تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٣٥

الأشياء الصالحة مضرة كالغش في الأطعمة ، ومنه إزالة الأشياء النافعة كالحرق والقتل للبرآء ، ومنه إفساد الأنظمة كالفتن والجور ، ومنه إفساد المساعي كتكثير الجهل وتعليم الدعارة وتحسين الكفر ومناوأة الصالحين المصلحين ، ولعل المنافقين قد أخذوا من ضروب الإفساد بالجميع ، فلذلك حذف متعلق (تُفْسِدُوا) تأكيدا للعموم المستفاد من وقوع في حيز النفي.

وذكر المحل الذي أفسدوا ما يحتوي عليه ـ وهو الأرض ـ لتفظيع فسادهم بأنه مبثوث في هذه الأرض لأن وقوعه في رقعة منها تشويه لمجموعها. والمراد بالأرض هذه الكرة الأرضية بما تحتوي عليه من الأشياء القابلة للإفساد من الناس والحيوان والنبات وسائر الأنظمة والنواميس التي وضعها الله تعالى لها ، ونظيره قوله تعالى : (وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) [البقرة : ٢٠٠].

وقوله تعالى : (قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) جواب بالنقض فإن الإصلاح ضد الإفساد ، أي جعل الشيء صالحا ، والصلاح ضد الفساد يقال صلح بعد أن كان فاسدا ويقال صلح بمعنى وجد من أول وهلة صالحا فهو موضوع للقدر المشترك كما قلنا. وجاءوا بإنما المفيدة للقصر باتفاق أئمة العربية والتفسير ولا اعتداد بمخالفه شذوذا في ذلك. وأفاد (إِنَّما) هنا قصر الموصوف على الصفة ردا على قول من قال لهم (لا تُفْسِدُوا) ، لأن القائل أثبت لهم وصف الفساد إما باعتقاد أنهم ليسوا من الصلاح في شيء أو باعتقاد أنهم قد خلطوا عملا صالحا وفاسدا ، فردوا عليهم بقصر القلب ، وليس هو قصرا حقيقيا لأن قصر الموصوف على الصفة لا يكون حقيقيا ولأن حرف إنما يختص بقصر القلب كما في «دلائل الإعجاز» ، واختير في كلامهم حرف (إنما) لأنه يخاطب به مخاطب مصر على الخطأ كما في «دلائل الإعجاز» وجعلت جملة القصر اسمية لتفيد أنهم جعلوا اتصافهم بالإصلاح أمرا ثابتا دائما ، إذ من خصوصيات الجملة الاسمية إفادة الدّوام.

[١٢] (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢))

رد عليهم في غرورهم وحصرهم أنفسهم في الصلاح فرد عليهم بطريق من طرق القصر هو أبلغ فيه من الطريق الذي قالوه لأن تعريف المسند يفيد قصر المسند على المسند إليه فيفيد قوله : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) قصر الإفساد عليهم بحيث لا يوجد في

٢٨١

غيرهم وذلك ينفي حصرهم أنفسهم في الإصلاح وينقضه وهو جار على قانون النقض وعلى أسلوب القصر الحاصل بتعريف الجنس وإن كان الرد قد يكفي فيه أن يقال إنهم مفسدون بدون صيغة قصر ، إلا أنه قصر ليفيد ادعاء نفي الإفساد عن غيرهم. وقد يفيد ذلك أن المنافقين ليسوا ممن ينتظم في عداد المصلحين لأن شأن المفسد عرفا أن لا يكون مصلحا إذ الإفساد هين الحصول وإنما يصد عنه الوازع فإذا خلع المرء عنه الوازع وأخذ في الإفساد هان عليه الإفساد ثم تكرر حتى يصبح سجية ودأبا لا يكاد يفارق موصوفه.

وحرف (ألا) للتنبيه إعلانا لوصفهم بالإفساد.

وقد أكد قصر الفساد عليهم بضمير الفصل أيضا ـ كما أكد به القصر في قوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [البقرة : ٥] كما تقدم قريبا. ودخول (إنّ) على الجملة وقرنها بألا المفيدة للتنبيه وذلك من الاهتمام بالخبر وتقويته دلالة على سخط الله تعالى عليهم فإن أدوات الاستفتاح مثل ألا وأما لما كان شأنها أن ينبه بها السامعون دلت على الاهتمام بالخبر وإشاعته وإعلانه ، فلا جرم أن تدل على أبلغية ما تضمنه الخبر من مدح أو ذم أو غيرهما ، ويدل ذلك أيضا على كمال ظهور مضمون الجملة للعيان لأن أدوات التنبيه شاركت أسماء الإشارة في تنبيه المخاطب.

وقوله : (وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) محمله محمل قوله تعالى قبله : وما يخادعون إلا أنفسهم وما يشعرون [البقرة : ٩] فإن أفعالهم التي يبتهجون بها ويزعمونها منتهى الحذق والفطنة وخدمة المصلحة الخالصة آئلة إلى فساد عام لا محالة إلّا أنهم لم يهتدوا إلى ذلك لخفائه وللغشاوة التي ألقيت على قلوبهم من أثر النفاق ومخالطة عظماء أهله ، فإن حال القرين وسخافة المذهب تطمس على العقول النيرة وتخفّ بالأحلام الراجحة حتى ترى حسنا ما ليس بالحسن. وموقع حرف الاستدراك هنا لأن الكلام دفع لما أثبتوه لأنفسهم من الخلوص للإصلاح ، فرفع ذلك التوهم بحرف الاستدراك.

[١٣] (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣))

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ).

هو من تمام المقول قبله فحكمه حكمه بالعطف والقائل ، ويجوز هنا أن يكون القائل أيضا طائفة من المنافقين يشيرون عليهم بالإقلاع عن النفاق لأنهم ضجروه وسئموا كلفه

٢٨٢

ومتّقياته ، وكلّت أذهانهم من ابتكار الحيل واختلاق الخطل. وحذف مفعول (آمِنُوا) استغناء عنه بالتشبيه في قوله : (كَما آمَنَ النَّاسُ) أو لأنه معلوم للسامعين. وقوله : (كَما آمَنَ النَّاسُ) الكاف فيه للتشبيه أو للتعليل ، واللام في (الناس) للجنس أو للاستغراق العرفي. والمراد بالناس من عدا المخاطبين ، كلمة تقولها العرب في الإغراء بالفعل والحث عليه لأن شأن النفوس أن تسرع إلى التقليد والاقتداء بمن يسبقها في الأمر ، فلذلك يأتون بهاته الكلمة في مقام الإغراء أو التسلية أو الائتساء ، قال عمرو ابن البرّاقة النّهمي (١) :

وننصر مولانا ونعلم أنّه

كما الناس مجزوم عليه وجارم

وقوله : (أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) استفهام للإنكار ، قصدوا منه التبري من الإيمان على أبلغ وجه ، وجعلوا الإيمان المتبرأ منه شبيها بإيمان السفهاء تشنيعا له وتعريضا بالمسلمين بأنهم حملهم على الإيمان سفاهة عقولهم ، ودلوا على أنهم علموا مراد من يقول لهم (كَما آمَنَ النَّاسُ) أنه يعني بالناس المسلمين.

