تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٣٥

وقيل نزلت في بختنصر ملك أشور وغزوه بيت المقدس ثلاث غزوات أولاها في سنة ٦٠٦ قبل المسيح زمن الملك يهوياقيم ملك اليهود سبى فيها جمعا من شعب إسرائيل. والثانية بعد ثمان سنين سبى فيها رؤساء المملكة والملك يهواكين بن يهوياقيم ونهب المسجد المقدس من جميع نفائسه وكنوزه. والثالثة بعد عشر سنين في زمن الملك صدقيا فأسر الملك وسمل عينيه وأحرق المسجد الأقصى وجميع المدينة وسبى جميع بني إسرائيل وانقرضت بذلك مملكة يهوذا وذلك سنة ٥٧٨ قبل المسيح وتسمى هذه الواقعة بالسبي الثالث فهو في كل ذلك قد منع مسجد بيت المقدس من أن يذكر فيه اسم الله وتسبب في خرابه.

وقيل : نزلت في غزو طيطس الروماني لأورشليم سنة ٧٩ قبل المسيح فخرب بيت المقدس وأحرق التوراة وترك بيت المقدس خرابا إلى أن بناه المسلمون بعد فتح البلاد الشامية. وعلى هاتين الروايتين الأخيرتين لا تظهر مناسبة لذكرها عقب ما تقدم فلا ينبغي بناء التفسير عليهما. والوجه هو التعويل على الرواية الأولى وهي المأثورة عن ابن عباس فالمناسبة أنه بعد أن وفي أهل الكتاب حقهم من فضح نواياهم في دين الإسلام وأهله وبيان أن تلك شنشنة متأصلة فيهم مع كل من جاءهم بما يخالف هواهم وكان قد أشار إلى أن المشركين شابهوهم في ذلك عند قوله : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [البقرة : ١٠٥] عطف الكلام إلى بيان ما تفرع عن عدم ودادة المشركين نزول القرآن فبين أن ظلمهم في ذلك لم يبلغه أحد ممن قبلهم إذ منعوا مساجد الله وسدوا طريق الهدى وحالوا بين الناس وبين زيارة المسجد الحرام الذي هو فخرهم وسبب مكانتهم وليس هذا شأن طالب صلاح الخلق بل هذا شأن الحاسد المغتاظ.

والاستفهام بمن إنكاري ولما كان أصل من أنها نكرة موصوفة أشربت معنى الاستفهام وكان الاستفهام الإنكاري في معنى النفي صار الكلام من وقوع النكرة في سياق النفي فلذلك فسروه بمعنى لا أحد أظلم.

والظلم الاعتداء على حق الغير بالتصرف فيه بما لا يرضى به ويطلق على وضع الشيء في غير ما يستحق أن يوضع فيه والمعنيان صالحان هنا.

وإنما كانوا أظلم الناس لأنهم أتوا بظلم عجيب فقد ظلموا المسلمين من المسجد الحرام وهم أحق الناس به وظلموا أنفسهم بسوء السمعة بين الأمم.

٦٦١

وجمع المساجد وإن كان المشركون منعوا الكعبة فقط إما للتعظيم فإن الجمع يجيء للتعظيم كقوله تعالى : (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ) [الفرقان : ٣٧] ، وإما لما فيه من أماكن العبادة وهي البيت والمسجد الحرام ومقام إبراهيم والحطيم ، وإما لما يتصل به أيضا من الخيف ومنى والمشعر الحرام وكلها مساجد والإضافة على هذه الوجوه على معنى لام التعريف العهدي ، وإما لقصد دخول جميع مساجد الله لأنه جمع تعرف بالإضافة ووقع في سياق منع الذي هو في معنى النفي ليشمل الوعيد كل مخرب لمسجد أو مانع من العبادة بتعطيله عن إقامة العبادات ويدخل المشركون في ذلك دخولا أوليا على حكم ورود العام على سبب خاص والإضافة على هذا الوجه على معنى لام الاستغراق ولعل ضمير الجمع المنصوب في قوله : (أَنْ يَدْخُلُوها) يؤيد أن المراد من المساجد مساجد معلومة لأن هذا الوعيد لا يتعدى لكل من منع مسجدا إذ هو عقاب دنيوي لا يلزم اطراده في أمثال المعاقب. والمراد من المنع منع العبادة في أوقاتها الخاصة بها كالطواف والجماعة إذا قصد بالمنع حرمان فريق من المتأهلين لها منها. وليس منه غلق المساجد في غير أوقات الجماعة لأن صلاة الفذ لا تفضل في المسجد على غيره ، وكذلك غلقها من دخول الصبيان والمسافرين للنوم ، وقد سئل ابن عرفة في درس التفسير عن هذا فقال : غلق باب المسجد في غير أوقات الصلاة حفظ وصيانة ا ه. وكذلك منع غير المتأهل لدخوله وقد منع رسول الله المشركين الطواف والحج ومنع مالك الكافر من دخول المسجد ومعلوم منع الجنب والحائض.

والسعي أصله المشي ثم صار مجازا مشهورا في التسبب المقصود كالحقيقة العرفية نحو (ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى) [النازعات : ٢٢] ويعدى بفي الدالة على التعليل نحو : سعيت في حاجتك فالمنع هنا حقيقة على الرواية الأولى المتقدمة في سبب النزول والسعي مجاز في التسبب غير المقصود فهو مجاز على مجاز. وأما على الروايتين الأخريين فالمنع مجاز والسعي حقيقة لأن بختنصر وطيطس لم يمنعا أحدا من الذكر ولكنهما تسببا في الخراب بالأمر بالتخريب فأفضى ذلك إلى المنع وآل إليه.

وقوله : (أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) جملة مستأنفة تغني عن سؤال ناشئ عن قوله : (مَنْ أَظْلَمُ) أو عن قوله : (سَعى) لأن السامع إذا علم أن فاعل هذا أظلم الناس أو سمع هذه الجرأة وهي السعي في الخراب تطلب بيان جزاء من اتصف بذلك أو فعل هذا. ويجوز كونها اعتراضا بين (مَنْ أَظْلَمُ) وقوله : (لَهُمْ فِي الدُّنْيا

٦٦٢

خِزْيٌ).

والإشارة بأولئك بعد إجراء الأوصاف الثلاثة عليهم للتنبيه على أنهم استحضروا بتلك الأوصاف ليخبر عنهم بعد تلك الإشارة بخبرهم جديرون بمضمونه على حد ما تقدم في (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥] وهذا يدل على أن المقصود من هذه الجمل ليس هو بيان جزاء فعلهم أو التحذير منه بل المقصود بيان هاته الحالة العجيبة من أحوال المشركين بعد بيان عجائب أهل الكتاب ثم يرتب العقاب على ذلك حتى تعلم جدارتهم به وقد ذكر لهم عقوبتين دنيوية وهي الخوف والخزي وأخروية وهي العذاب العظيم.

