تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٣٥

الشعر لإثبات صحة ألفاظ القرآن كما يقع من بعض الملاحدة ، روى أن ابن الراوندي (١) (وكان يزنّ بالإلحاد) قال لابن الأعرابي : «أتقول العرب لباس التقوى» فقال ابن الأعرابي لا بأس لا بأس ، وإذا أنجى الله الناس ، فلا نجّى ذلك الرأس ، هبك يا بن الراوندي تنكر أن يكون محمد نبيا أفتنكر أن يكون فصيحا عربيا؟».

ويدخل في مادة الاستعمال العربي ما يؤثر عن بعض السلف في فهم معاني بعض الآيات على قوانين استعمالهم ، كما روى مالك في «الموطأ» عن عروة بن الزبير قال : «قلت لعائشة ـ وأنا يومئذ حديث السن ـ : أرأيت قول الله تعالى. (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) [البقرة : ١٥٨] ، فما على الرجل شيء أن لا يطوف بهما ، فقالت عائشة : كلا لو كان كما تقول ، لكانت فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما ، إنما نزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلون لمناة الطاغية ، وكانت مناة حذو قديد ، وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة ، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله عن ذلك ، فأنزل الله : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ) الآية ا ه» ، فبينت له ابتداء طريقة استعمال العرب لو كان المعنى كما وهمه عروة ثم بينت له مثار شبهته الناشئة عن قوله تعالى : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ) الذي ظاهره رفع الجناح عن الساعي الذي يصدق بالإباحة دون الوجوب.

وأما الآثار فالمعنيّ بها ما نقل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من بيان المراد من بعض القرآن في مواضع الإشكال والإجمال ، وذلك شيء قليل. قال ابن عطية عن عائشة «ما كان رسول الله يفسر من القرآن إلا آيات معدودات علمه إياهن جبريل» ، وقال معناه في مغيبات القرآن وتفسير مجمله مما لا سبيل إليه إلا بتوقيف ، قلت : أو كان تفسيرا لا توقيف فيه ، كما بين لعدي بن حاتم أن الخيط الأبيض والخيط الأسود هما سواد الليل وبياض النهار ، وقال له «إنك لعريض الوسادة» ، وفي رواية «إنك لعريض القفا» وما نقل عن الصحابة الذين شاهدوا نزول الوحي من بيان سبب النزول ، وناسخ ومنسوخ ، وتفسير مبهم ، وتوضيح واقعة من كل ما طريقهم فيه الرواية عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، دون الرأي وذلك مثل كون المراد من المغضوب عليهم اليهود ومن الضالين النصارى ، ومثل كون المراد من قوله تعالى : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) [المدثر : ١١] الوليد بن المغيرة المخزومي أبا خالد بن الوليد ،

__________________

(١) توفي سنة ٢٤٠ ه‍.

٢١

وكون المراد من قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) [مريم : ٧٧] الآية ، العاصي بن وائل السهمي في خصومته بينه وبين خبّاب بن الأرت كما في «صحيح البخاري» في تفسير سورة المدّثر.

قال ابن عباس : مكثت سنين أريد أن أسأل عمر عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما يمنعني إلا مهابته ، ثم سألته فقال هما حفصة وعائشة. ومعنى كون أسباب النزول من مادة التفسير ، أنها تعين على تفسير المراد ، وليس المراد أن لفظ الآية يقصر عليها ، لأن سبب النزول لا يخصص ، قال تقي الدين السبكي : وكما أن سبب النزول لا يخصص ، كذلك خصوص غرض الكلام لا يخصص ، كأن يرد خاص ثم يعقبه عام للمناسبة فلا يقتضي تخصيص العام ، نحو (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) [النساء : ١٢٨] وقد يكون المروي في سبب النزول مبيّنا ومؤوّلا لظاهر غير مقصود ، فقد توهم قدامة بن مظعون من قوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا) [المائدة : ٩٣] فاعتذر بها لعمر بن الخطاب في شرب قدامة خمرا ، روى أن عمر استعمل قدامة بن مظعون على البحرين فقدم الجارود على عمر فقال : إن قدامة شرب فسكر ، فقال عمر من يشهد على ما تقول ، قال الجارود أبو هريرة يشهد على ما أقول وذكر الحديث ، فقال عمر يا قدامة إني جالدك ، قال والله لو شربت كما يقولون ما كان لك أن تجلدني ، قال عمر ولم؟ قال لأن الله يقول : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ) إلخ ، فقال عمر إنك أخطأت التأويل يا قدامة ، إذا اتقيت الله اجتنبت ما حرم الله. وفي رواية فقال لم تجلدني! بيني وبينك كتاب الله ، فقال عمر وأي كتاب الله تجد أن لا أجلدك؟ قال : إن الله يقول في كتابه : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) إلى آخر الآية فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وأحسنوا ، شهدت مع رسول الله بدرا وأحدا والخندق والمشاهد ، فقال عمر ألا تردون عليه قوله! فقال ابن عباس ، إن هؤلاء الآيات أنزلن عذرا للماضين وحجة على الباقين ، فعذر الماضين بأنهم لقوا الله قبل أن تحرم عليهم الخمر ، وحجة على الباقين لأن الله يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) [المائدة : ٩٠] ، ثم قرأ إلى آخر الآية الأخرى ، فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا وأحسنوا فإن الله قد نهى أن يشرب الخمر ، قال عمر صدقت. الحديث».

وتشمل الآثار إجماع الأمة على تفسير معنى ، إذ لا يكون إلا عن مستند كإجماعهم

٢٢

على أن المراد من الأخت في آية الكلالة الأولى هي الأخت للأم ، وأن المراد من الصلاة في سورة الجمعة هي صلاة الجمعة ، وكذلك المعلومات بالضرورة كلها ككون الصلاة مرادا منها الهيئة المخصوصة دون الدعاء ، والزكاة المال المخصوص المدفوع.

وأما القراءات فلا يحتاج إليها إلا في حين الاستدلال بالقراءة على تفسير غيرها ، وإنما يكون في معنى الترجيح لأحد المعاني القائمة من الآية أو لاستظهار على المعنى ، فذكر القراءة كذكر الشاهد من كلام العرب ، لأنها إن كانت مشهورة ، فلا جرم أنها تكون حجة لغوية ، وإن كانت شاذة فحجتها لا من حيث الرواية ، لأنها لا تكون صحيحة الرواية ، ولكن من حيث إن قارئها ما قرأ بها إلا استنادا لاستعمال عربي صحيح ، إذ لا يكون القارئ معتدا به إلا إذا عرفت سلامة عربيته ، كما احتجوا على أن أصل (الْحَمْدُ لِلَّهِ) [الفاتحة : ٢] أنه منصوب على المفعول المطلق بقراءة هارون العتكي (الْحَمْدُ لِلَّهِ) بالنصب كما في «الكشاف» وبذلك يظهر أن القراءة لا تعد تفسيرا من حيث هي طريق في أداء ألفاظ القرآن ، بل من حيث إنها شاهد لغوي فرجعت إلى علم اللغة.

