لفظا ومعنى ، وهو (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ) الذي هو في صورة المعرفة لإضافته لمعرفة وهو في المعنى كالنكرة لعدم إرادة شيء معين ، وإما باعتبار تعريف غير في مثل

١٩٢

هذا لأن غير إذا أريد بها نفي ضد الموصوف أي مساوي نقيضه صارت معرفة ، لأن الشيء يتعرف بنفي ضده نحو عليك بالحركة غير السكون ، فلما كان من أنعم عليه لا يعاقب كان المعاقب هو المغضوب عليه ، هكذا نقل ابن هشام عن ابن السراج والسيرافي وهو الذي اختاره ابن الحاجب في أماليه على قوله تعالى : (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) [النساء : ٩٥] ونقل عن سيبويه أن غيرا إنما لم تتعرف لأنها بمعنى المغاير فهي كاسم الفاعل وألحق بها مثلا وسوى وحسب وقال : إنها تتعرف إذا قصد بإضافتها الثبوت. وكأن مآل المذهبين واحد لأن غيرا إذا أضيفت إلى ضد موصوفها وهو ضد واحد أي إلى مساوي نقيضه تعينت له الغيرية فصارت صفة ثابتة له غير منتقلة ، إذ غيرية الشيء لنقيضه ثابتة له أبدا فقولك عليك بالحركة غير السكون هو غير قولك مررت بزيد غير عمرو وقوله : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) من النوع الأول.

ومن غرض وصف (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) بأنهم (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) التعوذ مما عرض لأمم أنعم الله عليهم بالهداية إلى صراط الخير بحسب زمانهم بدعوة الرسل إلى الحق فتقلدوها ثم طرأ عليهم سوء الفهم فيها فغيروها وما رعوها حق رعايتها ، والتبرّؤ من أن يكونوا مثلهم في بطر النعمة وسوء الامتثال وفساد التأويل وتغليب الشهوات الدنيوية على إقامة الدين حتى حق عليهم غضب الله تعالى ، وكذا التبرؤ من حال الذين هدوا إلى صراط مستقيم فما صرفوا عنايتهم للحفاظ على السير فيه باستقامة ، فأصبحوا من الضالين بعد الهداية إذ أساءوا صفة العلم بالنعمة فانقلبت هدايتهم ضلالا.

والظاهر أنهم لم يحق عليهم غضب الله قبل الإسلام لأنهم ضلوا عن غير تعمد فلم يسبق غضب الله عليهم قديما واليهود من جملة الفريق الأول ، والنصارى من جملة الفريق الثاني كما يعلم من الاطلاع على تاريخ ظهور الدينين فيهم. وليس يلزم اختصاص أول الوصفين باليهود والثاني بالنصارى فإن في الأمم أمثالهم وهذا الوجه في التفسير هو الذي يستقيم معه مقام الدعاء بالهداية إلى الصراط المستقيم ولو كان المرادين اليهودية ودين النصرانية لكان الدعاء تحصيلا للحاصل فإن الإسلام جاء ناسخا لهما.

ويشمل المغضوب عليهم والضالون فرق الكفر والفسوق والعصيان ، فالمغضوب عليهم جنس للفرق التي تعمدت ذلك واستخفت بالديانة عن عمد أو عن تأويل بعيد جدا ، والضالون جنس للفرق التي أخطأت الدين عن سوء فهم وقلة إصغاء ؛ وكلا الفريقين مذموم لأننا مأمورون باتباع سبيل الحق وصرف الجهد إلى إصابته ، واليهود من الفريق الأول

١٩٣

والنصارى من الفريق الثاني. وما ورد في الأثر مما ظاهره تفسير المغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى فهو إشارة إلى أن في الآية تعريضا بهذين الفريقين اللذين حق عليهما هذان الوصفان لأن كلا منهما صار علما فيما أريد التعريض به فيه. وقد تبين لك من هذا أن عطف (وَلَا الضَّالِّينَ) على (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) ارتقاء في التعوذ من شر سوء العاقبة لأن التعوذ من الضلال الذي جلب لأصحابه غضب الله لا يغني عن التعوذ من الضلال الذي لم يبلغ بأصحابه تلك الدركات وذلك وجه تقديم (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) على (وَلَا الضَّالِّينَ) ، لأن الدعاء كان بسؤال النفي ، فالتدرج فيه يحصل بنفي الأضعف بعد نفي الأقوى ، مع رعاية الفواصل.

