تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٣٥

[١٢٤] (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤))

لما كملت الحجج نهوضا على أهل الكتابين ومشركي العرب في عميق ضلالهم بإعراضهم عن الإسلام ، وتبين سوء نواياهم التي حالت دون الاهتداء بهديه والانتفاع بفضله ، وسجل ذلك على زعماء المعاندين أعني اليهود ابتداء بقوله : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) [البقرة : ٤٠] مرتين ، وأدمج معهم النصارى استطرادا مقصودا ، ثم أنصف المنصفون منهم الذين يتلون الكتاب حق تلاوته ، انتقل إلى توجيه التوبيخ والتذكير إلى العرب الذين يزعمون أنهم أفضل ذرية إبراهيم وأنهم يتعلقون بملته ، وأنهم زرع إسماعيل وسدنة البيت الذي بناه ، وكانوا قد وخزوا بجانب من التعريض في خلال المحاورات التي جرت مع أهل الكتاب للصفة التي جمعتهم وإياهم من حسد النبي والمسلمين على ما أنزل عليهم من خير ، ومن قولهم ليس المسلمون على شيء ، ومن قولهم (اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) [البقرة : ١١٦] ، ومن قولهم (لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ) [البقرة : ١١٨]. فلما أخذ اليهود والنصارى حظهم من الإنذار والموعظة كاملا فيما اختصوا به ، وأخذوا مع المشركين حظهم من ذلك فيما اشتركوا فيه تهيأ المقام للتوجه إلى مشركي العرب لإعطائهم حظهم من الموعظة كاملا فيما اختصوا به ، فمناسبة ذكر فضائل إبراهيم ومنزلته عند ربه ودعوته لعقبه عقب ذكر أحوال بني إسرائيل ، هي الاتحاد في المقصد ، فإن المقصود من تذكير بني إسرائيل بالنعم والتخويف ، تحريضهم على الإنصاف في تلقي الدعوة الإسلامية والتجرد من المكابرة والحسد وترك الحظوظ الدنيوية لنيل السعادة الأخروية. والمقصود من ذكر قصة إبراهيم موعظة المشركين ابتداء وبني إسرائيل تبعا له ، لأن العرب أشد اختصاصا بإبراهيم من حيث إنهم يزيدون على نسبهم إليه بكونهم حفظة حرمه ، ومنتمين قديما للحنيفية ولم يطرأ عليهم دين يخالف الحنيفية بخلاف أهل الكتابين.

فحقيق أن نجعل قوله (وَإِذِ ابْتَلى) عطفا على قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠] كما دل عليه افتتاحه بإذ على نحو افتتاح ذكر خلق آدم بقوله : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) فإن الأول تذكير بنعمة الخلق الأول وقد وقع عقب التعجب من كفر المشركين بالخالق في قوله : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) [البقرة : ٢٨] ، عقبت تلك التذكرة بإنذار من كيفر بآيات الله من ذرية آدم بقوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) [البقرة : ٣٨] الآية ، ثم خص من بين

٦٨١

ذرية آدم بنو إسرائيل الذين عهد إليهم على لسان موسى عهد الإيمان وتصديق الرسول الذي يجيء مصدقا لما معهم ، لأنهم صاروا بمنزلة الشهداء على ذرية آدم. فتهيأ المقام لتذكير الفريقين بأبيهم الأقرب وهو إبراهيم أي وجه يكون المقصود بالخطاب فيه ابتداء العرب ، ويضم الفريق الآخر معهم في قرن ، ولذلك كان معظم الثناء على إبراهيم بذكر بناء البيت الحرام وما تبعه إلى أن ذكرت القبلة وسط ذلك ، ثم طوي بالانتقال إلى ذكر سلف بني إسرائيل بقوله : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) [البقرة : ١٣٣] ليفضي إلى قوله : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا) [البقرة : ١٣٥] فيرجع إلى تفضيل الحنيفية والإعلام بأنها أصل الإسلام وأن المشركين ليسوا في شيء منها وكذلك اليهود والنصارى. وقد افتتح ذكر هذين الطورين بفضل ذكر فضل الأبوين آدم وإبراهيم ، فجاء الخبران على أسلوب واحد على أبدع وجه وأحكم نظم. فتعين أن تقدير الكلام واذكر إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات.

ومن الناس من زعم أن قوله : (وَإِذِ ابْتَلى) عطف على قوله (نِعْمَتِيَ) [البقرة : ١٢٢] أي اذكروا نعمتي وابتلائي إبراهيم ، ويلزمه تخصيص هاته الموعظة ببني إسرائيل ، وتخلل (وَاتَّقُوا يَوْماً) [البقرة : ١٢٣] بين المعطوفين وذلك يضيق شمول الآية ، وقد أدمج في ذلك قوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) وقوله : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).

وفي هذه الآية مقصد آخر وهو تمهيد الانتقال إلى فضائل البلد الحرام والبيت الحرام ، لإقامة الحجة على الذين عجبوا من نسخ استقبال بيت المقدس وتذرعوا بذلك إلى الطعن في الإسلام بوقوع النسخ فيه ، وإلى تنفير عامة أهل الكتاب من اتباعه لأنه غير قبلتهم ليظهر لهم أن الكعبة هي أجدر بالاستقبال وأن الله استبقاها لهذه الأمة تنبيها على مزية هذا الدين.

والابتلاء افتعال من البلاء ، وصيغة الافتعال هنا للمبالغة والبلاء الاختبار وتقدم في قوله : (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) [البقرة : ٤٩] ، وهو مجاز مشهور فيه لأن الذي يكلف غيره بشيء يكون تكليفه متضمنا انتظار فعله أو تركه فيلزمه الاختبار فهو مجاز على مجاز ، والمراد هنا التكليف لأن الله كلفه بأوامر ونواه إما من الفضائل والآداب وإما من الأحكام التكليفية الخاصة به ، وليس في إسناد الابتلاء إلى الله تعالى إشكال بعد أن عرفت أنه مجاز في التكليف ، ولك أن تجعله استعارة تمثيلية ، وكيفما كان فطريق التكليف وحي لا محالة ، وهذا يدل على أن إبراهيم أوحى إليه بنبوة لتتهيأ نفسه لتلقي الشريعة فلما امتثل

٦٨٢

ما أمر به أوحى إليه بالرسالة وهي في قوله تعالى : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) فتكون جملة (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) بدل بعض من جملة (وَإِذِ ابْتَلى) ، ويجوز أن يكون الابتلاء هو الوحي بالرسالة ويكون قوله : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) تفسيرا لابتلى.

والإمام الرسول والقدوة.

و (إبراهيم) اسم الرسول العظيم الملقب بالخليل وهو إبراهيم بن تارح (وتسمي العرب تارح آزر) بن ناحور بن سروج ، ابن رعو ، ابن فالح ، ابن عابر ابن شالح ابن أرفكشاد ، ابن سام ابن نوح هكذا تقول التوراة. ومعنى إبراهيم في لغة الكلدانيين أب رحيم أو أب راحم قاله السهيلي وابن عطية ، وفي التوراة أن اسم إبراهيم إبرام وأن الله لما أوحى إليه وكلمه أمره أن يسمى إبراهيم لأنه يجعله أبا لجمهور من الأمم ، فمعنى إبراهيم على هذا أبو أمم كثيرة.