ومعنى (ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) أنهم لا يكون لهم بعد هذه الفعلة أن يدخلوا تلك المساجد التي منعوها إلا وهم خائفون فإن ما كان إذا وقع أن والمضارع في خبرها تدل على نفي المستقبل وإن كان لفظ (كان) لفظ الماضي وأن هذه هي التي تستتر عند مجيء اللام نحو (ما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ) فلا إشعار لهذه الجملة بمضى.

واللام في قوله : (لَهُمْ) للاستحقاق أي ما كان يحق لهم الدخول في حالة إلا في حالة الخوف فهم حقيقيون بها وأحرياء في علم الله تعالى وهذا وعيد بأنهم قدر الله عليهم أن ترفع أيديهم من التصرف في المسجد الحرام وشعائر الله هناك وتصير للمسلمين فيكونوا بعد ذلك لا يدخلون المسجد الحرام إلا خائفين ، ووعد للمؤمنين وقد صدق الله وعده فكانوا يوم فتح مكة خائفين وجلين حتى نادى منادي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «من دخل المسجد الحرام فهو آمن» فدخله الكثير منهم مذعورين أن يؤخذوا بالسيف قبل دخولهم.

وعلى تفسير (مَساجِدَ اللهِ) بالعموم يكون قوله : (ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها) أي منعوا مساجد الله في حال أنهم كان ينبغي لهم أن يدخلوها خاشعين من الله فيفسر الخوف بالخشية من الله فلذلك كانوا ظالمين بوضع الجبروت في موضع الخضوع فاللام على هذا في قوله (ما كانَ لَهُمْ) للاختصاص وهذا الوجه وإن فرضه كثير من المفسرين إلا أن مكان اسم الإشارة المؤذن بأن ما بعده ترتب عما قبله ينافيه لأن هذا الابتغاء متقرر وسابق على المنع والسعي في الخراب.

وقوله : (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) استئناف ثان ولم يعطف على ما قبله ليكون مقصودا الاستئناف اهتماما به لأن المعطوف لكونه تابعا لا يهتم به السامعون كمال الاهتمام ولأنه يجري من الاستئناف الذي قبله مجرى البيان من المبين فإن الخزي خوف والخزي الذل والهوان وذلك ما نال صناديد المشركين يوم بدر من القتل الشنيع والأسر ، وما نالهم يوم

٦٦٣

فتح مكة من خزي الانهزام.

وقوله : (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) عطفت على ما قبلها لأنها تتميم لها إذ المقصود من مجموعهما أن لهم عذابين عذابا في الدنيا وعذابا في الآخرة.

وعندي أن نزول هذه الآية مؤذن بالاحتجاج على المشركين من سبب انصراف النبي عن استقبال الكعبة بعد هجرته فإن منعهم المسلمين من المسجد الحرام أشد من استقبال غير الكعبة في الصلاة على حد قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ) [البقرة : ٢١٧].

[١١٥] (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (١١٥))

لما جاء بوعيدهم ووعد المؤمنين عطف على ذلك تسلية المؤمنين على خروجهم من مكة ونكاية المشركين بفسخ ابتهاجهم بخروج المؤمنين منها وانفرادهم هم بمزية جوار الكعبة فبين أن الأرض كلها لله تعالى وأنها ما تفاضلت جهاتها إلا بكونها مظنة للتقرب إليه تعالى وتذكر نعمه وآياته العظيمة فإذا كانت وجهة الإنسان نحو مرضاة الله تعالى فأينما تولى فقد صادف رضى الله تعالى كانت وجهته الكفر والغرور والظلم فما يغني عنه العياذ بالمواضع المقدسة بل هو فيها دخيل لا يلبث أن يقلع منها قال تعالى : (وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) [الأنفال : ٣٤] وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم في بني إسرائيل : «نحن أحق بموسى منهم».

فالمراد من (الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) في الآية تعميم جهات الأرض لأنها تنقسم بالنسبة إلى مسير الشمس قسمين قسم يبتدئ من حيث تطلع الشمس وقسم ينتهي في حيث تغرب وهو تقسيم اعتباري كان مشهورا عند المتقدمين لأنه المبني على المشاهدة مناسب لجميع الناس والتقسيم الذاتي للأرض هو تقسيمها إلى شمالي وجنوبي لأنه تقسيم ينبني على اختلاف آثار الحركة الأرضية.

وقد قيل إن هذه الآية إذن للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يتوجه في الصلاة إلى أية جهة شاء ، ولعل مراد هذا القائل أن الآية تشير إلى تلك المشروعية لأن الظاهر أن الآية نزلت قبيل نسخ استقبال بيت المقدس إذ الشأن توالى نزول الآيات وآية نسخ القبلة قريبة الموقع من هذه ، والوجه أن يكون مقصد الآية عاما كما هو الشأن فتشمل الهجرة من مكة والانصراف

٦٦٤

عن استقبال الكعبة.

وتقديم الظرف للاختصاص أي إن الأرض لله تعالى فقط لا لهم ، فليس لهم حق في منع شيء منها عن عباد الله المخلصين.

و (وَجْهُ اللهِ) بمعنى الذات وهو حقيقة لغوية تقول : لوجه زيد أي ذاته كما تقدم عند قوله : (مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ) [البقرة : ١١٢] وهو هنا كناية عن عمله فحيث أمرهم باستقبال بيت المقدس فرضاه منوط بالامتثال لذلك ، وهو أيضا كناية رمزية عن رضاه بهجرة المؤمنين في سبيل الدين لبلاد الحبشة ثم للمدينة ويؤيد كون الوجه بهذا المعنى قوله في التذييل : (إِنَّ اللهَ واسِعٌ عَلِيمٌ) فقوله : (واسِعٌ) تذييل لمدلول (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) والمراد سعة ملكه أو سعة تيسيره والمقصود عظمة الله ، أنه لا جهة له وإنما الجهات التي يقصد منها رضى الله تفضل غيرها وهو عليم بمن يتوجه لقصد مرضاته ، وقد فسرت هذه الآية بأنها المراد بها القبلة في الصلاة.

[١١٦] (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (١١٦))

الضمير المرفوع بقالوا عائد إلى جميع الفرق الثلاث وهي اليهود والنصارى والذين لا يعلمون إشارة إلى ضلال آخر اتفق فيه الفرق الثلاث.

وقد قرئ بالواو (وقالوا) على أنه معطوف على قوله (وَقالَتِ الْيَهُودُ) [البقرة : ١١٣] وهي قراءة الجمهور. وقرأه ابن عامر بدون واو عطف وكذلك ثبتت الآية في المصحف الإمام الموجه إلى الشام فتكون استئنافا كأنّ السامع بعد أن سمع ما مر من عجائب هؤلاء الفرق الثلاث جمعا وتفريقا تسنى له أن يقول لقد أسمعتنا من مساويهم عجبا فهل انتهت مساويهم أم لهم مساو أخرى لأن ما سمعناه مؤذن بأنها مساو لا تصدر إلا عن فطر خبيثة.