والغضب المتعلق بالمغضوب عليهم هو غضب الله. وحقيقة الغضب المعروف في الناس أنه كيفية تعرض للنفس يتبعها حركة الروح إلى الخارج وثورانها فتطلب الانتقام ، فالكيفية سبب لطلب الانتقام وطلب الانتقام سبب لحصول الانتقام. والذي يظهر لي أن إرادة الانتقام ليست من لوازم ماهية الغضب بحيث لا تنفك عنه ولكنها قد تكون من آثاره ، وأن الغضب هو كيفية للنفس تعرض من حصول ما لا يلائمها فتترتب عليه كراهية الفعل المغضوب منه وكراهية فاعله ، ويلازمه الإعراض عن المغضوب عليه ومعاملته بالعنف وبقطع الإحسان وبالأذى وقد يفضى ذلك إلى طلب الانتقام منه فيختلف الحد الذي يثور عند الغضب في النفس باختلاف مراتب احتمال النفوس للمنافرات واختلاف العادات في اعتبار أسبابه ، فلعل الذين جعلوا إرادة الانتقام لازمة للغضب بنوا على القوانين العربية.

وإذ كانت حقيقة الغضب يستحيل اتصاف الله تعالى بها وإسنادها إليه على الحقيقة للأدلة القطعية الدالة على تنزيه الله تعالى عن التغيرات الذاتية والعرضية ، فقد وجب على المؤمن صرف إسناد الغضب إلى الله عن معناه الحقيقي ، وطريقة أهل العلم والنظر في هذا الصرف أن يصرف اللفظ إلى المجاز بعلاقة اللزوم أو إلى الكناية باللفظ عن لازم معناه فالذي يكون صفة لله من معنى الغضب هو لازمه ، أعني العقاب والإهانة يوم الجزاء واللعنة أي الإبعاد عن أهل الدين والصلاح في الدنيا أو هو من قبيل التمثيلية.

وكان السلف في القرن الأول ومنتصف القرن الثاني يمسكون عن تأويل هذه المتشابهات لما رأوا في ذلك الإمساك من مصلحة الاشتغال بإقامة الأعمال التي هي مراد الشرع من الناس فلما نشأ النظر في العلم وطلب معرفة حقائق الأشياء وحدث قول الناس في معاني الدين بما لا يلائم الحق ، لم يجد أهل العلم بدا من توسيع أساليب التأويل

١٩٤

الصحيح لإفهام المسلم وكبت الملحد ، فقام الدين بصنيعهم على قواعده ، وتميز المخلص له عن ماكره وجاحده. وكلّ فيما صنعوا على هدى. وبعد البيان لا يرجع إلى الإجمال أبدا. وما تأوّلوه إلا بما هو معروف في لسان العرب مفهوم لأهله.

فغضب الله تعالى على العموم يرجع إلى معاملته الحائدين عن هديه العاصين لأوامره ويترتب عليه الانتقام وهو مراتب أقصاها عقاب المشركين والمنافقين بالخلود في الدرك الأسفل من النار ودون الغضب الكراهية فقد ورد في الحديث : «ويكره لكم قيل وقال وكثرة السؤال» ، ويقابلهما الرضى والمحبة وكل ذلك غير المشيئة والإرادة بمعنى التقدير والتكوين ، (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) [الزمر : ٧] (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ) [الأنعام : ١١٢] (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) [يونس : ٩٩] وتفصيل هذه الجملة في علم الكلام.