ولد في أور الكلدانيين سنة ١٩٩٦ ست وتسعين وتسعمائة وألف قبل ميلاد المسيح ، ثم انتقل به والده إلى أرض كنعان (وهي أرض الفنيقيين) فأقاموا بحاران (هي حوران) ثم خرج منها لقحط أصاب حاران فدخل مصر وزوّجه سارة وهنالك رام ملك مصر افتكاك سارة فرأى آية صرفته عن مرامه فأكرمها وأهداها جارية مصرية اسمها هاجر وهي أم ولده إسماعيل ، وسماه الله بعد ذلك إبراهيم ، وأسكن ابنه إسماعيل وأمه هاجر بوادي مكة ثم لما شب إسماعيل بنى إبراهيم البيت الحرام هنالك.

وتوفي إبراهيم سنة ١٧٧٣ ثلاث وسبعين وسبعمائة وألف قبل ميلاد المسيح.

وفي اسمه لغات للعرب : إحداها إبراهيم وهي المشهورة وقرأ بها الجمهور ، والثانية إبراهام وقعت في قراءة هشام عن ابن عامر حيثما وقع اسم إبراهيم ، الثالثة إبراهم وقعت في رجز لزيد بن عمرو بن نفيل :

عذت بما عاذ به إبراهيم

مستقبل الكعبة وهو قائم

وذكر أبو شامة في شرح حرز الأماني عن الفراء في إبراهيم ست لغات :

إبراهيم ، إبراهام ، إبراهوم ، إبراهم ، (بكسر الهاء) ، إبراهم (بفتح الهاء) إبراهم (بضم الهاء).

ولم يقرأ جمهور القراء العشرة إلا بالأولى وقرأ بعضهم بالثانية في ثلاثة وثلاثين موضعا سيقع التنبيه عليها في مواضعها ، ومع اختلاف هذه القراءات فهو لم يكتب في

٦٨٣

معظم المصاحف الأصلية إلا إبراهيم بإثبات الياء ، قال أبو عمرو الداني لم أجد في مصاحف العراق والشام مكتوبا إبراهم بميم بعد الهاء ولم يكتب في شيء من المصاحف إبراهام بالألف بعد الهاء على وفق قراءة هشام ، قال أبو زرعة سمعت عبد الله بن ذكوان قال : سمعت أبا خليد القارئ يقول في القرآن ستة وثلاثون موضعا إبراهام قال أبو خليد : فذكرت ذلك لمالك بن أنس فقال عندنا مصحف قديم فنظر فيه ثم أعلمني أنه وجدها فيه كذلك ، وقال أبو بكر ابن مهران روى عن مالك بن أنس أنه قيل له : إن أهل دمشق يقرءون إبراهام ويدعون أنها قراءة عثمان رضي‌الله‌عنه فقال مالك ها مصحف عثمان عندي ثم دعا به فإذا فيه كما قرأ أهل دمشق.

وتقديم المفعول وهو لفظ (إبراهيم) لأن المقصود تشريف إبراهيم بإضافة اسم رب إلى اسمه مع مراعاة الإيجاز فلذلك لم يقل وإذ ابتلى الله إبراهيم.

والكلمات الكلام الذي أوحى الله به إلى إبراهيم إذ الكلمة لفظ يدل على معنى والمراد بها هنا الجمل كما في قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) [المؤمنون : ١٠٠] ، وأجملها هنا إذ ليس الغرض تفصيل شريعة إبراهيم ولا بسط القصة والحكاية وإنما الغرض بيان فضل إبراهيم ببيان ظهور عزمه وامتثاله لتكاليف فأتى بها كاملة فجوزي بعظيم الجزاء ، وهذه عادة القرآن في إجمال ما ليس بمحل الحاجة ، ولعل جمع الكلمات جمع السلامة يؤذن بأن المراد بها أصول الحنيفية وهي قليلة العدد كثيرة الكلفة ، فلعل منها الأمر بذبح ولده ، وأمره بالاختتان ، وبالمهاجرة بهاجر إلى شقة بعيدة وأعظم ذلك أمره بذبح ولده إسماعيل بوحي من الله إليه في الرؤيا ، وقد سمي ذلك بلاء في قوله تعالى : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) [الصافات : ١٠٦].

وقوله : (فَأَتَمَّهُنَ) جيء فيه بالفاء للدلالة على الفور في الامتثال وذلك من شدة العزم. والإتمام في الأصل الإتيان بنهاية الفعل أو إكمال آخر أجزاء المصنوع.

وتعدية فعل أتم إلى ضمير (كلمات) مجاز عقلي ، وهو من تعليق الفعل بحاوي المفعول لأنه كالمكان له وفي معنى الإتمام قوله تعالى : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) [النجم : ٣٧] ، وقوله : (قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) [الصافات : ١٠٥] ، فالإفعال هنا بمعنى إيقاع الفعل على الوجه الأتم وليس المراد بالهمز التصيير أي صيرها تامة بعد أن كانت ناقصة إذ ليس المراد أنه فعل بعضها ثم أتى بالبعض الآخر ، فدل قوله : (فَأَتَمَّهُنَ) مع إيجازه على الامتثال وإتقانه والفور فيه. وهذه الجملة هي المقصود من جزء القصة فيكون عطفها للدلالة على أنه ابتلى

٦٨٤

فامتثل كقولك دعوت فلانا فأجاب.

وجملة (قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عما اقتضاه قوله : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) من تعظيم الخبر والتنويه به ، لما يقتضيه ظرف (إذ) من الإشارة إلى قصة من الأخبار التاريخية العظيمة فيترقب السامع ما يترتب على اقتصاصها ، ويجوز أن يكون الفصل على طريقة المقاولة لأن هذا القول مجاوبة لما دل عليه قوله : (ابْتَلى).

والإمام مشتق من الأم بفتح الهمزة وهو القصد وهو وزن فعال من صيغ الآلة سماعا كالعماد والنقاب والإزار والرداء ، فأصله ما يحصل به الأم أي القصد ولما كان الدال على الطريق يقتدي به السائر دل الإمام على القدوة والهادي.

والمراد بالإمام هنا الرسول فإن الرسالة أكمل أنواع الإمامة والرسول أكمل أفراد هذا النوع. وإنما عدل عن التعبير برسولا إلى (إِماماً) ليكون ذلك دالا على أن رسالته تنفع الأمة المرسل إليها بطريق التبليغ ، وتنفع غيرهم من الأمم بطريق الاقتداء ، فإن إبراهيم عليه‌السلام رحل إلى آفاق كثيرة فتنقل من بلاد الكلدان إلى العراق وإلى الشام والحجاز ومصر ، وكان في جميع منازله محل التبجيل ولا شك أن التبجيل يبعث على الاقتداء ، وقد قيل إن دين برهما المتّبع في الهند أصله منسوب إلى اسم إبراهم عليه‌السلام مع تحريف أدخل على ذلك الدين كما أدخل التحريف على الحنيفية ، وليتأتّى الإيجاز في حكاية قول إبراهيم الآتي (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) ، فيكون قد سأل أن يكون في ذريته الإمامة بأنواعها من رسالة وملك وقدوة على حسب التهيّؤ فيهم ، وأقل أنواع الإمامة كون الرجل الكامل قدوة لبنيه وأهل بيته وتلاميذه.

