تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٣٥

والعبادة في الأصل التذلل والخضوع وقد تقدم القول فيها عند قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) [الفاتحة : ٥] ولما كان التذلل والخضوع إنما يحصل عن صدق اليقين كان الإيمان بالله وتوحيده بالإلهية مبدأ العبادة لأن من أشرك مع المستحق ما ليس بمستحق فقد تباعد عن التذلل والخضوع له. فالمخاطب بالأمر بالعبادة المشركون من العرب والدهريون منهم وأهل الكتاب والمؤمنون كل بما عليه من واجب العبادة من إثبات الخالق ومن توحيده ، ومن الإيمان بالرسول ، والإسلام للدين والامتثال لما شرعه إلى ما وراء ذلك كله حتى منتهى العبادة ولو بالدوام والمواظبة بالنسبة إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين معه فإنهم مشمولون للخطاب على ما تقرر في الأصول ، فالمأمورية هو القدر المشترك حتى لا يلزم استعمال المشترك في معانيه عند من يأبى ذلك الاستعمال وإن كنا لا نأباه إذا صلح له السياق بدليل تفريع قوله بعد ذلك : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) [البقرة : ٢٢] على قوله : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) الآية. فليس في هذه الآية حجة للقول بخطاب الكفار بفروع الشريعة لأن الأمر بالعبادة بالنسبة إليهم إنما يعنى به الإيمان والتوحيد وتصديق الرسول ، وخطابهم بذلك متفق عليه وهي مسألة سمجة.

وقد مضى القول في معنى الرب عند قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) في سورة الفاتحة [٢]. ووجه العدول عن غير طريق الإضافة من طرق التعريف نحو العلمية إذ لم يقل اعبدوا الله ، لأن في الإتيان بلفظ الرب إيذانا بأحقية الأمر بعبادته فإن المدبر لأمور الخلق هو جدير بالعبادة لأن فيها معنى الشكر وإظهار الاحتياج.

وإفراد اسم الرب دل على أن المراد رب جميع الخلق وهو الله تعالى إذ ليس ثمة رب يستحق هذا الاسم بالإفراد والإضافة إلى جميع الناس إلا الله ، فإن المشركين وإن أشركوا مع الله آلهة إلا أن بعض القبائل كان لها مزيد اختصاص ببعض الأصنام ، كما كان لثقيف مزيد اختصاص باللات كما تقدم في سورة الفاتحة وتبعهم الأوس والخزرج كما سيأتي في تفسير قوله تعالى : (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ) [البقرة : ١٥٨] في هذه السورة فالعدول إلى الإضافة هنا لأنها أخصر طريق في الدلالة على هذا المقصد فهي أخصر من الموصول فلو أريد غير الله لقيل اعبدوا أربابكم فلا جرم كان قوله : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) صريحا في أنه دعوة إلى توحيد الله ولذلك فقوله : (الَّذِي خَلَقَكُمْ) زيادة بيان لموجب العبادة ، أو زيادة بيان لما اقتضته الإضافة من تضمن معنى الاختصاص بأحقية العبادة.

وقوله : (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) يفيد تذكير الدهريين من المخاطبين الذين يزعمون أنهم

٣٢١

إنما خلقهم آباؤهم فقالوا (نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) [الجاثية : ٢٤] فكان قوله : (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) تذكيرا لهم بأن آباءهم الأولين لا بد أن ينتهوا إلى أب أول فهو مخلوق لله تعالى. ولعل هذا هو وجه التأكيد بزيادة حرف (من) في قوله : (مِنْ قَبْلِكُمْ) الذي يمكن الاستغناء عنه بالاقتصار على (قَبْلِكُمْ) ، لأن (من) في الأصل للابتداء فهي تشير إلى أول الموصوفين بالقبلية فذكرها هنا استرواح لأصل معناها مع معنى التأكيد الغالب عليها إذا وقعت مع قبل وبعد.

والخلق أصله الإيجاد على تقدير وتسوية ومنه خلق الأديم إذا هيأه ليقطعه ويخرزه ، قال جبير في هرم بن سنان :

ولأنت تفري ما خلقت وبع

ض القوم يخلق ثم لا يفري

وأطلق الخلق في القرآن وكلام الشريعة على إيجاد الأشياء المعدومة فهو إخراج الأشياء من العدم إلى الوجود إخراجا لا صنعة فيه للبشر فإن إيجاد البشر بصنعتهم أشياء إنما هو تصويرها بتركيب متفرق أجزائها وتقدير مقادير مطلوبة منها كصانع الخزف فالخلق وإيجاد العوالم وأجناس الموجودات وأنواعها وتولد بعضها عن بعض بما أودعت الخلقة الإلهية فيها من نظام الإيجاد مثل تكوين الأجنة في الحيوان في بطونه وبيضه وتكوين الزرع في حبوب الزريعة وتكوين الماء في الأسحبة فذلك كله خلق وهو من تكوين الله تعالى ولا عبرة بما قد يقارن بعض ذلك الإيجاد من علاج الناس كالتزوج وإلقاء الحب والنوى في الأرض للإنبات ، فالإيجاد الذي هو الإخراج من العدم إلى الوجود بدون عمل بشري خص باسم الخلق في اصطلاح الشرع ، لأن لفظ الخلق هو أقرب الألفاظ في اللغة العربية دلالة على معنى الإيجاد من العدم الذي هو صفة الله تعالى وصار ذلك مدلول مادة خلق في اصطلاح أهل الإسلام فلذلك خص إطلاقه في لسان الإسلام بالله تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [النحل : ١٧] وقال : (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) [فاطر : ٣] وخص اسم الخالق به تعالى فلا يطلق على غيره ولو أطلقه أحد على غير الله تعالى بناء على الحقيقة اللغوية لكان إطلاقه عجرفة فيجب أن ينبه على تركه.

وقال الغزالي في «المقصد الأسنى» : لا حظ للعبد في اسمه تعالى الخالق إلا بوجه من المجاز بعيد فإذا بلغ في سياسة نفسه وسياسة الخلق مبلغا ينفرد فيه باستنباط أمور لم يسبق إليها ويقدر مع ذلك على فعلها كان كالمخترع لما لم يكن له وجود من قبل فيجوز إطلاق الاسم (أي الخالق) عليه مجازا ا ه. فجعل جواز إطلاق فعل الخلق على اختراع

٣٢٢

بعض العباد مشروطا بهذه الحالة النادرة ومع ذلك جعله مجازا بعيدا فما حكاه الله في القرآن من قول عيسى عليه‌السلام : أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طائرا بإذن الله [آل عمران : ٤٩] وقول الله تعالى : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي) [المائدة : ١١٠] فإن ذلك مراعى فيه أصل الإطلاق اللغوي قبل غلبة استعمال مادة خلق في الخلق الذي لا يقدر عليه إلا الله تعالى. ثم تخصيص تلك المادة بتكوين الله تعالى الموجودات ومن أجل ذلك قال الله تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون : ١٤].

وجملة : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) تعليل للأمر باعبدوا فلذلك فصلت ، أي أمرتكم بعبادته لرجاء منكم أن تتقوا.