واعلم أن الغضب عند حكماء الأخلاق مبدأ من مجموع الأخلاق الثلاثة الأصلية التي يعبر عن جميعها بالعدالة وهي : الحكمة والعفة والشجاعة ، فالغضب مبدأ الشجاعة إلا أن الغضب يعبر به عن مبدأ نفساني لأخلاق كثيرة متطرفة ومعتدلة فيلقّبون بالقوة الغضبية ما في الإنسان من صفات السّبعية وهي حب الغلبة ومن فوائدها دفع ما يضره ولها حد اعتدال وحد انحراف فاعتدالها الشجاعة وكبر الهمة ، وثبات القلب في المخاوف ، وانحرافها إما بالزيادة فهي التهور وشدة الغضب من شيء قليل والكبر والعجب والشراسة والحقد والحسد والقساوة ، أو بالنقصان فالجبن وخور النفس وصغر الهمة فإذا أطلق الغضب لغة انصرف إلى بعض انحراف الغضبية ، ولذلك كان من جوامع كلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أن رجلا قال له أوصني قال : لا تغضب فكرّر مرارا فقال : لا تغضب» رواه الترمذي. وسئل بعض ملوك الفرس بم دام ملككم؟ فقال : لأنا نعاقب على قدر الذنب لا على قدر الغضب. فالغضب المنهي عنه هو الغضب للنّفس لأنه يصدر عنه الظلم والعدوان ، ومن الغضب محمود وهو الغضب لحماية المصالح العامة وخصوصا الدينية وقد ورد أن النبي كان لا يغضب لنفسه فإذا انتهكت حرمة من حرمات الله غضب لله.

وقوله : (وَلَا الضَّالِّينَ) معطوف على (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) كما هو متبادر ، قال ابن عطية ، قال مكي ابن أبي طالب إن دخول (لا) لدفع توهم عطف (الضالين) على (الذين أنعم عليهم) ، وهو توجيه بعيد فالحق أن (لا) مزيدة لتأكيد النفي المستفاد من لفظ (غير) على طريقة العرب في المعطوف على ما في حيز النفي نحو قوله : (أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ

١٩٥

بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ) [المائدة : ١٩] وهو أسلوب في كلام العرب. وقال السيد في «حواشي الكشاف» لئلا يتوهم أن المنفي هو المجموع فيجوّز ثبوت أحدهما ، ولما كانت غير في معنى النفي أجريت إعادة النفي في المعطوف عليها ، وليست زيادة (لا) هنا كزيادتها في نحو : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) [الأعراف : ١٢] كما توهمه بعض المفسرين ؛ لأن تلك الزيادة لفظية ومعنوية لأن المعنى على الإثبات والتي هنا زيادة لفظية فحسب والمعنى على النفي.

والضلال سلوك غير الطريق المراد عن خطإ سواء علم بذلك فهو يتطلب الطريق أم لم يعلم ، ومنه ضالة الإبل ، وهو مقابل الهدى وإطلاق الضال على المخطئ في الدين أو العلم استعارة كما هنا. والضلال في لسان الشرع مقابل الاهتداء والاهتداء هو الإيمان الكامل والضلال ما دون ذلك ، قالوا وله عرض عريض أدناه ترك السنن وأقصاه الكفر. وقد فسرنا الهداية فيما تقدم أنها الدلالة بلطف ، فالضلال عدم ذلك ، ويطلق على أقصى أنواعه الختم والطبع والأكنّة.

والمراد من المغضوب عليهم والضالين جنسا فرق الكفر ، فالمغضوب عليهم جنس للفرق التي تعمدت ذلك واستحقت بالديانة عن عمد وعن تأويل بعيد جدا تحمل عليه غلبة الهوى ، فهؤلاء سلكوا من الصراط الذي خط لهم مسالك غير مستقيمة فاستحقوا الغضب لأنهم أخطئوا عن غير معذرة إذ ما حملهم على الخطأ إلا إيثار حظوظ الدنيا.

والضالون جنس للفرق الذين حرفوا الديانات الحق عن عمد وعن سوء فهم وكلا الفريقين مذموم معاقب لأن الخلق مأمورون باتباع سبيل الحق وبذل الجهد إلى إصابته والحذر من مخالفة مقاصده.

وإذ قد تقدم ذكر المغضوب عليهم وعلم أن الغضب عليهم لأنهم حادوا عن الصراط الذي هدوا إليه فحرموا أنفسهم من الوصول به إلى مرضاة الله تعالى ، وأن الضالين قد ضلوا الصراط ، فحصل شبه الاحتباك وهو أن كلا الفريقين نال حظا من الوصفين إلا أن تعليق كل وصف على الفريق الذي علق عليه يرشد إلى أن الموصوفين بالضالين هم دون المغضوب عليهم في الضلال فالمراد المغضوب عليهم غضبا شديدا لأن ضلالهم شنيع. فاليهود مثل للفريق الأول والنصارى من جملة الفريق الثاني كما ورد به الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في «جامع الترمذي» وحسّنه. وما ورد في الأثر من تفسير المغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى ، فهو من قبيل التمثيل بأشهر الفرق التي حق عليها هذان