والسفهاء جمع سفيه وهو المتصف بالسفاهة ، والسفاهة خفة العقل وقلة ضبطه للأمور قال السموأل :

نخاف أن تسفه أحلامنا

فنخمل الدهر مع الخامل

والعرب تطلق السفاهة على أفن الرأي وضعفه ، وتطلقها على سوء التدبير للمال. قال تعالى : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) [النساء : ٥] وقال : (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً) [البقرة : ٢٨٢] الآية لأن ذلك إنما يجىء من ضعف الرأي. ووصفهم المؤمنين بالسفاهة بهتان لزعمهم أن مخالفتهم لا تكون إلا لخفة في عقولهم ، وليس ذلك لتحقيرهم ، كيف وفي المسلمين سادة العرب من المهاجرين والأنصار. وهذه شنشنة أهل الفساد والسفه أن يرموا المصلحين بالمذمات بهتانا ووقاحة ليلهوهم عن تتبع مفاسدهم ولذلك قال أبو الطيب :

وإذا أتتك مذمّتي من ناقص

فهي الشهادة لي بأني كامل

وليس في هاته الآية دليل على حكم الزنديق إذا ظهر عليه وعرفت زندقته إثباتا ، ولا نفيا لأن القائلين لهم (آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ) هم من أقاربهم أو خاصتهم من المؤمنين

__________________

(١) بنون مكسورة وسكون الهاء نسبة إلى نهم : بطن من همدان.

٢٨٣

الذين لم يفشوا أمرهم فليس في الآية دليل على ظهور نفاقهم للرسول بوجه معتاد ولكنه شيء أطلع عليه نبيئه ، وكانت المصلحة في ستره ، وقد اطّلع بعض المؤمنين عليه بمخالطتهم وعلموا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الإعراض عن إذاعة ذلك فكانت الآية غير دالة على حكم شرعي يتعلق بحكم النفاق والزندقة.

(أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ).

أتى بما يقابل جفاء طبعهم انتصارا للمؤمنين ، ولو لا جفاء قولهم : (أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) لما تصدى القرآن لسبابهم مع أن عادته الإعراض عن الجاهلين ولكنهم كانوا مضرب المثل : «قلت فأوجبت» ، ولأنه مقام بيان الحق من الباطل فتحسن فيه الصراحة والصرامة كما تقرر في آداب الخطابة ، وأعلن ذلك بكلمة ألا المؤذنة بالتنبيه للخبر ، وجاء بصيغة القصر على نحو ما قرر في : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ) [البقرة : ١٢] ليدل على أن السفاهة مقصورة عليهم دون المؤمنين فهو إضافي لا محالة. وإذا ثبتت لهم السفاهة انتفى عنهم الحلم لا محالة لأنهما ضدان في صفات العقول.

(إنّ) هنا لتوكيد الخبر وهو مضمون القصر وضمير الفصل لتأكيد القصر كما تقدم آنفا. و (ألا) كأختها المتقدمة في : (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ).

وقوله : (وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) نفى عنهم العلم بكونهم سفهاء بكلمة (يَعْلَمُونَ) دون يشعرون خلافا للآيتين السابقتين لأن اتصافهم بالسفه ليس مما شأنه الخفاء حتى يكون العلم به شعورا ويكون الجهل به نفي شعور ، بل هو وصف ظاهر لا يخفى لأن لقاءهم كل فريق بوجه واضطرابهم في الاعتماد على إحدى الخلّتين وعدم ثباتهم على دينهم ثباتا كاملا ولا على الإسلام كذلك كاف في النداء بسفاهة أحلامهم فإن السفاهة صفة لا تكاد تخفى ، وقد قالت العرب : السفاهة كاسمها ، قال النابغة :

نبئت زرعة والسفاهة كاسمها

يهدى إليّ غرائب الأشعار

وقال جزء بن كلاب الفقعسي :

تبغّى ابن كوز والسّفاهة كاسمها

ليستاد منّا أن شتونا لياليا

فظنهم أن ما هم عليه من الكفر رشد ، وأن ما تقلده المسلمون من الإيمان سفه يدل على انتفاء العلم عنهم. فموقع حرف الاستدراك لدفع تعجب من يتعجب من رضاهم بالاختصاص بوصف السفاهة.

٢٨٤

[١٤] (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤))

عطف (وَإِذا لَقُوا) على ما عطف عليه : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا) [البقرة : ١٢] (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ) [البقرة : ١٣]. والكلام في الظرفية والزمان سواء.

والتقييد بقوله : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) تمهيد لقوله : (وَإِذا خَلَوْا) فبذلك كان مفيدا فائدة زائدة على ما في قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) [البقرة : ٨] الآية فليس ما هنا تكرارا مع ما هناك ، لأن المقصود هنا وصف ما كانوا يعملون مع المؤمنين وإيهامهم أنهم منهم ولقائهم بوجوه الصادقين ، فإذا فارقوهم وخلصوا إلى قومهم وقادتهم خلعوا ثوب التستر وصرحوا بما يبطنون. ونكتة تقديم الظرف تقدمت في قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا).

ومعنى قولهم (آمَنَّا) أي كنا مؤمنين فالمراد من الإيمان في قولهم (آمَنَّا) الإيمان الشرعي الذي هو مجموع الأوصاف الاعتقادية والعلمية التي تقلب بها المؤمنون وعرفوا بها على حد قوله تعالى : (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) [الأعراف : ١٥٦] أي كنا على دين اليهودية فلا متعلق بقوله (آمَنَّا) حتى يحتاج لتوجيه حذفه أو تقديره ، أو أريد آمنا بما آمنتم به ، والأول أظهر ، ولقاؤهم الذين آمنوا هو حضورهم مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومجالس المؤمنين. ومعنى (قالُوا آمَنَّا) أظهروا أنهم مؤمنون بمجرد القول لا بعقد القلب ، أي نطقوا بكلمة الإسلام وغيرها مما يترجم عن الإيمان.

وقوله : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) معطوف على قوله : (وَإِذا لَقُوا) والمقصود هو هذا المعطوف وأما قوله : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) فتمهيد له كما علمت ، وذلك ظاهر من السياق لأن كل أحد يعلم أن المقصود أنهم يقولون آمنا في حال استهزاء يصرّحون بقصده إذا خلوا بدليل أنه قد تقدم أنهم يأبون من الإيمان ويقولون : (أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ) [البقرة : ١٣] إنكارا لذلك ، وواو العطف صالحة للدلالة على المعية وغيرها بحسب السياق وذلك أن السياق في بيان ما لهم من وجهين وجه مع المؤمنين ووجه مع قادتهم ، وإنما لم يجعل مضمون الجملة الثانية في صورة الحال كأن يقال قائلين لشياطينهم إذا خلوا ولم نحمل الواو في قوله : (وَإِذا خَلَوْا) على الحال ، أما الأول فلأن مضمون كلتا الجملتين لما كان صالحا لأن يعتبر صفة مستقلة دالة على النفاق قصد بالعطف

٢٨٥

استقلال كلتيهما لأن الغرض تعداد مساويهم فإن مضمون : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) مناد وحده بنفاقهم في هاته الحالة كما يفصح عنه قوله : (وَإِذا لَقُوا) الدال على أن ذلك في وقت مخصوص ، وأما الثاني فلأن الأصل اتحاد موقع الجملتين المتماثلتين لفظا. ولما تقدم إيضاحه في وجه العدول عن الإتيان بالحال.