وأما أخبار العرب فهي من جملة أدبهم وإنما خصصتها بالذكر تنبيها لمن يتوهم أن الاشتغال بها من اللغو فهي يستعان بها على فهم ما أوجزه القرآن في سوقها لأن القرآن إنما يذكر القصص والأخبار للموعظة والاعتبار ، لا لأن يتحادث بها الناس في الأسمار ، فبمعرفة الأخبار يعرف ما أشارت له الآيات من دقائق المعاني ، فنحو قوله تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً) [النحل : ٩٢] وقوله : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) [البروج : ٤] يتوقف على معرفة أخبارهم عند العرب.

وأما أصول الفقه فلم يكونوا يعدونه من مادة التفسير ، ولكنهم يذكرون أحكام الأوامر والنواهي والعموم وهي من أصول الفقه ، فتحصل أن بعضه يكون مادة للتفسير وذلك من جهتين : إحداهما : أن علم الأصول قد أودعت فيه مسائل كثيرة هي من طرق استعمال كلام العرب وفهم موارد اللغة أهمل التنبيه عليها علماء العربية مثل مسائل الفحوى ومفهوم المخالفة ، وقد عد الغزالي علم الأصول من جملة العلوم التي تتعلق بالقرآن وبأحكامه فلا جرم أن يكون مادة للتفسير.

الجهة الثانية : أن علم الأصول يضبط قواعد الاستنباط ويفصح عنها فهو آلة للمفسر في استنباط المعاني الشرعية من آياتها.

وقد عد عبد الحكيم والآلوسي أخذا من كلام السكاكي ، في آخر فن البيان الذي

٢٣

تقدم آنفا وما شرحه به شارحاه التفتازانيّ والجرجاني. علم الكلام في جملة ما يتوقف عليه علم التفسير ، قال عبد الحكيم : «لتوقف علم التفسير على إثبات كونه تعالى متكلما ، وذلك يحتاج إلى علم الكلام».

وقال الآلوسي : «لتوقف فهم ما يجوز على الله ويستحيل على الكلام» يعني من آيات التشابه في الصفات مثل : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) [طه : ٥] ، وهذا التوجيه أقرب من توجيه عبد الحكيم ، وهو مأخوذ من كلام السيد الجرجاني في «شرح المفتاح» ، وكلاهما اشتباه لأن كون القرآن كلام الله قد تقرر عند سلف الأمة قبل علم الكلام ، ولا أثر له في التفسير ، وأما معرفة ما يجوز وما يستحيل فكذلك ، ولا يحتاج لعلم الكلام إلا في التوسع في إقامة الأدلة على استحالة بعض المعاني ، وقد أبنت أن ما يحتاج إليه المتوسع لا يصير مادة للتفسير.

ولم نعدّ الفقه من مادة علم التفسير كما فعل السيوطي ، لعدم توقف فهم القرآن ، على مسائل الفقه ، فإن علم الفقه متأخر عن التفسير وفرع عنه ، وإنما يحتاج المفسر إلى مسائل الفقه عند قصد التوسع في تفسيره ، للتوسع في طرق الاستنباط وتفصيل المعاني تشريعا وآدابا وعلوما ، ولذلك لا يكاد يحصر ما يحتاجه المتبحر في ذلك من العلوم ، ويوشك أن يكون المفسر المتوسع محتاجا إلى الإلمام بكل العلوم وهذا المقام هو الذي أشار له البيضاوي بقوله : «لا يليق لتعاطيه ، والتصدي للتكلم فيه ، إلا من برع في العلوم الدينية كلها ، أصولها وفروعها وفي الصناعات العربية والفنون الأدبية بأنواعها».

تنبيه : اعلم أنه لا يعد من استمداد علم التفسير الآثار المروية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في تفسير آيات ، ولا ما يروى عن الصحابة في ذلك لأن ذلك من التفسير لا من مدده ، ولا يعد أيضا من استمداد التفسير ما في بعض آي القرآن من معنى يفسر بعضا آخر منها ، لأن ذلك من قبيل حمل بعض الكلام على بعض ، كتخصيص العموم وتقييد المطلق وبيان المجمل وتأويل الظاهر ودلالة الاقتضاء وفحوى الخطاب ولحن الخطاب ومفهوم المخالفة.

ذكر ابن هشام في «مغني اللبيب» ، في حرف لا ، عن أبي علي الفارسي ، أن القرآن كله كالسورة الواحدة ، ولهذا يذكر الشيء في سورة وجوابه في سورة أخرى ، نحو : (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) [الحجر : ٦] وجوابه : (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) [القلم : ٢] ه. وهذا كلام لا يحسن إطلاقه ، لأن القرآن قد يحمل بعض آياته

٢٤

على بعض وقد يستقل بعضها عن بعض ، إذ ليس يتعين أن يكون المعنى المقصود في بعض الآيات مقصودا في جميع نظائرها ، بله ما يقارب غرضها.

واعلم أن استمداد علم التفسير من هذه المواد لا ينافي كونه رأس العلوم الإسلامية كما تقدم ، لأن كونه رأس العلوم الإسلامية ، معناه أنه أصل لعلوم الإسلام على وجه الإجمال فأما استمداده من بعض العلوم الإسلامية ، فذلك استمداد لقصد تفصيل التفسير على وجه أتم من الإجمال ، وهو أصل لما استمد منه باختلاف الاعتبار على ما حققه عبد الحكيم.

٢٥

المقدمة الثالثة

في صحة التفسير بغير المأثور ومعنى التفسير بالرأي ونحوه

إن قلت أتراك بما عددت من علوم التفسير تثبت أن تفسيرا كثيرا للقرآن لم يستند إلى مأثور عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا عن أصحابه ، وتبيح لمن استجمع من تلك العلوم حظا كافيا وذوقا ينفتح له بهما من معاني القرآن ما ينفتح عليه ، أن يفسر من آي القرآن بما لم يؤثر عن هؤلاء ، فيفسر بمعان تقتضيها العلوم التي يستمد منها علم التفسير ، وكيف حال التحذير الواقع في الحديث الذي رواه الترمذي عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» ، وفي رواية : «من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار». والحديث الذي رواه أبو داود والترمذي والنسائي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من تكلم في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» وكيف محمل ما روى من تحاشي بعض السلف عن التفسير بغير توقيف؟ فقد روى عن أبي بكر الصديق أنه سأل عن تفسير الأبّ في قوله : (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) [عبس : ٣١] فقال : «أيّ أرض تقلّني ، وأيّ سماء تظلني إذا قلت في القرآن برأيي» ويروى عن سعيد بن المسيّب والشعبي إحجامهما عن ذلك.

قلت : أراني كما حسبت أثبت ذلك وأبيحه ، وهل اتسعت التفاسير وتفننت مستنبطات معاني القرآن إلا بما رزقه الذين أوتوا العلم من فهم في كتاب الله؟ وهل يتحقق قول علمائنا «إن القرآن لا تنقضي عجائبه» إلا بازدياد المعاني باتساع التفسير؟ ولو لا ذلك لكان تفسير القرآن مختصرا في ورقات قليلة. وقد قالت عائشة : «ما كان رسول الله يفسر من كتاب الله إلا آيات معدودات علمه جبريل إياهن» كما تقدم في المقدمة الثانية.