وقد اجتمع على هذه الضلالة الفرق الثلاث كما اتفقوا على ما قبلها ، فقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله وقال المشركون الملائكة بنات الله فتكون هاته الآية رجوعا إلى جمعهم في قرن إتماما لجمع أحوالهم الواقع في قوله : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ) [البقرة : ١٠٥] وفي قوله : (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) [البقرة : ١١٣]. وقد ختمت هذه الآية بآية جمعت الفريق الثالث في مقالة أخرى وذلك قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ) [البقرة : ١١٨] إلى قوله :

٦٦٥

(كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) [البقرة : ١١٨].

والقول هنا على حقيقته وهو الكلام اللساني ولذلك نصب الجملة وأريد أنهم اعتقدوا ذلك أيضا لأن الغالب في الكلام أن يكون على وفق الاعتقاد.

وقوله : (اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) جاء بلفظ (اتخذ) تعريضا بالاستهزاء بهم بأن كلامهم لا يلتئم لأنهم أثبتوا ولدا لله ويقولون اتخذه الله.

والاتخاذ الاكتساب وهو ينافي الولدية إذ الولدية تولد بدون صنع فإذا جاء الصنع جاءت العبودية لا محالة وهذا التخالف هو ما يعبر عنه في علم الجدل بفساد الوضع وهو أن يستنتج وجود الشيء من وجود ضده كما يقول قائل : القتل جناية عظيمة فلا تكفّر مثل الردة.

وأصل هذه المقالة بالنسبة للمشركين ناشئ عن جهالة وبالنسبة لأهل الكتابين ناشئ عن توغلهما في سوء فهم الدين حتى توهموا التشبيهات والمجازات حقائق فقد ورد وصف الصالحين بأنهم أبناء الله على طريقة التشبيه وورد في كتاب النصارى وصف الله تعالى بأنه أبو عيسى وأبو الأمة فتلقفته عقول لا تعرف التأويل ولا تؤيد اعتقادها بواضح الدليل فظنته على حقيقته.

جاء في التوراة في الإصحاح ١٤ من سفر التثنية «أنتم أولاد للرب إلهكم لا تخمشوا أجسامكم» وفي إنجيل متى الإصحاح ٥ «طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون» وفيه «وصلّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات» وفي الإصحاح ٦ «انظروا إلى طيور السماء إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن وأبوكم السماوي يقوتها» وتكرر ذلك في الأناجيل غير مرة ففهموها بسوء الفهم على ظاهر عبارتها ولم يراعوا أصول الديانة التي توجب تأويلها ألا ترى أن المسلمين لما جاءتهم أمثال هاته العبارات أحسنوا تأويلها وتبينوا دليلها كما في الحديث : «الخلق عيال الله».

وقوله : (سُبْحانَهُ) تنزيه لله عن شنيع هذا القول. وفيه إشارة إلى أن الولديّة نقص بالنسبة إلى الله تعالى وإن كانت كمالا في الشاهد لأنها إنما كانت كمالا في الشاهد من حيث إنها تسد بعض نقائصه عند العجز والفقر وتسد مكانه عند الاضمحلال والله منزه عن جميع ذلك فلو كان له ولد لآذن بالحدوث وبالحاجة إليه.

٦٦٦

وقوله : (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) إضراب عن قولهم لإبطاله ، وأقام الدليل على الإبطال بقوله : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فالجملة استئناف ابتدائي واللام للملك و (ما في السماوات والأرض) أي ما هو موجود فإن السماوات والأرض هي مجموع العوالم العلوية والسفلية.

و (ما) من صيغ العموم تقع على العاقل وغيره وعلى المجموع وهذا هو الأصح الذي ذهب إليه في «المفصل» واختاره الرضي. وقيل : (ما) تغلب أو تختص بغير العقلاء ومن تختص بالعقلاء وربما استعمل كل منهما في الآخر وهذا هو المشتهر بين النحاة وإن كان ضعيفا وعليه فهم يجيبون على نحو هاته الآية بأنها من قبيل التغليب تنزيلا للعقلاء في كونهم من صنع الله بمنزلة مساوية لغيره من بقية الموجودات تصغيرا لشأن كل موجود.

والقنوت الخضوع والانقياد مع خوف وإنما جاء (قانِتُونَ) بجمع المذكر السالم المختص بالعقلاء تغليبا لأنهم أهل القنوت عن إرادة وبصيرة.

والمضاف إليه المحذوف بعد (كلّ) دلّ عليه قوله : (ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي كل ما في السماوات والأرض أي العقلاء له قانتون وتنوين (كل) تنوين عوض عن المضاف إليه وسيأتي بيانه عند قوله تعالى : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها) [البقرة : ١٤٨] في هذه السورة.

وفي قوله : (لَهُ قانِتُونَ) حجة ثالثة على انتفاء الولد لأن الخضوع من شعار العبيد أما الولد فله إدلال على الوالد وإنما يبرّ به ولا يقنت ، فكان إثبات القنوت كناية عن انتفاء الولدية بانتفاء لازمها لثبوت مساوي نقيضه ومساوي النقيض نقيض وإثبات النقيض يستلزم نفي ما هو نقيض له.

وفصل جملة (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) لقصد استقلالها بالاستدلال حتى لا يظن السامع أنها مكملة للدليل المسوق له قوله : (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

وقد استدل بها بعض الفقهاء على أن من ملك ولده أعتق عليه لأن الله تعالى جعل نفي الولدية بإثبات العبودية فدل ذلك على تنافي الماهيتين وهو استرواح حسن.

[١١٧] (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (١١٧))

هو بالرفع خبر لمحذوف على طريقة حذف المسند إليه لاتباع الاستعمال كما تقدم

٦٦٧

في قوله تعالى : (صُمٌّ بُكْمٌ) [البقرة : ١٨] وذلك من جنس ما يسمونه بالنعت المقطوع.

والبديع مشتق من الإبداع وهو الإنشاء على غير مثال فهو عبارة عن إنشاء المنشآت على غير مثال سابق وذلك هو خلق أصول الأنواع وما يتولد من متولّداتها ، فخلق السماوات إبداع وخلق الأرض إبداع وخلق آدم إبداع وخلق نظام التناسل إبداع. وهو فعيل بمعنى فاعل فقيل هو مشتق من بدع المجرد مثل قدر إذا صح وورد بدع بمعنى قدر بقلة أو هو مشتق من أبدع ومجيء فعيل من أفعل قليل ، ومنه قول عمرو بن معديكرب :

أمن ريحانة الداعي السميع

يؤرقني وأصحابي هجوع (١)

يريد المسمع ، ومنه أيضا قول كعب بن زهير :

سقاك بها المأمون كأسا رويّة

فانهلك المأمون منها وعلّك

أي كأسا مروية. فيكون هنا مما جاء قليلا وقد قدمنا الكلام عليه في قوله تعالى : (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [البقرة : ٣٢] ويأتي في قوله : (بَشِيراً وَنَذِيراً) [البقرة : ١١٩]. وقد قيل في البيت تأويلات متكلفة والحق أنه استعمال قليل حفظ في ألفاظ من الفصيح غير قليلة مثل النذير والبشير إلا أن قلته لا تخرجه عن الفصاحة لأن شهرته تمنع من جعله غريبا. وأما كونه مخالفا للقياس فلا يمنع من استعماله إلا بالنسبة إلى المولّد إذا أراد أن يقيس عليه في مادة أخرى.