والشياطين جمع شيطان ، جمع تكسير ، وحقيقة الشيطان أنه نوع من المخلوقات المجردة ، طبيعتها الحرارة النارية وهم من جنس الجن قال تعالى في إبليس : (كانَ مِنَ الْجِنِ) [الكهف : ٥٠] وقد اشتهر ذكره في كلام الأنبياء والحكماء ، ويطلق الشيطان على المفسد ومثير الشر ، تقول العرب فلان من الشياطين ومن شياطين العرب وذلك استعارة ، وكذلك أطلق هنا على قادة المنافقين في النفاق ، قال تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ) [الأنعام : ١١٢] إلخ.

ووزن شيطان اختلف فيه البصريون والكوفيون من علماء العربية فقال البصريون هو فيعال من شطن بمعنى بعد ؛ لأنه أبعد عن رحمة الله وعن الجنة فنونه أصلية وقال الكوفيون هو فعلان من شاط بمعنى هاج أو احترق أو بطل ووجه التسمية ظاهر. ولا أحسب هذا الخلاف إلا أنه بحث عن صيغة اشتقاقه فحسب أي البحث عن حروفه الأصول وهل إن نونه أصل أو زائد وإلا فإنه لا يظن بنحاة الكوفة أن يدّعوا أنه يعامل معاملة الوصف الذي فيه زيادة الألف والنون مثل غضبان ، كيف وهو متفق على عدم منعه من الصرف في قوله تعالى : (وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) [الحجر : ١٧]. وقال ابن عطية ويرد على قول الكوفيين أن سيبويه حكى أن العرب تقول تشيطن إذا فعل الشيطان فهذا يبين أنه من شطن وإلا لقالوا تشيط ا ه. وفي «الكشاف» : جعل سيبويه نون شيطان في موضع من كتابه أصلية وفي آخر زائدة ا ه.

والوجه أن تشيطن لما كان وصفا مشتقا من الاسم كقولهم تنمر أثبتوا فيه حروف الاسم على ما هي عليه لأنهم عاملوه معاملة الجامد دون المشتق لأنه ليس مشتقا مما اشتق منه الاسم بل من حروف الاسم فهو اشتقاق حصل بعد تحقيق الاستعمال وقطع النظر عن مادة الاشتقاق الأول فلا يكون قولهم ذلك مرجحا لأحد القولين.

وعندي أنه اسم جامد شابه في حروفه مادة مشتقة ودخل في العربية من لغة سابقة لأن هذا الاسم من الأسماء المتعلقة بالعقائد والأديان ، وقد كان العرب العراق فيها السبق قبل انتقالهم إلى الحجاز واليمن ، ويدل لذلك تقارب الألفاظ الدالة على هذا المعنى في

٢٨٦

أكثر اللغات القديمة. وكنت رأيت قول من قال إن اسمه في الفارسية سيطان.

و (خلوا) بمعنى انفردوا فهو فعل قاصر ويعدى بالباء وباللام ومن ومع بلا تضمين ويعدى بإلى على تضمين معنى آب أو خلص ويعدى بنفسه على تضمين تجاوز وباعد ومنه ما شاع من قولهم : «افعل كذا وخلاك ذم» (١) أي إن تبعة الأمر أو ضره لا تعود عليك.

وقد عدي هنا بإلى المشير إلى أن الخلوة كانت في مواضع هي مآبهم ومرجعهم وأنّ لقاءهم للمؤمنين إنما هو صدفة ولمحات قليلة ، أفاد ذلك كله قوله : (لَقُوا) و (خَلَوْا). وهذا من بديع فصاحة الكلمات وصراحتها.

واعلم أنه حكى خطابهم للذين آمنوا بما يقتضي أنهم لم يأتوا فيه بما يحقق الخبر من تأكيد ، وخطابهم موهم بما يقتضي أنهم حققوا لهم بقاءهم على دينهم بتأكيد الخبر بما دل عليه حرف التأكيد في قوله : (إِنَّا مَعَكُمْ) مع أن مقتضى الظاهر أن يكون كلامهم بعكس ذلك ؛ لأن المؤمنين يشكون في إيمان المنافقين ، وقومهم لا يشكون في بقائهم على دينهم ، فجاءت حكاية كلامهم الموافقة لمدلولاته على خلاف مقتضى الظاهر لمراعاة ما هو أجدر بعناية البليغ من مقتضى الظاهر. فخلو خطابهم مع المؤمنين عما يفيد تأكيد الخبر لأنهم لا يريدون أن يعرضوا أنفسهم في معرض من يتطرق ساحته الشك في صدقه لأنهم إذا فعلوا ذلك فقد أيقظوهم إلى الشك وذلك من إتقان نفاقهم على أنه قد يكون المؤمنون أخلياء الذهن من الشك في المنافقين لعدم تعينهم عندهم فيكون تجريد الخبر من المؤكدات مقتضى الظاهر.

وأما قولهم لقومهم (إِنَّا مَعَكُمْ) بالتأكيد فذلك لأنه لما بدا من إبداعهم في النفاق عند لقاء المسلمين ما يوجب شك كبرائهم في البقاء على الكفر وتطرق به التهمة أبواب قلوبهم احتاجوا إلى تأكيد ما يدل على أنهم باقون على دينهم. وكذلك قولهم : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) فقد أبدوا به وجه ما أظهروه للمؤمنين وجاءوا فيه بصيغة قصر القلب لرد اعتقاد شياطينهم فيهم أن ما أظهروه للمؤمنين حقيقة وإيمان صادق.

__________________

(١) أول من قاله قصير بن سعد اللخمي لعمرو بن عدي ملك اللخميين من عرب العراق حين حرض قصير عمرا على الأخذ بثأر خاله جذيمة بن مالك الأبرش ملك اللخميين الذي قتلته الزباء العمليقية ملكة تدمر إذ خدعته وجلبته إلى بلدها وقتلته غيلة فملك اللخميون ابن أخته عمرو بن عدي وكان قصير وزيرا لجذيمة ولابن أخته فلما استصعب عمرو الأخذ بالثأر قال له قصير «اطلب الأمر وخلاك ذم» أي إن نجحت فذاك ، وإلا فلا لوم عليك.

٢٨٧

وقد وجه صاحب «الكشاف» العدول عن التأكيد في قولهم : (آمَنَّا) والتأكيد في قولهم (إِنَّا مَعَكُمْ) بأن مخاطبتهم المؤمنين انتفى عنها ما يقتضي تأكيد الخبر لأن المخبرين لم يتعلق غرضهم بأكثر من ادعاء حدوث إيمانهم لأن نفوسهم لا تساعدهم على أن يتلفظوا بأقوى من ذلك ولأنهم علموا أن ذلك لا يروج على المسلمين أي فاقتصروا على اللازم من الكلام فإن عدم التأكيد في الكلام قد يكون لعدم اعتناء المتكلم بتحقيقه ، ولعلمه أن تأكيده عبث لعدم رواجه عند السامع ، وهذه نكتة غريبة مرجعها قطع النظر عن إنكار السامع والإعراض عن الاهتمام بالخبر. وأما مخاطبتهم شياطينهم فإنما أتوا بالخبر فيها مؤكدا لإفادة اهتمامهم بذلك الخبر وصدق رغبتهم في النطق به ولعلمهم أن ذلك رائج عند المخاطبين فإن التأكيد قد يكون لاعتناء المتكلم بالخبر ورواجه عند السامع أي فهو تأكيد للاهتمام لا لرد الإنكار.

