تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٣٥

«بكرا فالنجاح في التبكير» أجابه بشار بأنه أتى بها عربية بدوية ولو قال : «فالنجاح» لصارت من كلام المولدين (أي أجابه جوابا أحاله فيه على الذوق) وقد بين الشيخ عبد القاهر سببه. وقال الشيخ في موضع آخر (١) ألا ترى أن الغرض من قوله : «إن ذاك النجاح في التبكير» أن يبيّن المعنى في قوله لصاحبيه «بكرا» وأن يحتج لنفسه في الأمر بالتبكير ويبين وجه الفائدة منه» ا ه.

(والعليم) الكثير العلم وهو من أمثلة المبالغة على الصحيح ويجوز كونه صفة مشبهة على تقدير تحويل علم ـ المكسور اللام ـ إلى علم بضم اللام ليصير من أفعال السجايا نحو ما قررناه في الرحيم ونحن في غنية عن هذا التكلف إذ لا ينبغي أن يبقى اختلاف في أن وزن فعيل يجيء لمعنى المبالغة وإنما أنشأ هذه التمحلات من زعموا أن فعيلا لا يجيء للمبالغة.

(الحكيم) فعيل من أحكم إذا أتقن الصنع بأن حاطه من الخلل. وأصل مادة حكم في كلام العرب للمنع من الفساد والخلل ومنه حكمة الدابة (بالتحريك) للحديدة التي توضع في فم الفرس لتمنعه من اختلال السير ، وأحكم فلان فلانا منعه قال جرير :

أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم

إني أخاف عليكم أن أغضبا

والحكمة بكسر الحاء ضبط العلم وكماله ، فالحكيم إما بمعنى المتقن للأمور كلها أو بمعنى ذي الحكمة وأيّا ما كان فقد جرى بوزن فعيل على غير فعل ثلاثي وذلك مسموع قال عمرو بن معديكرب :

أمن ريحانة الدّاعي السّميع

يؤرقني وأصحابي هجوع

ومن شواهد النحو ما أنشده أبو علي ولم يعزه :

فمن يك لم ينجب أبوه وأمه

فإن لنا الأمّ النجيبة والأب

أراد الأم المنجبة بدليل قوله لم ينجب أبوه وفي القرآن (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [البقرة : ١١٧] ووصف الحكيم والعرب تجري أوزان بعض المشتقات على بعض فلا حاجة إلى التكلف بتأول (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ببديع سماواته وأرضه أي على أن (أل) عوض عن المضاف إليه فتكون الموصوف بحكيم هو السماوات والأرض وهي محكمة

__________________

(١) صفحة ٢٣٢.

٤٠١

الخلق فإن مساق الآية تمجيد الخالق لا عجائب مخلوقاته حتى يكون بمعنى مفعول ، ولا إلى تأويل الحكيم بمعنى ذي الحكمة لأن ذلك لا يجدي في دفع بحث مجيئه من غير ثلاثي.

وتعقيب العليم بالحكيم من اتباع الوصف بأخص منه فإن مفهوم الحكمة زائد على مفهوم العلم لأن الحكمة كمال في العلم فهو كقولهم خطيب مصقع وشاعر مفلق.

وفي «معارج النور» للشيخ لطف الله الأرضرومي : وفي الحكيم ذو الحكمة وهي العلم بالشيء وإتقان عمله وهو الإيجاد بالنسبة إليه والتدبير بأكمل ما تستعد له ذات المدبر (بفتح الباء) والاطلاع على حقائق الأمور ا ه.

وقال أبو حامد الغزالي في «المقصد الأسنى» : الحكيم ذو الحكمة والحكمة عبارة عن المعرفة بأفضل الأشياء ، فأفضل العلوم العلم بالله وأجل الأشياء هو الله وقد سبق أنه لا يعرفه كنه معرفته غيره وجلالة العلم بقدر جلالة المعلوم فهو الحكيم الحق لأنه يعلم أجل الأشياء بأجل العلوم إذ أجل العلوم هو العلم الأزلي القديم الذي لا يتصور زواله المطابق للمعلوم مطابقة لا يتطرق إليها خفاء ، ولا شبهة ولا يتصور ذلك إلا في علم الله ا ه. وسيجيء الكلام على الحكمة عند قوله تعالى : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) [البقرة : ٢٦٩].

و (أَنْتَ) في (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) ضمير فصل ، وتوسيطه من صيغ القصر فالمعنى قصر العلم والحكمة على الله قصر قلب لردهم اعتقادهم أنفسهم أنهم على جانب من علم وحكمة حين راجعوا بقولهم : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) [البقرة : ٣٠] أو تنزيلهم منزلة من يعتقد ذلك على الاحتمالين المتقدمين ، أو هو قصر حقيقي ادعائي مراد منه قصر كمال العلم والحكمة عليه تعالى.

[٣٣] (قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣))

(قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ).

لما دخل هذا القول في جملة المحاورة جردت الجملة من الفاء أيضا كما تقدم في نظائره لأنه وإن كان إقبالا بالخطاب على غير المخاطبين بالأقوال التي قبله فهو بمثابة

٤٠٢

خطاب لهم لأن المقصود من خطاب آدم بذلك أن يظهر عقبه فضله عليهم في العلم من هاته الناحية فكان الخطاب بمنزلة أن يكون مسوقا إليهم لقوله عقب ذلك : (قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

وابتداء خطاب آدم بندائه مع أنه غير بعيد عن سماع الأمر الإلهي للتنويه بشأن آدم وإظهار اسمه في الملأ الأعلى حتى ينال بذلك حسن السمعة مع ما فيه من التكريم عند الآمر لأن شأن الآمر والمخاطب ـ بالكسر ـ إذا تلطف مع المخاطب ـ بالفتح ـ أن يذكر اسمه ولا يقتصر على ضمير الخطاب حتى لا يساوي بخطابه كل خطاب ، ومنه ما جاء في حديث الشفاعة بعد ذكر سجود النبي وحمده الله بمحامد يلهمه إياها فيقول : «يا محمد ارفع رأسك سل تعط واشفع تشفّع» وهذه نكتة ذكر الاسم حتى في أثناء المخاطبة كما قال امرؤ القيس :

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل

وربما جعلوا النداء طريقا إلى إحضار اسمه الظاهر لأنه لا طريق لإحضاره عند المخاطبة إلا بواسطة النداء فالنداء على كل تقدير مستعمل في معناه المجازي.

(فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ).

الإنباء إخبارهم بالأسماء ، وفيه إيماء بأن المخبر به شيء مهم. والضمير المجرور بالإضافة ضمير المسميات مثل ضمير (عَرَضَهُمْ) ، وفي إجرائه على صيغة ضمائر العقلاء ما قرر في قوله : (ثُمَّ عَرَضَهُمْ) [البقرة : ٣١].

وقوله : (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) الضمير في (أنبأ) لآدم وفي (قال) ضمير اسم الجلالة وإنما لم يؤت بفاعله اسما ظاهرا مع أنه جرى على غير من هو له أي عقب ضمائر آدم في قوله : (أَنْبِئْهُمْ) و (أَنْبَأَهُمْ) لأن السياق قرينة على أن هذا القول لا يصدر من مثل آدم.

(قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

جواب (لما) والقائل هو الله تعالى وهو المذكور في قوله : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ) [البقرة : ٣٠] وعادت إليه ضمائر (قالَ إِنِّي أَعْلَمُ) [البقرة : ٣٠] و (عَلَّمَ) [البقرة : ٣١] و (عَرَضَهُمْ) وما قبله من الضمائر وهو تذكير لهم بقوله لهم في أول المحاورة : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) وذلك القول وإن لم يكن فيه : (أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) صراحة إلا أنه يتضمنه

٤٠٣

لأن عموم (ما لا تَعْلَمُونَ) يشمل جميع ذلك فيكون قوله هنا : (إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بيانا لما أجمل في القول الأول لأنه يساويه ما صدقا لأن (ما لا تَعْلَمُونَ) هو غيب السموات والأرض وقد زاد البيان هنا على المبين بقوله :

(وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ).

وإنما جيء بالإجمال قبل ظهور البرهان وجيء بالتفصيل بعد ظهوره على طريقة الحجاج وهو إجمال الدعوى وتفصيل النتيجة لأن الدعوى قبل البرهان قد يتطرقها شك السامع بأن يحملها على المبالغة ونحوها وبعد البرهان يصح للمدعى أن يوقف المحجوج على غلطه ونحوه وأن يتبجح عليه بسلطان برهانه فإن للحق صولة. ونظيره قول صاحب موسى : (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً أَمَّا السَّفِينَةُ) [الكهف : ٧٨ ، ٧٩] إلى قوله : (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) [الكهف : ٨٢] ثم قال : (ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) [الكهف : ٨٢]. فجاء باسم إشارة البعيد تعظيما للتأويل بعد ظهوره. وهذه طريقة مسلوكة للكتاب والخطباء وهي ترجع إلى قاعدة أخذ النتائج من المقدمات في صناعة الإنشاء كما بينته في كتاب «أصول الإنشاء والخطابة» وأكثر الخطباء يفضي إلى الغرض من خطبته بعد المقدمات والتمهيدات وقد جاءت الآية على طريقة الخطباء والبلغاء فيما ذكرنا تعليما للخلق وجريا على مقتضى الحال المتعارف من غير مراعاة لجانب الألوهية فإن الملائكة لا يمترون في أن قوله تعالى الحق ووعده الصدق فليسوا بحاجة إلى نصب البراهين.

و (كُنْتُمْ) في قوله : (وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) الأظهر أنها زائدة لتأكيد تحقق الكتمان فإن الذي يعلم ما اشتد كتمانه يعلم ما لم يحرص على كتمانه ويعلم ظواهر الأحوال بالأولى.

وصيغة المضارع في (تُبْدُونَ) و (تَكْتُمُونَ) للدلالة على تجدد ذلك منهم فيقتضي تجدد علم الله بذلك كلما تجدد منهم.

ولبعضهم هنا تكلفات في جعل (كُنْتُمْ) للدلالة على الزمان الماضي وجعل (تُبْدُونَ) للاستقبال وتقدير اكتفاء في الجانبين أعني وما كنتم تبدون وما تكتمون واكتفاء في غيب السماوات والأرض يعني وشهادتهما وكل ذلك لا داعي إليه.

وقد جعل الله تعالى علم آدم بالأسماء وعجز الملائكة عن ذلك علامة على أهلية النوع البشري لخلافته في الأرض دون الملائكة لأن الخلافة في الأرض هي خلافة الله

٤٠٤

تعالى في القيام بما أراده من العمران بجميع أحواله وشعبه بمعنى أن الله تعالى ناط بالنوع البشري إتمام مراده من العالم فكان تصرف هذا النوع في الأرض قائما مقام مباشرة قدرة الله تعالى بجميع الأعمال التي يقوم بها البشر ، ولا شك أن هذه الخلافة لا تتقوم إلا بالعلم أعني اكتساب المجهول من المعلوم وتحقيق المناسبة بين الأشياء ومواقعها ومقارناتها وهو العلم الاكتسابي الذي يدرك به الإنسان الخير والشر ويستطيع به فعل الخير وفعل الشر كل في موضعه ولا يصلح لهذا العلم إلا القوة الناطقة وهي قوة التفكير التي أجلى مظاهرها معرفة أسماء الأشياء وأسماء خصائصها والتي تستطيع أن تصدر الأضداد من الأفعال لأن تلك القوة هي التي لا تنحصر متعلقاتها ولا تقف معلوماتها كما شوهد من أحوال النوع الإنساني منذ النشأة إلى الآن وإلى ما شاء الله تعالى. والملائكة لما لم يخلقوا متهيئين لذلك حتى أعجزهم وضع الأسماء للمسميات وكانوا مجبولين على سجية واحدة وهي سجية الخير التي لا تختلف ولا تتخلف لم يكونوا مؤهلين لاستفادة المجهولات من المعلومات حتى لا تقف معارفهم. ولم يكونوا مصادر للشرور التي يتعين صدورها لإصلاح العالم فخيرتهم وإن كانت صالحة لاستقامة عالمهم الطاهر لم تكن صالحة لنظام عالم مخلوط ، وحكمة خلطه ظهور منتهى العلم الإلهي كما قال أبو الطيب :

ووضع الندى في موضع السيف بالعلى

مضرّ كوضع السيف في موضع الندى

والآية تقتضي مزية عظمى لهذا النوع في هذا الباب وفي فضل العلم ولكنها لا تدل على أفضلية النوع البشري على الملائكة إذ المزية لا تقتضي الأفضلية كما بينه الشهاب القراقي في الفرق الحادي والتسعين فهذه فضيلة من ناحية واحدة وإنما يعتمد التفضيل المطلق مجموع الفضائل كما دل عليه حديث موسى والخضر.

والاستفهام في قوله : (أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ) إلخ تقريري لأن ذلك القول واقع لا محالة والملائكة لا يعلمون وقوعه ولا ينكرونه. وإنما أوقع الاستفهام على نفي القول لأن غالب الاستفهام التقريري يقحم فيه ما يفيد النفي لقصد التوسيع على المقرّر حتى يخيّل إليه أنه يسأل عن نفي وقوع الشيء فإن أراد أن يزعم نفيه فقد وسّع المقرّر عليه ذلك ولكنه يتحقق أنه لا يستطيع إنكاره فلذلك يقرره على نفيه ، فإذا أقر كان إقراره لازما له لا مناص له منه. فهذا قانون الاستفهام التقريري الغالب عليه وهو الذي تكرر في القرآن وبنى عليه صاحب «الكشاف» معاني آياته التي منها قوله تعالى : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة : ١٠٦] وتوقف فيه ابن هشام في «مغني اللبيب» ورده عليه شارحه. وقد يقع

٤٠٥

التقرير بالإثبات على الأصل نحو : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ) [المائدة : ١١٦] وهو تقرير مراد به إبطال دعوى النصارى ، وقوله : (قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ) [الأنبياء : ٦٢].

