تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٣٥

[الإسراء : ٨٤] وقوله : (طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ) [النور : ٥٣] وقوله : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [المؤمنون : ٩٦].

وسلك القرآن مسلك الإطناب لأغراض من البلاغة ومن أهم مقامات الإطناب مقام توصيف الأحوال التي يراد بتفصيل وصفها إدخال الروع في قلب السامع وهذه طريقة عربية في مثل هذا كقول ابن زيّابة :

نبّئت عمرا غارزا رأسه

في سنة يوعد أخواله

فمن آيات القرآن في مثله قوله تعالى : (كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ وَقِيلَ مَنْ راقٍ وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ) [القيامة : ٢٦ ـ ٢٩] وقوله : (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ) [الواقعة : ٨٣ ، ٨٤] وقوله : (مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) [إبراهيم : ٤٣].

ومن أساليب القرآن المنفرد بها التي أغفل المفسرون اعتبارها أنه يرد فيه استعمال اللفظ المشترك في معنيين أو معان إذا صلح المقام بحسب اللغة العربية لإرادة ما يصلح منها ، واستعمال اللفظ في معناه الحقيقي والمجازي إذا صلح المقام لإرادتهما ، وبذلك تكثر معاني الكلام مع الإيجاز وهذا من آثار كونه معجزة خارقة لعادة كلام البشر ودالة على أنه منزل من لدن العليم بكل شيء والقدير عليه. وقد نبهنا على ذلك وحققناه في المقدمة التاسعة.

ومن أساليبه الإتيان بالألفاظ التي تختلف معانيها باختلاف حروفها أو اختلاف حركات حروفها وهو من أسباب اختلاف كثير من القراءات مثل : وجعلوا الملائكة الذين هم عند الرحمن إناثا [الزخرف : ١٩] قرئ (عند) بالنون دون ألف وقرئ (عباد) بالموحدة وألف بعدها ، ومثل : (إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) [الزخرف : ٥٧] بضم الصاد وكسرها. وقد أشرنا إلى ذلك في المقدمة السادسة.

واعلم أن مما يندرج تحت جهة الأسلوب ما سماه أئمة نقد الأدب بالجزالة ، وما سمّوه بالرّقّة وبينوا لكل منهما مقاماته وهما راجعتان إلى معاني الكلام ، ولا تخلو سورة من القرآن من تكرر هذين الأسلوبين ، وكل منهما بالغ غايته في موقعه ، فبينما تسمعه يقول : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [الزمر : ٥٣] ويقول : (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ

١٢١

الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) [النساء : ٢٨] إذ تسمعه يقول : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) [فصلت : ١٣] قال عياض في «الشفاء» : إن عتبة بن ربيعة لما سمع هذه الآية أمسك بيده على فم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال له : ناشدتك الله والرّحم إلّا ما كففت.

عادات القرآن

يحق على المفسر أن يتعرف عادات القرآن من نظمه وكلمه. وقد تعرض بعض السلف لشيء منها ، فعن ابن عباس : كل كأس في القرآن فالمراد بها الخمر ، وذكر ذلك الطبري عن الضحاك أيضا. وفي «صحيح البخاري» في تفسير سورة الأنفال قال ابن عيينة : ما سمى الله مطرا في القرآن إلا عذابا ، وتسميه العرب الغيث كما قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا) [الشورى : ٢٨]. وعن ابن عباس أن كل ما جاء من (يا أَيُّهَا النَّاسُ) [البقرة : ٢١] فالمقصود به أهل مكة المشركون.

وقال الجاحظ في «البيان» : «وفي القرآن معان لا تكاد تفترق ، مثل الصلاة والزكاة ، والجوع والخوف ، والجنة والنار ، والرغبة والرهبة ، والمهاجرين والأنصار ، والجن والإنس» قلت : والنفع والضر ، والسماء والأرض.

وذكر صاحب «الكشاف» وفخر الدين الرازي أن من عادة القرآن أنه ما جاء بوعيد إلا أعقبه بوعد ، وما جاء بنذارة إلا أعقبها ببشارة ، ويكون ذلك بأسلوب الاستطراد والاعتراض لمناسبة التضاد ، ورأيت منه قليلا في شعر العرب كقول لبيد :

فاقطع لبانة من تعرّض وصله

فلشرّ واصل خلة صرّامها

وأحب المجامل بالجزيل وصرمه

باق إذا ظلعت وزاغ قوامها

وفي الكشاف في تفسير تعالى : (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ) [الصافات : ٥٠ ، ٥١] الآية : «جيء به ماضيا على عادة الله في أخباره». وقال فخر الدين في تفسير قوله تعالى : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ) من سورة العقود [١٠٩] : «عادة هذا الكتاب الكريم أنه إذا ذكر أنواعا كثيرة من الشرائع والتكاليف أتبعها إما بالإلهيات وإما بشرح أحوال الأنبياء وأحوال القيامة ليصير ذلك مؤكدا لما تقدم ذكره من التكاليف والشرائع».

وقد استقريت بجهدي عادات كثيرة في اصطلاح القرآن سأذكرها في مواضعها ، ومنها أن كلمة هؤلاء إذا لم يرد بعدها عطف بيان يبين المشار إليهم فإنها يراد بها

١٢٢

المشركون من أهل مكة كقوله تعالى : (بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ) [الزخرف : ٢٩] وقوله : (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) [الأنعام : ٨٩] وقد استوعب أبو البقاء الكفوي في كتاب «الكليات» في أوائل أبوابه كليات مما ورد في القرآن من معاني الكلمات ، وفي «الإتقان» للسيوطي شيء من ذلك.

وقد استقريت أنا من أساليب القرآن أنه إذا حكى المحاورات والمجاوبات حكاها بلفظ قال دون حروف عطف ، إلا إذا انتقل من محاورة إلى أخرى ، انظر قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) إلى قوله : (أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) [البقرة : ٣٠ ـ ٣٣].

وأما الجهة الثالثة من جهات الإعجاز وهي ما أودعه من المعاني الحكمية والإشارات العلمية فاعلموا أن العرب لم يكن لهم علم سوى الشعر وما تضمنه من الأخبار. قال عمر بن الخطاب : «كان الشعر علم القوم ولم يكن لهم علم أصح منه».

إن العلم نوعان علم اصطلاحي وعلم حقيقي ، فأما الاصطلاحي فهو ما تواضع الناس في عصر من الأعصار على أن صاحبه يعد في صف العلماء ، وهذا قد يتغير بتغير العصور ويختلف باختلاف الأمم والأقطار ، وهذا النوع لا تخلو عنه أمة.