١٩٦

الوصفان ، فقد كان العرب يعرفون اليهود في خيبر والنضير وبعض سكان المدينة وفي عرب اليمن. وكانوا يعرفون نصارى العرب مثل تغلب وكلب وبعض قضاعة ، وكل أولئك بدلوا وغيروا وتنكبوا عن الصراط المستقيم الذي أرشدهم الله إليه وتفرقوا في بنيات الطرق على تفاوت في ذلك.

فاليهود تمردوا على أنبيائهم وأحبارهم غير مرة وبدلوا الشريعة عمدا فلزمهم وصف المغضوب عليهم وعلق بهم في آيات كثيرة. والنصارى ضلوا بعد الحواريين وأساءوا فهم معنى التقديس في عيسى عليه‌السلام فزعموه ابن الله على الحقيقة قال تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ) [المائدة : ٧٧]. وفي وصف الصراط المسئول في قوله : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) بالمستقيم إيماء إلى أن الإسلام واضح الحجة قويم المحجة لا يهوى أهله إلى هوة الضلالة كما قال تعالى : (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً) [الأنعام : ١٦١] وقال : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) [الأنعام : ١٥٣] ، على تفاوت في مراتب إصابة مراد الله تعالى ولذلك قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من اجتهد وأصاب فله أجران ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد» ولم يترك بيان الشريعة مجاري اشتباه بين الخلاف الذي تحيط به دائرة الإسلام والخلاف الذي يخرج بصاحبه عن محيط الإسلام قال تعالى : (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) [النمل : ٧٩].

واختلف القراء في حركة هاء الضمير من قوله : (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ، وقوله : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) ، وما ضاهاهما من كل ضمير جمع وتثنية مذكر ومؤنث للغائب وقع بعد ياء ساكنة ، فالجمهور قرءوها بكسر الهاء تخلصا من الثقل لأن الهاء حاجز غير حصين فإذا ضمت بعد الياء فكأن ضمتها قد وليت الكسرة أو الياء الساكنة وذلك ثقيل وهذه لغة قيس وتميم وسعد بن بكر. وقرأ حمزة عليهم وإليهم ولديهم فقط بضم الهاء وما عداها بكسر الهاء نحو إليهما وصياصيهم وهي لغة قريش والحجازيين. وقرأ يعقوب كل ضمير من هذا القبيل مما قبل الهاء فيه ياء ساكنة بضم الهاء. وقد ذكرنا هذا هنا فلا نعيد ذكره في أمثاله وهو مما يرجع إلى قواعد علم القراءات في هاء الضمير.

واختلفوا أيضا في حركة ميم ضمير الجمع الغائب المذكر في الوصل إذا وقعت قبل متحرك فالجمهور قرءوا : (عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) بسكون الميم وقرأ ابن كثير وأبو جعفر وقالون في رواية عنه بضمة مشبعة : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) وهي لغة بعض العرب

١٩٧

وعليها قول لبيد :

وهمو فوارسها وهم حكامها

فجاء باللغتين ، وقرأ ورش بضم الميم وإشباعها إذا وقع بعد الميم همز دون نحو :

(غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) وأجمع الكل على إسكان الميم في الوقف.

١٩٨

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

٢ ـ سورة البقرة

كذا سميت هذه السورة سورة البقرة في المروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما جرى في كلام السلف ، فقد ورد في «الصحيح» أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة كفتاه» ، وفيه عن عائشة : «لما نزلت الآيات من آخر البقرة في الربا قرأهن رسول الله ثم قام فحرم التجارة في الخمر».

ووجه تسميتها أنها ذكرت فيها قصة البقرة التي أمر الله بني إسرائيل بذبحها لتكون آية ووصف سوء فهمهم لذلك ، وهي مما انفردت به هذه السورة بذكره ، وعندي أنها أضيفت إلى قصة البقرة تمييزا لها عن السور آل الم من الحروف المقطعة لأنهم كانوا ربما جعلوا تلك الحروف المقطعة أسماء للسور الواقعة هي فيها وعرفوها بها نحو : طه ، ويس ، وص وفي الاتفاق عن «المستدرك» أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنها سنام القرآن» وسنام كل شيء أعلاه وهذا ليس علما لها ولكنه وصف تشريف. وكذلك قول خالد بن معدان إنها فسطاط القرآن والفسطاط ما يحيط بالمكان لإحاطتها بأحكام كثيرة.