[٣٤] (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤))

عطف على جملة (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠] عطف القصة على القصة. وإعادة (إذ) بعد حرف العطف المغني عن إعادة ظرفه تنبيه على أن الجملة مقصودة بذاتها لأنها متميزة بهذه القصة العجيبة فجاءت على أسلوب يؤذن بالاستقلال والاهتمام ، ولأجل هذه المراعاة لم يؤت بهذه القصة معطوفة بفاء التفريع فيقول : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) وإن كان مضمونها في الواقع متفرعا على مضمون التي قبلها فإن أمرهم بالسجود لآدم ما كان إلا لأجل ظهور مزيته عليهم إذ علم ما لم يعلموه وذلك ما اقتضاه ترتيب ذكر هذه القصص بعضها بعد بعض ابتداء من خلق السماوات والأرض وما طرأ بعده من أطوار أصول العامرين الأرض وما بينها وبين السماء فإن الأصل في الكلام أن يكون ترتيب نظمه جاريا على ترتيب حصول مدلولاته في الخارج ما لم تنصب قرينة على مخالفة ذلك.

ولا يريبك قوله تعالى في سورة الحجر [٢٨ ، ٢٩] (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) لأن تلك حكت القصة بإجمال فطوت أنباءها طيّا جاء تبيينه في ما تكرر منها في آيات أخرى وأوضحها آية البقرة لاقتضاء الآية السابقة أن فضيلة آدم لم تظهر للملائكة إلا بعد تعليمه الأسماء وعرضها عليهم وعجزهم عن الإنباء بها وأنهم كانوا قبل ذلك مترقبين بيان ما يكشف ظنهم بآدم أن يكون مفسدا في الأرض بعد أن لازموا جانب التوقف لما قال الله لهم : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٣٠] ، فكان إنباء آدم بالأسماء عند عجزهم عن الإنباء بها بيانا لكشف شبهتهم فاستحقوا أن يأتوا بما فيه معذرة عن عدم علمهم بحقه.

وقد أريد من هذه القصة إظهار مزية نوع الإنسان وأن الله يخص أجناس مخلوقاته وأنواعها بما اقتضته حكمته من الخصائص والمزايا لئلا يخلو شيء منها عن فائدة من وجوده في هذا العالم ؛ وإظهار فضيلة المعرفة ، وبيان أن العالم حقيق بتعظيم من حوله إياه وإظهار ما للنفوس الشريرة الشيطانية من الخبث والفساد ، وبيان أن الاعتراف بالحق من

٤٠٦

خصال الفضائل الملائكية ، وأن الفساد والحسد والكبر من مذام ذوي العقول.

والقول في إعراب (إذ) كالقول الذي تقدم في تفسير قوله : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠].

وإظهار لفظ الملائكة ولفظ آدم هنا دون الإتيان بضميريهما كما في قوله : (قالُوا سُبْحانَكَ) [البقرة : ٣٢] وقوله : (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ) [البقرة : ٣٣] لتكون القصة المعطوفة معنونة بمثل عنوان القصة المعطوف عليها إشارة إلى جدارة المعطوفة بأن تكون قصة مقصورة غير مندمجة في القصة التي قبلها.

وغير أسلوب إسناد القول إلى الله فأتي به مسندا إلى ضمير العظمة (وَإِذْ قُلْنا) وأتي به في الآية السابقة مسندا إلى رب النبي (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ) [البقرة : ٣٠] للتفنن ولأن القول هنا تضمن أمرا بفعل فيه غضاضة على المأمورين فناسبه إظهار عظمة الآمر ، وأما القول السابق بمجرد إعلام من الله بمراده ليظهر رأيهم ، ولقصد اقتران الاستشارة بمبدإ تكوين الذات الأولى من نوع الإنسان المحتاج إلى التشاور فناسبه الإسناد إلى الموصوف بالربوبية المؤذنة بتدبير شأن المربوبين. وأضيف إلى ضمير أشرف المربوبين وهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما تقدم عند قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً).

وحقيقة السجود طأطأة الجسد أو إيقاعه على الأرض بقصد التعظيم لمشاهد بالعيان كالسجود للملك والسيد والسجود للكواكب ، قال تعالى : (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) [يوسف : ١٠٠] ، وقال (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ) [فصلت : ٣٧] وقال الأعشى :

فلما أتانا بعيد الكرى

سجدنا له وخلعنا العمارا

وقال أيضا :

يراوح من صلوات الملي

ك طورا سجودا وطورا جؤارا

أو لمشاهد بالتخيل والاستحضار وهو السجود لله ، قال تعالى : (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) [النجم : ٦٢].

والسجود ركن من أركان الصلاة في الإسلام. وأما سجود الملائكة فهو تمثيل لحالة فيهم تدل على تعظيم ، وقد جمع معانيه قوله تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) [النحل : ٤٩]. فكان السجود أول تحية تلقاها البشر عند خلق العالم.

٤٠٧

وقد عرف السجود منذ أقدم عصور التاريخ فقد وجد عى الآثار الكلدانية منذ القرن التاسع عشر قبل المسيح صورة حمورابي ملك كلدية راكعا أمام الشمس ، ووجدت على الآثار المصرية صور أسرى الحرب سجدا لفرعون ، وهيآت السجود تختلف باختلاف العوائد. وهيئة سجود الصلاة مختلفة باختلاف الأديان. والسجود في صلاة الإسلام الخرور على الأرض بالجبهة واليدين والرجلين.

وتعدية (اسْجُدُوا) لاسم آدم باللام دال على أنهم كلفوا بالسجود لذاته وهو أصل دلالة لام التعليل إذا علق بمادة السجود مثل قوله تعالى : (فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا) [النجم : ٦٢] وقوله : (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ) [فصلت : ٣٧] ولا يعكر عليه أن السجود في الإسلام لغير الله محرم لأن هذا شرع جديد نسخ ما كان في الشرائع الأخرى ولأن سجود الملائكة من عمل العالم الأعلى وليس ذلك بداخل تحت تكاليف أهل الأرض فلا طائل تحت إطالة البحث في أن آدم مسجود له أو هو قبلة للساجدين كالكعبة للمسلمين ، ولا حاجة إلى التكلف بجعل اللام بمعنى إلى مثلها في قول حسان :

أليس أول من صلى لقبلتكم

فإن للضرورة أحكاما. لا يناسب أن يقال بها أحسن الكلام نظاما.

وفي هذه الآية منزع بديع لتعظيم شأن العلم وجدارة العلماء بالتعظيم والتبجيل لأن الله لما علم آدم علما لم يؤهل له الملائكة كان قد جعل آدم أنموذجا (١) للمبدعات والمخترعات والعلوم التي ظهرت في البشر من بعد والتي ستظهر إلى فناء هذا العالم.