وأما العلم الحقيقي فهو معرفة ما بمعرفته كمال الإنسان ، وما به يبلغ إلى ذروة المعارف وإدراك الحقائق النافعة عاجلا وآجلا ، وكلا العلمين كمال إنساني ووسيلة لسيادة أصحابه على أهل زمانهم ، وبين العلمين عموم وخصوص من وجه. وهذه الجهة خلا عنها كلام فصحاء العرب ، لأن أغراض شعرهم كانت لا تعدو وصف المشاهدات والمتخيلات والافتراضات المختلفة ولا تحوم حول تقرير الحقائق وفضائل الأخلاق التي هي أغراض القرآن ، ولم يقل إلا صدقا كما أشار إليه فخر الدين الرازي.

وقد اشتمل القرآن على النوعين ، فأما النوع الأول فتناوله قريب لا يحتاج إلى كد فكر ولا يقتضي نظرا فإن مبلغ العلم عندهم يومئذ علوم أهل الكتاب ومعرفة الشرائع والأحكام وقصص الأنبياء والأمم وأخبار العالم ، وقد أشار إلى هذا القرآن بقوله : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ) [الأنعام : ١٥٥ ـ ١٥٧] وقال : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) [هود : ٤٩] ونحو

١٢٣

هذا من محاجة أهل الكتاب. ولعل هذا هو الذي عناه عياض بقوله في «الشفاء» : «ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة والأمم البائدة والشرائع الداثرة مما كان لا يعلم القصة منه إلا الفذ من أحبار أهل الكتاب الذي قضى عمره في تعليم ذلك فيورده النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على وجهه فيعترف العالم بذلك بصحته وصدقه كخبر موسى مع الخضر ، ويوسف وإخوته ، وأصحاب الكهف ، وذي القرنين ، ولقمان» إلخ كلامه ، وإن كان هو قد ساقه في غير مساقنا بل جاء به دليلا على الإعجاز من حيث علمه به صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع ثبوت الأمّيّة ، ومن حيث محاجته إياهم بذلك. فأما إذا أردنا عد هذا الوجه في نسق وجوه الإعجاز فذلك فيما نرى من جهة أن العرب لم يكن أدبهم مشتملا على التاريخ إلا بإشارات نادرة ، كقولهم درع عاديّة ، ورمح يزنيّة ، وقول شاعرهم :

أحلام عاد وأجسام مطهّرة

وقول آخر :

تراه يطوّف الآفاق حرصا

ليأكل رأس لقمان بن عاد

ولكنهم لا يأبهون بذكر قصص الأمم التي هي مواضع العبرة ، فجاء القرآن بالكثير من ذلك تفصيلا كقوله : (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ) [الأحقاف : ٢١] وكقوله : (فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) [فصلت : ١٣] ولهذا يقل في القرآن التعرض إلى تفاصيل أخبار العرب لأن ذلك أمر مقرر عندهم معلوم لديهم ، وإنما ذكر قليل منه على وجه الإجمال على معنى العبرة والموعظة بخبر عاد وثمود وقوم تبع ، كما أشرنا إليه في المقدمة السابعة في قصص القرآن.

وأما النوع الثاني من إعجازه العلمي فهو ينقسم إلى قسمين : قسم يكفي لإدراكه فهمه وسمعه ، وقسم يحتاج إدراك وجه إعجازه إلى العلم بقواعد العلوم فينبلج للناس شيئا فشيئا انبلاج أضواء الفجر على حسب مبالغ الفهوم وتطورات العلوم ، وكلا القسمين دليل على أنه من عند الله لأنه جاء به أمّيّ في موضع لم يعالج أهله دقائق العلوم ، والجائي به ثاو بينهم لم يفارقهم. وقد أشار القرآن إلى هذه الجهة من الإعجاز بقوله تعالى في سورة القصص : [٤٩ ـ ٥٠] (قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ) ثم إنه ما كان قصاراه مشاركة أهل العلوم في علومهم الحاضرة ، حتى ارتقى إلى ما لم يألفوه وتجاوز ما درسوه وألّفوه.

١٢٤

قال ابن عرفة عند قوله تعالى : (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) في سورة آل عمران [٢٧] : «كان بعضهم يقول إن القرآن يشتمل على ألفاظ يفهمها العوام وألفاظ يفهمها الخواص وعلى ما يفهمه الفريقان ومنه هذه الآية فإن الإيلاج يشمل الأيام التي لا يدركها إلا الخواص والفصول التي يدركها سائر العوام» أقول : وكذلك قوله تعالى : (أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) [الأنبياء : ٣٠].

فمن طرق إعجازه العلمية أنه دعا للنظر والاستدلال ، قال في «الشفاء» : «ومنها جمعه لعلوم ومعارف لم تعهد للعرب ، ولا يحيط بها أحد من علماء الأمم ، ولا يشتمل عليها كتاب من كتبهم فجمع فيه من بيان علم الشرائع ، والتنبيه على طرق الحجة العقلية ، والرد على فرق الأمم ببراهين قوية وأدلة كقوله : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢] وقوله : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) [يس : ٨١].

ولقد فتح الأعين إلى فضائل العلوم بأن شبه العلم بالنور وبالحياة كقوله : (لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا) [يس : ٧٠] وقوله : (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) [البقرة : ٢٥٧] وقال : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) [العنكبوت : ٤٣] وقال : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزمر : ٩].

وهذا النوع من الإعجاز هو الذي خالف به القرآن أساليب الشعر وأغراضه مخالفة واضحة. هذا والشاطبي قال في «الموافقات» : «إن القرآن لا تحمل معانيه ولا يتأوّل إلّا على ما هو متعارف عند العرب» ولعل هذا الكلام صدر منه في التفصي من مشكلات في مطاعن الملحدين اقتصادا في البحث وإبقاء على نفيس الوقت ، وإلا فكيف ينفي إعجاز القرآن لأهل كل العصور ، وكيف يقصر إدراك إعجازه بعد عصر العرب على الاستدلال بعجز أهل زمانه إذ عجزوا عن معارضته ، وإذ نحن نسلم لهم التفوق في البلاغة والفصاحة ، فهذا إعجاز إقناعي بعجز أهل عصر واحد ولا يفيد أهل كل عصر إدراك طائفة منهم لإعجاز القرآن. وقد بيّنت نقض كلام الشاطبي في أواخر المقدمة الرابعة.