وقوله : (قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) جواب صدر من إبراهيم فلذا حكي بقال دون عاطف على طريق حكاية المحاورات كما تقدم عند قوله تعالى : (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) [البقرة : ٣٠] والمقول معطوف على خطاب الله تعالى إياه يسمونه عطف التلقين وهو عطف المخاطب كلاما على ما وقع في كلام المتكلم تنزيلا لنفسه في منزلة المتكلم يكمّل له شيئا تركه المتكلم إما عن غفلة وإما عن اقتصار فيلقنه السامع تداركه بحيث يلتئم من الكلامين كلام تام في اعتقاد المخاطب.

وفي الحديث الصحيح قال جرير بن عبد الله «بايعت النبي على شهادة أن لا إله إلا الله ـ إلخ ـ فشرط عليّ والنصح لكل مسلم» ، ومنه قول ابن الزبير للذي سأله فلم يعطه

٦٨٥

فقال لعن الله ناقة حملتني إليك فقال ابن الزبير «إنّ وراكبها» ، وقد لقبوه عطف التلقين كما في «شرح التفتازانيّ على الكشاف» وذلك لأن أكثر وقوع مثله في موقع العطف ، والأولى أن تحذف كلمة عطف ونسمي هذا الصنف من الكلام باسم التلقين وهو تلقين السامع المتكلم ما يراه حقيقا بأن يلحقه بكلامه ، فقد يكون بطريقة العطف وهو الغالب كما هنا ، وقد يكون بطريقة الاستفهام الإنكاري والحال كقول تعالى : (قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً) [البقرة : ١٧٠] فإن الواو مع (لو) الوصلية واو الحال وليس واو العطف فهو إنكار على إلحاقهم المستفهم عنه بقولهم ودعواهم ، وقد يكون بطريقة الاستثناء كقول العباس لمّا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حرم مكة «لا يعضد شجره» فقال العباس إلّا الإذخر لبيوتنا وقيننا ، وللكلام المعطوف عطف التلقين من الحكم حكم الكلام المعطوف هو عليه خبرا وطلبا ، فإذا كان كما هنا على طريق العرض علم إمضاء المتكلم له إياه ، بإقراره كما في الآية أو التصريح به كما وقع في الحديث «إلا الإذخر» ، ثم هو في الإنشاء إذا عطف معمول الإنشاء يتضمن أن المعطوف له حكم المعطوف عليه ، ولما كان المتكلم بالعطف في الإنشاء هو المخاطب بالإنشاء لزم تأويل عطف التلقين فيه بأنه على إرادة العطف على معمول لازم الإنشاء ففي الأمر إذا عطف المأمور مفعولا على مفعول الآمر كان المعنى زدني من الأمر فأنا بصدد الامتثال وكذا في المنهي. والمعطوف محذوف دل عليه المقام أي وبعض من ذريتي أو وجاعل بعض من ذريتي.

والذّريّة نسل الرجل وما توالد منه ومن أبنائه وبناته ، وهي مشتقة إما من الذّرّ اسما وهو صغار النمل ، وإما من الذّرّ مصدرا بمعنى التفريق ، وإما من الذّرى والذّرو (بالياء والواو) وهو مصدر ذرت الريح إذا سفت ، وإما من الذرء بالهمز وهو الخلق ، فوزنها إما فعليّة بوزن النسب إلى ذر وضم الذال في النسب على غير قياس كما قالوا في النسب إلى دهر دهريّ بضم الدال ، وإما فعّيلة أو فعّولة من الذرى أو الذرو أو الذرء بإدغام الياءين أو الياء مع الواو أو الياء مع الهمزة بعد قلبها ياء وكل هذا تصريف لاشتقاق الواضع فليس قياس التصريف.

وإنما قال إبراهيم : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) ولم يقل وذريتي لأنه يعلم أن حكمة الله من هذا العالم لم تجر بأن يكون جميع نسل أحد ممن يصلحون لأن يقتدى بهم فلم يسأل ما هو مستحيل عادة لأن سؤال ذلك ليس من آداب الدعاء.

وإنما سأل لذريته ولم يقصر السؤال على عقبه كما هو المتعارف في عصبية القائل

٦٨٦

لأبناء دينه على الفطرة التي لا تقتضي تفاوتا فيرى أبناء الابن وأبناء البنت في القرب من الجد بل هما سواء في حكم القرابة ، وأما مبنى القبلية فعلى اعتبارات عرفية ترجع إلى النصرة والاعتزاز فأما قول :

بنونا بنو أبنائنا وبناتنا

بنوهن أبناء الرجال الأباعد

فوهم جاهلي ، وإلا فإن بني الأبناء أيضا بنوهم أبناء النساء الأباعد ، وهل يتكون نسل إلا من أب وأم. وكذا قول :

وإنما أمهات الناس أوعية

فيها خلقن وللأبناء أبناء

فذلك سفسطة. وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم للذي سأله عن الأحق بالبر من أبويه «أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك» وقال الله تعالى : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ) [لقمان : ١٤].

وقوله تعالى : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) استجابة مطوية بإيجاز وبيان للفريق الذي تتحقق فيه دعوة إبراهيم والذي لا تتحقق فيه بالاقتصار على أحدهما لأن حكم أحد الضدين يثبت نقيضه للآخر على طريقة الإيجاز ، وإنما لم يذكر الصنف الذي تحقق فيه الدعوة لأن المقصد ذكر الصنف الآخر تعريضا بأن الذين يزعمون يومئذ أنهم أولى الناس بإبراهيم وهم أهل الكتاب ومشركو العرب هم الذين يحرمون من دعوته ، قال تعالى : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) [آل عمران : ٦٧ ، ٦٨] ولأن المربي يقصد التحذير من المفاسد قبل الحث على المصالح ، فبيان الذين لا تتحقق فيهم الدعوة أولى من بيان الآخرين.

و (يَنالُ) مضارع نال نيلا بالياء إذا أصاب شيئا والتحق به أي لا يصيب عهدي الظالمين أي لا يشملهم ، فالعهد هنا بمعنى الوعد المؤكد. وسمي وعد الله عهدا لأن الله لا يخلف وعده كما أخبر بذلك فصار وعده عهدا ولذلك سماه النبي عهدا في قوله «أنشدك عهدك ووعدك» ، أي لا ينال وعدي بإجابة دعوتك الظالمين منهم ، ولا يحسن أن يفسر العهد هنا بغير هذا وإن كان في مواقع من القرآن أريد به غيره ، وسيأتي ذكر العهد في سورة الأعراف.

ومن دقة القرآن اختيار هذا اللفظ هنا لأن اليهود زعموا أن الله عهد لإبراهيم عهدا بأنه مع ذريته ففي ذكر لفظ العهد تعريض بهم وإن كان صريح الكلام لتوبيخ المشركين.

٦٨٧

والمراد بالظالمين ابتداء المشركون أي الذين ظلموا أنفسهم إذ أشركوا بالله قال تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣] والظلم يشمل أيضا عمل المعاصي الكبائر كما وقع في قوله تعالى : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ) [الصافات : ١١٣] وقد وصف القرآن اليهود بوصف الظالمين في قوله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [المائدة : ٤٥] فالمراد بالظلم المعاصي الكبيرة وأعلاها الشرك بالله تعالى.