وذهب صاحب «الكشاف» إلى أن بديع هنا صفة مشبهة مأخوذ من بدع بضم الدال أي كانت البداعة صفة ذاتية له بتأويل بداعة السماوات والأرض التي هي من مخلوقاته فأضيفت إلى فاعلها الحقيقي على جعله مشبها بالمفعول به وأجريت الصفة على اسم

__________________

(١) أغار الصمة بن بكر الجشمي في خيل من قيس على بني زبيد رهط عمرو فسبى الصمة بن بكر ريحانة أخت عمرو ولم يستطع عمرو افتكاكها منه ، فرغب من الصمة أن يردها إليه فأبى وذهب بها وهي تنادي يا عمرو يا عمرو فقال عمرو هاته الأبيات وبعدها :

سباها الصّمّة الجشميّ غصبا

كأنّ بياض غرتها صديع

وحالت دونها فرسان قيس

تكشّف عن سواعدها الدروع

إذا لم تستطع شيئا فدعه

وجاوزه إلى ما تستطيع

وكله للزمان فكل خطب

سما لك أو سموت له ولوع

هذا هو الصحيح وللرواة في هذه القصة اختلافات لا يعتد بها.

٦٦٨

الجلالة ليكون ضميره فاعلالها لفظا على نحو زيد حسن الوجه كما يقال فلان بديع الشعر ، أي بديعة سماواته.

وأما بيت عمرو فإنما عينوه للتنظير ولم يجوزوا فيه احتمال أن يكون السميع بمعنى المسموع لوجوه أحدها أنه لم يرد سميع بمعنى مسموع مع أن فعيلا بمعنى مفعول غير مطرد. الثاني أن سميع وقع وصفا للذات وهو الداعي وحكم سمع إذا دخلت على ما لا يسمع أن تصير من أخوات ظن فيلزم مجيء مفعول ثان بعد النائب المستتر وهو مفقود الثالث أن المعنى ليس على وصف الداعي بأنه مسموع بل على وصفه بأنه مسمع أي الداعي القاصد للإسماع المعلن لصوته وذلك مؤذن بأنه داع في أمر مهم.

ووصف الله تعالى ببديع السماوات والأرض مراد به أنه بديع ما في السماوات والأرض من المخلوقات وفي هذا الوصف استدلال على نفي بنوة من جعلوه ابنا لله تعالى لأنه تعالى لما كان خالق السماوات والأرض وما فيهما ، فلا شيء من تلك الموجودات أهل لأن يكون ولدا له بل جميع ما بينهما عبيد لله تعالى كما تقدم في قوله : (بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [البقرة : ١١٦] ولهذا رتب نفي الولد على كونه بديع السموات والأرض في سورة الأنعام [١٠] بقوله : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ).

وقوله : (وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) إلخ كشف لشبهة النصارى واستدلال على أنه لا يتخذ ولدا بل يكوّن الكائنات كلها بتكوين واحد وكلها خاضعة لتكوينه وذلك أن النصارى توهموا أن مجيء المسيح من غير أب دليل على أنه ابن الله فبين الله تعالى أن تكوين أحوال الموجودات من لا شيء أعجب من ذلك وأن كل ذلك راجع إلى التكوين والتقدير سواء في ذلك ما وجد بواسطة تامة أو ناقصة أو بلا واسطة قال تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران : ٥٩] فليس تخلق عيسى من أم دون أب بموجب كونه ابن الله تعالى.

و (كان) في الآية تامة لا تطلب خبرا أي يقول له : ايجد فيوجد. والظاهر أن القول والمقول والمسبب هنا تمثيل لسرعة وجود الكائنات عند تعلق الإرادة والقدرة بهما بأن شبه فعل الله تعالى بتكوين شيء وحصول المكون عقب ذلك بدون مهلة بتوجه الآمر للمأمور بكلمة الأمر وحصول امتثاله عقب ذلك لأن تلك أقرب الحالات المتعارفة التي يمكن التقريب بها في الأمور التي لا تتسع اللغة للتعبير عنها وإلى نحو هذا مال صاحب

٦٦٩

«الكشاف» ونظره بقول أبي النجم :

إذ قالت الأنساع للبطن ألحق

قدما فآضت كالفنيق المحنق (١)

والذي يعين كون هذا تمثيلا أنه لا يتصور خطاب من ليس بموجود بأن يكون موجودا فليس هذا التقرير الصادر من الزمخشري مبنيا على منع المعتزلة قيام صفة الكلام بذاته تعالى إذ ليس في الآية ما يلجئهم إلى اعتبار قيام صفة الكلام إذ كان يمكنهم تأويله بما تأولوا به آيات كثيرة ولذلك سكت عنه ابن المنير خلافا لما يوهمه كلام ابن عطية.

[١١٨] (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (١١٨))

عطف على قوله : (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) [البقرة : ١١٦] المعطوف على قوله : (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى) [البقرة : ١١٣]. لمناسبة اشتراك المشركين واليهود والنصارى في الأقوال والعقائد الضالة إلا أنه قدم قول أهل الكتاب في الآية الماضية وهي (وَقالَتِ الْيَهُودُ) لأنهم الذين ابتدءوا بذلك أيام مجادلتهم في تفاضل أديانهم ويومئذ لم يكن للمشركين ما يوجب الاشتغال بذلك إلى أن جاء الإسلام فقالوا مثل قول أهل الكتاب.

وجمع الكل في (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) إلا أنه لم يكن فريق من الثلاثة فيه مقتبسا من الآخر بل جميعه ناشئ من الغلو في تقديس الموجودات الفاضلة ومنشؤه سوء الفهم في العقيدة سواء كانت مأخوذة من كتاب كما تقدم في منشأ قول أهل الكتابين (اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) أم مأخوذة من أقوال قادتهم كما قالت العرب : الملائكة بنات الله.

وقدم قول المشركين هنا لأن هذا القول أعلق بالمشركين إذ هو جديد فيهم وفاش بينهم ، فلما كانوا مخترعي هذا القول نسب إليهم ، ثم نظر بهم الذين من قبلهم وهم اليهود والنصارى ، إذ قالوا مثل ذلك لرسلهم.