ثم لو كان التفسير مقصورا على بيان معاني مفردات القرآن من جهة العربية لكان التفسير نزرا ، ونحن نشاهد كثرة أقوال السلف من الصحابة ، فمن يليهم في تفسير آيات القرآن وما أكثر ذلك الاستنباط برأيهم وعلمهم. قال الغزالي والقرطبي : لا يصح أن يكون كل ما قاله الصحابة في التفسير مسموعا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لوجهين : أحدهما أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يثبت عنه من التفسير إلا تفسير آيات قليلة وهي ما تقدم عن عائشة. الثاني أنهم اختلفوا

٢٦

في التفسير على وجوه مختلفة لا يمكن الجمع بينها ، وسماع جميعها من رسول الله محال ، ولو كان بعضها مسموعا لترك الآخر ، أي لو كان بعضها مسموعا لقال قائله إنه سمعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرجع إليه من خالفه ، فتبين على القطع أن كل مفسر قال في معنى الآية بما ظهر له باستنباطه.

روى البخاري في «صحيحه» عن أبي جحيفة قال : قلت لعليّ : هل عندكم شيء من الوحي إلا ما في كتاب الله؟ قال : «لا والذي فلق الحبّة وبرأ النّسمة لا أعلمه إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن إلخ» وقد دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعبد الله بن عباس فقال : «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» واتفق العلماء على أن المراد بالتأويل تأويل القرآن. وقد ذكر فقهاؤنا في آداب قراءة القرآن أن التفهم مع قلة القراءة أفضل من كثرة القراءة بلا تفهم ، قال الغزالي في «الإحياء» : «التدبر في قراءته إعادة النظر في الآية والتفهم أن يستوضح من كل آية ما يليق بها كي تتكشف له من الأسرار معان مكنونة لا تتكشف إلا للموفقين» قال : «ومن موانع الفهم أن يكون قد قرأ تفسيرا واعتقد أن لا معنى لكلمات القرآن إلا ما تناوله النقل عن ابن عباس وابن مجاهد ، وأن ما وراء ذلك تفسير بالرأي فهذا من الحجب العظيمة».

وقال فخر الدين في تفسير قوله تعالى : (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) في سورة النساء [١٩] «وقد ثبت في أصول الفقه أن المتقدمين إذا ذكروا وجها في تفسير الآية فذلك لا يمنه المتأخرين من استخراج وجه آخر في تفسيرها وإلا لصارت الدقائق التي يستنبطها المتأخرون في التفسير مردودة ، وذلك لا يقوله إلا مقلد خلف ـ بضم الخاء» وقال سفيان بن عيينة في قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) [إبراهيم : ٤٢] هي تسلية للمظلوم وتهديد للظالم ، فقيل له من قال هذا فغضب وقال : إنما قاله من علمه يريد نفسه ، وقال أبو بكر ابن العربي في «العواصم» إنه أملى على سورة نوح خمسمائة مسألة وعلى قصة موسى ثمانمائة مسألة.

وهل استنباط الأحكام التشريعية من القرآن في خلال القرون الثلاثة الأولى من قرون الإسلام إلا من قبيل التفسير لآيات القرآن بما لم يسبق تفسيرها به قبل ذلك؟ وهذا الإمام الشافعي يقول : تطلبت دليلا على حجية الإجماع فظفرت به في قوله تعالى : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) [النساء : ١١٥].

٢٧

قال شرف الدين الطيبي في «شرح الكشاف» في سورة الشعراء : «شرط التفسير الصحيح أن يكون مطابقا للفظ من حيث الاستعمال ، سليما من التكلف عريا من التعسف» ، وصاحب «الكشاف» يسمي ما كان على خلاف ذلك بدع التفاسير.

وأما الجواب عن الشبهة التي نشأت من الآثار المروية في التحذير من تفسير القرآن بالرأي فمرجعه إلى أحد خمسة وجوه :

أولها : أن المراد بالرأي هو القول عن مجرد خاطر دون استناد إلى نظر في أدلة العربية ومقاصد الشريعة وتصاريفها ، وما لا بد منه من معرفة الناسخ والمنسوخ وسبب النزول فهذا لا محالة إن أصاب فقد أخطأ في تصوره بلا علم ، لأنه لم يكن مضمون الصواب كقول المثل : «رمية من غير رام» وهذا كمن فسر (الم) [البقرة : ١]! إن الله أنزل جبريل على محمد بالقرآن فإنه لا مستند لذلك ، وأما ما روي عن الصديق رضي‌الله‌عنه فيما تقدم في تفسير الآية فذلك من الورع خشية الوقوع في الخطأ في كل ما لم يقم له فيه دليل أو في مواضع لم تدع الحاجة إلى التفسير فيها ، ألم تر أنه سئل عن الكلالة في آية النساء فقال : أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان إلخ وعلى هذا المحمل ما روي عن الشعبي وسعيد ، أي أنهما تباعدا عما يوقع في ذلك ولو على احتمال بعيد مبالغة في الورع ودفعا للاحتمال الضعيف ، وإلا فإن الله تعالى ما تعبدنا في مثل هذا إلا ببذل الوسع مع ظن الإصابة.

ثانيها : أن لا يتدبر القرآن حق تدبره فيفسره بما يخطر له من بادئ الرأي دون إحاطة بجوانب الآية ومواد التفسير مقتصرا على بعض الأدلة دون بعض كأن يعتمد على ما يبدو من وجه العربية فقط ، كمن يفسر قوله تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ) [النساء : ٧٩] الآية على ظاهر معناها يقول إن الخير من الله والشر من فعل الإنسان بقطع النظر على الأدلة الشرعية التي تقتضي أن لا يقع إلا ما أراد الله غافلا عما سبق من قوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ)(١) [النساء : ٧٨] أو بما يبدو من ظاهر اللغة دون استعمال العرب كمن يقول في قوله تعالى : (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً) [الإسراء : ٥٩] فيفسر مبصرة بأنها ذات بصر لم

__________________

(١) هذا التمثيل للغزالي على أحد تفسيرين ، والمثال يكفي فيه الفرض. وذكر الفخر في تفسير قوله تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ) [النساء : ٧٩] أنه جرى على معنى التعليم للتأدب مع الخالق وقوله : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) [النساء : ٧٨] جرى مجرى بيان الحقيقة.

٢٨

تكن عمياء ، فهذا من الرأي المذموم لفساده.