وقرأ أبو جعفر في أشهر الرواية عنه (للملائكة اسجدوا) بضمة على التاء في حال الوصل على اتباع حركة التاء لضمة الجيم في (اسجدوا) لعدم الاعتداد بالساكن الفاصل بين الحرفين لأنه حاجز غير حصين ، وقراءته هذه رواية وهي جرت على لغة ضعيفة في مثل هذا فلذلك قال الزجاج والفارسي : هذا خطأ من أبي جعفر ، وقال الزمخشري : لا يجوز استهلاك الحركة الإعرابية بحركة الاتباع إلا في لغة ضعيفة كقراءة الحسن (الْحَمْدُ لِلَّهِ) [الفاتحة : ٢] ـ بكسر الدال ـ قال ابن جني : وإنما يجوز هذا الذي ذهب إليه

__________________

(١) بضم الهمزة هو الشائع وفي «القاموس» إن صوابه نموذج بدون همز وبفتح النون ، وإن الأنموذج لحن قلت وقد سمى الزمخشري مختصرا له في النحو «الأنموذج» ، والزمخشري لا يرتاب في سعة اطلاعه. وهي كلمة معربة عن الفارسية وهي بالفارسية «نمونه».

٤٠٨

أبو جعفر إذا كان ما قبل الهمزة ساكنا صحيحا نحو : (وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَ) في سورة يوسف [٣١] ا ه وإنما حملوا عليه هذه الحملة لأن قراءته معدودة في القراءات المتواترة فما كان يحسن فيها مثل هذا الشذوذ ، وإن كان شذوذا في وجوه الأداء لا يخالف رسم المصحف.

وعطف (فَسَجَدُوا) بفاء التعقيب يشير إلى مبادرة الملائكة بالامتثال ولم يصدّهم ما كان في نفوسهم من التخوف من أن يكون هذا المخلوق مظهر فساد وسفك دماء لأنهم منزّهون عن المعاصي.

واستثناء إبليس من ضمير الملائكة في (فَسَجَدُوا) استثناء منقطع لأن إبليس لم يكن من جنس الملائكة قال تعالى في سورة الكهف [٥٠] (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ) ولكن الله جعل أحواله كأحوال النفوس الملكية بتوفيق غلب على جبلته لتتأتى معاشرته بهم وسيره على سيرتهم فساغ استثناء حاله من أحوالهم في مظنة أن يكون مماثلا لمن هو فيهم.

وقد دلت الآية على أن إبليس كان مقصودا في الخبر الذي أخبر به الملائكة إذ قال للملائكة (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠] وفي الأمر الذي أمر به الملائكة إذ قال لهم (اسْجُدُوا لِآدَمَ) ذلك أن جنس المجردات كان في ذلك العالم مغمورا بنوع الملك إذ خلق الله من نوعهم أفرادا كثيرة كما دل عليه صيغة الجمع في قوله : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) [البقرة : ٣٠] ولم يخلق الله من نوع الجن إلا أصلهم وهو إبليس ، وخلق من نوع الإنسان أصلهم وهو آدم. وقد أقام الله إبليس بين الملائكة إقامة ارتياض وتخلق وسخره لاتباع سنتهم فجرى على ذلك السّنن أمدا طويلا لا يعلمه إلا الله ثم ظهر ما في نوعه من الخبث كما أشار إليه قوله تعالى : (فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) في سورة الكهف [٥٠] فعصى ربه حين أمره بالسجود لآدم.

وإبليس اسم الشيطان الأول الذي هو مولد الشياطين ، فكان إبليس لنوع الشياطين والجن بمنزلة آدم لنوع الإنسان. وإبليس اسم معرب من لغة غير عربية لم يعينها أهل اللغة ، ولكن يدل لكونه معربا أن العرب منعوه من الصرف ولا سبب فيه سوى العلمية والعجمة ولهذا جعل الزجاج همزته أصلية ، وقال وزنه على فعليل. وقال أبو عبيدة : هو اسم عربي مشتق من الإبلاس وهو البعد من الخير واليأس من الرحمة وهذا اشتقاق حسن لو لا أنه يناكد منعه من الصرف وجعلوا وزنه إفعيل لأن همزته مزيدة وقد اعتذر عن منعه

٤٠٩

من الصرف بأنه لما لم يكن له نظير في الأسماء العربية عد بمنزلة الأعجمي وهو اعتذار ركيك. وأكثر الذين أحصوا الكلمات المعربة في القرآن لم يعدوا منها اسم إبليس لأنهم لم يتبينوا ذلك وصلاحية الاسم لمادة عربية ومناسبته لها.

وجمل (أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) استئناف بياني مشير إلى أن مخالفة حاله لحال الملائكة في السجود لآدم ، شأنه أن يثير سؤالا في نفس السامع كيف لم يفعل إبليس ما أمر به وكيف خالف حال جماعته وما سبب ذلك لأن مخالفته لحالة معشره مخالفة عجيبة إذ الشأن الموافقة بين الجماعات كما قال دريد بن الصمة :

وهل أنا إلا من غزيّة إن غوت

غويت وإن ترشد غزية أرشد

فبين السبب بأنه أبى واستكبر وكفر بالله.

والإباء الامتناع من فعل أو تلقيه. والاستكبار شدة الكبر والسين والتاء فيه للعد أي عد نفسه كبيرا مثل استعظم واستعذب الشراب أو يكون السين والتاء للمبالغة مثل استجاب واستقر فمعنى استكبر اتصف بالكبر. والمعنى أنه استكبر على الله بإنكار أن يكون آدم مستحقا لأن يسجد هو له إنكارا عن تصميم لا عن مراجعة أو استشارة كما دلت عليه آيات أخرى مثل قوله : (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [الأعراف : ١٢] وبهذا الاعتبار خالف فعل إبليس قول الملائكة حين قالوا : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) [البقرة : ٣٠] ، لأن ذلك كان على وجه التوقف في الحكمة ولذلك قالوا : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) [البقرة : ٣٠] فإبليس بإبائه انتقضت الجبلة التي جبل عليها أول مرة ، فاستحالت إلى جبلة أخرى على نحو ما يعرض من تطور للعاقل حين يختل عقله وللقادر حين تشل بعض أعضائه ، ومن العلل علل جسمانية ومنها علل روحانية كما قال :

فكنت كذي رجلين رجل صحيحة

ورجل رمى فيها الزمان فشلت

والاستكبار التزايد في الكبر لأن السين والتاء فيه للمبالغة لا للطلب كما علمت ، ومن لطائف اللغة العربية أن مادة الاتصاف بالكبر لم تجىء منها إلا بصيغة الاستفعال أو التفعل إشارة إلى أن صاحب صفة الكبر لا يكون إلا متطلبا الكبر أو متكلفا له وما هو بكبير حقا ويحسن هنا أن نذكر قول أبي العلاء :

علوتم فتواضعتم على ثقة

لما تواضع أقوام على غرر

٤١٠

وحقيقة الكبر قال فيها حجة الإسلام في كتاب «الإحياء» : الكبر خلق في النفس وهو الاسترواح والركون إلى اعتقاد المرء نفسه فوق التكبر عليه ، فإن الكبر يستدعي متكبرا عليه ومتكبرا به وبذلك ينفصل الكبر عن العجب فإن العجب لا يستدعي غير المعجب ولا يكفي أن يستعظم المرء نفسه ليكون متكبرا فإنه قد يستعظم نفسه ولكنه يرى غيره أعظم من نفسه أو مماثلا لها فلا يتكبر عليه ، ولا يكفي أن يستحقر غيره فإنه مع ذلك لو رأى نفسه أحقر لم يتكبر ولو رأى غيره مثل نفسه لم يتكبر بل أن يرى لنفسه مرتبة ولغيره مرتبة ثم يرى مرتبة نفسه فوق مرتبة غيره ، فعند هذه الاعتقادات الثلاثة يحصل خلق الكبر وهذه العقيدة تنفخ فيه فيحصل في نفسه اعتداد وعزة وفرح وركون إلى ما اعتقد ، وعز في نفسه بسبب ذلك فتلك العزة والهزة والركون إلى تلك العقيدة هو خلق الكبر.