وقولهم : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) قصروا أنفسهم على الاستهزاء قصرا إضافيا للقلب أي مؤمنون مخلصون ، وجملة : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) تقرير لقوله : (إِنَّا مَعَكُمْ) لأنهم إذا كانوا معهم كان ما أظهروه من مفارقة دينهم استهزاء أو نحوه فأما أن تكون الجملة الثانية استئنافا واقعة في جواب سؤال مقدر كأن سائلا يعجب من دعوى بقائهم على دينهم لما أتقنوه من مظاهر النفاق في معاملة المسلمين ، وينكر أن يكونوا باقين على دينهم ويسأل كيف أمكن الجمع بين البقاء على الدين وإظهار المودة للمؤمنين فأجابوا (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) ، وبه يتضح وجه الإتيان بأداة القصر لأن المنكر السائل يعتقد كذبهم في قولهم (إِنَّا مَعَكُمْ) ويدعي عكس ذلك ، وإما أن تكون الجملة بدلا من (إِنَّا مَعَكُمْ) بدل اشتمال لأن من دام على الكفر وتغالى فيه ـ وهو مقتضى (مَعَكُمْ) أي في تصلبكم ـ فقد حقر الإسلام وأهله واستخف بهم ، والوجه الأول أولى الوجوه لأنه يجمع ما تفيده البدلية والتأكيد من تقرير مضمون الجملة الأولى مع ما فيه من الإشارة إلى رد التحير الذي ينشأ عنه السؤال وهذا يفوت على تقديري التأكيد والبدلية.

والاستهزاء السخرية يقال : هزأ به واستهزأ به فالسين والتاء للتأكيد مثل استجاب ، أي عامله فعلا أو قولا يحصل به احتقاره أو والتطرية به ، سواء أشعره بذلك أم أخفاه عنه. والباء فيه للسببية قيل : لا يتعدى بغير الباء وقيل : يتعدى بمن ، وهو مرادف سخر في المعنى دون المادة كما سيأتي في سورة الأنعام.

وقرأ أبو جعفر (مستهزون) بدون همزة وبضم الزاي تخفيفا وهو لغة فصيحة في

٢٨٨

المهموز.

[١٥] (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥))

(اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ).

لم تعطف هاته الجملة على ما قبلها لأنها جملة مستأنفة استئنافا بيانيا جوابا لسؤال مقدر ، وذلك أن السامع لحكاية قولهم للمؤمنين (آمَنَّا) [البقرة : ١٤] وقولهم لشياطينهم (إِنَّا مَعَكُمْ) [البقرة : ١٤] إلخ. يقول لقد راجت حيلتهم على المسلمين الغافلين عن كيدهم وهل يتفطن متفطن في المسلمين لأحوالهم فيجازيهم على استهزائهم ، أو هل يرد لهم ما راموا من المسلمين ، ومن الذي يتولى مقابلة صنعهم فكان للاستئناف بقوله : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) غاية الفخامة والجزالة ، وهو أيضا واقع موقع الاعتراض والأكثر في الاعتراض ترك العاطف. وذكر (يَسْتَهْزِئُ) دليل على أن مضمون الجملة مجازاة على استهزائهم. ولأجل اعتبار الاستئناف قدم اسم الله تعالى على الخبر الفعلي. ولم يقل يستهزئ الله بهم لأن مما يجول في خاطر السائل أن يقول من الذي يتولى مقابلة سوء صنيعهم فأعلم أن الذي يتولى ذلك هو رب العزة تعالى ، وفي ذلك تنويه بشأن المنتصر لهم وهم المؤمنون كما قال تعالى : (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) [الحج : ٣٨] فتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي هنا لإفادة تقوى الحكم لا محالة ثم يفيد مع ذلك قصر المسند على المسند إليه فإنه لما كان تقديم المسند إليه على المسند الفعلي في سياق الإيجاب يأتي لتقوي الحكم ويأتي للقصر على رأي الشيخ عبد القاهر وصاحب «الكشاف» كما صرح به في قوله تعالى : (وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) في سورة المزمل [٢٠] ، كان الجمع بين قصد التقوي وقصد التخصيص جائزا في مقاصد الكلام البليغ وقد جوزه في «الكشاف» عند قوله تعالى : (فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً) في سورة الجن [١٣] ، لأن ما يراعيه البليغ من الخصوصيات لا يترك حمل الكلام البليغ عليه فكيف بأبلغ كلام ، ولذلك يقال النكت لا تتزاحم.

كان المنافقون يغرهم ما يرون من صفح النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنهم وإعراض المؤمنين عن التنازل لهم فيحسبون رواج حيلتهم ونفاقهم ولذلك قال عبد الله بن أبيّ : (لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) [المنافقون : ٨] فقال الله تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ) [المنافقون : ٨] فتقديم اسم الجلالة لمجرد الاهتمام لا لقصد التقوي إذ لا مقتضي له.

٢٨٩

وفعل : (يَسْتَهْزِئُ) المسند إلى الله ليس مستعملا في حقيقته لأن المراد هنا أنه يفعل بهم في الدنيا ما يسمى بالاستهزاء بدليل قوله : (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ) ولم يقع استهزاء حقيقي في الدنيا فهو إما تمثيل لمعاملة الله إياهم في مقابلة استهزائهم بالمؤمنين ، بما بشبه فعل المستهزئ بهم وذلك بالإملاء لهم حتى يظنوا أنهم سلموا من المؤاخذة على استهزائهم فيظنوا أن الله راض عنهم أو أن أصنامهم نفعوهم حتى إذا نزل بهم عذاب الدنيا من القتل والفضح علموا خلاف ما توهموا فكان ذلك كهيئة الاستهزاء بهم. والمضارع في قوله : (يَسْتَهْزِئُ) لزمن الحال.

ولا يحمل على اتصاف الله بالاستهزاء حقيقة عند الأشاعرة لأنه لم يقع من الله معنى الاستهزاء في الدنيا ، ويحسن هذا التمثيل ما فيه من المشاكلة. ويجوز أن يكون (يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) حقيقة يوم القيامة بأن يأمر بالاستهزاء بهم في الموقف وهو نوع من العقاب فيكون المضارع في (يَسْتَهْزِئُ) للاستقبال ، وإلى هذا المعنى نحا ابن عباس والحسن في نقل ابن عطية ، ويجوز أن يكون مرادا به جزاء استهزائهم من العذاب أو نحوه من الإذلال والتحقير والمعنى يذلهم وعبر عنه بالاستهزاء مجازا ومشاكلة ، أو مرادا به مآل الاستهزاء من رجوع الوبال عليهم. وهذا كله وإن جاز فقد عينه هنا جمهور العلماء من المفسرين كما نقل ابن عطية والقرطبي وعينه الفخر الرازي والبيضاوي وعينه المعتزلة أيضا لأن الاستهزاء لا يليق إسناده إلى الله حقيقة لأنه فعل قبيح ينزه الله تعالى عنه كما في «الكشاف» وهو مبني على المتعارف بين الناس.

وجيء في حكاية كلامهم بالمسند الاسمي في قولهم (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ) [البقرة : ١٤] لإفادة كلامهم معنى دوام صدور الاستهزاء منهم وثباته بحيث لا يحولون عنه.

وجيء في قوله : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) بإفادة التجدد من الفعل المضارع أي تجدد إملاء الله لهم زمانا إلى أن يأخذهم العذاب ، ليعلم المسلمون أن ما عليه أهل النفاق من النعمة إنما هو إملاء وإن طال كما قال تعالى : (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ) [آل عمران : ١٩٦].

(وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ).

يتعين أنه معطوف على (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ).

و (يمد) فعل مشتق من المدد وهو الزيادة ، يقال مدّه إذا زاده وهو الأصل في

٢٩٠

الاشتقاق من غير حاجة إلى الهمزة لأنه متعد ، ودليله أنهم ضموا العين في المضارع على قياس المضاعف المتعدي ، وقد يقولون أمده بهمزة التعدية على تقدير جعله ذا مدد ثم غلب استعمال مد في الزيادة في ذات المفعول نحو مدّ له في عمره ومدّ الأرض أي مططها وأطالها ، وغلب استعمال أمد المهموز في الزيادة للمفعول من أشياء يحتاجها نحو أمده بجيش : (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ) [الشعراء : ١٣٣]. وإنما استعمل هذا في موضع الآخر على الأصل فلذلك قيل لا فرق بينهما في الاستعمال وقيل يختص أمد المهموز بالخير نحو : (أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ) [النمل : ٣٦] (أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ) [المؤمنون : ٥٥] ، ويختص مد بغير الخير ونقل ذلك عن أبي علي الفارسي في كتاب «الحجة» ، ونقله ابن عطية عن يونس بن حبيب ، إلا المعدّى باللام فإنه خاص بالزيادة في العمر والإمهال فيه عند الزمخشري وغيره خلافا لبعض اللغويين فاستغنوا بذكر اللام المؤذنة بأن ذلك للنفع وللأجل (بسكون الجيم) عن التفرقة بالهمز رجوعا للأصل لئلا يجمعوا بين ما يقتضي التعدية وهو الهمزة وبين ما يقتضي القصور وهو لام الجر ، وكل هذا من تأثير الأمثلة على الناظرين وهي طريقة لهم في كثير من الأفعال التي يتفرع معناها الوضعي إلى معان جزئية له أو مقيدة أو مجازية أن يخصوا بعض لغاته أو بعض أحواله ببعض تلك المعاني جريا وراء التنصيص في الكلام ودفع اللبس بقدر الإمكان. وهذا من دقائق استعمال اللغة العربية ، فلا يقال إن دعوى اختصاص بعض الاستعمالات ببعض المعاني هي دعوى اشتراك أو دعوى مجاز وكلاهما خلاف الأصل كما أورد عبد الحكيم ؛ لأن ذلك التخصيص كما علمت اصطلاح في الاستعمال لا تعدد وضع ولا استعمال في غير المعنى الموضوع له ونظير ذلك قولهم فرق وفرق ووعد وأوعد ونشد وأنشد ونزّل (المضاعف) وأنزل ، وقولهم العثار مصدر عثر إذ أريد بالفعل الحقيقة ، والعثور مصدر عثر إذ أريد بالفعل المجاز وهو الاطلاع ، وقد فرقت العرب في مصادر الفعل الواحد وفي جموع الاسم الواحد لاختلاف القيود.

وتعدية فعل (يمد) إلى ضميرهم الدال على أدب أو ذوق مع أن المد إنما يتعدى إلى الطغيان جاءت على طريقة الإجمال الذي يعقبه التفصيل ليتمكن التفصيل في ذهن السامع مثل طريقة بدل الاشتمال وجعل الزجاج والواحدي أصله ويمد لهم في طغيانهم فحذف لام الجر واتصل الفعل بالمجرور على طريقة نزع الخافض وليس بذلك.

والطغيان مصدر بوزن الغفران والشكران ، وهو مبالغة في الطغي وهو الإفراط في

٢٩١

الشر والكبر وتعليق فعل (يَمُدُّهُمْ) هنا بضمير الذوات تعليق إجمالي يفسره قوله : (فِي طُغْيانِهِمْ) ويجوز أن يكون على تقدير لام محذوفة أي يمد لهم في طغيانهم أي يمهلهم فيكون نحو بعض ما فسر به قوله : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) وهذا قول الزجاج والواحدي وفيه بعد.

والعمه انطماس البصيرة وتحير الرأي وفعله عمه فهو عامه وأعمه.

وإسناد المد في الطغيان إلى الله تعالى على الوجه الأول في تفسير قوله : (وَيَمُدُّهُمْ) إسناد خلق وتكوين منوط بأسباب التكوين على سنة الله تعالى في حصول المسببات عند أسبابها. فالنفاق إذا دخل القلوب كان من آثاره أن لا ينقطع عنها ، ولما كان من شأن وصف النفاق أن تنمي عنه الرذائل التي قدمنا بيانها كان تكونها في نفوسهم متولدا من أسباب شتى في طباعهم متسلسلا من ارتباط المسببات بأسبابها وهي شتى ومتفرعة وذلك بخلق خاص بهم مباشرة ولكن الله حرمهم توفيقه الذي يقلعهم عن تلك الجبلة بمحاربة نفوسهم ، فكان حرمانه إياهم التوفيق مقتضيا استمرار طغيانهم وتزايده بالرسوخ فإسناد ازدياده إلى الله لأنه خالق النظم التي هي أسباب ازدياده ، وهذا يعد من الحقيقة العقلية الشائعة وليس من المجاز لعدم ملاحظة خلق الأسباب بحسب ما تعارفه الناس من إسناد ما خفي فاعله إلى الله تعالى لأنه الخالق للأسباب الأصلية والجاعل لنواميسها بكيفية لا يعلم الناس سرها ولا شاهدوا من تسند إليه على الحقيقة غيره وهذا بخلاف نحو بنى الأمير المدينة لا سيما بعد التصريح بالإسناد إليه في الكلام بحيث لم يبق للبناء على عرف الناس مجال وهذا بخلاف نحو : يزيدك وجهه حسنا وسرتني رؤيتك ؛ لأن ذلك وإن كان في الواقع من فعل الله تعالى إلا أنه غير ملتفت إليه في العرف فلذلك قال الشيخ عبد القاهر : إنه من المجاز الذي لا حقيقة له.

وإنما أضاف الطغيان لضمير المنافقين ولم يقل في الطغيان بتعريف الجنس كما قال في سورة الأعراف : [٢٠٢] (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِ) إشارة إلى تفظيع شأن هذا الطغيان وغرابته في بابه وإنهم اختصوا به حتى صار يعرف بإضافته إليهم. والظرف متعلق بيمدهم و (يَعْمَهُونَ) جملة حالية.

[١٦] (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦))

٢٩٢

(أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى).

الإشارة إلى من يقول (آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) [البقرة : ٨] وما عطف على صلته من صفاتهم وجيء باسم إشارة الجمع لأن ما صدق «من» هو فريق من الناس ، وفصلت الجملة عن التي قبلها لتفيد تقرير معنى : «(وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [البقرة : ١٥] فمضمونها بمنزلة التوكيد ، وذلك مما يقتضي الفصل ، ولتفيد تعليل مضمون جملة (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) فتكون استئنافا بيانيا لسائل عن العلة ، وهي أيضا فذلكة للجمل السابقة الشارحة لأحوالهم وشأن الفذلكة عدم العطف كقوله تعالى : (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) [البقرة : ١٩٦] ، وكل هذه الاعتبارات مقتض لعدم العطف ففيها ثلاثة موجبات للفصل.

وموقع هذه الجملة من نظم الكلام مقابل موقع جملة (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥] ومقابل موقع جملة (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) [البقرة : ٧] الآية.