ثالثها : أن يكون له ميل إلى نزعة أو مذهب أو نحلة فيتأول القرآن على وفق رأيه ويصرفه عن المراد ويرغمه على تحمله ما لا يساعد عليه المعنى المتعارف ، فيجر شهادة القرآن لتقرير رأيه ويمنعه عن فهم القرآن حق فهمه ما قيّد عقله من التعصب ، عن أن يجاوزه فلا يمكنه أن يخطر بباله غير مذهبه حتى إن لمع له بارق حق وبدا له معنى يباين مذهبه حمل عليه شيطان التعصب حملة وقال كيف يخطر هذا ببالك ، وهو خلاف معتقدك؟ كمن يعتقد من الاستواء على العرش التمكن والاستقرار ، فإن خطر له أن معنى قوله تعالى : (الْقُدُّوسُ) [الحشر : ٢٣] أنه المنزه عن كل صفات المحدثات حجبه تقليده عن أن يتقرر ذلك في نفسه ، ولو تقرر لتوصل فهمه فيه إلى كشف معنى ثان أو ثالث ، ولكنه يسارع إلى دفع ذلك عن خاطره لمناقضته مذهبه. وجمود الطبع على الظاهر مانع من التوصل للغور. كذلك تفسير المعتزلة قوله : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة : ٢٣] بمعنى أنها تنتظر نعمة ربها على أن إلى واحد الآلاء مع ما في ذلك من الخروج عن الظاهر وعن المأثور وعن المقصود من الآية.

وقالت البيانيّة في قوله تعالى : (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ) [آل عمران : ١٣٨] إنه بيان ابن سمعان كبير مذهبهم (١). وكانت المنصورية أصحاب أبي منصور الكسف (٢) يزعمون أن المراد من قوله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ) [الطور : ٤٤] أن الكسف إمامهم نازل من السماء ، وهذا إن صح عنهم ولم يكن من ملصقات أضدادهم فهو تبديل للقرآن ومروق عن الدين.

رابعها : أن يفسر القرآن برأي مستند إلى ما يقتضيه اللفظ ثم يزعم أن ذلك هو المراد دون غيره لما في ذلك من التضييق على المتأولين.

خامسها : أن يكون القصد من التحذير أخذ الحيطة في التدبر والتأويل ونبذ التسرع

__________________

(١) وهو بيان بن سمعان التميمي ، والبيانية من غلاة الشيعة ، يقولون بالحلول وبإلهية علي والحسن والحسين ومحمد بن الحنفية. صلب خالد بن عبد الله القسري بيانا هذا سنة ١١٩ ه‍ بالكوفة.

(٢) هو أبو منصور العجلي الملقب بالكشف ـ بكسر الكاف وسكون السين ـ زعم أنه خليفة الباقر وزعم أنه عرج إلى السماء وتلقى من الله الإذن بأن يبلغ عنه وأنه المراد بقوله تعالى : (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ) [الطور : ٤٤] قتله يوسف بن عمر الثقفي أمير العراق بين سنة ١٢٠ و ١٢٦ ه‍.

٢٩

إلى ذلك ، وهذا مقام تفاوت العلماء فيه واشتد الغلو في الورع ببعضهم حتى كان لا يذكر تفسير شيء غير عازيه إلى غيره ، وكان الأصمعي لا يفسر كلمة من العربية إذا كانت واقعة في القرآن ، ذكر ذلك في «المزهر» فأبى أن يتكلم في أنّ سرى وأسرى بمعنى واحد ، لأن أسرى ذكرت في القرآن. ولا في أنّ عصفت الريح وأعصفت بمعنى واحد لأنها في القرآن ، وقال : الذي سمعته في معنى الخليل أنه أصفى المودة وأصمها ولا أزيد فيه شيئا لأنه في القرآن ا ه.

فهذا ضرب من الورع يعتري بعض الناس لخوف ، وأنه قد يعتري كثيرا من أهل العلم والفضل ، وربما تطرق إلى بعضهم في بعض أنواع الأحوال دون بعض ، فتجد من يعتريه ذلك في العلم ولا يعتريه في العقل ، وقد تجد العكس ، والحق أن الله ما كلفنا في غير أصول الاعتقاد بأكثر من حصول الظن المستند إلى الأدلة والأدلة متنوعة على حسب أنواع المستند فيه. وأدلة فهم الكلام معروفة وقد بيناها.

أما الذين جمدوا على القول بأن تفسير القرآن يجب أن لا يعدو ما هو مأثور فهم رموا هذه الكلمة على عواهنها ولم يضبطوا مرادهم من المأثور عمن يؤثر ، فإن أرادوا به ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من تفسير بعض آيات إن كان مرويا بسند مقبول من صحيح أو حسن ، فإذا التزموا هذا الظن بهم فقد ضيقوا سعة معاني القرآن وينابيع ما يستنبط من علومه ، وناقضوا أنفسهم فيما دونوه من التفاسير ، وغلّطوا سلفهم فيما تأولوه ، إذ لا ملجأ لهم من الاعتراف بأن أئمة المسلمين من الصحابة فمن بعدهم لم يقصروا أنفسهم على أن يرووا ما بلغهم من تفسير عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد سأل عمر بن الخطاب أهل العلم عن معاني آيات كثيرة ولم يشترط عليهم أن يرووا له بلغهم في تفسيرها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإن أرادوا بالمأثور ما روى عن النبي وعن الصحابة خاصة وهو ما يظهر من صنيع السيوطي في تفسيره «الدر المنثور» ، لم يتسع ذلك المضيق إلا قليلا ولم يغن عن أهل التفسير فتيلا ، لأن أكثر الصحابة لا يؤثر عنهم في التفسير إلا شيء قليل سوى ما يروى عن عليّ بن أبي طالب على ما فيه من صحيح وضعيف وموضوع ، وقد ثبت عنه أنه قال : ما عندي مما ليس في كتاب الله شيء إلا فهما يؤتيه الله. وما يروى عن ابن مسعود وعبد الله بن عمر وأنس وأبي هريرة. وأما ابن عباس فكان أكثر ما يروي عنه قولا برأيه على تفاوت بين رواته. وإن أرادوا بالمأثور ما كان مرويا قبل تدوين التفاسير الأول مثل ما يروى عن أصحاب ابن عباس وأصحاب ابن مسعود ، فقد أخذوا يفتحون الباب من شقّة ، ويقربون ما

٣٠

بعد من الشّقّة. إذ لا محيص لهم من الاعتراف بأن التابعين قالوا أقوالا في معاني القرآن لم يسندوها ولا ادعوا أنها محذوفة الأسانيد ، وقد اختلفت أقوالهم في معاني آيات كثيرة اختلافا ينبئ إنباء واضحا بأنهم إنما تأوّلوا تلك الآيات من أفهامهم كما يعلمه من له علم بأقوالهم ، وهي ثابتة في «تفسير الطبري» ونظرائه ، وقد التزم الطبري في «تفسير» أن يقتصر على ما هو مروي عن الصحابة والتابعين ، لكنه لا يلبث في كل آية أن يتلخص ذلك إلى اختياره منها وترجيح بعضها على بعض بشواهد من كلام العرب ، وحسبه بذلك تجاوزا لما حدده من الاقتصار على التفسير بالمأثور وذلك طريق ليس بنهج ، وقد سبقه إليه بقيّ بن مخلد ولم نقف على «تفسيره» ، وشاكل الطبري فيه معاصروه ، مثل ابن أبي (١) حاتم وابن مردويه والحاكم ، فلله در الذين لم يحبسوا أنفسهم في تفسير القرآن على ما هو مأثور مثل الفراء وأبي عبيدة من الأولين والزجاج والرّمّاني ممن بعدهم ، ثم الذين سلكوا طريقهم مثل الزمخشري وابن عطية.