وقد كانت هذه الآية ونظائرها مثار اختلاف بين علماء أصول الفقه فيما تقتضيه دلالة الاستثناء من حكم يثبت للمستثنى فقال الجمهور : الاستثناء يقتضي اتصاف المستثنى بنقيض ما حكم به للمستثنى منه فلذلك كثر الاكتفاء بالاستثناء دون أن يتبع بذكر حكم معين للمستثنى سواء كان الكلام مثبتا أو منفيا. ويظهر ذلك جليا في كلمة الشهادة لا إله إلا الله فإنه لو لا إفادة الاستثناء أن المستثنى يثبت له نقيض ما حكم به للمستثنى منه لكانت كلمة الشهادة غير مفيدة سوى نفي الإلهية عما عدا الله فتكون إفادتها الوحدانية لله بالالتزام.

وقال أبو حنيفة الاستثناء من كلام منفي يثبت للمستثنى نقيض ما حكم به للمستثنى منه ، والاستثناء من كلام مثبت لا يفيد إلا أن المستثنى يثبت له نقيض الحكم لا نقيض المحكوم به ، فالمستثنى بمنزلة المسكوت عن وصفه ، فعند الجمهور المستثنى مخرج من الوصف المحكوم به للمستثنى منه وعند أبي حنيفة المستثنى مخرج من الحكم عليه فهو كالمسكوت عنه.

وسوى المتأخرون من الحنفية بين الاستثناء من كلام منفي والاستثناء من كلام مثبت في أن كليهما لا يفيد المستثنى الاتصاف بنقيض المحكوم به للمستثنى منه وهذا رأي ضعيف لا تساعده اللغة ولا موارد استعماله في الشريعة.

فعلى رأي الجمهور تكون جملة (أَبى وَاسْتَكْبَرَ) استئنافا بيانيا ، وعلى رأي الحنفية تكون بيانا للإجمال الذي اقتضاه الاستثناء ولا تنهض منها حجة تقطع الجدال بين الفريقين.

٤١١

وجملة (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) معطوف على الجمل المستأنفة ، و (كان) لا تفيد إلا أنه اتصف بالكفر في زمن مضى قبل زمن نزول الآية ، وليس المعنى أنه اتصف به قبل امتناعه من السجود لآدم ، وقد تحير أكثر المفسرين في بيان معنى الآية من جهة حملهم فعل (كان) على الدلالة على الاتصاف بالكفر فيما مضى عن وقت الامتناع من السجود ، ومن البديهي أنه لم يكن يومئذ فريق يوصف بالكافرين فاحتاجوا أن يتمحلوا بأن إبليس كان من الكافرين أي في علم الله ، وتمحل بعضهم بأن إبليس كان مظهرا الطاعة مبطنا الكفر نفاقا ، والله مطلع على باطنه ولكنه لم يخبر به الملائكة وجعلوا هذا الاطلاع عليه مما أشار إليه قوله تعالى : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٣٠] وكل ذلك تمحل لا داعي إليه لما علمت من أن فعل المضي يفيد مضى الفعل قبل وقت التكلم ، وأمثلهم طريقة الذين جعلوا كان بمعنى صار فإنه استعمال من استعمال فعل كان قال تعالى : (وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) [هود : ٤٣] وقال : (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا) [الواقعة : ٥ ، ٦] وقول ابن أحمر :

بتيهاء قفر والمطي كأنها

قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها

أي صار كافرا بعدم السجود لأن امتناعه نشأ عن استكباره على الله واعتقاد أن ما أمر به غير جار على حق الحكمة وقد علمت أن الانقلاب الذي عرض لإبليس في جبلته كان انقلاب استخفاف بحكمة الله تعالى فلذلك صار به كافرا صراحا.

والذي أراه أحسن الوجوه في معنى (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) أن مقتضى الظاهر أن يقول وكفر كما قال : (أَبى وَاسْتَكْبَرَ) فعدل عن مقتضى الظاهر إلى (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) لدلالة (كان) في مثل هذا الاستعمال على رسوخ معنى الخبر في اسمها ، والمعنى أبى واستكبر وكفر كفرا عميقا في نفسه وهذا كقوله تعالى : (فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) [الأعراف : ٨٣] ، وكقوله تعالى : (نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ) [النمل : ٤١] دون أن يقول أم لا تهتدي لأنها إذا رأت آية تنكير عرشها ولم تهتد كانت راسخة في الاتصاف بعدم الاهتداء ، وأما الإتيان بخبر (كانَ مِنَ الْكافِرِينَ) دون أن يقول وكان كافرا فلأن إثبات الوصف لموصوف بعنوان كون الموصوف واحدا من جماعة تثبت لهم ذلك الوصف أدل على شدة تمكن الوصف منه مما لو أثبت له الوصف وحده بناء على أن الواحد يزداد تمسكا بفعله إذا كان قد شاركه فيه جماعة لأنه بمقدار ما يرى من كثرة المتلبسين بمثل فعله تبعد نفسه عن التردد في سداد عملها وعليه جاء قوله تعالى :

٤١٢

(أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) [النمل : ٢٧] وقوله الذي ذكرناه آنفا (أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ) وهو دليل كنائي واستعمال بلاغي جرى عليه نظم الآية وإن لم يكن يومئذ جمع من الكافرين بل كان إبليس وحيدا في الكفر. وهذا منزع انتزعه من تتبع موارد مثل هذا التركيب في هاتين الخصوصيتين خصوصية زيادة (كان) وخصوصية إثبات الوصف لموصوف بعنوان أنه واحد من جماعة موصوفين به وسيجيء ذلك قريبا عن قوله تعالى : (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) [البقرة : ٤٣]. وإذ لم يكن في زمن امتناع إبليس من السجود جمع من الكافرين كان قوله : (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) جاريا على المتعارف في أمثال هذا الإخبار الكنائي.

وفي هذا العدول عن مقتضى الظاهر مراعاة لما تقتضيه حروف الفاصلة أيضا ، وقد رتبت الأخبار الثلاثة في الذكر على حسب ترتيب مفهوماتها في الوجود وذلك هو الأصل في الإنشاء أن يكون ترتيب الكلام مطابقا لترتيب مدلولات جمله كقوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ) [هود : ٧٧] وقد أشرت إلى ذلك في كتابي «أصول الإنشاء الخطابة».

[٣٥] (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥))

عطف على (قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا) [البقرة : ٣٤] أي بعد أن انقضى ذلك قلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة. وهذه تكرمة أكرم الله بها آدم بعد أن أكرمه بكرامة الإجلال من تلقاء الملائكة.