واسم الإشارة هنا غير مشار به إلى ذوات ولكن إلى صنف اجتمعت فيهم الصفات الماضية فانكشفت أحوالهم حتى صاروا كالحاضرين تجاه السامع بحيث يشار إليهم وهذا استعمال كثير الورود في الكلام البليغ. وليس في هذه الإشارة إشعار ببعد أو قرب حتى تفيد تحقيرا ناشئا عن البعد لأن هذا من أسماء الإشارة الغالبة في كلام العرب فلا عدول فيها حتى يكون العدول لمقصد كما تقدم في قوله تعالى : (ذلِكَ الْكِتابُ) [البقرة : ٢] ولأن المشار إليه هنا غير محسوس حتى يكون له مرتبة معينة فيكون العدول عن لفظها لقصد معنى ثان فإن قوله تعالى : (ذلِكَ الْكِتابُ) مع قرب الكتاب للناطق بآياته عدول عن إشارة القريب إلى البعيد فأفاد التعظيم. وعكس هذا قول قيس بن الخطيم :

متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة

لنفسي إلا قد قضيت قضاءها

فإن الموت بعيد عنه فحقه أن يشير إليه باسم البعيد ، وعدل عنه إلى إشارة القريب لإظهار استخفافه به.

والاشتراء افتعال من الشرى وفعله شرى الذي هو بمعنى باع كما أن اشترى بمعنى ابتاع فاشترى وابتاع كلاهما مطاوع لفعله المجرد أشار أهل اللسان إلى أن فاعل هذه المطاوعة هو الذي قبل الفعل والتزمه فدلوا بذلك على أنه آخذ شيئا لرغبة فيه ، ولما كان معنى البيع مقتضيا آخذين وباذلين كان كل منهما بائعا ومبتاعا باختلاف الاعتبار ، ففعل باع

٢٩٣

منظور فيه ابتداء إلى معنى البذل والفعل ابتاع منظور فيه ابتداء إلى معنى الأخذ فإن اعتبره المتكلم آخذا لما صار بيده عبّر عنه بمبتاع ومشتر ، وإن اعتبره باذلا لما خرج من يده من العوض ، عبّر عنه ببائع وشار ، وبهذا يكون الفعلان جاريين على سنن واحد ، وقد ذكر كثير من اللغويين أن شرى يستعمل بمعنى اشترى والذي جرّأهم على ذلك سوء التأمل في قوله تعالى : (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) [يوسف : ٢٠] فتوهموا الضمير عائدا إلى المصريين مع أن معاده واضح قريب وهو سيارة من قوله تعالى : (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ) [يوسف : ١٩] أي باعوه ، وحسبك شاهدا على ذلك قوله : (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) [يوسف : ٢٠] أما الذي اشتراه فهو فيه من الراغبين ألا ترى إلى قوله لامرأته : (أَكْرِمِي مَثْواهُ) [يوسف : ٢١].

وعلى ذينك الاعتبارين في فعلي الشراء والبيع كانت تعديتهما إلى المفعول فهما يتعديان إلى المقصود الأصلي بأنفسهما وإلى غيره بالباء فيقال باع فرسه بألف وابتاع فرس فلان بألف لأن الفرس هو الذي كانت المعاقدة لأجله لأن الذي أخرجه ليبيعه علم أن الناس يرغبون فيه والذي جاء ليشتريه كذلك.

وإطلاق الاشتراء هاهنا مجاز مرسل بعلاقة اللزوم ، أطلق الاشتراء على لازمه الثاني وهو الحرص على شيء والزهد في ضده أي حرصوا على الضلالة ، وزهدوا في الهدى إذ ليس في ما وقع من المنافقين استبدال شيء بشيء إذ لم يكونوا من قبل مهتدين.

ويجوز أن يكون الاشتراء مستعملا في الاستبدال وهو لازمه الأول واستعماله في هذا اللازم مشهور. قال بشامة بن حزن :

إنّا بني نهشل لا ندّعي لأب

عنه ولا هو بالأبناء يشرينا

أي يبيعنا أي يبدلنا ، وقال عنترة بن الأخرس المعني من شعراء «الحماسة» :

ومن إن بعت منزلة بأخرى

حللت بأمره وبه تسير

أي إذا استبدلت دارا بأخرى. وهذا بخلاف قول أبي النجم :

أخذت بالجمة رأسا أزعرا

وبالطويل العمر عمرا جيدرا

فيكون الحمل عليه هنا أن اختلاطهم كما اشترى المسلم إذ تنصرا بالمسلمين وإظهارهم الإيمان حالة تشبه حال المهتدي تلبّسوا بها فإذا خلوا إلى شياطينهم طرحوها واستبدلوها بحالة الضلال وعلى هذا الوجه الثاني يصح أيضا أن يكون الاشتراء استعارة بتشبيه تينك الحالتين بحال المشتري لشيء كان غير جائز له وارتضاه في «الكشاف».

٢٩٤

والموصول في قوله (الَّذِينَ اشْتَرَوُا) بمعنى المعرف بلام الجنس فيفيد التركيب قصر المسند على المسند إليه وهو قصر ادعائي باعتبار أنهم بلغوا الغاية في اشتراء الضلالة والحرص عليها إذ جمعوا الكفر والسفه والخداع والإفساد والاستهزاء بالمهتدين.

(فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ).

رتّبت الفاء عدم الربح المعطوف بها وعدم الاهتداء المعطوف عليه على اشتراء الضلالة بالهدى لأن كليهما ناشئ عن الاشتراء المذكور في الوجود والظهور ؛ لأنهم لما اشتروا الضلالة بالهدى فقد اشتروا ما لا ينفع وبذلوا ما ينفع فلا جرم أن يكونوا خاسرين وأن يتحقق أنهم لم يكونوا مهتدين فعدم الاهتداء وإن كان سابقا على اشتراء الضلالة بالهدى أو هو عينه أو هو سببه إلا أنه لكونه عدما فظهوره للناس في الوجود لا يكون إلا عند حصول أثره وهو ذلك الاشتراء ، فإذا ظهر أثره تبين للناس المؤثر فلذلك صح ترتيبه بفاء الترتيب فأشبه العلة الغائية ، ولهذا عبر ب (ما كانُوا مُهْتَدِينَ) دون ما اهتدوا لأن ما كانوا أبلغ في النفي لإشعاره بأن انتفاء الاهتداء عنهم أمر متأصل سابق قديم ، لأن كان تدل على اتصاف اسمها بخبرها منذ المضي فكان نفي الكون في الزمن الماضي أنسب بهذا التفريع.

والربح هو نجاح التجارة ومصادفة الرغبة في السلع بأكثر من الأثمان التي اشتراها بها التاجر ويطلق الربح على المال الحاصل للتاجر زائدا على رأس ماله. والتجارة ـ بكسر أوله ـ على وزن فعالة وهي زنة الضائع ومعنى التجارة التصدي لاشتراء الأشياء لقصد بيعها بثمن أوفر مما اشترى به ليكتسب من ذلك الوفر ما ينفقه أو يتأثله. ولما كان ذلك لا ينجح إلا بالمثابرة والتجديد صيغ له وزن الضائع ونفي الربح في الآية تشبيه لحال المنافقين إذ قصدوا من النفاق غاية فأخفقت مساعيهم وضاعت مقاصدهم بحال التجار الذين لم يحصلوا من تجارتهم على ربح فلا التفات إلى رأس مال في التجارة حتى يقال إنهم إذا لم يربحوا فقد بقي لهم نفع رأس المال ويجاب بأن نفي الربح يستلزم ضياع رأس المال لأنه يتلف في النفقة من القوت والكسوة لأن هذا كله غير منظور إليه إذ الاستعارة تعتمد على ما يقصد من وجه الشبه فلا تلزم المشابهة في الأمور كلها كما هو مقرر في فن البيان.