و (لَوْ لا) هنا حرف تحضيض قصد منه التعجيز والاعتذار عن عدم الإصغاء للرسول استكبارا بأن عدوا أنفسهم أحرياء بالرسالة وسماع كلام الله تعالى وهذا مبالغة في الجهالة

__________________

(١) الأنساع جمع نسع وهو الحزام الذي يشد على بطن الراحلة. ومعنى قولها للبطن ألحق أنها شدت على البطن حتى ضمر البطن والتحق بالظهر. والقدم بضم القاف وضم الدال المضي سريعا وسكنه للضرورة والفنيق ؛ الفحل. والمحنق : الضامر.

٦٧٠

لا يقولها أهل الكتاب الذين أثبتوا الرسالة والحاجة إلى الرسل.

وقوله : (أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ) أرادوا مطلق آية فالتنكير للنوعية وحينئذ فهو مكابرة وجحود لما جاءهم من الآيات وحسبك بأعظمها وهو القرآن وهذا هو الظاهر من التنكير وقد سألوا آيات مقترحات (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) [الإسراء : ٩٠] الآيات وهم يحسبون أن الآيات هي عجائب الحوادث أو المخلوقات وما دروا أن الآية العلمية العقلية أوضح المعجزات لعمومها ودوامها وقد تحداهم الرسول بالقرآن فعجزوا عن معارضته وكفاهم بذلك آية لو كانوا أهل إنصاف.

وقوله : (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) أي كمثل مقالتهم هذه قال الذين من قبلهم من الأمم مثل قولهم. والمراد بالذين من قبلهم اليهود والنصارى فقد قال اليهود لموسى : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً) [البقرة : ٥٥] وسأل النصارى عيسى (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ) [المائدة : ١١٢].

وفي هذا الكلام تسلية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن ما لقيه من قومه مثل ما لاقاه الرسل قبله ولذلك أردفت هذه الآية بقوله : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِ) [البقرة : ١١٩] الآية. ثم يجوز أن تكون جملة (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) واقعة موقع الجواب لمقالة الذين لا يعلمون وهو جواب إجمالي اقتصر فيه على تنظير حالهم بحال من قبلهم فيكون ذلك التنظير كناية عن الإعراض عن جواب مقالهم وأنه لا يستأهل أن يجاب لأنهم ليسوا بمرتبة من يكلمهم الله وليست أفهامهم بأهل لإدراك ما في نزول القرآن من أعظم آية وتكون جملة (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) تقريرا أي تشابهت عقولهم في الأفن وسوء النظر ، وتكون جملة (قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) تعليلا للإعراض عن جوابهم بأنهم غير أهل للجواب لأن أهل الجواب هم القوم الذين يوقنون وقد بينت لهم آيات القرآن بما اشتملت عليه من الدلائل ، وأما هؤلاء فليسوا أهلا للجواب لأنهم ليسوا بقوم يوقنون بل ديدنهم المكابرة.

ويجوز أن تكون جملة (كَذلِكَ) (قال) إلى آخرها معترضة بين جملة (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) وبين جملة (قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ) وتجعل جملة (قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ) هي الجواب عن مقالتهم. والمعنى لقد أتتكم الآية وهي آيات القرآن ولكن لا يعقلها إلا الذين يوقنون أي دونكم فيكون على وزان قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) [العنكبوت : ٥١]. ووقع الإعراض عن جواب قولهم (لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ) لأنه بديهي البطلان كما قال تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى

٦٧١

رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) [الفرقان : ٢١].

والقول في مرجع التشبيه والمماثلة من قوله (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) على نحو القول في الآية الماضية (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) [البقرة : ١١٣].

وقوله : (تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) تقرير لمعنى (قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) ، أي كانت عقولهم متشابهة في الأفن وسوء النظر فلذا اتحدوا في المقالة. فالقلوب هنا بمعنى العقول كما هو المتعارف في اللغة العربية.

وقوله (تَشابَهَتْ) صيغة من صيغ التشبيه وهي أقوى فيه من حروفه وأقرب بالتشبيه البليغ ، ومن محاسن ما جاء في ذلك قول الصابئ :

تشابه دمعي إذ جرى ومدامتي

فمن مثل ما في الكأس عيني تسكب

وفي هذه الآية جعلت اليهود والنصارى مماثلين للمشركين في هذه المقالة لأن المشركين أعرق فيها إذ هم أشركوا مع الله غيره فليس ادعاؤهم ولدا لله بأكثر من ادعائهم شركة الأصنام مع الله في الإلهية فكان اليهود والنصارى ملحقين بهم لأن دعوى الابن لله طرأت عليهم ولم تكن من أصل ملتهم وبهذا الأسلوب تأتى الرجوع إلى بيان أحوال أهل الكتابين الخاصة بهم وذلك من رد العجز على الصدر.

وجيء بالفعل المضارع في (يُوقِنُونَ) لدلالته على التجدد والاستمرار كناية عن كون الإيمان خلقا لهم فأما الذين دأبهم الإعراض عن النظر والمكابرة بعد ظهور الحق فإن الإعراض يحول دون حصول اليقين والمكابرة تحول عن الانتفاع به فكأنه لم يحصل فأصحاب هذين الخلقين ليسوا من الموقنين.

وتبيين الآيات هو ما جاء من القرآن المعجز للبشر الذي تحدى به جميعهم فلم يستطيعوا الإتيان بمثله كما تقدم ، وفي الحديث : «ما من الأنبياء نبيء إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحى الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» فالمعنى قد بينا الآيات لقوم من شأنهم أن يوقنوا ولا يشككوا أنفسهم أو يعرضوا حتى يحول ذلك بينهم وبين الإيقان أو يكون المعنى قد بينا الآيات لقوم يظهرون اليقين ويعترفون بالحق لا لقوم مثلكم من المكابرين.

[١١٩] (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (١١٩))

٦٧٢

جملة معترضة بين حكايات أحوال المشركين وأهل الكتاب ، القصد منها تأنيس الرسول عليه الصلاة والسلام من أسفه على ما لقيه من أهل الكتاب مما يماثل ما لقيه من المشركين وقد كان يود أن يؤمن به أهل الكتاب فيتأيد بهم الإسلام على المشركين فإذا هو يلقى منهم ما لقي من المشركين أو أشد وقد قال «لو آمن بي عشرة من اليهود لآمن بي اليهود كلهم» فكان لتذكير الله إياه بأنه أرسله تهدئة لخاطره الشريف وعذر له إذ أبلغ الرسالة وتطمين لنفسه بأنه غير مسئول عن قوم رضوا لأنفسهم بالجحيم. وفيه تمهيد للتأييس من إيمان اليهود والنصارى.

وجيء بالتأكيد وإن كان النبي لا يتردد في ذلك لمزيد الاهتمام بهذا الخبر وبيان أنه ينوه به لما تضمنه من تنويه شأن الرسول.

وجيء بالمسند إليه ضمير الجلالة تشريفا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعز الحضور لمقام التكلم مع الخالق تعالى وتقدس كأن الله يشافهه بهذا الكلام بدون واسطة فلذا لم يقل له إن الله أرسلك.