وقد بدت لي حجة لتعلق هذه الجهة الثالثة بالإعجاز ودوامه وعمومه وهي قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديث الصحيح : «ما من الأنبياء نبيء إلا أوتي ـ أو أعطي ـ من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إليّ وإني أرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» ففيه نكتتان غفل عنهما شارحوه : الأولى أن قوله : «ما مثله آمن عليه البشر»

١٢٥

اقتضى أن كل نبيء جاء بمعجزة هي إعجاز في أمر خاص كان قومه أعجب به وأعجز عنه فيؤمنون على مثل تلك المعجزة ، «ومعنى آمن» عليه أي لأجله وعلى شرطه ، كما تقول على هذا يكون عملنا أو اجتماعنا ، الثانية أن قوله : «وإنما كان الذي أوتيت وحيا» اقتضى أن ليست معجزته من قبيل الأفعال كما كانت معجزات الرسل الأوّلين أفعالا لا أقوالا ، كقلب العصا وانفجار الماء من الحجر ، وإبراء الأكمه والأبرص ، بل كانت معجزته ما في القرآن من دلالة على عجز البشر عن الإتيان بمثله من جهتي اللفظ والمعاني ، وبذلك يمكن أن يؤمن به كل من يبتغي إدراك ذلك من البشر ويتدبره ويفصح عن ذلك تعقيبه بقوله : «فأرجوا أن أكون أكثرهم تابعا» إذ قد عطف بالفاء المؤذنة بالترتب ، فالمناسبة بين كونه أوتي وحيا وبين كونه يرجو أن يكون أكثرهم تابعا لا تنجلي إلا إذا كانت المعجزة صالحة لجميع الأزمان حتى يكون الذين يهتدون لدينه لأجل معجزته أمما كثيرين على اختلاف قرائحهم فيكون هو أكثر الأنبياء تابعا لا محالة ، وقد تحقق ذلك لأن المعنيّ بالتابع التابع له في حقائق الدين الحق لا اتباع الادعاء والانتساب بالقول ، ولعل الرجاء متوجه إلى كونه أكثر من جميعهم تابعا أي أكثر أتباعا من أتباع جميع الأنبياء كلهم ، وقد أغفل بيان وجه التفريع في هذا اللفظ النبوي البليغ.

وهذه الجهة من الإعجاز إنما تثبت للقرآن بمجموعه أي مجموع هذا الكتاب إذ ليست كل آية من آياته ولا كل سورة من سوره بمشتملة على هذا النوع من الإعجاز ، ولذلك فهو إعجاز حاصل من القرآن وغير حاصل به التحدي إلا إشارة نحو قوله : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢].

وإعجازه من هذه الجهة للعرب ظاهر ، إذ لا قبل لهم بتلك العلوم كما قال الله تعالى : (ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) [هود : ٤٩] وإعجازه لعامة الناس أن تجىء تلك العلوم من رجل نشأ أمّيّا في قوم أميين ، وإعجازه لأهل الكتاب خاصة إذ كان ينبئهم بعلوم دينهم مع كونه أميا ، ولا قبل لهم بأن يدّعوا أنهم علّموه لأنه كان بمرأى من قومه في مكة بعيدا عن أهل الكتاب الذين كان مستقرهم بقرى النضير وقريظة وخيبر وتيماء وبلاد فلسطين ، ولأنه جاء بنسخ دين اليهودية والنصرانية ، والإنحاء على اليهود والنصارى في تحريفهم ، فلو كان قد تعلم منهم لأعلنوا ذلك وسجّلوا عليه أنه عقهم حق التعليم.

وأما الجهة الرابعة وهي الإخبار بالمغيبات فقد اقتفينا أثر من سلفنا ممن عد ذلك من وجوه الإعجاز اعتدادا منا بأنه من دلائل كون القرآن منزلا من عند الله ، وإن كان ذلك

١٢٦

ليس له مزيد تعلق بنظم القرآن ودلالة فصاحته وبلاغته على المعاني العليا ، ولا هو كثير في القرآن ، وسيأتي التنبيه على جزئيات هذا النوع في تضاعيف هذا التفسير إن شاء الله. وقد جاء كثير من آيات القرآن بذلك منها قوله : (الم غُلِبَتِ الرُّومُ) [الروم : ١ ، ٢] الآية روى الترمذي في تفسيرها عن ابن عباس قال كان المشركون يحبون أن يظهر أهل فارس على الروم لأنهم وإياهم أهل أوثان ، وكان المسلمون يحبون أن يظهر الروم لأنهم أهل كتاب فذكره أبو بكر لرسول الله فنزل قوله تعالى : (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ) [الروم : ١ ـ ٤] فخرج أبو بكر يصيح بها في نواحي مكة ، فقال له ناس من قريش أفلا نراهنك على ذلك؟ قال بلى وذلك قبل تحريم الرهان ، فلما كانت السنة السابعة ظهرت الروم على فارس وأسلم عند ذلك كثير من قريش. وقوله : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) [النور : ٥٥] وقوله : (لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ) [النحل : ٨] فما حدث بعد ذلك من المراكب منبّأ به في هذه الآية. وقوله : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) [الفتح : ١] نزلت قبل فتح مكة بعامين. وقوله : (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ) [الفتح : ٢٧]. وأعلن ذلك الإعجاز بالتحدّي به في قوله تعالى في شأن القرآن : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) إلى قوله : (وَلَنْ تَفْعَلُوا) [البقرة : ٢٣ ، ٢٤] فسجل أنهم لا يفعلون ذلك أبدا وكذلك كان ، كما بيناه آنفا في الجهة الثالثة.

وكأنك بعد ما قررناه في هذه المقدمة قد صرت قديرا على الحكم في اختلف فيه أئمة علم الكلام من إعجاز القرآن للعرب هل كان بما بلغه من منتهى الفصاحة والبلاغة وحسن النظم وما احتوى عليه من النكت والخصوصيات التي لا تقف بها عدة ، ويزيدها النظر مع طول الزمان جدة ، فلا تخطر ببال ناظر من العصور الآتية نكتة أو خصوصية إلا وجد آيات القرآن تتحملها بحيث لا يمكن إيداع ذلك في كلام إلا لعلّام الغيوب وهو مذهب المحققين ، أو كان الإعجاز بصرف الله تعالى مشركي العرب عن الإتيان بمثله وأنه لو لا أن الله سلبهم القدرة على ذلك لأمكن أن يأتوا بمثله لأنه مما يدخل تحت مقدور البشر ، ونسب هذا إلى أبي الحسن الأشعري وهو منقول في «شرح التفتازانيّ على المفتاح» عن النظام وطائفة من المعتزلة ، ويسمى مذهب أهل الصرفة ، وهو الذي قال به ابن حزم في كتابه في «الملل والنحل». والأول هو الوجه الذي اعتمده أبو بكر الباقلاني في كتابه

١٢٧

«إعجاز القرآن» ، وأبطل ما عداه بما لا حاجة إلى التطويل به ، وعلى اعتباره دوّن أئمة العربية علم البلاغة ، وقصدوا من ذلك تقريب إعجاز القرآن على التفصيل دون الإجمال ، فجاءوا بما يناسب الكامل من دلائل الكمال.

١٢٨

بسم الله الرّحمن الرّحيم

١ ـ سورة الفاتحة

سورة الفاتحة من السور ذات الأسماء الكثيرة ، أنهاها صاحب «الإتقان» إلى نيف وعشرين بين ألقاب وصفات جرت على ألسنة القراء من عهد السلف ، ولم يثبت في السنة الصحيحة والمأثور من أسمائها إلا فاتحة الكتاب ، والسبع المثاني ، وأم القرآن ، أو أم الكتاب ، فلنقتصر على بيان هذه الأسماء الثلاثة.