وإنما أسند الربح إلى التجارة حتى نفي عنها لأن الربح لما كان مسببا عن التجارة وكان الرابح هو التاجر صح إسناده للتجارة لأنها سببه فهو مجاز عقلي وذلك أنه لو لا

٢٩٥

الإسناد المجازي لما صح أن ينفى عن الشيء ما يعلم كل أحد أنه ليس من صفاته لأنه يصير من باب الإخبار بالمعلوم ضرورة ، فلا تظنن أن النفي في مثل هذا حقيقة فتتركه ، إن انتفاء الربح عن التجارة واقع ثابت لأنها لا توصف بالربح وهكذا تقول في نحو قول جرير :

«ونمت وما ليل المطي بنائم»

بخلاف قولك ما ليله بطويل ، بل النفي هنا مجاز عقلي لأنه فرع عن اعتبار وصف التجارة بأنها إلى الخسر ووصفها بالربح مجاز وقاعدة ذلك أن تنظر في النفي إلى المنفي لو كان مثبتا فإن وجدت إثباته مجازا عقليا فاجعل نفيه كذلك وإلا فاجعل نفيه حقيقة لأنه لا ينفى إلا ما يصح أن يثبت. وهذه هي الطريقة التي انفصل عليها المحقق التفتازانيّ في «المطول» ، وعدل عنها في «حواشي الكشاف» وهي أمثل مما عدل إليه.

وقد أفاد قوله : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) ترشيحا للاستعارة في (اشْتَرَوُا) فإن مرجع الترشيح إلى أن يقفى المجاز بما يناسبه سواء كان ذلك الترشيح حقيقة بحيث لا يستفاد منه إلا تقوية المجاز كما تقول له يد طولى أو هو أسد دامي البراثن أم كان التشريح متميزا به أو مستعارا لمعنى آخر هو من ملائمات المجاز الأول سواء حسن مع ذلك استقلاله بالاستعارة كما في هذه الآية فإن نفي الربح ترشح به (اشْتَرَوُا). ومثله قول الشاعر أنشده ابن الأعرابي كما في «أساس البلاغة» للزمخشري ولم يعزه :

ولما رأيت النّسر عزّ ابن داية

وعشّش في وكريه جاش له صدري (١)

فإنه لما شبه الشيب بالنسر والشعر الأسود بالغراب صح تشبيه حلول الشيب في محلي السواد وهما الفودان بتعشيش الطائر في موضع طائر آخر ؛ أم لم يحسن إلا مع المجاز الأول كقول بعض فتّاك العرب في أمه (أنشده في «الكشاف» ولم أقف على تعيين قائله) :

وما أمّ الرّدين وإن أدلّت

بعالمة بأخلاق الكرام

__________________

(١) عز : غلب ، وابن داية من أسماء الغراب ، سمي ابن داية لسواده ، لأن الداية : الحاضنة ، وكانت حواضن أبناء العرب والمشتغلات في شئونهم في بيوت أكابرهم هن الإماء السود ، فيطلق على الصبيان من أبناء الإماء ابن داية تأنيسا له لئلا يقال العبد أو الوصيف.

٢٩٦

إذا الشيطان قصّع في قفاها

تنفّقناه بالحبل التّوأم

فإنه لما استعار قصع لدخول الشيطان أي وسوسته وهي استعارة حسنة لأنه شبه الشيطان بضب يدخل للوسوسة ودخوله من مدخله المتعارف له وهو القاصعاء ، وجعل علاجهم وإزالة وسوسته كالتنفق أي تطلب خروج الضب من نافقائه بعد أن يسد عليه القاصعاء ولا تحسن هذه الثانية إلا تبعا للأولى. والآية ليست من هذا القبيل. وقوله : (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) قد علم من قوله : (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) إلى : (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) ، فتعين أن الاهتداء المنفي هو الاهتداء بالمعنى الأصلي في اللغة وهو معرفة الطريق الموصل للمقصود وليس هو بالمعنى الشرعي المتقدم في قوله : (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) فلا تكرير في المعنى فلا يرد أنهم لما أخبر عنهم بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى كان من المعلوم أنه لم يبق فيهم هدى.

ومعنى نفي الاهتداء كناية عن إضاعة القصد أي إنهم أضاعوا ما سعوا له ولم يعرفوا ما يوصل لخير الآخر ولا ما يضر المسلمين. وهذا نداء عليهم بسفه الرأي والخرق وهو كما علمت فيما تقدم يجري مجرى العلة لعدم ربح التجارة ، فشبه سوء تصرفهم حتى في كفرهم بسوء تصرف من يريد الربح ، فيقع في الخسران. فقوله : (وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) تمثيلية ويصح أن يؤخذ منها كناية عن الخسران وإضاعة كل شيء لأن من لم يكن مهتديا أضاع الربح وأضاع رأس المال بسوء سلوكه.

[١٧] (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧))

(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً).

أعقبت تفاصيل صفاتهم بتصوير مجموعها في صورة واحدة ، بتشبيه حالهم بهيئة محسوسة ، وهذه طريقة تشبيه التمثيل ، إلحاقا لتلك الأحوال المعقولة بالأشياء المحسوسة ، لأن النفس إلى المحسوس أميل.

وإتماما للبيان بجمع المتفرقات في السمع ، المطالة في اللفظ ، في صورة واحدة لأن للإجمال بعد التفصيل وقعا من نفوس السامعين.

وتقريرا لجميع ما تقدم في الذهن بصورة تخالف ما صور سالفا لأن تجدد الصورة عند النفس أحب من تكررها. قال في «الكشاف» : «ولضرب العرب الأمثال واستحضار

٢٩٧

العلماء المثل والنظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خبيات المعاني ورفع الأستار عن الحقائق حتى تريك المتخيل في صورة المحقق والمتوهم في معرض المتيقن والغائب كالمشاهد».

واستدلالا على ما يتضمنه مجموع تلك الصفات من سوء الحالة وخيبة السعي وفساد العاقبة ، فمن فوائد التشبيه قصد تفظيع المشبه.

وتقريبا لما في أحوالهم في الدين من التضاد والتخالف بين ظاهر جميل وباطن قبيح بصفة حال عجيبة من أحوال العالم فإن من فائدة التشبيه إظهار إمكان المشبه ، وتنظير غرائبه بمثلها في المشبه به. قال في «الكشاف» : «ولأمر ما أكثر الله تعالى في كتابه المبين أمثاله وفشت في كلام رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكلام الأنبياء والحكماء قال تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) [العنكبوت : ٤٣] ا ه.

والتمثيل منزع جليل بديع من منازع البلغاء لا يبلغ إلى محاسنه غير خاصتهم. وهو هنا من قبيل التشبيه لا من الاستعارة لأن فيه ذكر المشبه والمشبه به وأداة التشبيه وهي لفظ مثل. فجملة : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) واقعة من الجمل الماضية موقع البيان والتقرير والفذلكة ، فكان بينها وبين ما قبلها كمال الاتصال فلذلك فصلت ولم تعطف ، والحالة التي وقع تمثيلها سيجيء بيانها في آخر تفسير الآية.