وقوله : (بِالْحَقِ) متعلق بأرسلناك. والحق هو الهدى والإسلام والقرآن وغير ذلك من وجوه الحق المعجزات وهي كلها ملابسة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في رسالته بعضها بملابسة التبليغ وبعضها بملابسة التأييد. فالمعنى إنك رسول الله وإن القرآن حق منزل من الله.

وقوله : (بَشِيراً وَنَذِيراً) حالان وهما بزنة فعيل بمعنى فاعل مأخوذان من بشر المضاعف وأنذر المزيد فمجيئهما من الرباعي على خلاف القياس كالقول في (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [البقرة : ١١٧] المتقدم آنفا ، وقيل : البشير مشتق من بشر المخفف الشين من باب نصر ولا داعي إليه.

وقوله : (وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) الواو للعطف وهو إما على جملة (إِنَّا أَرْسَلْناكَ) أو على الحال في قوله : (بَشِيراً وَنَذِيراً) ويجوز كون الواو للحال.

قرأ نافع ويعقوب بفتح الفوقية وسكون اللام على أنّ (لا) حرف نهي جازم للمضارع وهو عطف إنشاء على خبر والسؤال هنا مستعمل في الاهتمام والتطلع إلى معرفة الحال مجازا مرسلا بعلاقة اللزوم لأن المعني بالشيء المتطلع لمعرفة أحواله يكثر من السؤال عنه ، أو هو كناية عن فظاعة أحوال المشركين والكافرين حتى إن المتفكر في مصير حالهم ينهى عن الاشتغال بذلك لأنها أحوال لا يحيط بها الوصف ولا يبلغ إلى كنهها العقل في

٦٧٣

فظاعتها وشناعتها ، وذلك أن النهي عن السؤال يرد لمعنى تعظيم أمر المسئول عنه نحو قول عائشة : «يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن» ولهذا شاع عند أهل العلم إلقاء المسائل الصعبة بطريقة السؤال نحو (فإن قلت) للاهتمام.

وقرأه جمهور العشرة بضم الفوقية ورفع اللام على أن (لا) نافية أي لا يسألك الله عن أصحاب الجحيم وهو تقرير لمضمون (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِ) والسؤال كناية عن المؤاخذة واللوم مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وكلكم مسئول عن رعيته» أي لست مؤاخذا ببقاء الكافرين على كفرهم بعد أن بلغت لهم الدعوة.

وما قيل إن الآية نزلت في نهيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن السؤال عن حال أبويه في الآخرة فهو استناد لرواية واهية ولو صحت لكان حمل الآية على ذلك مجافيا للبلاغة إذ قد علمت أن قوله : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ) تأنيس وتسكين فالإتيان معه بما يذكّر المكدرات خروج عن الغرض وهو مما يعبر عنه بفساد الوضع.

[١٢٠] (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (١٢٠))

عطف على قوله : (وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) [البقرة : ١١٩] أو على (إِنَّا أَرْسَلْناكَ)

[البقرة : ١١٩] وقد جاء هذا الكلام المؤيس من إيمانهم بعد أن قدم قبله التأنيس والتسلية على نحو مجيء العتاب بعد تقديم العفو في قوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) [التوبة : ٤٣] وهذا من كرامة الله تعالى لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والنفي بلن مبالغة في التأييس لأنها لنفي المستقبل وتأبيده.

والملة بكسر الميم الدين والشريعة وهي مجموع عقائد وأعمال يلتزمها طائفة من الناس يتفقون عليها وتكون جامعة لهم كطريقة يتبعونها ، ويحتمل أنها مشتقة من أملّ الكتاب فسميت الشريعة ملة لأن الرسول أو واضع الدين يعلمها للناس ويمللها عليهم كما سميت دينا باعتبار قبول الأمة لها وطاعتهم وانقيادهم.

ومعنى الغاية في (حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) الكناية عن اليأس من اتباع اليهود والنصارى لشريعة الإسلام يومئذ لأنهم إذا كانوا لا يرضون إلا باتباعه ملتهم فهم لا يتبعون ملته ، ولما كان اتباع النبي ملتهم مستحيلا كان رضاهم عنه كذلك على حد (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ

٦٧٤

فِي سَمِّ الْخِياطِ) [الأعراف : ٤٠] وقوله : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) [الكافرون : ٢ ، ٣] والتصريح بلا النافية بعد حرف العطف في قوله : (وَلَا النَّصارى) للتنصيص على استقلالهم بالنفي وعدم الاقتناع باتباع حرف العطف لأنهم كانوا يظن بهم خلاف ذلك لإظهارهم شيئا من المودة للمسلمين كما في قوله تعالى : (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) [المائدة : ٨٢] وقد تضمنت هذه الآية أنهم لا يؤمنون بالنبيء لأنه غير متبع ملتهم وأنهم لا يصدقون القرآن لأنه جاء بنسخ كتابيهم.

وقوله : (قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) أمر بالجواب عما تضمنه قوله : (وَلَنْ تَرْضى) من خلاصة أقوال لهم يقتضي مضمونها أنهم لا يرضيهم شيء مما يدعوهم النبي إليه إلا أن يتبع ملتهم وأنهم يقولون إن ملتهم هدى فلا ضير عليه إن اتبعها مثل قولهم : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١١١] وغير ذلك من التلون في الإعراض عن الدعوة ولذلك جيء في جوابهم بما هو الأسلوب في المجاوبة من فعل القول بدون حرف العطف.

ويجوز أن يكونوا قد قالوا ما تضمنته الآية من قوله : (حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ). و (هُدَى اللهِ) ما يقدره للشخص من التوفيق أي قل لهم لا أملك لكم هدى إلا أن يهديكم الله ، فالقصر حقيقي.

ويجوز أن يكون المراد بهدى الله الذي أنزله إليّ هو الهدى يعني أن القرآن هو الهدى إبطالا لغرورهم بأنّ ما هم عليه من الملة هو الهدى وأن ما خالفه ضلال. والمعنى أن القرآن هو الهدى وما أنتم عليه ليس من الهدى لأن أكثره من الباطل. فإضافة الهدى إلى الله تشريف ، والقصر إضافي. وفيه تعريض بأن ما هم عليه يومئذ شيء حرفوه ووضعوه ، فيكون القصر إما حقيقيا ادعائيا بأن يراد هو الهدى الكامل في الهداية فهدى غيره من الكتب السماوية بالنسبة إلى هدى القرآن كلا هدى لأن هدى القرآن أعم وأكمل فلا ينافي إثبات الهداية لكتابهم كما في قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ) [المائدة : ٤٤] وقوله : (وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ) [المائدة : ٤٦] وإما قصرا إضافيا أي هو الهدى دون ما أنتم عليه من ملة مبدلة مشوبة بضلالات وبذلك أيضا لا ينتفي الهدى عن كثير من التعاليم والنصائح الصالحة الصادرة عن الحكماء وأهل العقول الراجحة والتجربة لكنه هدى ناقص.