وفي الآية تنبيه على أن أهل الكتاب والمشركين يومئذ ليسوا جديرين بالإمامة لاتصافهم بأنواع من الظلم كالشرك وتحريف الكتاب وتأويله على حسب شهواتهم والانهماك في المعاصي حتى إذا عرضوا أنفسهم على هذا الوصف علموا انطباقه عليهم. وإناطة الحكم بوصف الظالمين إيماء إلى علة نفي أن ينالهم عهد الله فيفهم من العلة أنه إذا زال وصف الظلم نالهم العهد.

وفي الآية أن المتصف بالكبيرة ليس مستحقا لإسناد الإمامة إليه أعني سائر ولايات المسلمين : الخلافة والإمارة والقضاء والفتوى ورواية العلم وإمامة الصلاة ونحو ذلك. قال فخر الدين : قال الجمهور من الفقهاء والمتكلمين الفاسق حال فسقه لا يجوز عقد الإمامة له. وفي «تفسير ابن عرفة» تسليم ذلك. ونقل ابن عرفة عن المازري والقرطبي عن الجمهور إذا عقد للإمام على وجه صحيح ثم فسق وجار فإن كان فسقه بكفر وجب خلعه وأما بغيره من المعاصي فقال الخوارج والمعتزلة وبعض أهل السنة يخلع وقال جمهور أهل السنة لا يخلع بالفسق والظلم وتعطيل الحدود ويجب وعظه وترك طاعته فيما لا تجب فيه طاعة وهذا مع القدرة على خلعه فإن لم يقدر عليه إلا بفتنة وحرب فاتفقوا على منع القيام عليه وأن الصبر على جوره أولى من استبدال الأمن بالخوف وإراقة الدماء انطلاق أيدي السفهاء والفساق في الأرض وهذا حكم كل ولاية في قول علماء السنة ، وما نقل عن أبي حنيفة من جواز كون الفاسق خليفة وعدم جواز كونه قاضيا قال أبو بكر الرازي الجصاص هو خطأ في النقل.

وقرأ الجمهور من العشرة (عهدي) بفتح ياء المتكلم وهو وجه من الوجوه في ياء المتكلم وقرأه حمزة وحفص بإسكان الياء.

[١٢٥] (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (١٢٥))

٦٨٨

تدرج في ذكر منقبة إبراهيم إذ جعل الله بيته بهذه الفضيلة. و (إذ) أضافها إلى جلالته فقال : (بيتي) ، واستهلال لفضيلة القبلة الإسلامية ، فالواو عاطفة على (ابْتَلى) [البقرة : ١٢٤] وأعيدت (إذ) للتنبيه على استقلال القصة وأنها جديرة بأن تعد بنية أخرى ، ولا التفات إلى حصول مضمون هذه بعد حصول الأخرى أو قبله إذ لا غرض في ذلك في مقام ذكر الفضائل ، ولأن الواو لا تفيد ترتيبا.

والبيت اسم جنس للمكان المتخذ مسكنا لواحد أو عدد من الناس في غرض من الأغراض ، وهو مكان من الأرض يحيط به ما يميزه عن بقية بقعته من الأرض ليكون الساكن مستقلا به لنفسه ولمن يتبعه فيكون مستقرا له وكنا يكنه من البرد والحر وساترا يستتر فيه عن الناس ومحطا لأثاثه وشئونه ، وقد يكون خاصا وهو الغالب وقد يكون لجماعة مثل دار الندوة في العرب وخيمة الاجتماع في بني إسرائيل ، وقد يكون محيط البيت من حجر وطين كالكعبة ودار الندوة ، وقد يكون من أديم مثل القباب ، وقد يكون من نسيج صوف أو شعر قال تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها) [النحل : ٨٠] ، ولا يكون بيتا إلا إذا كان مستورا أعلاه عن الحر والقر وذلك بالسقف لبيوت الحجر وبيوت الأديم والخيام.

والبيت علم بالغلبة على الكعبة كما غلب النجم على الثريا. وأصل أل التي في الأعلام بالغلبة هي أل العهدية وذلك إذا كثر عهد فرد من أفراد جنس بين طائفة أو قوم صار اسم جنسه مع أل العهدية كالعلم له ثم قد يتعهدون مع ذلك المعنى الأصلي كما في النجم للثريا والكتاب للقرآن والبيت للكعبة ، وقد ينسى المعنى الأصلي إما بقلة الحاجة إليه كالصعق علم على خويلد بن نفيل وإما بانحصار الجنس فيه كالشمس.

والكعبة بيت بناه إبراهيم عليه‌السلام لعبادة الله وحده دون شريك فيأوي إليه من يدين بالتوحيد ويطوف به من يقصد تعظيم الله تعالى ولذلك أضافه إلى الله تعالى باعتبار هذا المعنى كما قال : (أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) وفي قوله : (عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ) [إبراهيم : ٣٧] وقد عرفت الكعبة باسم البيت من عهد الجاهلية قال زهير :

فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله

رجال بنوه من قريش وجرهم

والمثابة مفعلة من ثاب يثوب إذا رجع ويقال مثابة ومثاب مثل مقامة ومقام ، والمراد بالمثابة أنه يقصده الناس بالتعظيم ويلوذون به.

٦٨٩

والمراد من الناس سكان مكة من ذرية إسماعيل وكل من يجاورهم ويدخل في حلفهم ، فتعريف الناس للجنس المعهود ، وتعليق للناس بمثابة على التوزيع أي يزوره ناس ويذهبون فيخلفهم ناس.

ولما كان المقصود من هذا ذكر منقبة البيت والمنة على ساكنيه كان الغرض التذكير بنعمة الله أن جعله لا ينصرف عنه قوم إلا ويخلفهم قوم آخرون ، فكان الذين يخلفون الزائرين قائمين مقامهم بالنسبة للبيت وسكانه ، ويجوز حمل تعريف الناس على العهد أي يثوب إليه الناس الذين ألفوه وهم كمّل الزائرين فهم يعودون إليه مرارا ، وكذلك كان الشأن عند العرب.

والأمن مصدر أخبر به عن البيت باعتبار أنه سبب أمن فجعل كأنه نفس الأمن مبالغة. والأمن حفظ الناس من الأضرار فتشريد الدعّار وحراسة البلاد وتمهيد السبل وإنارة الطرق أمن ، والانتصاف من الجناة والضرب على أيدي الظلمة وإرجاع الحقوق إلى أهلها أمن ، فالأمن يفسر في كل حال بما يناسبه ، ولما كان الغالب على أحوال الجاهلية أخذ القوي مال الضعيف ولم يكن بينهم تحاكم ولا شريعة كان الأمن يومئذ هو الحيلولة بين القوي والضعيف ، فجعل الله لهم البيت أمنا للناس يومئذ أي يصد القوي عن أن يتناول فيه الضعيف قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت : ٦٧] فهذه منة على أهل الجاهلية ، وأما في الإسلام فقد أغنى الله تعالى بما شرعه من أحكامه وما أقامه من حكامه فكان ذلك أمنا كافيا. قال السهيلي فقوله تعالى : (مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) [آل عمران : ٩٧] إنما هو إخبار عن تعظيم حرمته في الجاهلية نعمة منه تعالى على أهل مكة فكان في ذلك مصلحة لذرية إسماعيل عليه‌السلام.

وقد اختلف الفقهاء في الاستدلال بهذه الآية وأضرابها على حكم إقامة الحدود والعقوبات في الحرم وسيأتي تفصيلها عند قوله تعالى : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [البقرة : ١٩١] الآية وليس من غرض هذه الآية.