فأما تسميتها فاتحة الكتاب فقد ثبتت في السنة في أحاديث كثيرة منها قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» وفاتحة مشتقة من الفتح وهو إزالة حاجز عن مكان مقصود ولوجه فصيغتها تقتضي أنّ موصوفها شيء يزيل حاجزا ، وليس مستعملا في حقيقته بل مستعملا في معنى أول الشيء تشبيها للأول بالفاتح لأن الفاتح للباب هو أول من يدخل ، فقيل الفاتحة في الأصل مصدر بمعنى الفتح كالكاذبة بمعنى الكذب ، والباقية بمعنى البقاء في قوله تعالى : (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) [الحاقة : ٨] وكذلك الطاغية في قوله تعالى : (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) [الحاقة : ٥] في قول ابن عباس أي بطغيانهم. والخاطئة بمعنى الخطأ والحاقة بمعنى الحق. وإنما سمي أول الشيء بالفاتحة إما تسمية للمفعول لأن الآتي على وزن فاعلة بالمصدر الفتح يتعلق بأول أجزاء الفعل ففيه يظهر مبدأ المصدر ، وإما على اعتبار الفاتحة اسم فاعل ثم جعلت اسما لأول الشيء ، إذ بذلك الأول يتعلق الفتح بالمجموع فهو كالباعث على الفتح ، فالأصل فاتح الكتاب ، وأدخلت عليه هاء التأنيث دلالة على النقل من الوصفيّة إلى الاسمية أي إلى معاملة الصفة معاملة الاسم في الدلالة على ذات معينة لا على ذي وصف ، مثل الغائبة في قوله تعالى : (وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) [النمل : ٧٥] ومثل العافية والعاقبة قال التفتازانيّ في «شرح الكشاف» : «ولعدم اختصاص الفاتحة والخاتمة بالسورة ونحوها كانت التاء للنقل من الوصفيّة إلى الاسمية وليست لتأنيث الموصوف في الأصل ، يعني

١٢٩

لأنهم يقولون فاتحة وخاتمة دائما في خصوص جريانه على موصوف مؤنث كالسورة والقطعة ، وذلك كقولهم فلان خاتمة العلماء ، وكقول الحريري في المقامة الأولى : «أدّتني خاتمة المطاف وهدتني فاتحة الألطاف». وأيّا ما كان ففاتحة وصف وصف به مبدأ القرآن وعومل معاملة الأسماء الجنسية ، ثم أضيف إلى الكتاب ثم صار هذا المركب علما بالغلبة على هذه السورة.

ومعنى فتحها الكتاب أنها جعلت أول القرآن لمن يريد أن يقرأ القرآن من أوله فتكون فاتحة بالجعل النبوي في ترتيب السور ، وقيل لأنها أول ما نزل وهو ضعيف لما ثبت في «الصحيح» واستفاض أن أول ما أنزل سورة (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق : ١] ، وهذا مما لا ينبغي أن يتردد فيه. فالذي نجزم به أن سورة الفاتحة بعد أن نزلت أمر الله رسوله أن يجعلها أول ما يقرأ في تلاوته.

وإضافة سورة إلى فاتحة الكتاب في قولهم سورة فاتحة الكتاب من إضافة العام إلى الخاص باعتبار فاتحة الكتاب علما على المقدار المخصوص من الآيات من (الْحَمْدُ لِلَّهِ) إلى (الضَّالِّينَ) [الفاتحة : ٢ ـ ٧] ، بخلاف إضافة سورة إلى ما أضيفت إليه في بقية سور القرآن فإنها على حذف مضاف أي سورة ذكر كذا ، وإضافة العام إلى الخاص وردت في كلام العرب مثل قولهم شجر الأراك ويوم الأحد وعلم الفقه ، ونراها قبيحة لو قال قائل إنسان زيد ، وذلك باد لمن له أدنى ذوق إلا أن علماء العربية لم يفصحوا عن وجه الفرق بين ما هو مقبول من هذه الإضافة وبين ما هو قبيح فكان حقا أن أبيّن وجهه : وذلك أن إضافة العام إلى الخاص تحسن إذا كان المضاف والمضاف إليه اسمي جنس وأولهما أعم من الثاني ، فهنا لك يجوز التوسع بإضافة الأعم إلى الأخص إضافة مقصودا منها الاختصار ، ثم تكسبها غلبة الاستعمال قبولا نحو قولهم شجر الأراك ، عوضا عن أن يقولوا الشجر الذي هو الأراك ، ويوم الأحد عوضا عن أن يقولوا يوم هو الأحد وقد يكون ذلك جائزا غير مقبول لأنه لم يشع في الاستعمال كما لو قلت حيوان الإنسان ؛ فأما إذا كان أحد المتضايفين غير اسم جنس فالإضافة في مثله ممتنعة فلا يقال إنسان زيد ولهذا جعل قول الناس : شهر رمضان علما على الشهر المعروف بناء على أن لفظ رمضان خاص بالشهر المعروف لا يحتمل معنى آخر ، فتعيّن أن يكون ذكر كلمة شهر معه قبيحا لعدم الفائدة منه لو لا أنه شاع حتى صار مجموع المركب الإضافي علما على ذلك الشهر.

ويصح عندي أن تكون إضافة السورة إلى فاتحة الكتاب من إضافة الموصوف إلى الصفة ، كقولهم مسجد الجامع ، وعشاء الآخرة ، أي سورة موصوفة بأنها فاتحة الكتاب

١٣٠

فتكون الإضافة بيانية ، ولم يجعلوا لها اسما استغناء بالوصف ، كما يقول المؤلفون مقدمة أو باب بلا ترجمة ثم يقولون باب جامع مثلا ، ثم يضيفونه فيقولون باب جامع الصلاة. وأما إضافة فاتحة إلى الكتاب فإضافة حقيقية باعتبار أن المراد من الكتاب بقيته عدا السورة المسماة الفاتحة ، كما نقول : خطبة التأليف ، وديباجة التقليد.

وأما تسميتها أم القرآن وأم الكتاب فقد ثبتت في السنة ، من ذلك ما في «صحيح البخاري» في كتاب الطب أن أبا سعيد الخدري رقى ملدوغا فجعل يقرأ عليه بأم القرآن ، وفي الحديث قصة ، ووجه تسميتها أم القرآن أن الأم يطلق على أصل الشيء ومنشئة ، وفي الحديث الصحيح قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج» أي منقوصة مخدوجة.

وقد ذكروا لتسمية الفاتحة أمّ القرآن وجوها ثلاثة : أحدها : أنها مبدؤه ومفتتحه فكأنها أصله ومنشؤه ، يعني أن افتتاحه الذي هو وجود أول أجزاء القرآن قد ظهر فيها فجعلت كالأم للولد في أنها الأصل والمنشأ فيكون أم القرآن تشبيها بالأم التي هي منشأ الولد لمشابهتها بالمنشإ من حيث ابتداء الظهور والوجود.