«ولعل» حرف يدل على الرجاء ، والرجاء هو الإخبار عن تهيئ وقوع أمر في المستقبل وقوعا مؤكدا ، فتبين أن لعل حرف مدلوله خبري لأنها إخبار عن تأكد حصول الشيء (١) ومعناها مركب من رجاء المتكلم في المخاطب وهو معنى جزئي حرفي. وقد شاع عند المفسرين وأهل العلوم الحيرة في محمل لعل الواقعة من كلام الله تعالى لأن معنى الترجي يقتضي عدم الجزم بوقوع المرجو عند المتكلم فللشك جانب في معناها حتى قال الجوهري : «لعل كلمة شك» وهذا لا يناسب علم الله تعالى بأحوال الأشياء قبل وقوعها ولأنها قد وردت في أخبار مع عدم حصول المرجو لقوله تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) [الأعراف : ١٣] مع أنهم لم يتذكروا كما بينته الآيات من بعد.

ولهم في تأويل لعل الواقعة في كلام الله تعالى وجوه :

أحدها قال سيبويه : «لعل على بابها والترجي أو التوقع إنما هو في حيز المخاطبين ا ه. يعني أنها للإخبار بأن المخاطب يكون مرجوا ، واختاره الرضي قائلا لأن الأصل أن لا تخرج عن معناها بالكلية.

وأقول لا يعني سيبويه أن ذلك معنى أصل لها ولكنه يعني أنها مجاز قريب من معنى الحقيقة لوقوع التعجيز في أحد جزأي المعنى الحقيقي لأن الرجاء يقتضي راجيا ومرجوا

__________________

(١) وليس فيها معنى إنشائي طلبي ولذلك لم ينصبوا الفعل في جوابها بعد الفاء والواو بخلاف جواب التمني ولذلك لم ينصب فأطلع من قوله تعالى : (لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ) [غافر : ٣٦ ، ٣٧] ، إلا في رواية حفص عن عاصم.

٣٢٣

منه فحرف الرجاء على معنى فعل الرجاء إلا أنه معنى جزئي ، وكل من الفاعل والمفعول مدلول لمعنى الفعل بالالتزام ، فإذا دلت قرينة على تعطيل دلالة حرف الرجاء على فاعل الرجاء لم يكن في الحرف أو الفعل تمجز ، إذ المجاز إنما يتطرق للمدلولات اللغوية لا العقلية وكذلك إذا لم يحصل الفعل المرجو.

ثانيها : أن لعل للإطماع تقول للقاصد لعلك تنال بغيتك ، قال الزمخشري : «وقد جاءت على سبيل الإطماع في مواضع من القرآن». والإطماع أيضا معنى مجازي للرجاء لأن الرجاء يلزمه التقريب والتقريب يستلزم الإطماع فالإطماع لازم بمرتبتين.

ثالثها : أنها للتعليل بمعنى كي قاله قطرب وأبو علي الفارسي وابن الأنباري ؛ وأحسب أن مرادهم هذا المعنى في المواقع التي لا يظهر فيها معنى الرجاء ، فلا يرد عليهم أنه لا يطرد في نحو قوله : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ) [الشورى : ١٧] لصحة معنى الرجاء بالنسبة للمخاطب ولا يرد عليهم أيضا أنه إثبات معنى في (لعل) لا يوجد له شاهد من كلام العرب وجعله الزمخشري قولا متفرعا على قول من جعلها للإطماع فقال : «ولأنه إطماع من كريم إذا أطمع فعل» قال من قال : إن لعل بمعنى كي ، يعني فهو معنى مجازي ناشئ عن مجاز آخر ، فهو من تركيب المجاز على اللزوم بثلاث مراتب.

رابعها : ما ذهب إليه صاحب «الكشاف» أنها استعارة فقال : «ولعل واقعة في الآية موقع المجاز لأن الله تعالى خلق عباده ليتعبدهم ووضع في أيديهم زمام الاختيار وأراد منهم الخير والتقوى فهم في صورة المرجو منهم أن يتقوا ليترجح أمرهم وهم مختارون بين الطاعة والعصيان كما ترجحت حال المرتجى بين أن يفعل وأن لا يفعل ومصداقه قوله تعالى : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [هود : ٧] وإنما يبلي ويختبر من تخفي عنه العواقب ولكن شبه بالاختبار بناء أمرهم على الاختيار فكلام «الكشاف» يجعل لعل في كلامه تعالى استعارة تمثيلية لأنه جعلها تشبيه هيئة مركبة من شأن المزيد والمراد منه والإرادة بحال مركبة من الراجي والمرجو منه والرجاء فاستعير المركب الموضوع للرجاء لمعنى المركب الدال على الإرادة.

وعندي وجه آخر مستقل وهو : «أن لعل الواقعة في مقام تعليل أمر أو نهي لها استعمال يغاير استعمال لعل المستأنفة في الكلام سواء وقعت في كلام الله أم في غيره ، فإذا قلت افتقد فلانا لعلك تنصحه كان إخبارا باقتراب وقوع الشيء وأنه في حيز الإمكان إن تم ما علق عليه فأما اقتضاؤه عدم جزم المتكلم بالحصول فذلك معنى التزامي أغلبي قد

٣٢٤

يعلم انتفاؤه بالقرينة وذلك الانتفاء في كلام الله أوقع ، فاعتقادنا بأن كل شيء لم يقع أو لا يقع في المستقبل هو القرينة على تعطيل هذا المعنى الالتزامي دون احتياج إلى التأويل في معنى الرجاء الذي تفيده لعل حتى يكون مجازا أو استعارة لأن لعل إنما أتى بها لأن المقام يقتضي معنى الرجاء فالتزام تأويل هذه الدلالة في كل موضع في القرآن تعطيل لمعنى الرجاء الذي يقتضيه المقام والجماعة لجئوا إلى التأويل لأنهم نظروا إلى لعل بنظر متحد في مواقع استعمالها بخلاف لعل المستأنفة فإنها أقرب إلى إنشاء الرجاء منها إلى الإخبار به. وعلى كل فمعنى لعل غير معنى أفعال المقاربة.

والتقوى هي الحذر مما يكره ، وشاعت عند العرب والمتدينين في أسبابها ، وهو حصول صفات الكمال التي يجمعها التدين ، وقد تقدم القول فيها عند قوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢]. ولما كانت التقوى نتيجة العبادة جعل رجاؤها أثرا للأمر بالعبادة وتقدم عند قوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) فالمعنى اعبدوا ربكم رجاء أن تتقوا فتصبحوا كاملين متقين ، فإن التقوى هي الغاية من العبادة فرجاء حصولها عند الأمر بالعبادة وعند عبادة العابد أو عند إرادة الخلق والتكوين واضح الفائدة.

[٢٢] (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢))

(الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ).

يتعين أن قوله : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) صفة ثانية للرب لأن مساقها مساق قوله : (الَّذِي خَلَقَكُمْ) [البقرة : ٢١] ، والمقصود الإيماء إلى سبب آخر لاستحقاقه العبادة وإفراده بها فإنه لما أوجب عبادته أنه خالق الناس كلهم أتبع ذلك بصفة أخرى تقتضي عبادتهم إياه وحده ، وهي نعمه المستمرة عليهم مع ما فيها من دلائل عظيم قدرته فإنه مكن لهم سبل العيش وأولها المكان الصالح للاستقرار عليه بدون لغوب فجعله كالفراش لهم ومن إحاطة هذا القرار بالهواء النافع لحياتهم والذي هو غذاء الروح الحيواني ، وذلك ما أشير إليه بقوله : (وَالسَّماءَ بِناءً) وبكون تلك الكرة الهوائية واقية الناس من إضرار طبقات فوقها متناهية في العلو ، من زمهرير أو عناصر غريبة قاتلة خانقة ، فالكرة الهوائية جعلت فوق هذا العالم فهي كالبناء له ونفعها كنفع البناء فشبهت به على

٣٢٥

طريقة التشبيه البليغ وبأن أخرج للناس ما فيه إقامة أود حياتهم باجتماع ماء السماء مع قوة الأرض وهو الثمار.