وقوله : (هُوَ الْهُدى) الضمير ضمير فصل. والتعريف في الهدى تعريف الجنس

٦٧٥

الدال على الاستغراق ففيه طريقان من طرق الحصر هما ضمير الفصل وتعريف الجزأين وفي الجمع بينهما إفادة تحقيق معنى القصر وتأكيده للعناية به فأيهما اعتبرته طريق قصر كان الآخر تأكيدا للقصر وللخبر أيضا.

والتوكيد بإن لتحقيق الخبر وتحقيق نسبته وإبطال تردد المتردد لأن القصر الإضافي لما كان المقصود منه رد اعتقاد المخاطب قد لا يتفطن المخاطب إلى ما يقتضيه من التأكيد فزيد هنا مؤكد آخر وهو حرف (إن) اهتماما بتأكيد هذا الحكم. فقد اجتمع في هذه الجملة عدة مؤكدات هي : حرف إن والقصر ، إذ القصر تأكيد على تأكيد ما في «المفتاح» فهو في قوة مؤكدين ، مع تأكيد القصر بضمير الفصل وهي تنحل إلى أربعة مؤكدات لأن القصر بمنزلة تأكيدين وقد انضم إليهما تأكيد القصر بضمير الفصل وتأكيد الجملة بحرف (إن).

ولعل الآية تشير إلى أن استقبال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصلاة إلى القبلة التي يستقبلها اليهود لقطع معذرة اليهود كما سيأتي في قوله تعالى : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) [البقرة : ١٤٣] ، فأعلم رسوله بقوله : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى) بأن ذلك لا يلين من تصلب اليهود في عنادهم فتكون إيماء إلى تمهيد نسخ استقبال بيت المقدس.

وقوله : (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ). اللام موطئة للقسم وذلك توكيد للخبر وتحقيق له. وعبر عن طريقتهم هنالك بالملة نظرا لاعتقادهم وشهرة ذلك عند العرب ، وعبر عنها هنا بالأهواء بعد أن مهد له بقوله : (إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) فإن الهوى رأي ناشئ عن شهوة لا عن دليل ، ولهذا لم يؤت بالضمير الراجع للملة وعبر عنها بالاسم الظاهر فشملت أهواؤهم التكذيب بالنبيء وبالقرآن واعتقادهم أن ملتهم لا ينقضها شرع آخر.

وقوله : (ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) تحذير لكل من تلقى الإسلام أن لا يتبع بعد الإسلام أهواء الأمم الأخرى ، جاء على طريقة تحذير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مثل : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥] وهو جواب القسم ودليل جواب الشرط لأن اللام موطئة للقسم فالجواب لها. وجيء بإن الشرطية التي تأتي في مواقع عدم القطع بوقوع شرطها لأن هذا فرض ضعيف في شأن النبي والمسلمين.

والولي القريب والحليف. والنصير كل من يعين أحدا على من يريد به ضرا وكلاهما

٦٧٦

فعيل بمعنى فاعل.

و (من) في قوله (مِنَ اللهِ) متعلقة بولي لتضمينه معنى مانع من عقابه ويقدر مثله بعد (وَلا نَصِيرٍ) أي نصير من الله.

و (من) في قوله : (مِنْ وَلِيٍ) مؤكدة للنفي. وعطف النصير على الولي احتراس لأن نفي الولي لا يقتضي نفي كل نصير إذ لا يكون لأحد ولي لكونه دخيلا في قبيلة ويكون أنصاره من جيرته. وكان القصد من نفي الولاية التعريض بهم في اعتقادهم أنهم أبناء الله وأحباؤه فنفى ذلك عنهم حيث لم يتبعوا دعوة الإسلام ثم نفى الأعم منه وهذه نكتة عدم الاقتصار على نفي الأعم.

وقد اشتملت جملة (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) إلى آخرها على تحذير من الطمع في استدناء اليهود أو النصارى بشيء من استرضائهم طمعا في إسلامهم بتألف قلوبهم فأكد ذلك التحذير بعشرة مؤكدات وهي القسم المدلول عليه باللام الموطئة للقسم. وتأكيد جملة الجزاء بإنّ وبلام الابتداء في خبرها. واسمية جملة الجزاء وهي (ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ). وتأكيد النفي بمن في قوله (مِنْ وَلِيٍ). والإجمال ثم التفصيل بذكر اسم الموصول وتبيينه بقوله (مِنَ الْعِلْمِ). وجعل الذي جاء (أي أنزل إليه) هو العلم كله لعدم الاعتداد بغيره لنقصانه. وتأكيد (مِنْ وَلِيٍ) بعطف (وَلا نَصِيرٍ) الذي هو آيل إلى معناه وإن اختلف مفهومه ، فهو كالتأكيد بالمرادف.

[١٢١] (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٢١))

استئناف ناشئ عن قوله : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى) [البقرة : ١٢٠] مع قوله : (إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) [البقرة : ١٢٠] لتضمنه أن اليهود والنصارى ليسوا يومئذ على شيء من الهدى؟ كأنّ سائلا سأل : كيف وهم متمسكون بشريعة؟ ومن الذي هو على هدى ممن اتّبع هاتين الشريعتين؟ فأجيب بأن الذين أوتوا الكتاب وتلوه حقّ تلاوته هم الذين يؤمنون به.

ويجوز أن يكون اعتراضا في آخر الكلام لبيان حال المؤمنين الصادقين من أهل الكتاب لقصد إبطال اعتقادهم أنهم على التمسك بالإيمان بالكتاب ، وهو ينظر إلى قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ)

٦٧٧

[البقرة : ٩١] إلخ. وهو صدر هاته المحاورات وما تخللها من الأمثال والعبر والبيان. فقوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) فذلكة لما تقدم وجواب قاطع لمعذرتهم المتقدمة ، وهو من باب رد العجز على الصدر. ولأحد هذين الوجهين فصلت الجملة ولم تعطف لأنها في معنى الجواب ، ولأن المحكي بها مباين لما يقابله المتضمن له قوله : (قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) ولما انتقل منه إليه وهو قوله : (وَقالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) [البقرة : ١١٦] وقوله : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [البقرة : ١١٨]. وقوله : (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) حال من الذين أوتوا الكتاب إذ هم الآن يتلونه حق تلاوته. وانتصب (حَقَّ تِلاوَتِهِ) على المفعول المطلق وإضافته إلى المصدر من إضافة الصفة إلى الموصوف أي تلاوة حقا.

و (الحق) هنا ضد الباطل أي تلاوة مستوفية قوام نوعها لا ينقصها شيء مما يعتبر في التلاوة وتلك هي التلاوة بفهم مقاصد الكلام المتلو فإن الكلام يراد منه إفهام السامع فإذا تلاه القارئ ولم يفهم جميع ما أراده قائله كانت تلاوته غامضة ، فحق التلاوة هو العلم بما في المتلو.