وإذ قد تقصينا مثارات التفسير بالرأي المذموم وبينا لكم الأشباه والأمثال ، بما لا يبقى معه للاشتباه من مجال ، فلا تجاوز هذا المقام ما لم ننبهكم إلى حال طائفة التزمت تفسير القرآن بما يوافق هواها ، وصرفوا ألفاظ القرآن عن ظواهرها بما سمّوه الباطن ، وزعموا أن القرآن إنما نزل متضمنا لكنايات ورموز عن أغراض ، وأصل هؤلاء طائفة من غلاة الشيعة عرفوا عند أهل العلم بالباطنية فلقبوهم بالوصف الذي عرفوهم به ، وهم يعرفون عند المؤرخين بالإسماعيلية لأنهم ينسبون مذهبهم إلى جعفر بن إسماعيل الصادق ، ويعتقدون عصمته وإمامته بعد أبيه بالوصاية ، ويرون أن لا بد للمسلمين من إمام هدى من آل البيت هو الذي يقيم الدين ، ويبين مراد الله. ولما توقعوا أن يحاجّهم العلماء بأدلة القرآن والسنة رأوا أن لا محيص لهم من تأويل تلك الحجج التي تقوم في وجه بدعتهم ، وأنهم إن خصوها بالتأويل وصرف اللفظ إلى الباطن اتهمهم الناس بالتعصب والتحكم فرأوا صرف جميع القرآن عن ظاهره وبنوه على أن القرآن رموز لمعان خفية في صورة ألفاظ تفيد معاني ظاهرة ليشتغل بها عامة المسلمين ، وزعموا أن ذلك شأن الحكماء ، فمذهبهم مبني على قواعد الحكمة الإشراقية ومذهب التناسخ والحلولية فهو خليط من ذلك ، ومن طقوس الديانات اليهودية والنصرانية وبعض طرائق الفلسفة ودين زرادشت. وعندهم أن الله يحل في كل رسول وإمام وفي الأماكن المقدسة ، وأنه يشبه الخلق ـ تعالى

__________________

(١) زيادة من المصحح.

٣١

وتقدس ـ وكل علوي يحل فيه الإله. وتكلفوا لتفسير القرآن بما يساعد الأصول التي أسسوها. ولهم في التفسير تكلفات ثقيلة منها قولهم أن قوله تعالى : (وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ) [الأعراف : ٤٦] أن جبلا يقال له الأعراف هو مقر أهل المعارف الذين يعرفون كلا بسيماهم. وأن قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) [مريم : ٧١] أي لا يصل أحد إلى الله إلا بعد جوازه على الآراء الفاسدة إما في أيام صباه ، أو بعد ذلك ، ثم ينجي الله من يشاء. وأن قوله تعالى : (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) [طه : ٤٣] أراد بفرعون القلب.

وقد تصدى للرد عليهم الغزالي في كتابه الملقب ب «المستظهري». وقال إذا قلنا بالباطن فالباطن لا ضبط له بل تتعارض فيه الخواطر فيمكن تنزيل الآية على وجوه شتى ا ه. يعني والذي يتخذونه حجة لهم يمكن أن نقلبه عليهم وندعي أنه باطن القرآن لأن المعنى الظاهر هو الذي لا يمكن اختلاف الناس فيه لاستناده للغة الموضوعة من قبل. وأما الباطن فلا يقوم فهم أحد فيه حجة على غيره اللهم إلا إذا زعموا أنه لا يتلقى إلا من الإمام المعصوم ولا إخالهم إلا قائلين ذلك. ويؤيد هذا ما وقع في بعض قراطيسهم قالوا : «إنما ينتقل إلى البدل مع عدم الأصل ، والنظر بدل من الخبر فإن كلام الله هو الأصل فهو خلق الإنسان وعلمه البيان والإمام هو خليفته ومع وجود الخليفة الذي يبين قوله فلا ينتقل إلى النظر ا ه وبيّن ابن العربي في كتاب «العواصم» شيئا من فضائح مذهبهم بما لا حاجة إلى التطويل به هنا.

فإن قلت فما روي : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إن للقرآن ظهرا وبطنا ومطلعا». وعن ابن عباس أنه قال : إن للقرآن ظهرا وبطنا. قلت لم يصح ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بل المروي عن ابن عباس فمن هو المتصدي لروايته عنه؟ على أنهم ذكروا من بقية كلام ابن عباس أنه قال : «فظهره التلاوة وبطنه التأويل» فقد أوضح مراده إن صح عنه بأن الظهر هو اللفظ والبطن هو المعنى. ومن تفسير الباطنية «تفسير القاشاني» وكثير من أقوالهم مبثوث في «رسائل إخوان الصفاء».

أما ما يتكلم به أهل الإشارات من الصوفية في بعض آيات القرآن من معان لا تجري على ألفاظ القرآن ظاهرا ولكن بتأويل ونحوه فينبغي أن تعلموا أنهم ما كانوا يدّعون أن كلامهم في ذلك تفسير للقرآن ، بل يعنون أن الآية تصلح للتمثل بها في الغرض المتكلم فيه ، وحسبكم في ذلك أنهم سموها إشارات ولم يسموها معاني ، فبذلك فارق قولهم قول الباطنية. ولعلماء الحق فيها رأيان : فالغزالي يراها مقبولة ، قال

٣٢

في كتاب من «الإحياء» (١) : إذا قلنا في قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة» فهذا ظاهره أو إشارته أن القلب بيت وهو مهبط الملائكة ومستقر آثارهم ، والصفات الرديئة كالغضب والشهوة والحسد والحقد والعجب كلاب نابحة في القلب فلا تدخله الملائكة وهو مشحون بالكلاب ، ونور الله لا يقذفه في القلب إلا بواسطة الملائكة ، فقلب كهذا لا يقذف فيه النور. وقال ولست أقوال إن المراد من الحديث بلفظ البيت القلب وبالكلب الصفة المذمومة ولكن أقول هو تنبيه عليه ، وفرق بين تغيير الظاهر وبين التنبيه على البواطن من ذكر الظواهر ا ه فبهذه الدقيقة فارق نزعة الباطنية. ومثل هذا قريب من تفسير لفظ عامّ في آية بخاصّ من جزئياته كما وقع في كتاب المغازي من «صحيح البخاري» عن عمرو بن عطاء في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) [إبراهيم : ٢٨] قال هم كفار قريش ، ومحمد نعمة الله : (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ) [إبراهيم : ٢٨] قال يوم بدر.