وأصل المثل بفتحتين هو النظير والمشابه ، ويقال أيضا مثل بكسر الميم وسكون الثاء ، ويقال : مثيل كما يقال : شبه وشبه وشبيه ، وبدل وبدل ، وبديل ، ولا رابع لهذه الكلمات في مجيء فعل وفعل وفعيل بمعنى واحد.

وقد اختص لفظ المثل (بفتحتين) بإطلاقه على الحال الغريبة الشأن لأنها بحيث تمثل للناس وتوضح وتشبه سواء شبهت كما هنا ، أم لم تشبه كما في قوله تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ) [الرعد : ٣٥].

وبإطلاقه على قول يصدر في حال غريبة فيحفظ ويشيع بين الناس لبلاغة وإبداع فيه ، فلا يزال الناس يذكرون الحال التي قيل فيها ذلك القول تبعا لذكره وكم من حالة عجيبة حدثت ونسيت لأنها لم يصدر فيها من قول بليغ ما يجعلها مذكورة تبعا لذكره فيسمى مثلا وأمثال العرب باب من أبواب بلاغتهم وقد خصت بالتأليف ويعرفونه بأنه قول شبه مضربه بمورده وسأذكره قريبا.

٢٩٨

فالظاهر أن إطلاق المثل على القول البديع السائر بين الناس الصادر من قائله في حالة عجيبة هو إطلاق مرتب على إطلاق اسم المثل على الحال العجيبة ، وأنهم لا يكادون يضربون مثلا ولا يرونه أهلا للتسيير وجديرا بالتداول إلا قولا فيه بلاغة وخصوصية في فصاحة لفظ وإيجازه ووفرة معنى ، فالمثل قول عزيز غريب ليس من متعارف الأقوال العامة بل هو من أقوال فحول البلاغة فلذلك وصف بالغرابة (١) أي العزة مثل قولهم : «الصيف ضيعت اللبن» وقولهم : «لا يطاع لقصير أمر» وستعرف وجه ذلك.

ولما شاع إطلاق لفظ المثل (بالتحريك) على الحالة العجيبة الشأن جعل البلغاء إذا أرادوا تشبيه حالة مركبة بحالة مركبة أعني وصفين منتزعين من متعدد أتوا في جانب المشبه والمشبه به معا أو في جانب أحدهما بلفظ المثل وأدخلوا الكاف ونحوها من حروف التشبيه على المشبه به منهما ولا يطلقون ذلك على التشبيه البسيط فلا يقولون مثل فلان كمثل الأسد وقلما شبهوا حالا مركبة بحال مركبة مقتصرين على الكاف كقوله تعالى : (إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ) [الرعد : ١٤] بل يذكرون لفظ المثل في الجانبين غالبا نحو الآية هنا ، وربما ذكروا لفظ المثل في أحد الجانبين كقوله : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ) [يونس : ٢٤] الآية وذلك ليتبادر للسامع أن المقصود تشبيه حالة بحالة لا ذات بذات ولا حالة بذات فصار لفظ المثل في تشبيه الهيئة منسيا من أصل وضعه ومستعملا في معنى الحالة فلذلك لا يستغنون عن الإتيان بحرف التشبيه حتى مع وجود لفظ المثل فصارت الكاف في قوله تعالى : (كَمَثَلِ) دالة على التشبيه وليست زائدة كما زعمه الرضى في «شرح الحاجبية» ، وتبعه عبد الحكيم عند قوله تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ) [البقرة : ١٩] وقوفا مع أصل الوضع وإغضاء عن الاستعمال ألا ترى كيف استغنى عن إعادة لفظ المثل عند العطف في قوله تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ) ولم يستغن عن الكاف.

ومن أجل إطلاق لفظ المثل اقتبس علماء البيان مصطلحهم في تسمية التشبيه المركب بتشبيه التمثيل وتسمية استعمال المركب الدال على هيئة منتزعة من متعدد في غير ما وضع له مجموعه بعلاقة المشابهة استعارة تمثيلية وقد تقدم الإلمام بشيء منه عند قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥].

__________________

(١) أشرت بتفسير معنى الغرابة لدفع الحيرة الواقعة في المراد من قول صاحب «الكشاف» : «إلا قولا فيه غرابة إلخ» فقد فسرها الطيبي بغموض الكلام وكونه نادرا معنى ولفظا وهذا لا يطرد وقد سكت عنه الشارحان : السعد والسيد ، وقد حام حوله الخفاجي.

٢٩٩

وإنني تتبعت كلامهم فوجدت التشبيه التمثيلي يعتريه ما يعتري التشبيه المفرد فيجىء في أربعة أقسام :

الأول : ما صرح فيه بأداة التشبيه أو حذفت منه على طريقة التشبيه البليغ كما في هذه الآية وقوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) [البقرة : ١٦] إذا قدرنا أولئك كالذين اشتروا كما قدمنا.

الثاني : ما كان على طريقة الاستعارة التمثيلية المصرحة بأن يذكروا اللفظ الدال بالمطابقة على الهيئة المشبه بها ويحذف ما يدل على الهيئة المشبهة نحو المثال المشهور وهو قولهم : إني أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى.

الثالث : تمثيلية مكنية وهي أن تشبه هيئة ولا يذكر اللفظ الدال على الهيئة المشبه بها بل يرمز إليه بما هو لازم مشتهر من لوازمه ، وقد كنت أعد مثالا لهذا النوع خصوص الأمثال المعروفة بهذا اللقب نحو الصيف ضيعت اللبن وبيدي لا بيد عمرو ونحوها من الأمثال فإنها ألفاظ قيلت عند أحوال واشتهرت وسارت حتى صار ذكرها ينبئ بتلك الأحوال التي قيلت عندها وإن لم يذكر اللفظ الدال على الحالة ، وموجب شهرتها سيأتي. ثم لم يحضرني مثال للمكنية التمثيلية من غير باب الأمثال حتى كان يوم حضرت فيه جنازة ، فلما دفنوا الميت وفرغوا من مواراته التراب ضج أناس بقولهم : «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة» فقلت إن الذين سنوا هذه المقالة في مثل هذه الحالة ما أرادوا إلا تنظير هيئة حفرهم للميت بهيئة الذين كانوا يحفرون الخندق مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ كانوا يكررون هذه المقالة كما ورد في كتب السنة قصدا من هذا التنظير أن يكون حفرهم ذلك شبيها بحفر الخندق في غزوة الأحزاب بجامع رجاء القبول عند الله تعالى فلم يذكروا ما يدل على الشبه به ولكنهم طووه ورمزوا إليه بما هو من لوازمه التي عرف بها وهو قول النبي تلك المقالة ثم ظفرت بقول أحمد بن عبد ربه الأندلسي :

وقل لمن لام في التصابي

خلّ قليلا عن الطريق

فرأيته من باب التمثيلية المكنية فإنه حذف المشبه به وهو حال المتعرض لسائر في طريقه يسده عليه ويمنعه المرور به وأتى بشيء من لوازم هذه الحالة وهو قول السائر للمتعرض : خل عن الطريق.

رابعها : تمثيلية تبعية كقول أبي عطاء السندي :

ذكرتك والخطي يخطر بيننا

وقد نهلت منى المثقّفة السّمر

٣٠٠