ونداء آدم قبل تخويله سكنى الجنة نداء تنويه بذكر اسمه بين الملإ الأعلى ، لأن نداءه يسترعي إسماع أهل الملإ الأعلى فيتطلعون لما سيخاطب به ، وينتزع من هذه الآية أن العالم جدير بالإكرام بالعيش الهنيء ، كما أخذ من التي قبلها أنه جدير بالتعظيم.

والأمر بقوله : (اسْكُنْ) مستعمل في الامتنان بالتمكين والتخويل وليس أمرا له بأن يسعى بنفسه لسكنى الجنة إذ لا قدرة له على ذلك السعي فلا يكلف به.

وضمير (أنت) واقع لأجل عطف (وَزَوْجُكَ) على الضمير المستتر في (اسْكُنْ) وهو استعمال العربية عند عطف اسم ، على ضمير متصل مرفوع المحل لا يكادون يتركونه ، يقصدون بذلك زيادة إيضاح المعطوف فتحصل فائدة تقرير مدلول المعطوف لئلا يكون تابعه

٤١٣

المعطوف عليه أبرز منه في الكلام ، فليس الفصل بمثل هذا الضمير مقيدا تأكيدا للنسبة لأن الإتيان بالضمير لازم لا خيرة للمتكلم فيه فلا يكون مقتضى حال ولا يعرف السامع أن المتكلم مريد به تأكيدا ولكنه لا يخلو من حصول تقرير معنى المضمر وهو ما أشار إليه في «الكشاف» بمجموع قوله : وأنت تأكيد للضمير المستكن ليصح العطف عليه.

والزوج كل شيء ثان مع شيء آخر بينهما تقارن في حال ما. ويظهر أنه اسم جامد لأن جميع تصاريفه في الكلام ملاحظ فيها معنى كونه ثاني اثنين أو مماثل غيره ، فكل واحد من اثنين مقترنين في حال ما يسمى زوجا للآخر قال تعالى : (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً) [الشورى : ٥٠] أي يجعل لأحد الطفلين زوجا له أي سواه من غير صنفه ، وقريب من هذا الاستعمال استعمال لفظ شفع.

وسميت الأنثى القرينة للرجل بنكاح زوجا لأنها اقترنت به وصيرته ثانيا ، ويسمى الرجل زوجا لها لذلك بلا فرق ، فمن ثم لا يقال للمرأة زوجة بهاء تأنيث لأنه اسم وليس بوصفه. وقد لحنوا الفرزدق في قوله :

وإن الذي يسعى ليفسد زوجتي

كساع إلى أسد الثرى يستبيلها

وتسامح الفقهاء في إلحاق علامة التأنيث للزوج إذا أرادوا به امرأة الرجل لقصد نفي الالتباس في تقرير الأحكام في كتبهم في مثل قولهم : القول قول الزوج ، أو القول قول الزوجة وهو صنيع حسن.

وفي «صحيح مسلم» عن أنس بن مالك «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يحدث إحدى نسائه فمر به رجل فدعاه يا فلان فجاء فقال له : هذه زوجتي فلانة» الحديث ، فقوله : زوجتي بالتاء فتعين كونه من عبارة راوي الحديث في السند إلى أنس وليست بعبارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وطوى في هذه الآية خلق زوج آدم ، وقد ذكر في آيات أخرى كقوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها) [النساء : ١] وسيأتي ذلك في سورة النساء وسورة الأعراف [١٨٩].

ولم يرد اسم زوج آدم في القرآن واسمها عند العرب حواء وورد ذكر اسمها في حديث رواه ابن سعد في «طبقاته» عن خالد بن خداش عن ابن وهب يبلغ به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الناس لآدم وحواء كطف لصاع لن يملئوه» الحديث (طف المكيال ـ بفتح الطاء وكسرها ـ ما قرب من ملئه) أي هم لا يبغون الكمال فإن كل كمال من البشر قابل للزيادة.

٤١٤

وخالد بن خداش بصري وثقه ابن معين وأبو حاتم وسليمان بن حرب وضعفه ابن المديني. فاسم زوج آدم عند العرب حواء واسمها في العبرانية مضطرب فيه ، ففي سفر التكوين في الإصحاح الثاني أن اسمها امرأة سماها كذلك آدم قال : لأنها من امرئ أخذت. وفي الإصحاح الثالث أن آدم دعا اسم امرأته حواء لأنها أم كل حي. وقال ابن سعد نام آدم فخلقت حواء من ضلعه فاستيقظ ووجدها عنده فقال : أثا أي امرأة بالنبطية ، أي اسمها بالنبطية المرأة كما سماها آدم. وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ) [البقرة : ٣١] أن آدم دعا نفسه ، إيش ، فلعل أثا محرقة عن إشّا. واسمها بالعبرية (خمواه) بالخاء المعجمة وبهاء بعد الألف ويقال أيضا حيوا بحاء مهملة وألف في آخره فصارت بالعربية حواء وصارت في الطليانية إيپا وفي الفرنسية أيپ. وفي التوراة أن حواء خلقت في الجنة بعد أن أسكن آدم في الجنة وأن الله خلقها لتؤنسه قال تعالى : (وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها) [الأعراف : ١٨٩] أي يأنس.

والأمر في (اسْكُنْ) أمر إعطاء أي جعل الله آدم هو وزوجه في الجنة. والكنى اتخاذ المكان مقرا لغالب أحوال الإنسان.

والجنة قطعة من الأرض فيها الأشجار المثمرة والمياه وهي أحسن مقر للإنسان إذا لفحه حر الشمس ويأكل من ثمره إذا جاع ويشرب من المياه التي يشرب منها الشجر ويروقه منظر ذلك كله ، فالجنة تجمع ما تطمح إليه طبيعة الإنسان من اللذات.

وتعريف (الجنة) تعريف العهد وهي جنة معهودة لآدم يشاهدها إذا كان التعريف في (الجنة) حكاية لما يرادفه فيما خوطب به آدم ، أو أريد بها المعهود لنا إذا كانت حكاية قول الله لنا بالمعنى وذلك جائز في حكاية القول.

وقد اختلف علماء الإسلام في تعيين هذه الجنة فالذي ذهب إليه جمهور السلف أنها جنة الخلد التي وعد الله المؤمنين والمصدقين رسله وجزموا بأنها موجودة في العالم العلوي عالم الغيب أي في السماء وأنها أعدها الله لأهل الخير بعد القيامة وهذا الذي تقلده أهل السنة من علماء الكلام وأبو علي الجبائي ، وهو الذي تشهد به ظواهر الآيات والأخبار المروية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ولا تعدو أنها ظواهر كثيرة لكنها تفيد غلبة الظن وليس لهذه القضية تأثير في العقيدة.

وذهب أبو مسلم الأصفهاني محمد بن بحر وأبو القاسم البلخي والمعتزلة عدا الجبائي إلى أنها جنة في الأرض خلقها الله لإسكان آدم وزوجه ، ونقل البيضاوي عنهم

٤١٥

أنها بستان في فلسطين أو هو بين فارس وكرمان ، وأحسب أن هذا ناشئ عن تطلبهم تعيين المكان الذي ذكر ما يسمى في التوراة باسم عدن.