وابن العربي في كتاب «العواصم» يرى إبطال هذه الإشارات كلها حتى أنه بعد أن ذكر نحلة الباطنية وذكر «رسائل إخوان الصفاء» أطلق القول في إبطال أن يكون للقرآن باطن غير ظاهره ، وحتى أنه بعد ما نوه بالثناء على الغزالي في تصديه للرد على الباطنية والفلاسفة قال : «وقد كان أبو حامد بدرا في ظلمة الليالي ، وعقدا في لبّة المعالي ، حتى أوغل في التصوف ، وأكثر معهم التصرف ، فخرج عن الحقيقة، وحاد في أكثر أقواله عن الطريقة ا ه».

وعندي أن هذه الإشارات لا تعدو واحدا من ثلاثة أنحاء : الأول ما كان يجري فيه معنى الآية مجرى التمثيل لحال شبيه بذلك المعنى كما يقولون مثلا : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) أنه إشارة للقلوب لأنها مواضع الخضوع لله تعالى إذ بها يعرف فتسجد له القلوب بفناء النفوس. ومنعها من ذكره هو الحيلولة بينها وبين المعارف اللدنية ، (وَسَعى فِي خَرابِها) [البقرة : ١١٤] بتكديرها بالتعصبات وغلبة الهوى ، فهذا يشبه ضرب المثل لحال من لا يزكي نفسه بالمعرفة ويمنع قلبه أن تدخله صفات الكمال الناشئة عنها بحال مانع المساجد أن يذكر فيها اسم الله ، وذكر الآية عند تلك

__________________

(١) ج ١ / ٤٩ ـ دار المعرفة ـ «كتاب العلم». الباب الخامس : في آداب المتعلم والمعلم. انظر أيضا : «إتحاف الزبيدي» ١ / ٣٠٦.

٣٣

الحالة كالنطق بلفظ المثل ، ومن هذا قولهم في حديث : «لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب» كما تقدم عن الغزالي.

الثاني : ما كان من نحو التفاؤل فقد يكون للكلمة معنى يسبق من صورتها إلى السمع هو غير معناها المراد وذلك من باب انصراف ذهن السامع إلى ما هو المهم عنده والذي يجول في خاطره وهذا كمن قال في قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ) [البقرة : ٢٥٥] من ذلّ ذي إشارة للنفس يصير من المقربين الشفعاء ، فهذا يأخذ صدى موقع الكلام في السمع ويتأوّله على ما شغل به قلبه. ورأيت الشيخ محي الدين يسمي هذا النوع سماعا ولقد أبدع.

الثالث : عبر ومواعظ وشأن أهل النفوس اليقظى أن ينتفعوا من كل شيء ويأخذوا الحكمة حيث وجدوها فما ظنك بهم إذا قرءوا القرآن وتدبروه فاتعظوا بمواعظة فإذا أخذوا من قوله تعالى : (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً) [المزمل : ١٦] اقتبسوا أن القلب الذي لم يمتثل رسول المعارف العليا تكون عاقبته وبالا.

ومن حكاياتهم في غير باب التفسير أن بعضهم مر برجل يقول لآخر : هذا العود لا ثمرة فيه فلم يعد صالحا إلا للنار. فجعل يبكي ويقول : إذن فالقلب غير المثمر لا يصلح إلا للنار.

فنسبة الإشارة إلى لفظ القرآن مجازية لأنها إنما تشير لمن استعدّت عقولهم وتدبّرهم في حال من الأحوال الثلاثة ولا ينتفع بها غير أولئك ، فلما كانت آيات القرآن قد أنارت تدبرهم وأثارت اعتبارهم نسبوا تلك الإشارة للآية. فليست تلك الإشارة هي حق الدلالة اللفظية والاستعمالية حتى تكون من لوازم اللفظ وتوابعه كما قد تبين. وكل إشارة خرجت عن حد هذه الثلاثة الأحوال إلى ما عداها فهي تقترب إلى قول الباطنية رويدا رويدا إلى أن تبلغ عين مقالاتهم وقد بصرناكم بالحد الفارق بينهما ، فإذا رأيتم اختلاطه فحققوا مناطه ، وفي أيديكم فيصل الحق فدونكم اختراطه.

وليس من الإشارة ما يعرف في الأصول بدلالة الإشارة وفحوى الخطاب ، وفهم الاستغراق من لام التعريف في المقام الخطابي ، ودلالة التضمن والالتزام كما أخذ العلماء من تنبيهات القرآن استدلالا لمشروعية أشياء ، كاستدلالهم على مشروعية الوكالة من قوله تعالى : (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ) [الكهف : ١٩] ومشروعية الضمان من قوله : (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) [يوسف : ٧٢] ومشروعية القياس من وله : (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) [النساء :

٣٤

١٠٥] ولا بما هو بالمعنى المجازي نحو (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ) [سبأ : ١٠] ـ (فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) [فصلت : ١١] ولا ما هو من تنزيل الحال منزلة المقال نحو : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء : ٤٤] لأن جميع هذا مما قامت فيه الدلالة العرفية مقام الوضعية واتحدت في إدراكه أفهام أهل العربية فكان من المدلولات التبعية.

قال في «الكشاف» : وكم من آية أنزلت في شأن الكافرين وفيها أوفر نصيب للمؤمنين تدبرا لها واعتبارا بموردها. يعني أنها في شأن الكافرين من دلالة العبارة وفي شأن المؤمنين من دلالة الإشارة.

هذا وإن واجب النصح في الدين والتنبيه إلى ما يغفل عنه المسلمون مما يحسبونه هينا وهو عند الله عظيم قضى علىّ أن أنبه إلى خطر أمر تفسير الكتاب والقول فيه دون مستند من نقل صحيح عن أساطين المفسرين أو إبداء تفسير أو تأويل من قائله إذا كان القائل توفرت فيه شروط الضلاعة في العلوم التي سبق ذكرها في المقدمة الثانية. فقد رأينا تهافت كثير من الناس على الخوض في تفسير آيات من القرآن فمنهم من يتصدى لبيان معنى الآيات على طريقة كتب التفسير ومنهم من يضع الآية ثم يركض في أساليب المقالات تاركا معنى الآية جانبا ، جالبا من معاني الدعوة والموعظة ما كان جالبا ، وقد دلت شواهد الحال على ضعف كفاية البعض لهذا العمل العلمي الجليل فيجب على العاقل أن يعرف قدره ، وأن لا يتعدّى طوره ، وأن يرد الأشياء إلى أربابها ، كيلا يختلط الخاثر بالزباد ، ولا يكون في حالك سواد ، وإن سكوت العلماء على ذلك زيادة في الورطة ، وإفحاش لأهل هذه الغلطة ، فمن يركب متن عمياء ، ويخبط خبط عشواء ، فحق على أساطين العلم تقويم اعوجاجه ، وتمييز حلوه من أجاجه ، تحذيرا للمطالع ، وتنزيلا في البرج والطالع.