والمراد بالسماء هنا إطلاقها العرفي عند العرب وهو ما يبدو للناظر كالقبة الزرقاء وهو كرة الهواء المحيط بالأرض كما هو المراد في قوله : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) [البقرة : ١٩] وهذا هو المراد الغالب إذا أطلق السماء بالإفراد دون الجمع.

ومعنى جعل الأرض فراشا أنها كالفراش في التمكن من الاستقرار والاضطجاع عليها وهو أخص أحوال الاستقرار. والمعنى أنه جعلها متوسطة بين شدة الصخور بحيث تؤلم جلد الإنسان وبين رخاوة الحمأة بحيث يتزحزح الكائن فوقها ويسوخ فيها وتلك منة عظيمة.

وأما وجه شبه السماء بالبناء فهو أن الكرة الهوائية جعلها الله حاجزة بين الكرة الأرضية وبين الكرة الأثيرية فهي كالبناء فيما يراد له البناء وهو الوقاية من الأضرار النازلة ، فإن للكرة الهوائية دفعا لأضرار أظهرها دفع ضرر طغيان مياه البحار على الأرض ودفع أضرار بلوغ أهوية تندفع عن بعض الكواكب إلينا وتلطيفها حتى تختلط بالهواء أو صد الهواء إياها عنا مع ما في مشابهة منظر الكرة الهوائية لهيئة القبة ، والقبة بيت من أدم مقبب وتسمى بناء ، والبناء في كلام العرب ما يرفع سمكه على الأرض للوقاية سواء كان من حجر أو من أدم أو من شعر ، ومنه قولهم : بنى على امرأته إذا تزوج لأن المتزوج يجعل بيتا يسكن فيه مع امرأته وقد اشتهر اطلاق البناء على القبة من أدم ولذلك سموا الأدم الذي تبنى منه القباب مبناة بفتح الميم وكسرها ، وهذا كقوله في سورة الأنبياء [٣٢] : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً).

فإن قلت يقتضي كلامك هذا أن الامتنان بجعل السماء كالبناء لوقاية الناس من قبيل المعجزات العلمية التي أشرت إليها في المقدمة العاشرة وذلك لا يدركه إلا الأجيال التي حدثت بعد زمان النزول فما ذا يكون حظ المسلمين وغيرهم الذين نزلت بينهم الآية : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) [الحشر : ١٠] في عدة أجيال فإن أهل الجاهلية لم يكونوا يشعرون بأن للسماء خاصية البناء في الوقاية وغاية ما كانوا يتخيلونه أن السماء تشبه سقف القبة كما قالت الأعرابية حين سئلت عن معرفة النجوم : أيجهل أحد خرزات معلقة في سقفه فتتمحض الآية لإفادة العبرة بذلك الخلق البديع إلا أنه ليس فيه حظ من الامتنان الذي أفاده قوله : (لَكُمُ) فهل نخص تعلقه بفعل (جَعَلَ) المصرح به دون تعلقه بالفعل

٣٢٦

المطوي تحت واو العطف ، أو بجعله متعلقا بقوله : (فِراشاً) فيكون قوله : (وَالسَّماءَ بِناءً) معطوفا على معمول فعل الجعل المجرد عن التقييد بالمتعلق.

قلت : هذا يفضي إلى التحكم في تعلق قوله : (لَكُمُ) تحكما لا يدل عليه دليل للسامع بل الوجه أن يجعل (لَكُمُ) متعلقا بفعل (جَعَلَ) ويكفي في الامتنان بخلق السماء إشعار السامعين لهذه الآية بأن في خلق السماء على تلك الصفة ما في إقامة البناء من الفوائد على الإجمال ليفرضه السامعون على مقدار قرائحهم وأفهامهم ثم يأتي تأويله في قابل الأجيال.

وحذف (لكم) عند ذكر السماء إيجازا لأن ذكره في قوله : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ) دليل عليه.

و (جعل) إن كانت بمعنى أوجد فحمل الامتنان هو إن كانتا على هذه الحالة وإن كانت بمعنى صير فهي دالة على أن الأرض والسماء قد انتقلتا من حال إلى حال حتى صارتا كما هما وصار أظهر في معنى الانتقال من صفة إلى صفة وقواعد علم طبقات الأرض (الجيولوجيا) تؤذن بهذا الوجه الثاني فيكون في الآية منتان وعبرتان في جعلهما على ما رأينا وفي الأطوار التي انتقلتا فيهما بقدرة الله تعالى وإذنه فيكون كقوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) إلى قوله : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ) [الأنبياء : ٣٠ ـ ٣٢]

وقد امتن الله وضرب العبرة بأقرب الأشياء وأظهرها لسائر الناس حاضرهم وباديهم وبأول الأشياء في شروط هذه الحياة ، وفيهما أنفع الأشياء وهما الهواء والماء النابع من الأرض وفيهما كانت أول منافع البشر. وفي تخصيص الأرض والسماء بالذكر نكتة أخرى وهي التمهيد لما سيأتي من قوله : (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) إلخ. وابتدأ بالأرض لأنها أول ما يخطر ببال المعتبر ثم بالسماء لأنه بعد أن ينظر لما بين يديه ينظر إلى ما يحيط به.

وقوله : (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ) إلخ هذا امتنان بما يلحق الإيجاد مما يحفظه من الاختلال وهو خلقة لما تتلفه الحرارة الغريزية والعمل العصبي والدماغي من القوة البدنية ليدوم قوام البدن بالغذاء وأصل الغذاء هو ما يخرج من الأرض وإنما تخرج الأرض النبات بنزول الماء عليها من السماء أي من السحاب والطبقات العليا.

واعلم أن كون الماء نازلا من السماء هو أن تكونه يكون في طبقات الجو من آثار

٣٢٧

البخار الذي في الجو فإن الجو ممتلئ دائما بالأبخرة الصاعدة إليه بواسطة حرارة الشمس من مياه البحار والأنهار ومن نداوة الأرض ومن النبات ولهذا نجد الإناء المملوء ماء فارغا بعد أيام إذا ترك مكشوفا للهواء فإذا بلغ البخار أقطار الجو العالية برد ببرودتها وخاصة في فصل الشتاء فإذا برد مال إلى التميع ، فيصير سحابا ثم يمكث قليلا أو كثيرا بحسب التناسب بين برودة الطبقات الجوية والحرارة البخارية فإذا زادت البرودة عليه انقبض السحاب وثقل وتميع فتجتمع فيه الفقاقيع المائية وتثقل عليه فتنزل مطرا وهو ما أشار له قوله تعالى : (وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ). [الرعد : ١٢] وكذلك إذا تعرض السحاب للريح الآتية من جهة البحر وهي ريح ندية ارتفع الهواء إلى أعلى الجو فبرد فصار مائعا وربما كان السحاب قليلا فساقت إليه الريح سحابا آخر فانضم أحدهما للآخر ونزلا مطرا ، ولهذا غلب المطر بعد هبوب الريح البحرية وفي الحديث : «إذا أنشأت بحرية ثم تشاءمت فتلك عين غديقة»

ومن القواعد أن الحرارة وقلة الضغط يزيدان في صعود البخار وفي قوة انبساطه والبرودة وكثرة الضغط يصيران البخار مائعا وقد جرب أن صعود البخار يزداد بقدر قرب الجهة من خط الاستواء وينقص بقدر بعده عنه وإلى بعض هذا يشير ما ورد في الحديث أن المطر ينزل من صخرة تحت العرش فإن العرش هو اسم لسماء من السماوات والصخرة تقريب لمكان ذي برودة وقد علمت أن المطر تنشئه البرودة فيتميع السحاب فكانت البرودة هي لقاح المطر.