الثاني : أنها تشتمل محتوياتها على أنواع مقاصد القرآن وهي ثلاثة أنواع : الثناء على الله ثناء جامعا لوصفه بجميع المحامد وتنزيهه عن جميع النقائص ، ولإثبات تفرده بالإلهية وإثبات البعث والجزاء وذلك من قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) إلى قوله : ملك يوم الدين ، والأوامر والنواهي من قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ، والوعد والوعيد من قوله : (صِراطَ الَّذِينَ) إلى آخرها ، فهذه هي أنواع مقاصد القرآن كله ، وغيرها تكملات لها لأن القصد من القرآن إبلاغ مقاصده الأصلية وهي صلاح الدارين وذلك يحصل بالأوامر والنواهي ، ولما توقفت الأوامر والنواهي على معرفة الآمر وأنه الله الواجب وجوده خالق الخلق لزم تحقيق معنى الصفات ، ولما توقف تمام الامتثال على الرجاء في الثواب والخوف من العقاب لزم تحقق الوعد والوعيد. والفاتحة مشتملة على هاته الأنواع فإن قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) إلى قوله : (يَوْمِ الدِّينِ) حمد وثناء ، وقوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) إلى قوله : (الْمُسْتَقِيمَ) من نوع الأوامر والنواهي ، وقوله : (صِراطَ الَّذِينَ) إلى آخرها من نوع الوعد والوعيد مع أن ذكر (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) و (الضَّالِّينَ) يشير أيضا إلى نوع قصص القرآن ، وقد يؤيد هذا الوجه بما ورد في الصحيح في : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) [الإخلاص : ١] أنها تعدل ثلث القرآن لأن ألفاظها كلها أثناء على الله تعالى.

١٣١

الثالث : أنها تشتمل معانيها على جملة معاني القرآن من الحكم النظرية والأحكام العملية فإن معاني القرآن إما علوم تقصد معرفتها وإما أحكام يقصد منها العمل بها ، فالعلوم كالتوحيد والصفات والنبوءات والمواعظ والأمثال والحكم والقصص ، والأحكام إما عمل الجوارح وهو العبادات والمعاملات ، وإما عمل القلوب أي العقول وهو تهذيب الأخلاق وآداب الشريعة ، وكلها تشتمل عليها معاني الفاتحة بدلالة المطابقة أو التضمن أو الالتزام ف (الْحَمْدُ لِلَّهِ) يشمل سائر صفات الكمال التي استحق الله لأجلها حصر الحمد له تعالى بناء على ما تدل عليه جملة (الْحَمْدُ لِلَّهِ) من اختصاص جنس الحمد به تعالى واستحقاقه لذلك الاختصاص كما سيأتي و (رَبِّ الْعالَمِينَ) يشمل سائر صفات الأفعال والتكوين عند من أثبتها ، و (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) يشمل أصول التشريع الراجعة للرحمة بالمكلفين ومالك يوم الدين يشمل أحوال القيامة ، و (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) يجمع معنى الديانة والشريعة ، و (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) يجمع معنى الإخلاص لله في الأعمال.

قال عز الدين بن عبد السلام في كتابه «حل الرموز ومفاتيح الكنوز» : الطريقة إلى الله لها ظاهر (أي عمل ظاهر أي بدني) وباطن (أي عمل قلبي) فظاهرها الشريعة وباطنها الحقيقة ، والمراد من الشريعة والحقيقة إقامة العبودية على الوجه المراد من المكلف. ويجمع الشريعة والحقيقة كلمتان هما قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) فإياك نعبد شريعة وإياك نستعين حقيقة ، ا ه.

و (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) يشمل الأحوال الإنسانية وأحكامها من عبادات ومعاملات وآداب ، و (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) يشير إلى أحوال الأمم والأفراد الماضية الفاضلة ، وقوله : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) يشمل سائر قصص الأمم الضالة ويشير إلى تفاصيل ضلالاتهم المحكية عنهم في القرآن ، فلا جرم يحصل من معاني الفاتحة ـ تصريحا وتضمنا ـ علم إجمالي بما حواه القرآن من الأغراض. وذلك يدعو نفس قارئها إلى تطلب التفصيل على حسب التمكن والقابلية. ولأجل هذا فرضت قراءة الفاتحة في كل ركعة من الصلاة حرصا على التذكر لما في مطاويها.

وأما تسميتها السبع المثاني فهي تسمية ثبتت بالسنة ، ففي «صحيح البخاري» عن أبي سعيد ابن المعلّى (١) «أن رسول الله قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) هي السبع المثاني

__________________

(١) هو الحارث بن نفيع (مصغرا) الزرقي ـ بضم ففتح ـ الأنصاري المتوفى سنة ٧٤ ه‍ وتمام الحديث

١٣٢

والقرآن العظيم الذي أوتيته» ووجه تسميتها بذلك أنها سبع آيات باتفاق القراء والمفسرين ولم يشذ عن ذلك إلا الحسن البصري فقال : هي ثمان آيات ، وإلا الحسين (١) الجعفي فقال : هي ست آيات ، وقال بعض الناس : تسع آيات ويتعين حينئذ كون البسملة ليست من الفاتحة لتكون سبع آيات ومن عدّ البسملة أدمج آيتين.

وأما وصفها بالمثاني فهو مفاعل جمع مثنّى بضم الميم وتشديد النون ، أو مثنى مخفف مثنّى ، أو مثنى بفتح الميم مخفف مثنى كمعنى مخفف معني ويجوز تأنيث الجميع كما نبه عليه السيد الجرجاني في «شرح الكشاف» وكل ذلك مشتق من التثنية وهي بضم ثان إلى أول.

ووجه الوصف به أن تلك الآيات تثنى في كل ركعة كذا في «الكشاف». قيل : وهو مأثور عن عمر بن الخطاب ، وهو مستقيم لأن معناه أنها تضم إليها السورة في كل ركعة ، ولعل التسمية بذلك كانت في أول فرض الصلاة فإن الصلوات فرضت ركعتين ثم أقرّت صلاة السفر وأطيلت صلاة الحضر كذا ثبت في حديث عائشة في «الصحيح» وقيل : العكس.

وقيل : لأنها تثنى في الصلاة أي تكرر فتكون التثنية بمعنى التكرير بناء على ما شاع عند العرب من استعمال المثنى في مطلق المكرر نحو (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) [الملك : ٤] وقولهم لبيك وسعديك ، وعليه فيكون المراد بالمثاني هنا مثل المراد بالمثاني في قوله تعالى : (كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ) [الزمر : ٢٣] أي مكرر القصص والأغراض ، وقيل : سميت المثاني لأنها ثنيت في النزول فنزلت بمكة ثم نزلت في المدينة وهذا قول بعيد جدا وتكرّر النزول لا يعتبر قائله ، وقد اتّفق على أنها مكية فأي معنى لإعادة نزولها بالمدينة.