٣٥

المقدمة الرابعة

فيما يحق أن يكون غرض المفسر

كأني بكم وقد مر على أسماعكم ووعت ألبابكم ما قررته من استمداد علم التفسير ، ومن صحة تفسير القرآن بغير المأثور ، ومن الإنحاء على من يفسر القرآن بما يدعيه باطنا ينافي مقصود القرآن ، ومن التفرقة بين ذلك وبين الإشارات ، تتطلعون بعد إلى الإفصاح عن غاية المفسر من التفسير ، وعن معرفة المقاصد التي نزل القرآن لبيانها حتى تستبين لكم غاية المفسرين من التفسير على اختلاف طرائقهم ، وحتى تعلموا عند مطالعة التفاسير مقادير اتصال ما تشتمل عليه ، بالغاية التي يرمي إليها المفسر فتزنوا بذلك مقدار ما أوفى به من المقصد ، ومقدار ما تجاوزه ، ثم ينعطف القول إلى التفرقة بين من يفسر القرآن بما يخرج عن الأغراض المرادة منه ، وبين من يفصل معانيه تفصيلا ، ثم ينعطف القول إلى نموذج مما استخرجه العلماء من مستنبطات القرآن في كثير من العلوم.

إن القرآن أنزله الله تعالى كتابا لصلاح أمر الناس كافة رحمة لهم لتبليغهم مراد الله منهم قال الله تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) [النحل : ٨٩] فكان المقصد الأعلى منه صلاح الأحوال الفردية ، والجماعية ، والعمرانية ، فالصلاح الفردي يعتمد تهذيب النفس وتزكيتها ، ورأس الأمر فيه صلاح الاعتقاد لأن الاعتقاد مصدر الآداب والتفكير ، ثم صلاح السريرة الخاصة ، وهي العبادات الظاهرة كالصلاة ، والباطنة كالتخلق بترك الحسد والحقد والكبر. وأما الصلاح الجماعي فيحصل أولا من الصلاح الفردي إذ الأفراد أجزاء المجتمع ، ولا يصلح الكل إلا بصلاح أجزائه ، ومن شيء زائد على ذلك وهو ضبط تصرف الناس بعضهم مع بعض على وجه يعصمهم من مزاحمة الشهوات ومواثبة القوى النفسانية ، وهذا هو علم المعاملات ، ويعبر عنه عند الحكماء بالسياسة المدنية. وأما الصلاح العمراني فهو أوسع من ذلك إذا هو حفظ نظام العالم الإسلامي ، وضبط تصرف الجماعات والأقاليم بعضهم مع بعض على وجه يحفظ مصالح الجميع ، ورعي المصالح الكلية الإسلامية ، وحفظ المصلحة الجامعة عند معارضة المصلحة القاصرة لها ، ويسمى هذا بعلم العمران وعلم الاجتماع.

٣٦

فمراد الله من كتابه هو بيان تصاريف ما يرجع إلى حفظ مقاصد الدين وقد أودع ذلك في ألفاظ القرآن التي خاطبنا بها خطابا بيّنا وتعبّدنا بمعرفة مراده والاطلاع عليه فقال : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) [ص : ٢٩] سواء قلنا إنه يمكن الاطلاع على تمام مراد الله تعالى وهو قول علمائنا والمشايخي والسكاكي وهما من المعتزلة ، أم قال قائل بقول بقية المعتزلة إنّ الاطلاع على تمام مراد الله تعالى غير ممكن ، وهو خلاف لا طائل تحته إذ القصد هو الإمكان الوقوعي لا العقلي ، فلا مانع من التكليف باستقصاء البحث عنه بحسب الطاقة ومبلغ العلم مع تعذر الاطلاع على تمامه.

وقد اختار الله تعالى أن يكون اللسان العربي مظهرا لوحيه ، ومستودعا لمراده ، وأن يكون العرب هم المتلقين أولا لشرعه وإبلاغ مراده لحكمة علمها : منها كون لسانهم أفصح الألسن وأسهلها انتشارا ، وأكثرها تحملا للمعاني مع إيجاز لفظه ، ولتكون الأمة المتلقية للتشريع والناشرة له أمة قد سلمت من أفن الرأي عند المجادلة ، ولم تقعد بها عن النهوض أغلال التكالب على الرفاهية ، ولا عن تلقي الكمال الحقيقي إذ يسبب لها خلطه بما يجر إلى اضمحلاله فيجب أن تعلموا قطعا أن ليس المراد من خطاب العرب بالقرآن أن يكون التشريع قاصرا عليهم أو مراعيا لخاصة أحوالهم ، بل إن عموم الشريعة ودوامها وكون القرآن معجزة دائمة مستمرة على تعاقب السنين ينافي ذلك ، نعم إن مقاصده تصفية نفوس العرب الذين اختارهم كما قلنا لتلقي شريعته وبثها ونشرها ، فهم المخاطبون ابتداء قبل بقية أمة الدعوة فكانت أحوالهم مرعية لا محالة ، وكان كثير من القرآن مقصودا به خطابهم خاصة ، وإصلاح أحوالهم قال تعالى : (ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) [هود : ٤٩] وقال : (أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ) [الأنعام : ١٥٦ ، ١٥٧] لكن ليس ذلك بوجه الاقتصار على أحوالهم كما سيأتي.

أليس قد وجب على الآخذ في هذا الفن أن يعلم المقاصد الأصلية التي جاء القرآن لتبيانها فلنلم بها الآن بحسب ما بلغ إليه استقراؤنا وهي ثمانية أمور :

الأول : إصلاح الاعتقاد وتعليم العقد الصحيح ، وهذا أعظم سبب لإصلاح الخلق ، لأنه يزيل عن النفس عادة الإذعان لغير ما قام عليه الدليل ، ويطهر القلب من الأوهام الناشئة عن الإشراك والدهرية وما بينهما ، وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى : (فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ

٣٧

تَتْبِيبٍ) [هود : ١٠١] فأسند لآلهتهم زيادة تتبيبهم ، وليس هو من فعل الآلهة ولكنه من آثار الاعتقاد بالآلهة.

الثاني : تهذيب الأخلاق قال تعالى : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم : ٤] وفسرت عائشة رضي الله تعالى عنها لما سئلت عن خلقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : كان خلقه القرآن. وفي الحديث الذي رواه مالك في «الموطأ» بلاغا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «بعثت لأتمم مكارم حسن الأخلاق» وهذا المقصد قد فهمه عامة العرب بله خاصة الصحابة ، وقال أبو خراش الهذلي مشيرا إلى ما دخل على العرب من أحكام الإسلام بأحسن تعبير :

فليس كعهد الدار يا أمّ مالك

ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل

وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل

سوى العدل شيئا فاستراح العواذل

أراد بإحاطة السلاسل بالرقاب أحكام الإسلام ، والشاهد في قوله وعاد الفتى كالكهل.

الثالث : التشريع وهو الأحكام خاصة وعامة. قال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) [النساء : ١٠٥] (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) [المائدة : ٤٨] ولقد جمع القرآن جميع الأحكام جمعا كليا في الغالب ، وجزئيا في المهم ، فقوله (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) [النحل : ٨٩] ، وقوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [المائدة : ٣] المراد بهما! إكمال الكليات التي منها الأمر بالاستنباط والقياس. قال الشاطبي لأنه على اختصاره جامع والشريعة تمت بتمامه ولا يكون جامعا لتمام الدين إلا والمجموع فيه أمور كلية.