و (من) التي في قوله : (مِنَ الثَّمَراتِ) ليست للتبعيض إذ ليس التبعيض مناسبا لمقام الامتنان بل إما لبيان الرزق المخرج ، وتقديم البيان على المبين شائع في كلام العرب وإما زائدة لتأكيد تعلق الإخراج بالثمرات.

(فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

أتت الفاء لترتيب هاته الجملة على الكلام السابق وهو مترتب على الأمر بالعبادة و (لا) ناهية والفعل مجزوم وليست نافية حتى يكون الفعل منصوبا في جواب الأمر من قوله : (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) والمراد هنا تسببه الخاص وهو حصوله عن دليل يوجبه وهو أن الذي أمركم بعبادته هو المستحق للإفراد بها فهو أخص من مطلق ضد العبادة لأن ضد العبادة عدم العبادة. ولكن لما كان الإشراك للمعبود في العبادة يشبه ترك العبادة جعل ترك الإشراك مساويا لنقيض العبادة لأن الإشراك ما هو إلا ترك لعبادة الله في أوقات تعظيم شركائهم.

٣٢٨

والند بكسر النون المساوي والمماثل في أمر من مجد أو حرب ، وزاد بعض أهل اللغة أن يكون مناوئا أي معاديا ، وكأنهم نظروا إلى اشتقاقه من ند إذا نفر وعاند ، وليس بمتعين لجواز كونه اسما جامدا وأظن أن وجه دلالة الند على المناوأة والمضادة أنها من لوازم المماثلة عرفا عند العرب ، فإن شأن المثل عندهم أن ينافس مماثله ويزاحمه في مراده فتحصل المضادة. ونظيره في عكسه تسميتهم المماثل قريعا ، فإن القريع هو الذي يقارع ويضارب ولما كان أحد لا يتصدى لمقارعة من هو فوقه لخشيته ولا من هو دونه لاحتقاره كانت المقارعة مستلزمة للمماثلة ، وكذلك قولهم قرن للمحارب المكافئ في الشجاعة. ويقال جعل له ندا ، إذا سوى غيره به.

والمعنى لا تثبتوا لله أندادا تجعلونها جعلا وهي ليست أندادا وسماها أندادا تعريضا بزعمهم لأن حال العرب في عبادتهم لها كحال من يسوي بين الله وبينها وإن كان أهل الجاهلية يقولون إن الآلهة شفعاء ويقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله ، وجعلوا الله خالق الآلهة فقالوا في التلبية : «لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك» لكنهم لما عبدوها ونسوا بعبادتها والسعي إليها والنذور عندها وإقامة المواسم حولها عبادة الله ، أصبح عملهم عمل من يعتقد التسوية بينها وبين الله تعالى لأن العبرة بالفعل لا بالقول. وفي ذلك معنى من التعريض بهم ورميهم باضطراب الحال ومناقضة الأقوال للأفعال.

وقوله : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) جملة حالية ومفعول (تَعْلَمُونَ) متروك لأن الفعل لم يقصد تعليقه بمفعول بل قصد إثباته لفاعله فقط فنزل الفعل منزلة اللازم ، والمعنى وأنتم ذو علم. والمراد بالعلم هنا العقل التام وهو رجحان الرأي المقابل عندهم بالجهل على نحو قوله تعالى : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزمر : ٩] وقد جعلت هاته الحال محط النهي والنفي تلميحا في الكلام للجمع بين التوبيخ وإثارة الهمة فإنه أثبت لهم علما ورجاحة الرأي ليثير همتهم ويلفت بصائرهم إلى دلائل الوحدانية ونهاهم عن اتخاذ الآلهة أو نفي ذلك مع تلبسهم به وجعله لا يجتمع مع العلم توبيخا لهم على ما أهملوا من مواهب عقولهم وأضاعوا من سلامة مداركهم. وهذا منزع تهذيبي عظيم ، أن يعمد المربي فيجمع لمن يربيه بين ما يدل على بقية كمال فيه حتى لا يقتل همته باليأس من كماله فإنه إذا ساءت ظنونه في نفسه خارت عزيمته وذهبت مواهبه ، ويأتي بما يدل على نقائص فيه ليطلب الكمال فلا يستريح من الكد في طلب العلى والكمال.

٣٢٩

وقد أومأ قوله : (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) إلى أنهم يعلمون أن الله لا ند له ولكنهم تعاموا وتناسوا فقالوا : «إلا شريكا هو لك».

[٢٣] (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣))

انتقال لإثبات الجزء الثاني من جزئي الإيمان بعد أن تم إثبات الجزء الأول من ذلك بما قدمه من قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) [البقرة : ٢١] إلخ. فتلك هي المناسبة التي اقتضت عطف هذه الجملة على جملة : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) ، ولأن النهي عن أن يجعلوا لله أندادا جاء من عند الله فهم بمظنة أن ينكروا أن الله نهى عن عبادة شفعائه ومقربيه لأنهم من ضلالهم كانوا يدّعون أن الله أمرهم بذلك قال تعالى : (وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ) [الزخرف : ٢٠] فقد اعتلوا لعبادة الأصنام بأن الله أقامها وسائط بينه وبينهم ، فزادت بهذا مناسبة عطف قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) عقب قوله : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) [البقرة : ٢٢]. وأتى بإن في تعليق هذا الشرط وهو كونهم في ريب وقد علم في فن المعاني اختصاص إن بمقام عدم الجزم بوقوع الشرط ، لأن مدلول هذا الشرط قد حفّ به من الدلائل ما شأنه أن يقلع الشرط من أصله بحيث يكون وقوعه مفروضا فيكون الإتيان بإن مع تحقق المخاطب علم المتكلم بتحقق الشرط توبيخا على تحقق ذلك الشرط ، كأن ريبهم في القرآن مستضعف الوقوع.

ووجه ذلك أن القرآن قد اشتطت ألفاظه ومعانيه على ما لو تدبره العقل السليم لجزم بكونه من عند الله تعالى فإنه جاء على فصاحة وبلاغة ما عهدوا مثلهما من فحول بلغائهم ، وهم فيهم متوافرون متكاثرون حتى لقد سجد بعضهم لبلاغته واعترف بعضهم بأنه ليس بكلام بشر. وقد اشتمل من المعاني على ما لم يطرقه شعراؤهم وخطباؤهم وحكماؤهم ، بل وعلى ما لم يبلغ إلى بعضه علماء الأمم. ولم يزل العلم في طول الزمان يظهر خبايا القرآن ويبرهن على صدق كونه من عند الله فهذه الصفات كافية لهم في إدراك ذلك وهم أهل العقول الراجحة والفطنة الواضحة التي دلت عليها أشعارهم وأخبارهم وبداهتهم ومناظرتهم ، والتي شهد لهم بها الأمم في كل زمان ، فكيف يبقى بعد ذلك كله مسلك للريب فيه إليهم فضلا عن أن يكونوا منغمسين فيه.

ووجه الإتيان بفي الدالة على الظرفية الإشارة إلى أنهم قد امتلكهم الريب وأحاط

٣٣٠

بهم إحاطة الظرف بالمظروف. واستعارة (في) لمعنى الملابسة شائعة في كلام العرب كقولهم هو في نعمة.