والمراد من الجعل في الآية إما الجعل التكويني لأن ذلك قدره الله وأوجد أسبابه فاستقر ذلك بين أهل الجاهلية ويسرهم إلى تعظيمه ، وإما الجعل أن أمر الله إبراهيم بذلك فأبلغه إبراهيم ابنه إسماعيل وبثه في ذريته فتلقاه أعقابهم تلقي الأمور المسلمة ، فدام ذلك الأمن في العصور والأجيال من عهد إبراهيم عليه‌السلام إلى أن أغنى الله عنه بما شرع

٦٩٠

من أحكام الأمن في الإسلام في كل مكان وتم مراد الله تعالى ، فلا يريبكم ما حدث في المسجد الحرام من الخوف في حصار الحجاج في فتنة ابن الزبير ولا ما حدث فيه من الرعب والقتل والنهب في زمن القرامطة حين غزاه الحسن ابن بهرام الجنابي (نسبة إلى بلدة يقال لها جنابة بتشديد النون) كبير القرامطة إذ قتل بمكة آلافا من الناس وكان يقول لهم يا كلاب أليس قال لكم محمد المكي (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) [آل عمران : ٩٧] أيّ أمن هنا؟ وهو جاهل غبي لأن الله أراد الأمر بأن يجعل المسجد الحرام مأمنا في مدة الجاهلية إذ لم يكن للناس وازع عن الظلم ، أو هو خبر مراد به الأمر مثل (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة : ٢٢٨].

وقوله : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) قرأه نافع وابن عامر بصيغة الماضي عطفا على (جَعَلْنَا) فيكون هذا الاتخاذ من آثار ذلك الجعل فالمعنى ألهمنا الناس أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ، أو أمرناهم بذلك على لسان إبراهيم فامتثلوا واتخذوه ، فهو للدلالة على حصول الجعل بطريق دلالة الاقتضاء فكأنه قيل جعلنا ذلك فاتخذوا ، وقرأه باقي العشرة بكسر الخاء بصيغة الأمر على تقدير القول أي قلنا اتخذوا بقرينة الخطاب فيكون العامل المعطوف محذوفا بالقرينة وبقي معموله كقول لبيد :

فعلا فروع الأيهقان وأطفلت

بالجلهتين ظباؤها ونعامها

أراد وباضت نعامها فإنه لا يقال لأفراخ الطير أطفال ، فمآل القراءتين إلى مفاد واحد.

ومقام إبراهيم يطلق على الكعبة لأن إبراهيم كان يقوم عندها يعبد الله تعالى ويدعو إلى توحيده ، قال زيد بن عمرو بن نفيل :

عذت بما عاذ به إبراهم

مستقبل الكعبة وهو قائم

وبهذا الإطلاق جاء في قوله تعالى : (مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) [آل عمران : ٩٧] إذ الدخول من علائق البيت ، ويطلق مقام إبراهيم على الحجر الذي كان يقف عليه إبراهيم عليه‌السلام حين بنائه الكعبة ليرتفع لوضع الحجارة في أعلى الجدار كما أخرجه البخاري ، وقد ثبتت آثار قدميه في الحجر. قال أنس بن مالك رأيت في المقام أثر أصابعه وأخمص قدميه غير أنه أذهبه مسح الناس بأيديهم ، وهذا الحجر يعرف إلى اليوم بالمقام ، وقد ركع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في موضعه ركعتين بعد طواف القدوم فكان الركوع عنده من سنة الفراغ من الطواف.

٦٩١

والمصلّى موضع الصلاة وصلاتهم يومئذ الدعاء والخضوع إلى الله تعالى ، وكان إبراهيم قد وضع المسجد الحرام حول الكعبة ووضع الحجر الذي كان يرتفع عليه للبناء حولها فكان المصلّى على الحجر المسمى بالمقام فذلك يكون المصلى متخذا من مقام إبراهيم على كلا الإطلاقين.

والقراءتان تقتضيان أن اتخاذ مقام إبراهيم مصلّى كان من عهد إبراهيم عليه‌السلام ولم يكن الحجر الذي اعتلى عليه إبراهيم في البناء مخصوصا بصلاة عنده ولكنه مشمول للصلاة في المسجد الحرام ولما جاء الإسلام بقي الأمر على ذلك إلى أن كان عام حجة الوداع أو عام الفتح دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المسجد الحرام ومعه عمر بن الخطاب ثم سنت الصلاة عند المقام في طواف القدوم. روى البخاري عن عمر بن الخطاب أنه قال : «وافقت ربي في ثلاث : قلت يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى فنزلت (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) ، وهذه الرواية تثير معنى آخر للآية وهي أن يكون الخطاب موجها للمسلمين فتكون جملة (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى) معترضة بين جملة (جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ) وجملة (وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ) اعتراضا استطراديا ، وللجمع بين الاحتمالات الثلاثة في الآية يكون تأويل قول عمر «فنزلت» أنه نزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شرع الصلاة عند حجر المقام بعد أن لم يكن مشروعا لهم ليستقيم الجمع بين معنى القراءتين واتخذوا بصيغة الماضي وبصيغة الأمر فإن صيغة الماضي لا تحتمل غير حكاية ما كان في زمن إبراهيم وصيغة الأمر تحتمل ذلك وتحتمل أن يراد بها معنى التشريع للمسلمين ، إعمالا للقرآن بكل ما تحتمله ألفاظه حسبما بيناه في المقدمة التاسعة.

وقوله : (وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ) ، العهد أصله الوعد المؤكد وقوعه وقد تقدم آنفا عند قوله تعالى : (قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة : ١٢٤] ، فإذا عدي بإلى كان بمعنى الوصية المؤكد على الموصى العمل بها فعهد هنا بمعنى أرسل عهدا إليه أي أرسل إليه يأخذ منهم عهدا ، فالمعنى وأوصينا إلى إبراهيم وإسماعيل.

وقوله : (أَنْ طَهِّرا) أن تفسيرية لأن الوصية فيها معنى القول دون حروفه فالتفسير للقول الضمني والمفسّر هو ما بعد (أن) فلا تقدير في الكلام ولو لا قصد حكاية القول لما جاء بعد (أن) بلفظ الأمر ، ولقال بتطهير بيتي إلخ.

والمراد من تطهير البيت ما يدل عليه لفظ التطهير من محسوس بأن يحفظ من القاذورات والأوساخ ليكون المتعبّد فيه مقبلا على العبادة دون تكدير ، ومن تطهير معنوي

٦٩٢

وهو أن يبعد عنه ما لا يليق بالقصد من بنائه من الأصنام والأفعال المنافية للحق كالعدوان والفسوق ، والمنافية للمروءة كالطواف عريا دون ثياب الرجال والنساء.

وفي هذا تعريض بأن المشركين ليسوا أهلا لعمارة المسجد الحرام لأنهم لم يطهروه مما يجب تطهيره منه قال تعالى : (وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) [الأنفال : ٣٤] وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) [التوبة : ٢٨].

والطائفون والعاكفون والراكعون والساجدون أصناف المتعبدين في البيت من طواف واعتكاف وصلاة ، وهم أصناف المتلبسين بتلك الصفات سواء انفردت بعض الطوائف ببعض هذه الصفات أو اجتمعت الصفات في طائفة أو طوائف ، وذلك كله في الكعبة قبل وضع المسجد الحرام ، وهؤلاء هم إسماعيل وأبناؤه وأصهاره من جرهم وكلّ من آمن بدين الحنيفية من جيرانهم.