الرابع : سياسة الأمة وهو باب عظيم في القرآن القصد منه صلاح الأمة وحفظ نظامها كالإرشاد إلى تكوين الجامعة بقوله : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) [آل عمران : ١٠٣] وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) [الأنعام : ١٥٩] وقوله : (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال : ٤٦] وقوله : (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) [الشورى : ٣٨].

الخامس : القصص وأخبار الأمم السالفة للتأسي بصالح أحوالهم قال : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) [يوسف :

٣٨

٣] (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٩٠] وللتحذير من مساويهم قال : (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ) [إبراهيم : ٤٥] وفي خلالها تعليم ، وكنا أشرنا إليها في المقدمة الثانية.

السادس : التعليم بما يناسب حالة عصر المخاطبين ، وما يؤهلهم إلى تلقي الشريعة ونشرها وذلك علم الشرائع وعلم الأخبار وكان ذلك مبلغ علم مخالطي العرب من أهل الكتاب. وقد زاد القرآن على ذلك تعليم حكمة ميزان العقول وصحة الاستدلال في أفانين مجادلاته للضالين وفي دعوته إلى النظر ، ثم نوّه بشأن الحكمة فقال : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) [البقرة : ٢٦٩] وهذا أوسع باب انبجست منه عيون المعارف ، وانفتحت به عيون الأميين إلى العلم ، وقد لحق به التنبيه المتكرر على فائدة العلم ، وذلك شيء لم يطرق أسماع العرب من قبل ، إنما قصارى علومهم أمور تجريبية ، وكان حكماؤهم أفرادا اختصوا بفرط ذكاء تضم إليه تجربة وهم العرفاء فجاء القرآن بقوله : (وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) [العنكبوت : ٤٣] (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزمر : ٩] وقال : (ن وَالْقَلَمِ) [القلم : ١] فنبه إلى مزية الكتابة.

السابع : المواعظ والإنذار والتحذير والتبشير ، وهذا يجمع جميع آيات الوعد والوعيد ، وكذلك المحاجة والمجادلة للمعاندين ، وهذا باب الترغيب والترهيب.

الثامن : الإعجاز بالقرآن ليكون آية دالة على صدق الرسول ؛ إذ التصديق يتوقف على دلالة المعجزة بعد التحدي ، والقرآن جمع كونه معجزة بلفظه ومتحدّى لأجله بمعناه والتحدي وقع فيه : (قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) [يونس : ٣٨] ولمعرفة أسباب النزول مدخل في ظهور مقتضى الحال ووضوحه. هذا ما بلغ إليه استقرائي وللغزالي في «إحياء علوم» الدين بعض من ذلك.

فغرض المفسر بيان ما يصل إليه أو ما يقصده من مراد الله تعالى في كتابه بأتم بيان يحتمله المعنى ولا يأباه اللفظ من كل ما يوضح المراد من مقاصد القرآن ، أو ما يتوقف عليه فهمه أكمل فهم ، أو يخدم المقصد تفصيلا وتفريعا كما أشرنا إليه في المقدمة الأولى ، مع إقامة الحجة على ذلك إن كان به خفاء ، أو لتوقع مكابرة من معاند أو جاهل ، فلا جرم كان رائد المفسر في ذلك أن يعرف على الإجمال مقاصد القرآن مما جاء لأجله ، ويعرف اصطلاحه في إطلاق الألفاظ ، وللتنزيل اصطلاح وعادات ، وتعرض صاحب «الكشاف» إلى شيء من عادات القرآن في متناثر كلامه في تفسيره.

فطرائق المفسرين للقرآن ثلاث ، إما الاقتصار على الظاهر من المعنى الأصلي

٣٩

للتركيب مع بيانه وإيضاحه وهذا هو الأصل ، وإما استنباط معان من وراء الظاهر تقتضيها دلالة اللفظ أو المقام ولا يجافيها الاستعمال ولا مقصد القرآن ، وتلك هي مستتبعات التراكيب وهي من خصائص اللغة العربية المبحوث فيها في علم البلاغة ككون التأكيد يدل على إنكار المخاطب أو تردده ، وكفحوى الخطاب ودلالة الإشارة واحتمال المجاز مع الحقيقة ، وإما أن يجلب المسائل ويبسطها لمناسبة بينها وبين المعنى ، أو لأن زيادة فهم المعنى متوقفة عليها ، أو للتوفيق بين المعنى القرآني وبين بعض العلوم مما له تعلق بمقصد من مقاصد التشريع لزيادة تنبيه إليه ، أو لرد مطاعن من يزعم أنه ينافيه لا على أنها مما هو مراد الله من تلك الآية بل لقصد التوسع كما أشرنا إليه في المقدمة الثانية.

ففي الطريقة الثانية قد فرع العلماء وفصلوا في الأحكام ، وخصوها بالتآليف الواسعة ، وكذلك تفاريع الأخلاق والآداب التي أكثر منها حجة الإسلام الغزالي في كتاب «الإحياء» فلا يلام المفسر إذا أتى بشيء من تفاريع العلوم مما له خدمة للمقاصد القرآنية ، وله مزيد تعلق بالأمور الإسلامية كما نفرض أن يفسر قوله تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النساء : ١٦٤] بما ذكره المتكلمون في إثبات الكلام النفسي والحجج لذلك ، والقول في ألفاظ القرآن وما قاله أهل المذاهب في ذلك. وكذا أن يفسر ما حكاه الله تعالى في قصة موسى مع الخضر بكثير من آداب المعلم والمتعلم كما فعل الغزالي. وقد قال ابن العربي إنه أملى عليها ثمانمائة مسألة. وكذلك تقرير مسائل من علم التشريع لزيادة بيان قوله تعالى في خلق الإنسان : (مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) [الحج : ٥] الآيات فإنه راجع إلى المقصد وهو مزيد تقرير عظمة القدرة الإلهية.

وفي الطريقة الثالثة تجلب مسائل علمية من علوم لها مناسبة بمقصد الآية : إما على أن بعضها يومئ إليه معنى الآية ولو بتلويح ما كما يفسر أحد قوله تعالى : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) [البقرة : ٢٦٩] فيذكر تقسيم علوم الحكمة ومنافعها مدخلا ذلك تحت قوله : (خَيْراً كَثِيراً). فالحكمة وإن كانت علما اصطلاحيا وليس هو تمام المعنى للآية إلا أن معنى الآية الأصلي لا يفوت وتفاريع الحكمة تعين عليه ، وكذلك أن نأخذ من قوله تعالى : (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) [الحشر : ٧] تفاصيل من علم الاقتصاد السياسي وتوزيع الثروة العامة ونعلل بذلك مشروعية الزكاة والمواريث والمعاملات المركبة من رأس مال وعمل على أن ذلك تومئ إليه الآية إيماء. وأن بعض مسائل العلوم قد تكون أشد تعلقا بتفسير آي القرآن كما نفرض مسألة كلامية لتقرير دليل قرآني مثل برهان

٤٠