وأتى بفعل نزّل دون أنزل لأن القرآن نزل نجوما. وقد تقدم في أول التفسير أن فعّل يدل على التقضي شيئا فشيئا على أن صاحب «الكشاف» قد ذكر أن اختياره هنا في مقام التحدي لمراعاة ما كانوا يقولون (لَوْ لا نُزِّلَ)(١)(عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) [الفرقان : ٣٢] فلما كان ذلك من مثارات شبههم ناسب ذكره في تحديهم أن يأتوا بسورة مثله منجمة.

والسورة قطعة من القرآن معينة فتميزه عن غيرها من أمثالها بمبدإ ونهاية تشتمل على ثلاث آيات فأكثر في غرض تام أو عدة أغراض. وجعل لفظ سورة اسما جنسيا لأجزاء من القرآن اصطلاح جاء به القرآن. وهي مشتقة من السور وهو الجدار الذي يحيط بالقرية أو الحظيرة ، فاسم السورة خاص بالأجزاء المعينة من القرآن دون غيره من الكتب وقد تقدم تفصيله في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير ، وإنما كان التحدي بسورة ولم يكن بمقدار سورة من آيات القرآن لأن من جملة وجوه الإعجاز أمورا لا تظهر خصائصها إلا بالنظر إلى كلام مستوفى في غرض من الأغراض وإنما تنزل سور القرآن في أغراض مقصودة فلا غنى عن مراعاة الخصوصيات المناسبة لفواتح الكلام وخواتمه بحسب الغرض ، واستيفاء الغرض المسوق له الكلام ، وصحة التقسيم ، ونكت الإجمال والتفصيل ، وأحكام الانتقال من فن إلى آخر من فنون الغرض ، ومناسبات الاستطراد والاعتراض والخروج والرجوع ، وفصل الجمل ووصلها ، والإيجاز والإطناب ، ونحو ذلك مما يرجع إلى نكت مجموع نظم الكلام ، وتلك لا تظهر مطابقتها جلية إلا إذا تم الكلام واستوفى الغرض حقه ، فلا جرم كان لنظم القرآن وحسن سبكه إعجاز يفوت قدرة البشر هو غير الإعجاز الذي لجمله وتراكيبه وفصاحة ألفاظه. فكانت السورة من القرآن بمنزلة خطبة الخطيب وقصيدة الشاعر لا يحكم لها بالتفوق إلا باعتبارات مجموعها بعد اعتبار أجزائها. قال الطيبي في «حاشية الكشاف» عند قوله تعالى : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ) في سورة الأنفال [١٧] ، «ولسر النظم القرآني كان التحدي بالسورة وإن كانت قصيرة دون الآيات وإن كانت ذوات عدد».

والتنكير للإفراد أو النوعية ، أي بسورة واحدة من نوع السور وذلك صادق بأقل

__________________

(١) في المطبوعة : أنزل.

٣٣١

سورة ترجمت باسم يخصها ، وأقل السور عدد آيات سورة الكوثر ، وقد كان المشركون بالمدينة تبعا للمشركين بمكة وكان نزول هذه السورة في أول العهد بالهجرة إلى المدينة فكان المشركون كلهم ألبا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتداولون الإغراء بتكذيبه وصد الناس عن اتباعه ، فأعيد لهم التحدي بإعجاز القرآن الذي كان قد سبق تحديهم به في سورة يونس وسورة هود وسورة الإسراء.

وقد كان التحدي أولا بالإتيان بكتاب مثل ما نزل منه ففي سورة الإسراء [٨٨] : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً). فلما عجزوا استنزلوا إلى الإتيان بعشر سور مثله في سورة هود (١) ، ثم استنزلوا إلى الإتيان بسورة من مثله في سورة يونس (٢).

والمثل أصله المثيل والمشابه تمام المشابهة فهو في الأصل صفة يتبع موصوفا ثم شاع إطلاقه على الشيء المشابه المكافئ.

والضمير في قوله : (مِنْ مِثْلِهِ) يجوز أن يعود إلى (ما نزّلنا) أي من مثل القرآن ، ويجوز أن يعود إلى (عَبْدِنا) فإن أعيد إلى (ما نزلنا) أي من مثل القرآن فالأظهر أن (من) ابتدائية أي سورة مأخوذة من مثل القرآن أي كتاب مثل القرآن والجار والمجرور صفة لسورة ، ويحتمل أن تكون (من) تبعيضية أو بيانية أو زائدة ، وقد قيل بذلك كله ، وهي وجوه مرجوحة ، وعلى الجميع فالجار والمجرور صفة لسورة ، أي هي بعض مثل ما نزلنا ، ومثل اسم حينئذ بمعنى المماثل ، أو سورة مثل ما نزلنا و (مثل) صفة على احتمالي كون (من) بيانية أو زائدة ، وكل هذه الأوجه تقتضي أن المثل سواء كان صفة أو اسما فهو مثل مقدّر بناء على اعتقادهم وفرضهم ولا يقتضي أن هذا المثل موجود لأن الكلام مسوق مساق التعجيز. وإن أعيد الضمير لعبدنا فمن لتعدية فعل (ائتوا) وهي ابتدائية وحينئذ فالجار والمجرور ظرف لغو غير مستقر. ويجوز كون الجار والمجرور صفة لسورة على أنه ظرف مستقر والمعنى فيهما ائتوا بسورة منتزعة من رجل مثل محمد في الأمية ، ولفظ مثل إذن اسم.

وقد تبين لك أن لفظ (مثل) في الآية لا يحتمل أن يكون المراد به الكناية عن

__________________

(١) في المطبوعة : (يونس) وهو غلط ففي التنزيل (قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) [هود : ١٣].

(٢) في المطبوعة : (هود) وهو غلط ففي التنزيل (قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) [يونس : ٣٨].

٣٣٢

المضاف إليه على طريقة قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] بناء على أن لفظ (مثل) كناية عن المضاف إليه إذ لا يستقيم المعنى أن يكون التقدير فأتوا بسورة من القرآن ، أو من محمد خلافا لمن توهم ذلك من كلام «الكشاف» وإنما لفظ مثل مستعمل في معناه الصريح إلا أنه أشبه المكنّى به عن نفس المضاف هو إليه من حيث إن المثل هنا على تقدير الاسمية غير متحقق الوجود إلا أن سبب انتفاء تحققه هو كونه مفروضا فإن كون الأمر للتعجيز يقتضي تعذر المأمور ، فليس شيء من هاته الوجوه بمقتض وجود مثل للقرآن حتى يراد به بعض الوجوه كما توهمه التفتازانيّ.

وعندي أن الاحتمالات التي احتملها قوله : (مِنْ مِثْلِهِ) كلها مرادة لرد دعاوى المكذبين في اختلاف دعاويهم فإن منهم من قال : القرآن كلام بشر ، ومنهم من قال : هو مكتتب من أساطير الأولين ، ومنهم من قال : إنما يعلمه بشر. وهاته الوجوه في معنى الآية تفند جميع الدعاوى فإن كان كلام بشر فأتوا بمماثله أو بمثله ، وإن كان من أساطير الأولين فأتوا أنتم بجزء من هذه الأساطير ، وإن كان يعلمه بشر فأتوا أنتم من عنده بسورة فما هو ببخيل عنكم إن سألتموه. وكل هذا إرخاء لعنان المعارضة وتسجيل للإعجاز عند عدمها. فالتحدي على صدق القرآن هو مجموع مماثلة القرآن في ألفاظه وتراكيبه ، ومماثلة الرسول المنزّل عليه في أنه أمي لم يسبق له تعليم ولا يعلم الكتب السالفة ، قال تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) [العنكبوت : ٥١]. فذلك معنى المماثلة فلو أتوا بشيء من خطب أو شعر بلغائهم غير مشتمل على ما يشتمل عليه القرآن من الخصوصيات لم يكن ذلك إتيانا بما تحداهم به ، ولو أتوا بكلام مشتمل على معان تشريعية أو من الحكمة من تأليف رجل عالم حكيم لم يكن ذلك إتيانا بما تحداهم به. فليس في جعل (من) ابتدائية إيهام إجزاء أن يأتوا بشيء من كلام بلغائهم لأن تلك مماثلة غير تامة.