وقد جمع الطائف والعاكف جمع سلامة ، وجمع الراكع والساجد جمع تكسير ، تفننا في الكلام وبعدا عن تكرير الصيغة أكثر من مرة بخلاف نحو قوله : (مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ) [التحريم : ٥] الآية ، وقوله : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) [الأحزاب : ٣٥] الآية ، وقال ابن عرفة «جمع الطائفين والعاكفين جمع سلامة لأنه أقرب إلى لفظ الفعل بمنزلة يطوفون أي يجددون الطواف للإشعار بعلة تطهير البيت وهو قرب هذين من البيت بخلاف الركوع والسجود فإنه لا يلزم أن يكونا في البيت ولا عنده فلذلك لم يجمع جمع سلامة» ، وهذا الكلام يؤذن بالفرق بين جمع السلامة وجمع التكسير من حيث الإشعار بالحدوث والتجدد ، ويشهد له كلام أبي الفتح ابن جني في «شرح الحماسة» عند قول الأحوص الأنصاري :

فإذا تزول تزول عن متخمّط

تخشى بوادره على الأقران

قال أبو الفتح : «جاز أن يتعلق على ببوادر ، وإن كان جمعا مكسرا والمصدر إذا كسر بعد بتكسيره عن شبه الفعل ، وإذا جاز تعلق المفعول به بالمصدر مكسرا نحو «مواعيد عرقوب أخاه» كان تعلق حرف الجر به أجوز». فصريح كلامه أن التكسير يبعد ما هو بمعنى الفعل عن شبه الفعل.

وخولف بين الركوع والسجود زيادة في التفنن وإلا فإن الساجد يجمع على سجّد إلا أن الأكثر فيهما إذا اقترنا أن يخالف بين صيغتيهما قال كثير :

٦٩٣

لو يسمعون كما سمعت كلامها

خروا لعزة ركعا وسجودا

وقد علمتم من النحو والصرف أن جمع فاعل على فعول سماعي فمنه شهود وهجوع وهجود وسجود.

ولم يعطف السجود على (الركع) لأن الوصفين متلازمان ولو عطف لتوهم أنهما وصفان مفترقان.

[١٢٦] (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٢٦))

عطف على (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً) [البقرة : ١٢٥] لإفادة منقبة ثالثة لإبراهيم عليه‌السلام في استجابة دعوته بفضل مكة والنعمة على ساكنيها إذا شكروا ، وتنبيه ثالث لمشركي مكة يومئذ ليتذكروا دعوة أبيهم إبراهيم المشعرة بحرصه على إيمانهم بالله واليوم الآخر حتى خص من ذريته بدعوته المؤمنين فيعرض المشركون أنفسهم على الحال التي سألها أبوهم فيتضح لهم أنهم على غير تلك الحالة ، وفي ذلك بعث لهم على الاتصاف بذلك لأن للناس رغبة في الاقتداء بأسلافهم وحنينا إلى أحوالهم ، وفي ذلك كله تعريض بهم بأن ما يدلون به من النسب لإبراهيم ومن عمارة المسجد الحرام ومن شعائر الحج لا يغني عنهم من الإشراك بالله ، كما عرض بالآيات قبل ذلك باليهود والنصارى وذلك في قوله هنا : (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) وبه تظهر مناسبة ذكر هذه المنقبة عقب قوله تعالى : (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً) [البقرة : ١٢٥].

واسم الإشارة في قوله : (هذا بَلَداً) مراد به الموضع القائم به إبراهيم حين دعائه وهو المكان الذي عليه امرأته وابنه وعزم على بناء الكعبة فيه إن كان الدعاء قبل البناء ، أو الذي بني فيه الكعبة إن كان الدعاء بعد البناء ، فإن الاستحضار بالذات مغن عن الإشارة الحسية باليد لأن تمييزه عند المخاطب مغن عن الإشارة إليه فإطلاق اسم الإشارة حينئذ واضح.

وأصل أسماء الإشارة أن يستغنى بها عن زيادة تبيين المشار إليه تبيينا لفظيا لأن الإشارة بيان ، وقد يزيدون الإشارة بيانا فيذكرون بعد اسم الإشارة اسما يعرب عطف بيان أو بدلا من اسم الإشارة للدلالة على أن المشار إليه قصد استحضاره من بعض أوصافه كقولك هذا الرجل يقول كذا ، ويتأكد ذلك إن تركت الإشارة باليد اعتمادا على حضور

٦٩٤

المراد من اسم الإشارة. وقد عدل هنا عن بيان المشار إليه اكتفاء عنه بما هو الواقع عند الدعاء ، فإن إبراهيم دعا دعوته وهو في الموضع الذي بنى فيه الكعبة لأن الغرض ليس تفصيل حالة الدعاء إنما هو بيان استجابة دعائه وفضيلة محل الدعوة وجعل مكة بلدا آمنا ورزق أهله من الثمرات ، وتلك عادة القرآن في الإعراض عما لا تعلق به بالمقصود ألا ترى أنه لما جعل البلد مفعولا ثانيا استغنى عن بيان اسم الإشارة ، وفي سورة إبراهيم [٣٥] لما جعل (آمِناً) مفعولا ثانيا بين اسم الإشارة بلفظ (البلد) ، فحصل من الآيتين أن إبراهيم دعا لبلد بأن يكون آمنا.

والبلد المكان المتسع من الأرض المتحيز عامرا أو غامرا ، وهو أيضا الأرض مطلقا ، قال صنّان اليشكري :

لكنّه حوض من أودى بإخوته

ريب المنون فأضحى بيضة البلد

يريد بيضة النعام في أدحيّ النعام أي محل بيضه ، ويطلق البلد على القرية المكونة من بيوت عدة لسكنى أهلها بها وهو إطلاق حقيقي هو أشهر من إطلاق البلد على الأرض المتسعة والظاهر أن دعوة إبراهيم المحكية في هذه الآية كانت قبل أن تتقرى مكة حيث لم يكن بها إلا بيت إسماعيل أو بيت أو بيتان آخران لأن إبراهيم ابتدأ عمارته ببناء البيت من حجر ، ولأن إلهام الله إياه لذلك لإرادته تعالى مصيرها مهيع الحضارة لتلك الجهة إرهاصا لنبوة سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويحتمل أن ذلك المكان كان مأهولا بسكان وقت مجيء إبراهيم وامرأته وابنه ، والعرب يذكرون أنه كان في تلك الجهة عشائر من جرهم وقطورا والعمالقة والكركر في جهات أجياد وعرفات.

والآمن اسم فاعل من أمن ضد خاف ، وهو عند الإطلاق عدم الخوف من عدو ومن قتال وذلك ما ميز الله مكة به من بين سائر بلاد العرب ، وقد يطلق الأمن على عدم الخوف مطلقا فتعين ذكر متعلقه ، وإنما يوصف بالأمن ما يصح اتصافه بالخوف وهو ذو الإدراكية ، فالإخبار بآمنا عن البلد إما بجعل وزن فاعل هنا للنسبة بمعنى ذا أمن كقول النابغة :

كليني لهم يا أميمة ناصب

أي ذي نصب ، وإما على إرادة آمنا أهله على طريقة المجاز العقلي لملابسة المكان. ثم إن كان المشار إليه في وقت دعاء إبراهيم أرضا فيها بيت أو بيتان. فالتقدير في الكلام

٦٩٥

اجعل هذا المكان بلدا آمنا أي قرية آمنة فيكون دعاء بأن يصير قرية وأن تكون آمنة.