وهذه السورة وضعت في أول السّور لأنها تنزل منها منزل ديباجة الخطبة أو الكتاب ، مع ما تضمنته من أصول مقاصد القرآن كما علمت آنفا وذلك شأن الديباجة من

__________________

عن أبي سعيد بن المعلى قال : «كنت أصلي في المسجد فدعاني رسول الله فلم أجبه فقلت يا رسول الله إني كنت أصلي فقال ألم يقل الله (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ) [الأنفال : ٢٤] ثم قال ألا أعلمك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن تخرج من المسجد ، ثم أخذ بيدي فلما أراد أن يخرج قلت له ألم تقل لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن فقال الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» إلخ.

(١) ستأتي ترجمته قريبا.

١٣٣

براعة الاستهلال.

وهذه السورة مكية باتفاق الجمهور ، وقال كثير إنها أول سورة نزلت ، والصحيح أنه نزل قبلها : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق : ١] وسورة المدثر ثم الفاتحة ، وقيل نزل قبلها أيضا : (ن وَالْقَلَمِ) [القلم : ١] وسورة المزمل ، وقال بعضهم هي أول سورة نزلت كاملة أي غير منجمة ، بخلاف سورة القلم ، وقد حقق بعض العلماء أنها نزلت عند فرض الصلاة فقرأ المسلمون بها في الصلاة عند فرضها ، وقد عدت في رواية عن جابر بن زيد السورة الخامسة في ترتيب نزول السور. وأيا ما كان فإنها قد سماها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاتحة الكتاب وأمر بأن تكون أول القرآن.

قلت : ولا يناكد ذلك نزولها بعد سور أخرى لمصلحة اقتضت سبقها قبل أن يتجمع من القرآن مقدار يصير به كتابا فحين تجمع ذلك أنزلت الفاتحة لتكون ديباجة الكتاب.

وأغراضها قد علمت من بيان وجه تسميتها أم القرآن.

وهي سبع آيات باتفاق القراء والمفسرين ، ولم يشذ عن ذلك إلا الحسن البصري ، قال هي ثمان آيات ، ونسب أيضا لعمرو بن عبيد وإلى الحسين الجعفي (١) قال هي ست آيات ، ونسب إلى بعضهم غير معيّن أنها تسع آيات ، وتحديد هذه الآيات السبع هو ما دل عليه حديث «الصحيحين» عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قال الله عزوجل ، قسمت الصلاة نصفين بيني وبين عبدي فنصفها لي ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سأل ، يقول العبد : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، فأقول : حمدني عبدي ، فإذا قال : العبد (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، يقول الله : أثنى عليّ عبدي ، وإذا قال العبد : ملك يوم الدين ، قال الله : مجّدني عبدي ، وإذا قال : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ، قال الله : هذا بيني وبين عبدي ، وإذا قال : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) [الفاتحة : ٢ ـ ٧] ، قال الله : هؤلاء لعبدي ولعبد ما سأل» ا ه. فهن ثلاث ثم واحدة ثم ثلاث ، فعند أهل المدينة لا تعد البسملة آية وتعد : (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) آية ، وعند أهل مكة وأهل الكوفة تعد البسملة آية وتعد (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) جزء آية ، والحسن البصري عد البسملة آية وعد (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) آية.

__________________

(١) هو حسين بن علي بن الوليد الجعفي مولاهم الكوفي المتوفى سنة ٢٠٠ ه‍ أحد أعلام المحدثين روى عن الأعمش وروى عنه أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ، ويحيى بن معين.

١٣٤

[١ ـ ٧] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (٧))

الكلام على البسملة

[١] (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) (١).

البسملة اسم لكلمة باسم الله ، صيغ هذا الاسم على مادّة مؤلفة من حروف الكلمتين باسم والله على طريقة تسمى النّحت ، وهو صوغ فعل مضي على زنة فعلل مؤلفة مادّته من حروف جملة أو حروف مركّب إضافيّ ، مما ينطق به الناس اختصارا عن ذكر الجملة كلها لقصد التخفيف لكثرة دوران ذلك على الألسنة. وقد استعمل العرب النحت في النّسب إلى الجملة أو المركب إذا كان في النسب إلى صدر ذلك أو إلى عجزه التباس ، كما قالوا في النسبة إلى عبد شمس عبشميّ خشية الالتباس بالنسب إلى عبد أو إلى شمس ، وفي النسبة إلى عبد الدار عبدريّ كذلك وإلى حضر موت حضرمي قال سيبويه في باب الإضافة (أي النسب) إلى المضاف من الأسماء : «وقد يجعلون للنسب في الإضافة اسما بمنزلة جعفري ويجعلون فيه من حروف الأول والآخر ولا يخرجونه من حروفهما ليعرف» ا ه ، فجاء من خلفهم من مولدي العرب واستعملوا هذه الطريقة في حكاية الجمل التي يكثر دورانها في الألسنة لقصد الاختصار ، وذلك من صدر الإسلام فصارت الطريقة عربية. قال الراعي :

قوم على الإسلام لمّا يمنعوا

ما عونهم ويضيّعوا التهليلا

أي لم يتركوا قول : لا إله إلا الله. وقال عمر بن أبي ربيعة :

لقد بسملت ليلى غداة لقيتها

ألا حبّذا ذاك الحبيب المبسمل

أي قالت بسم الله فرقا منه ، فأصل بسمل قال بسم الله ثم أطلقه المولدون على قول بسم الله الرحمن الرحيم ، اكتفاء واعتمادا على الشهرة وإن كان هذا المنحوت خليّا من الحاء والراء اللذين هما من حروف الرحمن الرحيم ، فشاع قولهم بسمل في معنى قال بسم الله الرحمن الرحيم ، واشتق من فعل بسمل مصدر هو البسملة كما اشتق من هلّل مصدر هو الهيللة وهو مصدر قياسي لفعلل. واشتق منه اسم فاعل في بيت عمر بن أبي

١٣٥

ربيعة ولم يسمع اشتقاق اسم مفعول.

ورأيت في «شرح ابن هارون التونسي على مختصر ابن الحاجب» (١) في باب الأذان عن المطرز في كتاب «اليواقيت» : الأفعال التي نحتت من أسمائها سبعة : بسمل في بسم الله ، وسبحل في سبحان الله ، وحيعل في حي على الصلاة ، وحوقل في لا حول ولا قوة إلا بالله ، وحمدل في الحمد لله ، وهلّل في لا إله إلا الله ، وجيعل إذا قال : جعلت فداك ، وزاد الطّبقلة في أطال الله بقاءك ، والدّمعزة في أدام الله عزك.

ولما كان كثير من أئمة الدين قائلا بأنها آية من أوائل جميع السور غير براءة أو بعض السور تعين على المفسر أن يفسر معناها وحكمها وموقعها عند من عدوها آية من بعض السور. وينحصر الكلام عليها في ثلاثة مباحث. الأول : في بيان أهي آية من أوائل السور أم لا؟. الثاني : في حكم الابتداء بها عند القراءة. الثالث في تفسير معناها المختص بها.