ففي التوراة في الإصحاح الثاني من سفر التكوين «وأخذ الرب الإله آدم ووضعه في جنة عدن ليعملها ويحفظها ـ ثم قالت ـ فأخرجه الرب الإله من جنة عدن ليعمل الأرض التي أخذ منها» وهذا يقتضي أن جنة عدن ليست في الأرض لكن الذي عليه شراح التوراة أن جنة عدن في الأرض وهو ظاهر وصف نهر هذه الجنة الذي يسقيها بأنه نهر يخرج من عدن فيسقي الجنة ومن هناك ينقسم فيصير أربعة رءوس اسم الواحد (قيشون) وهو المحيط بجميع أرض الحويلة وهم من بني كوش كما في الإصحاح من التكوين واسم النهر الثاني (جيحون) وهو المحيط بجميع أرض كوش ، واسم النهر الثالث (حدّا قل) وهو الجاري شرق أشور (دجلة). والنهر الرابع الفرات.

ولم أقف على ضبط عدن هذه. ورأيت في كتاب عبد الحق الإسلامي السبتي الذي كان يهوديا وأسلم وألف كتابا في الرد على اليهود سماه «الحسام المحدود في الرد على اليهود» كتبه بغيدن وضبطه بالعلامات بكسر الغين المعجمة وكسر الدال المهملة ولعل النقطة على حرف العين سهو من الناسخ فذلك هو منشأ قول القائلين أنها بعدن أو بفلسطين أو بين فارس وكرمان ، والذي ألجأهم إلى ذلك أن جنة الثواب دار كمال لا يناسب أن يحصل فيها العصيان وأنها دار خلد لا يخرج ساكنها ، وهو التجاء بلا ملجئ لأن ذلك من أحوال سكان الجنة لا لتأثير المكان وكلّه جعل الله تعالى عند ما أراده.

واحتج أهل السنة بأن أل في (الجنة) للعهد الخارجي ولا معهود غيرها ، وإنما تعين كونها للعهد الخارجي لعدم صحة الحمل على الجنس بأنواعه الثلاثة ، إذ لا معنى للحمل على أنها لام الحقيقة لأنها قد نيط بها فعل السكنى ولا معنى لتعلقه بالحقيقة بخلاف نحو الرجل خير من المرأة ، ولا معنى للحمل على العهد الذهني إذ الفرد من الحقيقة هنا مقصود معين لأن الأمر بالإسكان جزاء وإكرام فلا بد أن يكون متعلقا بجنة معروفة ، ولا معنى للحمل على الاستغراق لظهور ذلك. ولما كان المقصود هو الجزاء تعين أن يكون متعلقا بأمر معين معهود ولا معهود إلا الجنة المعروفة لا سيما وهو اصطلاح الشرع.

وقد يقال يختار أن اللام للعهد ولعل المعهود لآدم هو جنة في الأرض معينة أشير إليها بتعريف العهد ولذلك أختار أنا أن قوله تعالى : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) لما كان المقصود منه القصص لنا حكي بالألفاظ المتعارفة لدينا ترجمة لألفاظ اللغة التي

٤١٦

خوطب بها آدم أو عن الإلهام الذي ألقي إلى آدم فيكون تعريف (الجنة) منظورا فيه إلى متعارفنا فيكون آدم قد عرف المراد من مسكنه بطريق آخر غير التعريف ويكون قد حكي لنا ذلك بطريقة التعريف لأن لفظ الجنة المقترن في كلامنا بلام التعريف يدل على عين ما دل عليه الطريق الآخر الذي عرف به آدم مراد الله تعالى ، أي قلنا له اسكن البقعة التي تسمونها أنتم اليوم بالجنة ، والحاصل أن الأظهر أن الجنة التي أسكنها آدم هي الجنة المعدودة دارا لجزاء المحسنين.

ومعنى الأكل من الجنة من ثمرها لأن الجنة تستلزم ثمارا وهي مما يقصد بالأكل ولذلك تجعل (من) تبعيضية بتنزيل بعض ما يحويه المكان منزلة بعض لذلك المكان. ويجوز أن تكون (من) ابتدائية إشارة إلى أن الأكل المأذون فيه أكل ما تثمره تلك الجنة كقولك هذا الثّمر من خيبر.

والرغد وصف لموصوف دل عليه السياق أي أكلا رغدا ، والرغد الهنيء الذي لا عناء فيه ولا تقتير.

وقوله : (حَيْثُ شِئْتُما) ظرف مكان أي من أي مواضع أردتما الأكل منها ، ولما كانت مشيئتهما لا تنحصر بمواضع استفيد العموم في الإذن بطريق اللزوم ، وفي جعل الأكل من الثمر من أحوال آدم وزوجه بين إنشائها تنبيه على أن الله جعل الاقتيات جبلة للإنسان لا تدوم حياته إلا به.

وقوله : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) يعني به ولا تأكلا من الشجرة لأن قربانها إنما هو لقصد الأكل منها فالنهي عن القربان أبلغ من النهي عن الأكل لأن القرب من الشيء ينشئ داعية وميلا إليه ففيه الحديث «من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه» وقال ابن العربي سمعت الشاشي في مجلس النظر يقول : (إذا قيل لا تقرب (بفتح الراء) كان معناه لا تتلبس بالفعل ، وإذا قيل بضم الراء كان معناه لا تدن منه) ا ه. وهو غريب فإن قرب وقرب نحو كرم وسمع بمعنى دنا ، فسواء ضممت الراء أو فتحتها في المضارع فالمراد النهي عن الدنو إلا أن الدنو بعضه مجازي وهو التلبس وبعضه حقيقي ولا يكون للمجازي وزن خاص في الأفعال وإلا لصار من المشترك لا من الحقيقة والمجاز ، اللهم إلا أن يكون الاستعمال خص المجازي ببعض التصاريف فتكون تلك الزنة قرينة لفظية للمجاز وذلك حسن وهو من محاسن فروق استعمال الألفاظ المترادفة في اللغة العربية مثل تخصيص بعد مكسور العين بالانقطاع التام وبعد مضموم العين بالتنحّي عن

٤١٧

المكان ولذلك خص الدعاء بالمكسور في قولهم للمسافر لا تبعد ، قالت فاطمة بنت الأحجم الخزاعية :

إخوتي لا تبعدوا أبدا

وبلى والله قد بعدوا

وفي تعليق النهي بقربان الشجرة إشارة إلى منزع سد الذرائع وهو أصل من أصول مذهب مالك رحمه‌الله وفيه تفصيل مقرر في أصول الفقه.

والإشارة بهذه إلى شجرة مرئية لآدم وزوجه ، والمراد شجرة من نوعها أو كانت شجرة وحيدة في الجنة.

وقد اختلف أهل القصص في تعيين نوع هذه الشجرة فعن علي وابن مسعود وسعيد بن جبير والسدي أنها الكرمة ، وعن ابن عباس والحسن وجمهور المفسرين أنها الحنطة ، وعن قتادة وابن جريج ونسبه ابن جريج إلى جمع من الصحابة أنها شجرة التين. ووقع في سفر التكوين من التوراة إبهامها وعبر عنها بشجرة معرفة الخير والشر.