وإن كان المشار إليه في وقت دعائه قرية بنى أناس حولها ونزلوا حذوها وهو الأظهر الذي يشعر به كلام «الكشاف» هنا وفي سورة إبراهيم كان دعاء للبلد بحصول الأمن له وأما حكاية دعوته في سورة إبراهيم [٣٥] بقوله : (اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) فتلك دعوة له بعد أن صار بلدا.

ولقد كانت دعوة إبراهيم هذه من جوامع كلم النبوءة فإن أمن البلاد والسبل يستتبع جميع خصال سعادة الحياة ويقتضي العدل والعزة والرخاء إذ لا أمن بدونها ، وهو يستتبع التعمير والإقبال على ما ينفع والثروة فلا يختل الأمن إلا إذا اختلت الثلاثة الأول وإذا اختل اختلت الثلاثة الأخيرة ، وإنما أراد بذلك تيسير الإقامة فيه على سكانه لتوطيد وسائل ما أراده لذلك البلد من كونه منبع الإسلام.

والثّمرات جمع ثمرة وهي ما تحمل به الشجرة وتنتجه مما فيه غذاء للإنسان أو فاكهة له ، وكأن اسمه منتسب من اسم التمر بالمثناة فإن أهل الحجاز يريدون بالثمر بالمثلثة التمر الرّطب وبالمثناة التمر اليابس.

وللثمرة جموع متعددة وهي ثمر بالتحريك وثمار ، وثمر ، بضمتين ، وأثمار ، وأثامير ، قالوا : ولا نظير له في ذلك إلا أكمة جمعت على أكم وإكام وأكم وآكام وأكاميم.

والتعريف في الثمرات تعريف الاستغراق وهو استغراق عرفي أي من جميع الثمرات المعروفة للناس ودليل كونه تعريف الاستغراق مجيء من التي للتبعيض ، وفي هذا دعاء لهم بالرفاهية حتى لا تطمح نفوسهم للارتحال عنه.

وقوله : (مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ) بدل بعض من قوله (أَهْلَهُ) يفيد تخصيصه لأن أهله عام إذ هو اسم جمع مضاف وبدل البعض مخصص.

وخصّ إبراهيم المؤمنين بطلب الرزق لهم حرصا على شيوع الإيمان لساكنيه لأنهم إذا علموا أن دعوة إبراهيم خصت المؤمنين تجنبوا ما يحيد بهم عن الإيمان ، فجعل تيسير الرزق لهم على شرط إيمانهم باعثا لهم على الإيمان ، أو أراد التأدب مع الله تعالى فسأله سؤالا أقرب إلى الإجابة ولعله استشعر من رد الله عليه عموم دعائه السابق إذ قال : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) [البقرة : ١٢٤] فقال : (لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة : ١٢٤] أن غير المؤمنين ليسوا أهلا لإجراء رزق الله عليهم وقد أعقب الله دعوته بقوله : (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً).

٦٩٦

ومقصد إبراهيم من دعوته هذه أن تتوفر لأهل مكة أسباب الإقامة فيها فلا تضطرهم الحاجة إلى سكنى بلد آخر لأنه رجا أن يكونوا دعاة لما بنيت الكعبة لأجله من إقامة التوحيد وخصال الحنيفية وهي خصال الكمال ، وهذا أول مظاهر تكوين المدينة الفاضلة التي دعا أفلاطون لإيجادها بعد بضعة عشر قرنا.

وجملة ؛ (قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ) جاءت على سنن حكاية الأقوال في المحاورات والأجوبة مفصولة ، وضمير (قالَ) عائد إلى الله ، فمن جوز أن يكون الضمير في (قالَ) لإبراهيم وأن إعادة القول لطول المقول الأول فقد غفل عن المعنى وعن الاستعمال وعن الضمير في قوله : (فَأُمَتِّعُهُ).

وقوله : (وَمَنْ كَفَرَ) الأظهر أنه عطف على جملة : (وَارْزُقْ أَهْلَهُ) باعتبار القيد وهو قوله : (مَنْ آمَنَ) فيكون قوله : (وَمَنْ كَفَرَ) مبتدأ وضمن الموصول معنى الشرط فلذلك قرن الخبر بالفاء على طريقة شائعة في مثله ، لما قدمناه في قوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) [البقرة : ١٢٤] أن عطف التلقين في الإنشاء إذا كان صادرا من الذي خوطب بالإنشاء كان دليلا على حصول الغرض من الإنشاء والزيادة عليه ، ولذلك آل المعنى هنا إلى أن الله تعالى أظهر فضله على إبراهيم بأنه يرزق ذريته مؤمنهم وكافرهم ، أو أظهر سعة رحمته برزق سكان مكة كلهم مؤمنهم وكافرهم.

ومعنى (أمتعه) أجعل الرزق له متاعا ، و (قَلِيلاً) صفة لمصدر محذوف لبعد قوله : (فَأُمَتِّعُهُ) والمتاع القليل متاع الدنيا كما دلت عليه المقابلة بقوله : (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ).

وفي هذه الآية دليل لقول الباقلاني والماتريدية والمعتزلة بأن الكفار منعم عليهم بنعم الدنيا ، وقال الأشعري لم ينعم على الكافر لا في الدنيا ولا في الآخرة وإنما أعطاهم الله في الدنيا ملاذ على وجه الاستدراج ، والمسألة معدودة في مسائل الخلاف بين الأشعري والماتريدي ، ويشبه أن يكون الخلاف بينهما لفظيا وإن عده السبكي في عداد الخلاف المعنوي.

وقوله : (ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ) احتراس من أن يغتر الكافر بأنّ تخويله النعم في الدنيا يؤذن برضى الله فلذلك ذكر العذاب هنا.

و (ثم) للتراخي الرتبي كشأنها في عطف الجمل من غير التفات إلى كون مصيره إلى

٦٩٧

العذاب متأخرا عن تمتيعه بالمتاع القليل.

والاضطرار في الأصل الالتجاء وهو بوزن افتعل مطاوع أضره إذا صيره ذا ضرورة أي حاجة ، فالأصل أن يكون اضطر قاصرا لأن أصل المطاوعة عدم التعدي ولكن الاستعمال جاء على تعديته إلى مفعول وهو استعمال فصيح غير جار على قياس يقال اضطرّه إلى كذا أي ألجأه إليه ، ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة لقمان [٢٤] : (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ).

وقوله : (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) تذييل والواو للاعتراض أو للحال والخبر محذوف هو المخصوص بالذم وتقديره هي.

[١٢٧] (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧))

هذه منقبة ثالثة لإبراهيم عليه‌السلام ، وتذكير بشرف الكعبة ، ووسيلة ثالثة إلى التعريض بالمشركين بعد قوله : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً) [البقرة : ١٢٨] إلخ ، وتمهيد للرد على اليهود إنكارهم استقبال الكعبة الذي يجيء عند قوله تعالى : (سَيَقُولُ السُّفَهاءُ) [البقرة : ١٤٢] ولأجل استقلالها بهاته المقاصد الثلاثة التي تضمنتها الآيات قبلها عطفت على سوابقها مع الاقتران بإذ تنبيها على الاستقلال.