وقوله تعالى : (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) معطوف على (فَأْتُوا بِسُورَةٍ) أي ائتوا بها وادعوا شهداءكم. والدعاء يستعمل بمعنى طلب حضور المدعو ، وبمعنى استعطافه وسؤاله لفعل ما ، قال أبو فراس يخاطب سيف الدولة ليفديه من أسر ملك الروم :

دعوتك للجفن القريح المسهد

لديّ وللنوم الطريد المشرد

والشهداء جمع شهيد فعيل بمعنى فاعل من شهد إذا حضر ، وأصله الحاضر قال تعالى : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا) [البقرة : ٢٨٢] ثم استعمل هذا اللفظ فيما يلازمه

٣٣٣

الحضور مجازا أو كناية لا بأصل وضع اللفظ ، وأطلق على النصير على طريقة الكناية فإن الشاهد يؤيد قول المشهود فينصره على معارضه ولا يطلق الشهيد على الإمام والقدوة وأثبته البيضاوي ولا يعرف في كتب اللغة ولا في كلام المفسرين. ولعله انجر إليه من تفسير «الكشاف» لحاصل معنى الآية فتوهمه معنى وضعيا فالمراد هنا ادعوا آلهتكم بقرينة قوله : (مِنْ دُونِ اللهِ) أي ادعوهم من دون الله كدأبكم في الفزع إليهم عند مهماتكم معرضين بدعائهم واستنجادهم عن دعاء الله واللجأ إليه ففي الآية إدماج توبيخهم على الشرك في أثناء التعجيز عن المعارضة وهذا الإدماج من أفانين البلاغة أن يكون مراد البليغ غرضين فيقرن الغرض المسوق له الكلام بالغرض الثاني وفيه تظهر مقدرة البليغ إذ يأتي بذلك الاقتران بدون خروج عن غرضه المسوق له الكلام ولا تكلف. قال الحرث بن حلّزة :

آذنتنا ببينها أسماء

رب ثاو يملّ منه الثّواء

فإن قوله رب ثاو عند ذكر بعد الحبيبة والتحسر منه كناية عن أن ليست هي من هذا القبيل الذي يمل ثواؤه. وقد قضى بذلك حق إرضائها بأنه لا يحفل بإقامة غيرها ، وقد عد الإدماج من المحسنات البديعة وهو جدير بأن يعد في الأبواب البلاغية في مبحث الإطناب أو تخريج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر ، فإن آلهتهم أنصار لهم في زعمهم.

ويجوز أن يكون المراد ادعوا نصراءكم من أهل البلاغة فيكون تعجيزا للعامة والخاصة ، وادعوا من يشهد بمماثلة ما أتيتم به لما نزلنا ، على نحو قوله تعالى : (قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا) [الأنعام : ١٥٠] ويكون قوله : (مِنْ دُونِ اللهِ) على هذه الوجوه حالا من الضمير في (ادعوا) أو من (شهداءكم) أي في حال كونكم غير داعين لذلك الله أو حال كون الشهداء غير الله بمعنى اجعلوا جانب الله الذي أنزل الكتاب كالجانب المشهود عليه فقد أذناكم بذلك تيسيرا عليكم لأن شدة تسجيل العجز تكون بمقدار تيسير أسباب العمل ، وجوز أن يكون (دون) بمعنى أمام وبين يدي يعني ادعوا شهداءكم بين يدي الله ، واستشهد له بقول الأعشى :

تريك القذى من دونها وهي دونه

إذا ذاقها من ذاقها يتمطّق (١)

__________________

(١) يصف الخمر في الصفاء بأنها تريك القذى أمامها من شدة ما تكبر حجمه في نظر العين وهي بينك وبين القذى. وقوله : يتمطق أي يحرك فكيه ولسانه تلذذا بحسن طعمها. وهذا البيت من قصيدته القافية المشهورة.

٣٣٤

كما جوز أن يكون (مِنْ دُونِ اللهِ) بمعنى من دون حزب الله وهم المؤمنون أي أحضروا شهداء من الذين هم على دينكم فقد رضيناهم شهودا فإن البارع في صناعة لا يرضى بأن يشهد بتصحيح فاسدها وعكسه إباءة أن ينسب إلى سوء المعرفة أو الجور ، وكلاهما لا يرضاه ذو المروءة وقديما كانت العرب تتنافر وتتحاكم إلى عقلائها وحكامها فما كانوا يحفظون لهم غلطا أو جورا. وقد قال السموأل :

إنا إذا مالت دواعي الهوى

وأنصت السامع للقائل

لا نجعل الباطل حقا ولا

نلظ دون الحق بالباطل (١)

نخاف أن تسفه أحلامنا

فنخمل الدهر مع الخامل

وعلى هذا التفسير يجىء قول الفقهاء إن شهادة أهل المعرفة بإثبات العيوب أو بالسلامة لا تشترط فيها العدالة ، وكنت أعلل ذلك في دروس الفقه بأن المقصود من العدالة تحقق الوازع عن شهادة الزور ، وقد قام الوازع العلمي في شهادة أهل المعرفة مقام الوازع الديني لأن العارف حريص ما استطاع أن لا يؤثر عنه الغلط والخطأ وكفى بذلك وازعا عن تعمده وكفى بعلمه مظنة لإصابة الصواب فحصل المقصود من الشهادة.

وقوله : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) اعتراض في آخر الكلام وتذييل. أتى بإن الشرطية التي الأصل في شرطها أن يكون غير مقطوع بوقوعه لأن صدقهم غير محتمل الوقوع وإن كنتم صادقين في أن القرآن كلام بشر وإنكم أتيتم بمثله.

والصدق ضد الكذب وهما وصفان للخبر لا يخلو عن أحدهما فالصدق أن يكون مدلول الكلام الخبري مطابقا ومماثلا للواقع في الخارج أي في الوجود الخارجي احترازا عن الوجود الذهني ، والكذب ضد الصدق وهو أن يكون مدلول الكلام الخبري غير مطابق أي غير مماثل للواقع في الخارج ، والكلام موضوع للصدق وأما الكذب فاحتمال عقلي والإنشاء لا يوصف بصدق ولا كذب إذ لا معنى لمطابقته لما في نفس الأمر لأنه إيجاد للمعنى لا للأمور الخارجية. هذا معنى الصدق والكذب في الإطلاق المشهور. وقد يطلق الكذب صفة ذم فيلاحظ في معناه حينئذ أن مخالفته للواقع كانت عن تعمد فتوهم الجاحظ أن ماهية الكذب تتقوم من عدم مطابقة الخبر للواقع وللاعتقاد معا وسرى هذا التقوم إلى ماهية الصدق فجعل قوامها المطابقة للخارج والاعتقاد معا ومن هنا أثبت الواسطة بين

__________________

(١) لظ بالشيء يلظ وألظ به يلظ هما بمعنى لزمه وثابر عليه.