وقوله : (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) جملة هي خبر المبتدأ وهو اسم الموصول ، وجيء باسم الإشارة في تعريفهم دون الضمير وغيره للتنبيه على أن الأوصاف المتقدمة التي استحضروا بواسطتها حتى أشير إليهم باتصافهم بها هي الموجبة لجدارتهم بالحكم المسند لاسم الإشارة على حد (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥] فلا شك أن تلاوتهم الكتاب حق تلاوته تثبت لهم أوحديّتهم بالإيمان بذلك الكتاب لأن إيمان غيرهم به كالعدم. فالقصر ادعائي. فضمير (بِهِ) راجع إلى (الكتاب) من قوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ). وإذا كانوا هم المؤمنين به كانوا مؤمنين بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لانطباق الصفات التي في كتبهم عليه ولأنهم مأخوذ عليهم العهد أن يؤمنوا بالرسول المقفى وأن يجتهدوا في التمييز بين الصادق من الأنبياء والكذبة حتى يستيقنوا انطباق الصفات على النبي الموعود به فمن هنا قال بعض المفسرين إن ضمير (بِهِ) عائد إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع أنه لم يتقدم له معاد.

ويجوز أن يعود الضمير من قوله : (يُؤْمِنُونَ بِهِ) إلى الهدي في قوله : (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) [البقرة : ١٢٠] أي يؤمنون بالقرآن أنه منزل من الله فالضمير المجرور بالباء راجع للكتاب في قوله : (آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) والمراد به التوراة والإنجيل واللام للجنس ، أو التوراة فقط لأنها معظم الدينين والإنجيل تكملة فاللام للعهد. ومن هؤلاء عبد الله بن سلام من اليهود وعدي بن حاتم وتميم الداري من النصارى.

٦٧٨

والقول في قوله : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) كالقول في (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) وهو تصريح بحكم مفهوم (أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) وفيه اكتفاء عن التصريح بحكم المنطوق وهو أن المؤمنين به هم الرابحون ففي الآية إيجاز بديع لدلالتها على أن الذين أوتوا الكتاب يتلونه حق تلاوته هم المؤمنون دون غيرهم فهم كافرون فالمؤمنون به هم الفائزون والكافرون هم الخاسرون.

[١٢٢ ، ١٢٣] (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٢٢) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (١٢٣))

أعيد نداء بني إسرائيل نداء التنبيه والإنذار والتذكير على طريقة التكرير في الغرض الذي سيق الكلام الماضي لأجله ، فإنه ابتدأ نداءهم أولا بمثل هاته الموعظة في ابتداء التذكير بأحوالهم الكثيرة خيرها وشرها عقب قوله : (وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) [البقرة : ٤٦] فذكر مثل هاته الجملة هناك كذكر المطلوب في صناعة المنطق قبل إقامة البرهان وذكرها هنا كذكر النتيجة في المنطق عقب البرهان تأييدا لما تقدم وفذلكة له وهو من ضروب رد العجز على الصدر.

وقد أعيدت هذه الآية بالألفاظ التي ذكرت بها هنا لك للتنبيه على نكتة التكرير للتذكير ولم يخالف بين الآيتين إلا من الترتيب بين العدل والشفاعة فهنالك قدم (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) [البقرة : ٤٨] وأخر (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) [البقرة : ٤٨] وهنا قدم (وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ) وأخر لفظ الشفاعة مسندا إليه (تَنْفَعُها) وهو تفنن والتفنن في الكلام تنتفي به سآمة الإعادة مع حصول المقصود من التكرير. وقد حصل مع التفنن نكتة لطيفة إذ جاءت الشفاعة في الآية السابقة مسندا إليها المقبولية فقدمت على العدل بسبب نفي قبولها ونفي قبول الشفاعة لا يقتضي نفي أخذ الفداء فعطف نفي أخذ الفداء للاحتراس ، وأما في هذه الآية فقدم الفداء لأنه أسند إليه المقبولية ونفي قبول الفداء لا يقتضي نفي نفع الشفاعة فعطف نفي نفع الشفاعة على نفي قبول الفداء للاحتراس أيضا.

والحاصل أن الذي نفي عنه أن يكون مقبولا قد جعل في الآيتين أولا وذكر الآخر بعده. وأما نفي القبول مرة عن الشفاعة ومرة عن العدل فلأن أحوال الأقوام في طلب الفكاك عن الجناة تختلف ، فمرة يقدمون الفداء فإذا لم يقبل قدموا الشفعاء ، ومرة يقدمون

٦٧٩

الشفعاء فإذا لم تقبل شفاعتهم عرضوا الفداء.

وقوله : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ) مراد منه أنه لا عدل فيقبل ولا شفاعة شفيع يجدونه فتقبل شفاعته لأن دفع الفداء متعذر وتوسط الشفيع لمثلهم ممنوع إذ لا يشفع الشفيع إلا لمن أذن الله له. قال ابن عرفة فيكون نفي نفع الشفاعة هنا من باب قوله :

على لاحب لا يهتدى بمناره (١)

يريد أنها كناية عن نفي الموصوف بنفي صفته الملازمة له كقولهم :

ولا ترى الضب بها ينجحر (٢)

وهو ما يعبر عنه المناطقة بأن السالبة تصدق مع نفي الموضوع وإنما يكون ذلك بطريق الكناية وأما أن يكون استعمالا في أصل العربية فلا والمناطقة تبعوا فيه أساليب اليونان.

والقول في بقية الآيات مستغنى عنه بما تقدم في نظيرتها.

وهنا ختم الحجاج مع أهل الكتاب في هذه السورة وذلك من براعة المقطع.

__________________

(١) قائله امرؤ القيس ، وقبله :

وإني زعيم إن رجعت مملكا

بسير ترى منه الفرانق أزدرا

على لاحب إلخ ...

إذا سافه العوذ الديافي جرجرا

الفرانق بضم الفاء وكسر النون هو الذي يدل صاحب البريد. وأزدرا أفعل تفضيل لغة في أصدرا قرئ بها قوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً) [الزلزلة : ٤]. اللاحب : الطريق الواسع.

والمنار : العلامة. وسافه : شده. والديافي منسوب إلى دياف ـ بكسر الدال ـ قرية تنسب لها كرام الإبل. وجرجرا : أي صوت. والمعنى أنه يعدانه إذا رجع ليعيدن السير في طريق صعبة المسالك.

وفي «شرح التفتازانيّ على المفتاح» في باب الإيجاز والإطناب ذكر أول هذا البيت هكذا :

سدا بيديه ثم أج بسيره

على لاحب ... إلخ.

قال وهو في وصف ظليم وسدا بمعنى مد وهو مجاز عن السرعة. وأج الظليم إذا جرى وسمع له حفيف.

(٢) ينجحر أي يدخل جحره وهو بجيم ثم حاء. وقيل هذا المصراع قوله :

لا تفزع الأرنب أهوالها

كذا في «شرح التفتازانيّ على المفتاح» في باب الإيجاز.

٦٨٠