وخولف الأسلوب الذي يقتضيه الظاهر في حكاية الماضي أن يكون بالفعل الماضي بأن يقول وإذ رفع إلى كونه بالمضارع لاستحضار الحالة وحكايتها كأنها مشاهدة لأن المضارع دال على زمن الحال فاستعماله هنا استعارة تبعية ، شبه الماضي بالحال لشهرته ولتكرر الحديث عنه بينهم فإنهم لحبهم إبراهيم وإجلالهم إياه لا يزالون يذكرون مناقبه وأعظمها بناء الكعبة فشبه الماضي لذلك بالحال ولأن ما مضى من الآيات في ذكر إبراهيم من قوله : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ) [البقرة : ١٢٤] إلى هنا مما يوجب امتلاء أذهان السامعين بإبراهيم وشئونه حتى كأنه حاضر بينهم وكأن أحواله حاضرة مشاهدة ، وكلمة (إذ) قرينة على هذا التنزيل لأن غالب الاستعمال أن يكون للزمن الماضي وهذا معنى قول النحاة أن إذ تخلص المضارع إلى الماضي.

والقواعد جمع قاعدة وهي أساس البناء الموالي للأرض الذي به ثبات البناء أطلق عليها هذا اللفظ لأنها أشبهت القاعد في اللصوق بالأرض فأصل تسمية القاعدة مجاز عن

٦٩٨

اللصوق بالأرض ثم عن إرادة الثبات في الأرض وهاء التأنيث فيها للمبالغة مثل هاء علّامة.

ورفع القواعد إبرازها من الأرض والاعتلاء بها لتصير جدارا لأن البناء يتصل بعضه ببعض ويصير كالشيء الواحد فالجدار إذا اتصل بالأساس صار الأساس مرتفعا ، ويجوز جعل القواعد بمعنى جدران البيت كما سموها بالأركان ورفعها إطالتها ، وقد جعل ارتفاع جدران البيت تسعة أذرع. ويجوز أن يفاد من اختيار مادة الرفع دون مادة الإطالة ونحوها معنى التشريف ، وفي إثبات ذلك للقواعد كناية عن ثبوته للبيت ، وفي إسناد الرفع بهذا المعنى إلى إبراهيم مجاز عقلي لأن إبراهيم سبب الرفع المذكور أي بدعائه المقارن له. وعطف إسماعيل على إبراهيم تنويه به إذ كان معاونه ومناوله.

وللإشارة إلى التفاوت بين عمل إبراهيم وعمل إسماعيل أوقع العطف على الفاعل بعد ذكر المفعول والمتعلقات ، وهذا من خصوصيات العربية في أسلوب العطف فيما ظهر لي ولا يحضرني الآن مثله في كلام العرب ، وذلك أنك إذا أردت أن تدل على التفاوت بين الفاعلين في صدور الفعل تجعل عطف أحدهما بعد انتهاء ما يتعلق بالفاعل الأول ، وإذا أردت أن تجعل المعطوف والمعطوف عليه سواء في صدور الفعل تجعل المعطوف مواليا للمعطوف عليه.

وإسماعيل اسم الابن البكر لإبراهيم عليه‌السلام وهو ولده من جاريته هاجر القبطية ، ولد في أرض الكنعانيين بين قادش وبارد سنة ١٩١٠ عشر وتسعمائة وألف قبل ميلاد المسيح.

ومعنى إسماعيل بالعبرية سمع الله أي إجابة الله لأن الله استجاب دعاء أمه هاجر إذ خرجت حاملا بإسماعيل مفارقة الموضع الذي فيه سارة مولاتها حين حدث لسارة من الغيرة من هاجر لما حملت هاجر ولم يكن لسارة أبناء يومئذ ، وقيل هو معرب عن يشمعيل بالعبرانية ومعناه الذي يسمع له الله ، ولما كبر إسماعيل رأى إبراهيم رؤيا وحي أن يذبحه فعزم على ذبحه ففداه الله ، وإسماعيل يومئذ الابن الوحيد لإبراهيم قبل ولادة إسحاق ، وكان إسماعيل مقيما بمكة حول الكعبة ، وتوفي بمكة سنة ١٧٧٣ ثلاث وسبعين وسبعمائة وألف قبل ميلاد المسيح تقريبا ، ودفن بالحجر الذي حول الكعبة.

وجملة (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) مقول قول محذوف يقدر حالا من (يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ) وهذا القول من كلام إبراهيم لأنه الذي يناسبه الدعاء لذريته لأن إسماعيل

٦٩٩

كان حينئذ صغيرا.

والعدول عن ذكر القول إلى نطق المتكلم بما قاله المحكي عنه هو ضرب من استحضار الحالة قد مهد له الإخبار بالفعل المضارع في قوله : (وَإِذْ يَرْفَعُ) حتى كأن المتكلم هو صاحب القول وهذا ضرب من الإيغال.

وجملة (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) تعليل لطلب التقبل منهما ، وتعريف جزءي هذه الجملة والإتيان بضمير الفصل يفيد قصرين للمبالغة في كمال الوصفين له تعالى بتنزيل سمع غيره وعلم غيره منزلة العدم. ويجوز أن يكون قصرا حقيقيا باعتبار متعلق خاص أي السميع العليم لدعائنا لا يعلمه غيرك وهذا قصر حقيقي مقيد وهو نوع مغاير للقصر الإضافي لم ينبه عليه علماء المعاني.

[١٢٨] (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٢٨))

فائدة تكرير النداء بقوله : (رَبَّنا) إظهار الضراعة إلى الله تعالى وإظهار أن كل دعوى من هاته الدعوات مقصودة بالذات ، ولذلك لم يكرر النداء إلا عند الانتقال من دعوة إلى أخرى فإن الدعوة الأولى لطلب تقبل العمل والثانية لطلب الاهتداء فجملة النداء معترضة بين المعطوف هنا والمعطوف عليه في قوله الآتي : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً) [البقرة : ١٢٩].

والمراد بمسلمين لك المنقادان إلى الله تعالى إذ الإسلام الانقياد ، ولما كان الانقياد للخالق بحق يشمل الإيمان بوجوده وأن لا يشرك في عبادته غيره ومعرفة صفاته التي دل عليها فعله كانت حقيقة الإسلام ملازمة لحقيقة الإيمان والتوحيد ، ووجه تسمية ذلك إسلاما سيأتي عند قوله : (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [البقرة : ١٣٢] ، وأما قوله تعالى : (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) [الحجرات : ١٤] فإنه فكك بينهما لأن إسلامهم كان عن خوف لا عن اعتقاد ، فالإيمان والإسلام متغايران مفهوما وبينهما عموم وخصوص وجهي في الماصدق ، فالتوحيد في زمن الفترة إيمان لا يترقب منه انقياد إذ الانقياد إنما يحصل بالأعمال ، وانقياد المغلوب المكره إسلام لم ينشأ عن اعتقاد إيمان ، إلا أن صورتي الانفراد في الإيمان والإسلام نادرتان.

ألهم الله إبراهيم اسم الإسلام ثم ادخره بعده للدين المحمدي فنسي هذا الاسم بعد

٧٠٠