فأما المبحث الأول فهو أن لا خلاف بين المسلمين في أن لفظ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) هو لفظ قرآني لأنه جزء آية من قوله تعالى : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) [النمل : ٣٠] كما أنهم لم يختلفوا في أن الافتتاح بالتسمية في الأمور المهمة ذوات البال ورد في الإسلام ، وروي فيه حديث : «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع» لم يروه أصحاب «السنن» ولا «المستدركات» ، وقد وصف بأنه حسن ، وقال الجمهور إن البسملة رسمها الذين كتبوا المصاحف في أوائل السور ما عدا سورة براءة ، كما يؤخذ من محادثة ابن عباس مع عثمان ، وقد مضت في المقدمة الثامنة ، ولم يختلفوا في أنها كتبت في المصحف في أول سورة الفاتحة وذلك ليس موضع فصل السورة عما قبلها ، وإنما اختلفوا في أن البسملة هل هي آية من سورة الفاتحة ومن أوائل السور غير براءة ، بمعنى أن الاختلاف بينهم ليس في كونها قرآنا ، ولكنه في تكرر قرآنيتها كما أشار إليه ابن رشد الحفيد في «البداية» ، فذهب مالك والأوزاعي وفقهاء المدينة والشام والبصرة ـ وقيل باستثناء عبد الله بن عمرو ابن شهاب من فقهاء المدينة ـ إلى أنها ليست بآية من أوائل السور لكنها جزء آية من سورة النمل ، وذهب الشافعي في أحد قوليه وأحمد وإسحاق وأبو ثور وفقهاء مكة والكوفة غير أبي حنيفة ، إلى أنها آية في

__________________

(١) رقم ١٠٥٢٠ بالمكتبة الصادقية (العبدلية) بتونس.

١٣٦

أول سورة الفاتحة خاصة ، وذهب عبد الله بن المبارك والشافعي في أحد قوليه وهو الأصح عنه إلى أنها آية من كل سورة. ولم ينقل عن أبي حنيفة من فقهاء الكوفة فيها شيء ، وأخذ منه صاحب «الكشاف» أنها ليست من السور عنده فعدّه في الذين قالوا بعدم جزئيتها من السور وهو الصحيح عنه. قال عبد الحكيم لأنه قال بعدم الجهر بها مع الفاتحة في الصلاة الجهرية وكره قراءتها في أوائل السور الموصولة بالفاتحة في الركعتين الأوليين. وأزيد فأقول إنه لم ير الاقتصار عليها في الصلاة مجزئا عن القراءة.

أما حجة مذهب مالك ومن وافقه فلهم فيها مسالك : أحدها من طريق النظر ، والثاني من طريق الأثر ، والثالث من طريق الذوق العربي.

فأما المسلك الأول : فللمالكية فيه مقالة فائقة للقاضي أبي بكر الباقلاني وتابعه أبو بكر ابن العربي في «أحكام القرآن» والقاضي عبد الوهاب في كتاب «الإشراف» ، قال الباقلاني : «لو كانت التسمية من القرآن لكان طريق إثباتها إما التواتر أو الآحاد ، والأول : باطل لأنه لو ثبت بالتواتر كونها من القرآن لحصل العلم الضروري بذلك ولامتنع وقوع الخلاف فيه بين الأمّة ، والثاني : أيضا باطل لأن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن فلو جعلناه طريقا إلى إثبات القرآن لخرج القرآن عن كونه حجة يقينية ، ولصار ذلك ظنيا ، ولو جاز ذلك لجاز ادعاء الروافض أن القرآن دخله الزيادة والنقصان والتغيير والتحريف» ا ه وهو كلام وجيه والأقيسة الاستثنائية التي طواها في كلامه واضحة لمن له ممارسة للمنطق وشرطياتها لا تحتاج للاستدلال لأنها بديهية من الشريعة فلا حاجة إلى بسطها. زاد أبو بكر بن العربي في «أحكام القرآن» فقال : يكفيك أنها ليست من القرآن الاختلاف فيها ، والقرآن لا يختلف فيه ا ه. وزاد عبد الوهاب فقال : «إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين القرآن بيانا واحدا متساويا ولم تكن عادته في بيانه مختلفة بالظهور والخفاء حتى يختص به الواحد والاثنان ؛ ولذلك قطعنا بمنع أن يكون شيء من القرآن لم ينقل إلينا وأبطلنا قول الرافضة إن القرآن حمل جمل عند الإمام المعصوم المنتظر فلو كانت البسملة من الحمد لبيّنها رسول الله بيانا شافيا» ا ه. وقال ابن العربي في «العارضة» : إن القاضي أبا بكر بن الطيب ، لم يتكلم من الفقه إلا في هذه المسألة خاصة لأنها متعلقة بالأصول.

وقد عارض هذا الدليل أبو حامد الغزالي في «المستصفى» فقال : «نفي كون البسملة من القرآن أيضا إن ثبت بالتواتر لزم أن لا يبقى الخلاف (أي وهو ظاهر البطلان) وإن ثبت بالآحاد يصير القرآن ظنيا ، قال : ولا يقال : إن كون شيء ليس من القرآن عدم والعدم لا

١٣٧

يحتاج إلى الإثبات لأنه الأصل بخلاف القول بأنها من القرآن ، لأنّا نجيب بأن هذا وإن كان عدما إلا أن كون التسمية مكتوبة بخط القرآن يوهن كونها ليست من القرآن فههنا لا يمكننا الحكم بأنها ليست من القرآن إلا بالدليل ويأتي الكلام في أن الدليل ما هو ، فثبت أن الكلام الذي أورده القاضي لازم عليه ا ه ، وتبعه على ذلك الفخر الرازي في «تفسيره» ولا يخفى أنه آل في استدلاله إلى المصادرة إذ قد صار مرجع استدلال الغزالي وفخر الدين إلى رسم البسملة في المصاحف ، وسنتكلم عن تحقيق ذلك عند الكلام على مدرك الشافعي. وتعقب ابن رشد في «بداية المجتهد» كلام الباقلاني والغزالي بكلام غير محرر فلا نطيل به.

وأما المسلك الثاني : وهو الاستدلال من الأثر فلا نجد في صحيح السنة ما يشهد بأن البسملة آية من أوائل سور القرآن والأدلة ستة :

الدليل الأول : ما روى مالك في «الموطأ» عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «قال الله تعالى قسمت الصلاة نصفين بيني وبين عبدي فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل ، يقول العبد : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، فأقول : حمدني عبدي» إلخ ، والمراد في الصلاة القراءة في الصلاة ووجه الدليل منه أنه لم يذكربسم الله الرحمن الرحيم.