وقوله : (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) أي من المعتدين وأشهر معاني الظلم في استعمال العرب هو الاعتداء ، والاعتداء إما اعتداء على نهي الناهي إن كان المقصود من النهي الجزم بالترك وإما اعتداء على النفس والفضيلة إن كان المقصود من النهي عن الأكل من الشجرة بقاء فضيلة التنعم لآدم في الجنة ، فعلى الأول الظلم لأنفسهما بارتكاب غضب الله وعقابه وعلى الثاني الظلم لأنفسهما بحرمانها من دوام الكرامة.

[٣٦] (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦))

الفاء عاطفة على قوله : (وَلا تَقْرَبا) [البقرة : ٣٥] وحقها إفادة التعقيب فيكون التعقيب عرفيا لأن وقوع الإزلال كان بعد مضي مدة هي بالنسبة للمدة المرادة من سكنى الجنة كالأمد القليل. والأحسن جعل الفاء للتفريع مجردة عن التعقيب.

والإزلال جعل الغير زالّا أي قائما به الزلل وهو كالزلق أن تسير الرجلان على الأرض بدون اختيار لارتخاء الأرض بطين ونحوه ، أي ذاهبة رجلاه بدون إرادة ، وهو مجاز مشهور في صدور الخطيئة والغلط المضر ومنه سمي العصيان ونحوه الزلل.

والضمير في قوله : (عَنْها) يجوز أن يعود إلى الشجرة لأنها أقرب وليتبين سبب

٤١٨

الزلة وسبب الخروج من الجنة إذ لو لم يجعل الضمير عائدا إلى الشجرة لخلت القصة عن ذكر سبب الخروج. و (عن) في أصل معناها أي أزلهما إزلالا ناشئا عن الشجرة أي عن الأكل منها ، وتقدير المضاف دل عليه قوله : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) ، وليست (عن) للسببية ومن ذكر السببية أراد حاصل المعنى كما قال أبو عبيدة في قوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) [النجم : ٣] أن معناه وما ينطق بالهوى فقال الرضي : الأولى أن (عن) بمعناها وأن الجار والمجرور صفة لمصدر محذوف أي نطقا صادرا عن الهوى. ويجوز كون الضمير للجنة وتكون (عن) على ظاهرها والإزلال مجازا في الإخراج بكره والمراد منه الهبوط من الجنة مكرهين كمن يزل عن موقفه فيسقط كقوله : «وكم منزل لولاي طحت».

وقوله : (فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ) تفريع عن الإزلال بناء على أن الضمير للشجرة ، والمراد من الموصول وصلته التعظيم ، كقولهم قد كان ما كان ، فإن جعلت الضمير في قوله : (عَنْها) عائدا إلى الجنة كان هذا التفريع تفريع المفصّل عن المجمل وكانت الفاء للترتيب الذكري المجرّد كما في قوله تعالى : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ) [الأعراف : ٤] وقوله : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) [القمر : ٩]. أما دلالة الموصول عن التعظيم فهي هي.

وقرأ حمزة «فأزالهما» بألف بعد الزاي وهو من الإزالة بمعنى الإبعاد ، وعلى هذه القراءة يتعين أن يكون ضمير (عَنْها) عائدا إلى الجنة لا إلى الشجرة. وقد نبه عليه بخصوصه مع العلم بأن من خرج من الجنة فقد خرج مما كان فيه إحضارا لهذه الخسارة العظيمة في ذهن السامعين حتى لا تكون استفادتها بدلالة الالتزام خاصة فإنها دلالة قد تخفى فكانت إعادته في هذه الصلة بمرادفه كإعادته بلفظه في قوله تعالى : (فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ) [طه : ٧٨].

وتفيد الآية إثارة الحسرة في نفوس بني آدم على ما أصاب آدم من جراء عدم امتثاله لوصاية الله تعالى وموعظة تنبّه بوجوب الوقوف عند الأمر والنهي والترغيب في السعي إلى ما يعيدهم إلى هذه الجنة التي كانت لأبيهم وتربية العداوة بينهم وبين الشيطان وجنده إذ كان سببا في جر هذه المصيبة لأبيهم حتى يكونوا أبدا ثارا لأبيهم معادين للشيطان ووسوسته مسيئين الظنون بإغرائه كما أشار إليه قوله تعالى : (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) [الأعراف : ٢٧] وقوله هنا : (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ). وهذا أصل عظيم في تربية العامة ولأجله كان قادة الأمم يذكرون لهم سوابق عداوات منافسيهم ومن

٤١٩

غلبهم في الحروب ليكون ذلك باعثا على أخذ الثأر.

وعطف (وَقُلْنَا اهْبِطُوا) بالواو دون الفاء لأنه ليس متفرّع عن الإخراج بل هو متقدم عليه ولكن ذكر الإخراج قبل هذا لمناسبة سياق ما فعله الشيطان وغروره بآدم فلذلك قدم قوله : (فَأَخْرَجَهُما) إثر قوله : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ). ووجه جمع الضمير في (اهْبِطُوا) قيل لأن هبوط آدم وحواء اقتضى أن لا يوجد نسلهما في الجنة فكان إهباطهما إهباطا لنسلهما ، وقيل الخطاب لهما ولإبليس وهو وإن أهبط عند إبايته السجود كما أفاده قوله تعالى في سورة الأعراف (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ) [الأعراف : ١٢ ، ١٣] إلى قوله (قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً) [الأعراف : ١٨] إلى قوله (وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) [الأعراف : ١٩] فهذا إهباط ثان فيه تحجير دخول الجنة عليه والإهباط الأول كان إهباط منع من الكرامة مع تمكينه من الدخول للوسوسة وكلا الوجهين بعيد ، فالذي أراه أن جمع الضمير مراد به التثنية لكراهية توالي المثنيات بالإظهار والإضمار من قوله : (وَكُلا مِنْها رَغَداً) [البقرة : ٣٥] والعرب يستثقلون ذلك قال امرؤ القيس :

وقوفا بها صحبي عليّ مطيّهم

يقولون لا تهلك أسى وتجمل

وإنما له صاحبان لقوله : «قفا نبك» إلخ وقال تعالى : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) وسيأتي في سورة التحريم [٤].

وقوله : (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) يحتمل أن يراد بالبعض بعض الأنواع وهو عداوة الإنس والجن. إن كان الضمير في (اهْبِطُوا) لآدم وزوجه وإبليس ، ويحتمل أن يراد عداوة بعض أفراد نوع البشر ، إن كان ضمير (اهْبِطُوا) لآدم وحواء فيكون ذلك إعلاما لهما بأثر من آثار عملهما يورث في بنيهما ، ولذلك مبدأ ظهور آثار الاختلاف في تكوين خلقتهما بأن كان عصيانهما يورث في بنيهما ، ولذلك مبدأ ظهور آثار الاختلال في تكوين خلقتهما بأن كان عصيانهما يورث في أنفسهما وأنفس ذريتهما داعية التغرير والحيلة على حد قوله تعالى : (إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ) فإن الأخلاق تورث وكيف لا وهي مما يعدى بكثرة الملابسة والمصاحبة وقد قال أبو تمام :

لأعديتني بالحلم إن العلا تعدي

ووجه المناسبة بين هذا الأثر وبين منشئه الذي هو الأكل من الشجرة أن الأكل من

٤٢٠