نزلت سورة البقرة بالمدينة بالاتفاق وهي أول ما نزل في المدينة ، وحكى ابن حجر في «شرح البخاري» الاتفاق عليه ، وقيل نزلت سورة المطففين قبلها بناء على أن سورة المطففين مدنية ، ولا شك أن سورة البقرة فيها فرض الصيام ، والصيام فرض في السنة الأولى من الهجرة ، فرض فيها صوم عاشوراء ثم فرض صيام رمضان في السنة الثانية لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صام سبع رمضانات أولها رمضان من العام الثاني من الهجرة ، فتكون سورة البقرة نزلت في السنة الأولى من الهجرة في أواخرها أو في الثانية.

وفي البخاري عن عائشة «ما نزلت سورة البقرة إلا وأنا عنده» (تعني النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم) وكان بناء رسول الله على عائشة في شوال من السنة الأولى للهجرة ، وقيل في أول السنة

١٩٩

الثانية ، وقد روى عنها أنها مكثت عنده تسع سنين فتوفي وهي بنت ثمان عشرة سنة وبنى بها وهي بنت تسع سنين ، إلا أن اشتمال سورة البقرة على أحكام الحج والعمرة وعلى أحكام القتال من المشركين في الشهر الحرام والبلد الحرام ينبئ بأنها استمر نزولها إلى سنة خمس وسنة ست كما سنبينه عند آية : (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) [البقرة : ١٩٦] وقد يكون ممتدا إلى ما بعد سنة ثمان كما يقتضيه قوله : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) ـ الآيات إلى قوله ـ (لِمَنِ اتَّقى) [البقرة : ١٩٧ ـ ٢٠٣]. على أنه قد قيل إن قوله : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) [البقرة : ٢٨١] الآية هو آخر ما نزل من القرآن ، وقد بينا في المقدمة الثامنة أنه قد يستمر نزول السورة فتنزل في أثناء مدة نزولها سور أخرى.

وقد عدت سورة البقرة السابعة والثمانين في ترتيب نزول السور نزلت بعد سورة المطففين وقبل آل عمران.

وإذ قد كان نزول هذه السورة في أول عهد بإقامة الجامعة الإسلامية واستقلال أهل الإسلام بمدينتهم كان من أول أغراض هذه السورة تصفية الجامعة الإسلامية من أن تختلط بعناصر مفسدة لما أقام الله لها من الصلاح سعيا لتكوين المدينة الفاضلة النقية من شوائب الدجل والدخل.

وإذ كانت أول سورة نزلت بعد الهجرة فقد عني بها الأنصار وأكبوا على حفظها ، يدل لذلك ما جاء في السيرة أنه لما انكشف المسلمون يوم حنين قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للعباس : «اصرخ يا معشر الأنصار يا أهل السّمرة (يعني شجرة البيعة في الحديبية) يا أهل سورة البقرة» فقال الأنصار : لبيك لبيك يا رسول الله أبشر. وفي «الموطأ» قال مالك إنه بلغه أن عبد الله بن عمر مكث على سورة البقرة ثماني سنين يتعلمها ، وفي «صحيح البخاري» : كان نصراني أسلم فقرأ البقرة وآل عمران وكان يكتب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم ارتد إلى آخر القصة.

وعدد آيها مائتان وخمس وثمانون آية عند أهل العدد بالمدينة ومكة والشام ، وست وثمانون عند أهل العدد بالكوفة ، وسبع وثمانون عند أهل العدد بالبصرة.

محتويات هذه السورة

هذه السورة مترامية أطرافها ، وأساليبها ذات أفنان ، قد جمعت من وشائج أغراض السور ما كان مصداقا لتلقيبها فسطاط القرآن ، فلا تستطيع إحصاء محتوياتها بحسبان ، وعلى الناظر أن يترقب تفاصيل منها فيما يأتي لنا من تفسيرها ، ولكن هذا لا يحجم بنا

٢٠٠