الثاني : حديث أبيّ بن كعب في «الموطأ» و«الصحيحين» أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال له : «ألا أعلمك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل مثلها قبل أن تخرج من المسجد»؟

قال : بلى ، فلما قارب الخروج قال له : كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة؟ قال أبيّ فقرأت (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) حتى أتيت على آخرها ، فهذا دليل على أنه لم يقرأ منها البسملة.

الثالث : ما في «صحيح مسلم» و«سنن أبي داود» و«سنن النسائي» عن أنس بن مالك من طرق كثيرة أنه قال : صليت خلف رسول الله وأبي بكر وعمر فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون (بسم الله الرحمن الرحيم) ، لا في أول قراءة ولا في آخرها.

الرابع : حديث عائشة في «صحيح مسلم» و«سنن أبي داود» قالت : كان رسول الله يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بالحمد الله رب العالمين.

١٣٨

الخامس : ما في «سنن الترمذي والنسائي» عن عبد الله بن مغفل قال : صليت مع النبي وأبي بكر وعمر وعثمان ، فلم أسمع أحدا منهم يقول : (بسم الله الرحمن الرحيم) ، إذا أنت صليت فقل (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

السادس ـ وهو الحاسم ـ : عمل أهل المدينة ، فإن المسجد النبوي من وقت نزول الوحي إلى زمن مالك صلى فيه رسول الله والخلفاء الراشدون والأمراء وصلى وراءهم الصحابة وأهل العلم ولم يسمع أحد قرأ (بسم الله الرحمن الرحيم) في الصلاة الجهرية ، وهل يقول عالم أن بعض السورة جهر وبعضها سر ، فقد حصل التواتر بأن النبي والخلفاء لم يجهروا بها في الجهرية ، فدل على أنها ليست من السورة ولو جهروا بها لما اختلف الناس فيها.

وهناك دليل آخر لم يذكروه هنا وهو حديث عائشة في بدء الوحي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو معتبر مرفوعا إلى النبي ، وذلك قوله : «ففجئه الملك فقال : اقرأ قال رسول الله فقلت ما أنا بقارئ ـ إلى أن قال ـ فغطني الثالثة ثم قال : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) [العلق : ١] الحديث. فلم يقل فقال لي بسم الله الرحمن الرحيم (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) ، وقد ذكروا هذا في تفسير سورة العلق وفي شرح حديث بدء الوحي.

وأما المسلك الثالث وهو الاستدلال من طريق الاستعمال العربي فيأتي القول فيه على مراعاة قول القائلين بأن البسملة آية من سورة الفاتحة خاصة ، وذلك يوجب أن يتكرر لفظان وهما (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) في كلام غير طويل ليس بينهما فصل كثير وذلك مما لا يحمد في باب البلاغة ، وهذا الاستدلال نقله الإمام الرازي في «تفسيره» وأجاب عنه بقوله : إن التكرار لأجل التأكيد كثير في القرآن وإن تأكيد كونه تعالى رحمانا رحيما من أعظم المهمات. وأنا أدفع جوابه بأن التكرار وإن كانت له مواقع محمودة في الكلام البليغ مثل التهويل ، ومقام الرثاء أو التعديد أو التوكيد اللفظي ، إلا أن الفاتحة لا مناسبة لها بأغراض التكرير ولا سيما التوكيد لأنه لا منكر لكونه تعالى رحمانا رحيما ، ولأن شأن التوكيد اللفظي أن يقترن فيه اللفظان بلا فصل فتعين أنه تكرير اللفظ في الكلام لوجود مقتضى التعبير عن مدلوله بطريق الاسم الظاهر دون الضمير ، وذلك مشروط بأن يبعد ما بين المكرّرين بعدا يقصيه عن السمع ، وقد علمت أنهم عدوا في فصاحة الكلام خلوصه من كثرة التكرار ، والقرب بين الرحمن والرحيم حين كررا يمنع ذلك.

وأجاب البيضاوي بأن نكتة التكرير هنا هي تعليل استحقاق الحمد ، فقال السلكوتي

١٣٩

أشار بهذا إلى الرد على ما قاله بعض الحنفية : إن البسملة لو كانت من الفاتحة للزم التكرار وهو جواب لا يستقيم لأنه إذا كان التعليل قاضيا بذكر صفتي (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) فدفع التكرير يقتضي تجريد البسملة التي في أول الفاتحة من هاتين الصفتين بأن تصير الفاتحة هكذا : (بسم الله الحمد لله إلخ).

وأنا أرى في الاستدلال بمسلك الذوق العربي أن يكون على مراعاة قول القائلين بكون البسملة آية من كل سورة فينشأ من هذا القول أن تكون فواتح سور القرآن كلّها متماثلة وذلك مما لا يحمد في كلام البلغاء إذ الشأن أن يقع التفنن في الفواتح ، بل قد عد علماء البلاغة أهمّ مواضع التأنق فاتحة الكلام وخاتمته ، وذكروا أن فواتح السور وخواتمها واردة على أحسن وجوه البيان وأكملها فكيف يسوغ أن يدّعى أن فواتح سورة جملة واحدة ، مع أن عامة البلغاء من الخطباء والشعراء والكتاب يتنافسون في تفنن فواتح منشآتهم ويعيبون من يلتزم في كلامه طريقة واحدة فما ظنك بأبلغ كلام.

وأما حجة مذهب الشافعي ومن وافقه بأنها آية من سورة الفاتحة خاصة فأمور كثيرة أنهاها فخر الدين إلى سبع عشرة حجة لا يكاد يستقيم منها بعد طرح المتداخل والخارج عن محل النزاع وضعيف السند أو واهيه إلا أمران : أحدهما أحاديث كثيرة منها ما روى أبو هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : «فاتحة الكتاب سبع آيات أولاهن (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) وقول أم سلمة قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الفاتحة وعدّ : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) آية. الثاني : الإجماع على أن ما بين الدفتين كلام الله.

والجواب : أما عن حديث أبي هريرة فهو لم يخرجه أحد من رجال الصحيح إنما خرجه الطبراني وابن مردويه والبيهقي فهو نازل عن درجة الصحيح فلا يعارض الأحاديث الصحيحة ، وأما حديث أم سلمة فلم يخرجه من رجال الصحيح غير أبي داود وأخرجه أحمد بن حنبل والبيهقي ، وصحيح بعض طرقه وقد طعن فيه الطحاوي بأنه رواه ابن أبي مليكة ، ولم يثبت سماع ابن أبي مليكة من أم سلمة ، يعني أنه مقطوع ، على أنه روى عنها ما يخالفه ، على أن شيخ الإسلام زكرياء قد صرح في «حاشيته على تفسير البيضاوي» بأنه لم يرو باللفظ المذكور وإنما روي بألفاظ تدل على أن (بِسْمِ اللهِ) آية وحدها ، فلا يؤخذ منه كونها من الفاتحة ، على أن هذا يفضي إلى إثبات القرآنية بغير المتواتر وهو ما يأباه المسلمون.

١٤٠