٣٣٥

الصدق والكذب ، وقريب منه قول الراغب ، ويشبه أن يكون الخلاف لفظيا ومحل بسطه في علمي الأصول والبلاغة.

والمعنى إن كنتم صادقين في دعوى أن القرآن كلام بشر ، فحذف متعلق (صادقين) لدلالة ما تقدم عليه ، وجواب الشرط محذوف تدل عليه جملة مقدرة بعد جملة : (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) إذ التقدير فتأتون بسورة من مثله ودل على الجملة المقدرة قوله قبلها : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) وتكون الجملة المقدرة دليلا على جواب الشرط فتصير جملة (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) تكريرا للتحدي.

وفي هذه الآية إثارة لحماسهم إذ عرض بعدم صدقهم فتتوفر دواعيهم على المعارضة.

[٢٤] (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤))

تفريع على الشرط وجوابه ، أي فإن لم تأتوا بسورة أو أتيتم بما زعمتم أنه سورة ولم يستطع ذلك شهداؤكم على التفسيرين فاعلموا أنكم اجترأتم على الله بتكذيب رسوله المؤيد بمعجزة القرآن فاتقوا عقابه المعد لأمثالكم.

ومفعول (تَفْعَلُوا) محذوف يدل عليه السياق أي فإن لم تفعلوا ذلك أي الإتيان بسورة مثله وسيأتي الكلام على حذف المفعول في مثله عند قوله تعالى : (وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) في سورة المائدة [٦٧].

وجيء بإن الشرطية التي الأصل فيها عدم القطع مع أن عدم فعلهم هو الأرجح بقرينة مقام التحدي والتعجيز ؛ لأن القصد إظهار هذا الشرط في صورة النادر مبالغة في توفير دواعيهم على المعارضة بطريق الملاينة والتحريض واستقصاء لهم في إمكانها وذلك من استنزال طائر الخصم وقيد لأوابد مكابرته ومجادلة له بالتي هي أحسن حتى إذا جاء للحق وأنصف من نفسه يرتقي معه في درجات الجدل ؛ ولذلك جاء بعده (وَلَنْ تَفْعَلُوا) كأن المتحدي يتدبر في شأنهم ، ويزن أمرهم فيقول أولا ائتوا بسورة ، ثم يقول : قدروا أنكم لا تستطيعون الإتيان بمثله وأعدوا لهاته الحالة مخلصا منها ثم يقول : ها قد أيقنت وأيقنتم أنكم لا تستطيعون الإتيان بمثله ، مع ما في هذا من توفير دواعيهم على المعارضة بطريق المخاشنة والتحذير.

٣٣٦

ولذلك حسن موقع (لن) الدالة على نفي المستقبل فالنفي بها آكد من النفي بلا ، ولهذا قال سيبويه لا لنفي يفعل ، ولن لنفي سيفعل فقد قال الخليل إن لن حرف مختزل من لا النافية وأن الاستقبالية وهو رأي حسن وإذا كانت لنفي المستقبل تدل على النفي المؤبد غالبا لأنه لما لم يوقت بحد من حدود المستقبل دل على استغراق أزمنته إذ ليس بعضها أولى من بعض ومن أجل ذلك قال الزمخشري بإفادتها التأبيد حقيقة أو مجازا وهو التأكيد ، وقد استقريت مواقعها في القرآن وكلام العرب فوجدتها لا يؤتى بها إلا في مقام إرادة النفي المؤكد أو المؤبد. وكلام الخيل في أصل وضعها يؤيد ذلك فمن قال من النحاة إنها لا تفيد تأكيدا ولا تأبيدا فقد كابر.

وقوله : (وَلَنْ تَفْعَلُوا) من أكبر معجزات القرآن فإنها معجزة من جهتين : الأولى أنها أثبتت أنهم لم يعارضوا لأن ذلك أبعث لهم على المعارضة لو كانوا قادرين ، وقد تأكد ذلك كله بقوله قبل (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [البقرة : ٢٣] وذلك دليل العجز عن الإتيان بمثله فيدل على أنه كلام من قدرته فوق طوق البشر. الثانية أنه أخبر بأنهم لا يأتون بذلك في المستقبل فما أتى أحد منهم ولا ممن خلفهم بما يعارض القرآن فكانت هاته الآية معجزة من نوع الإعجاز بالإخبار عن الغيب مستمرة على تعاقب السنين فإن آيات المعارضة الكثيرة في القرآن قد قرعت بها أسماع المعاندين من العرب الذين أبوا تصديق الرسول وتواترت بها الأخبار بينهم وسارت بها الركبان بحيث لا يسع ادعاء جهلها ، ودواعي المعارضة موجودة فيهم ، ففي خاصتهم بما يأنسونه من تأهلهم لقول الكلام البليغ وهم شعراؤهم وخطباؤهم. وكانت لهم مجامع التقاول ونوادي التشاور والتعاون ، وفي عامتهم وصعاليكهم بحرصهم على حث خاصتهم لدفع مسبة الغلبة عن قبائلهم ودينهم والانتصار لآلهتهم وإيقاف تيار دخول رجالهم في دين الإسلام ، مع ما عرف به العربي من إباءة الغلبة وكراهة الاستكانة. فما أمسك الكافة عن الإتيان بمثل القرآن إلا لعجزهم عن ذلك وذلك حجة على أنه منزل من عند الله تعالى ، ولو عارضه واحد أو جماعة لطاروا به فرحا وأشاعوه وتناقلوه فإنهم اعتادوا تناقل أقوال بلغائهم من قبل أن يغريهم التحدي فما ظنك بهم لو ظفروا بشيء منه يدفعون به عنهم هذه الاستكانة وعدم العثور على شيء يدعى من ذلك يوجب اليقين بأنهم أمسكوا عن معارضته ، وسنبين ذلك بالتفصيل في آخر تفسير هذه الآية.

و (تَفْعَلُوا) الأول مجزوم بلم لا محالة لأن (إن) الشرطية دخلت على الفعل بعد

٣٣٧

اعتباره منفيا فيكون معنى الشرط متسلطا على (لم) وفعلها فظهر أن ليس هذا متنازع بين إن ولم في العمل في (تَفْعَلُوا) لاختلاف المعنيين فلا يفرض فيه الاختلاف الواقع بين النحاة في صحة تنازع الحرفين معمولا واحدا كما توهمه ابن العلج أحد نحاة الأندلس نسبه إليه في «التصريح على التوضيح (١)» على أن الحق أنه لا مانع منه مع اتحاد الاقتضاء من حيث المعنى وقد أخذ جوازه من كلام أبي علي الفارسي في «المسائل الدمشقيات» ومن كتاب «التذكرة» له أنه جعل قول الراجز :

حتى تراها وكأنّ وكأن

أعناقها مشرّفات في قرن

من قبيل التنازع بين كأنّ المشددة وكأن المخففة.

وقوله : (فَاتَّقُوا النَّارَ) أثر لجواب الشرط في قوله : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) دل على جمل محذوفة للإيجاز لأن جواب الشرط في المعنى هو ما جيء بالشرط لأجله وهو مفاد قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) [البقرة : ٢٣] ، فتقدير جواب قوله (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) أنه : فأيقنوا بأن ما جاء به محمد منزل من عندنا وأنه صادق فيما أمركم به من وجوب عبادة الله وحده واحذروا إن لم تمتثلوا أمره عذاب النار ، فوقع قوله : (فَاتَّقُوا النَّارَ) موقع الجواب لدلالته عليه وإيذانه به وهو إيجاز بديع وذلك أن اتقاء النار لم يكن مما يؤمنون به من قبل لتكذيبهم بالبعث فإذا تبين صدق الرسول لزمهم الإيمان بالبعث والجزاء.

وإنما عبّر بلم تفعلوا ولن تفعلوا دون فإن لم تأتوا بذلك ولن تأتوا كما في قوله تعالى : (ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ) إلى قوله : (فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ) [يوسف : ٥٩ ، ٦٠] إلخ لأن في لفظ (تَفْعَلُوا) هنا من الإيجاز ما ليس مثله في الآية الأخرى إذ الإتيان المتحدّى به في هذه الآية إتيان مكيف بكيفية خاصة وهي كون المأتيّ به مثل هذا القرآن ومشهودا عليه ومستعانا عليه بشهدائهم فكان في لفظ (تَفْعَلُوا) من الإحاطة بتلك الصفات والقيود إيجاز لا يقتضيه الإتيان الذي في سورة يوسف.

والوقود بفتح الواو اسم لما يوقد به ، وبالضم مصدر وقيل بالعكس ، وقال ابن عطية حكي الضم والفتح في كل من الحطب والمصدر. وقياس فعول بفتح الفاء أنه اسم لما

__________________

(١) قل من يعرف اسمه ، ولم يترجم له في «البغية». وهو محمد بن عبد الله الإشبيلي له كتاب «البسيط في النحو».

٣٣٨

يفعل به كالوضوء والحنوط والسّعوط والوجور إلّا سبعة ألفاظ وردت بالفتح للمصدر وهي الولوع والقبول والوضوء والطّهور والوزوع واللّغوب والوقود. والفتح هنا هو المتعين لأن المراد الاسم وقرئ بالضم في الشاذ وذلك على اعتبار الضم مصدرا أو على حذف مضاف أي ذوو وقودها الناس.

والناس أريد به صنف منهم وهم الكافرون فتعريفه تعريف الاستغراق العرفي ويجوز أن يكون تعريف العهد لأن كونهم المشركين قد علم من آيات أخرى كثيرة.

والحجارة جمع حجر على غير قياس وهو وزن نادر في كلامهم جمعوا حجرا عن أحجار وألحقوا به هاء التأنيث قال سيبويه كما ألحقوها بالبعولة والفحولة. وعن أبي الهيثم أن العرب تدخل الهاء في كل جمع على فعال أو فعول لأنه إذا وقف عليه اجتمع فيه عند الوقف ساكنان أحدهما الألف الساكنة والثاني الحرف الموقوف عليه أي استحسنوا أن يكون خفيفا إذا وقفوا عليه ، وليس هو من اجتماع الساكنين الممنوع ، ومن ذلك عظامة ونفارة وفحالة وحبالة وذكارة وفحولة وحمولة (جموعا) وبكارة جمع بكر (بفتح الباء) ومهارة جمع مهر.

ومعنى وقودها الحجارة أن الحجر جعل لها مكان الحطب لأنه إذا اشتعل صار أشد إحراقا وأبطأ انطفاء ومن الحجارة أصنامهم فإنها أحجار وقد جاء ذلك صريحا في قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٩٨].

وفي هذه الآية تعريض بتهديد المخاطبين والمعنى المعرض به فاحذروا أن تكونوا أنتم وما عبدتم وقود النار وقرينة التعريض قوله : (فَاتَّقُوا) وقوله : (وَالْحِجارَةُ) لأنهم لما أمروا باتقائها أمر تحذير علموا أنهم هم الناس ، ولما ذكرت الحجارة علموا أنها أصنامهم ، فلزم أن يكون الناس هم عبّاد تلك الأصنام فالتعريض هنا متفاوت فالأول منه بواسطة واحدة والثاني بواسطتين.

وحكمة إلقاء حجارة الأصنام في النار مع أنها لا تظهر فيها حكمة الجزاء أن ذلك تحقير لها وزيادة إظهار خطإ عبدتها فيما عبدوا ، وتكرر لحسرتهم على إهانتها ، وحسرتهم أيضا على أن كان ما أعدوه سببا لعزهم وفخرهم سببا لعذابهم ، وما أعدوه لنجاتهم سببا لعذابهم ، قال تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) الآية.

وتعريف (النار) للعهد ووصفها بالموصول المقتضي علم المخاطبين بالصلة كما هو

٣٣٩

الغالب في صلة الموصول لتنزيل الجاهل منزلة العالم بقصد تحقيق وجود جهنم ، أو لأن وصف جهنم بذلك قد تقرر فيما نزل قبل من القرآن كقوله تعالى في سورة التحريم [٦] : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) وإن كانت سورة التحريم معدودة في السور التي نزلت بعد سورة البقرة فإن في صحة ذلك العد نظرا ، أو لأنه قد علم ذلك عندهم من أخبار أهل الكتاب.

وفي جعل الناس والحجارة وقودا دليل على أن نار جهنم مشتعلة من قبل زجّ الناس فيها وأن الناس والحجارة إنما تتقد بها لأن نار جهنم هي عنصر الحرارة كلها كما أشار إليه حديث «الموطأ» : «إن شدة الحر من فيح جهنم» فإذا اتصل بها الآدمي اشتعل ونضج جلده وإذا اتصلت بها الحجارة صهرت ، وفي الاحتراق بالسيال الكهربائي نموذج يقرّب ذلك للناس اليوم. وروي عن ابن عباس أن جهنم تتقد بحجارة الكبريت فيكون نموذجها البراكين الملتهبة.

وقوله : (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) استئناف لم يعطف لقصد التنبيه على أنه مقصود بالخبرية لأنه لو عطف لأوهم العطف أنه صفة ثانية أو صلة أخرى وجعلة خبرا أهول وأفخم وأدخل للروع في قلوب المخاطبين وهو تعريض بأنها أعدت لهم ابتداء لأن المحاورة معهم.

وهذه الآية قد أثبتت إعجاز القرآن إثباتا متواترا امتاز به القرآن عن بقية المعجزات ، فإن سائر المعجزات للأنبياء ولنبينا عليهم الصلاة والسلام إنما ثبتت بأخبار آحاد وثبت من جميعها قدر مشترك بين جميعها وهو وقوع أصل الإعجاز بتواتر معنوي مثل كرم حاتم وشجاعة عمرو فأما القرآن فإعجازه ثبت بالتواتر النقلي أدرك معجزته العرب بالحس ، وأدركها عامة غيرهم بالنقل ، وقد تدركها الخاصة من غيرهم بالحس كذلك على ما سنبينه.

أما إدراك العرب معجزة القرآن فظاهر من هذه الآية وأمثالها فإنهم كذبوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وناوءوه وأعرضوا عن متابعته فحاجهم على إثبات صدقه بكلام أوحاه الله إليه ، وجعل دليل أنه من عند الله عجزهم عن معارضته فإنه مركب من حروف لغتهم ومن كلماتها وعلى أساليب تراكيبها ، وأودع من الخصائص البلاغية ما عرفوا أمثاله في كلام بلغائهم من الخطباء والشعراء ثم حاكمهم إلى الفصل في أمر تصديقه أو تكذيبه بحكم سهل وعدل ، وهو معارضتهم لما أتى به أو عجزهم عن ذلك نطق بذلك القرآن في غير موضع كهاته الآية فلم يستطيعوا المعارضة فكان عجزهم عن المعارضة لا يعدو أمرين : إما أن يكون

٣٤٠