تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٣٥

اعتقاد مقرر في نفوسهم يشيعونه بين الناس بألسنتهم قد أنبأ بغرور عظيم من شأنه أن يقدمهم على تلك الجريمة وغيرها إذ هم قد أمنوا من المؤاخذة إلا أياما معدودة تعادل أيام عبادة العجل أو أياما عن كل ألف سنة من العالم يوم وإن ذلك عذاب مكتوب على جميعهم فهم لا يتوقون الإقدام على المعاصي لأجل ذلك ، فبالعطف على أخبارهم حصلت فائدة الإخبار عن عقيدة من ضلالاتهم. ولموقع هذا العطف حصلت فائدة الاستئناف البياني إذ يعجب السامع من جرأتهم على هذا الإجرام.

وقوله : (وَقالُوا) أراد به أنهم قالوه عن اعتقاد لأن الأصل الصدق في القول حتى تقوم القرينة على أنه قول على خلاف الاعتقاد كما في قوله (قالُوا آمَنَّا) [البقرة : ١٤] ولأجل أن أصل القول أن يكون على وفق الاعتقاد ساغ استعمال القول في معنى الظن والاعتقاد في نحو قولهم : قال مالك ، وفي نحو قول عمرو بن معد يكرب :

علام تقول الرمح يثقل عاتقي

والمس حقيقته اتصال اليد بجرم من الأجرام وكذلك اللمس قال تعالى : (وَالَّذِينَ كَذَّبُوا)(١)(بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ) [الأنعام : ٤٩].

وعبر عن نفيهم بحرف (لن) الدال على تأييد النفي تأكيدا لانتفاء العذاب عنهم بعد تأكيد ، ولدلالة (لن) على استغراق الأزمان تأتّى الاستثناء من عموم الأزمنة بقوله : (إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) على وجه التفريع فهو منصوب على الظرفية.

والوصف بمعدودة مؤذن بالقلة لأن المراد بالمعدود الذي يعده الناس إذا رأوه أو تحدثوا عنه ، وقد شاع في العرف والعوائد أن الناس لا يعمدون إلى عد الأشياء الكثيرة دفعا للملل أو لأجل الشغل سواء عرفوا الحساب أم لم يعرفوه لأن المراد العد بالعين واللسان لا العد بجمع الحسابات إذ ليس مقصودا هنا.

وتأنيث (معدودة) وهو صفة (أياما) مراعى فيه تأويل الجمع بالجماعة وهي طريقة عربية مشهورة ولذلك كثر في صفة الجمع إذا أنثوها أن يأتوا بها بصيغة الإفراد إلا إذا أرادوا تأويل الجمع بالجماعات ، وسيأتي ذلك في قوله تعالى : (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) [البقرة : ١٨٤].

__________________

(١) في المطبوعة كفروا وهو غلط.

٥٦١

وقوله : (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً) جواب لكلامهم ولذلك فصل على طريقة المحاورات كما قدمناه في قوله تعالى : (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) [البقرة : ٣٠] والاستفهام غير حقيقي بدليل قوله بعده (بَلى) فهو استفهام تقريري للإلجاء إلى الاعتراف بأصدق الأمرين وليس إنكاري لوجود المعادل وهو (أَمْ تَقُولُونَ) لأن الاستفهام الإنكاري لا معادل له.

والمراد بالعهد الوعد المؤكد فهو استعارة ، لأن أصل العهد هو الوعد المؤكد بقسم والتزام ، ووعد الذي لا يخلف الوعد كالعهد ، ويجوز أن يكون العهد هنا حقيقة لأنه في مقام التقرير دال على انتفاء ذلك.

وذكر الاتخاذ دون أعاهدتم أو عاهدكم لما في الاتخاذ من توكيد العهد و«عند» لزيادة التأكيد يقولون اتخذ يدا عند فلان.

وقوله : (فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ) الفاء فصيحة دالة على شرط مقدر وجزائه وما بعد الفاء هو علة الجزاء والتقدير فإن كان ذلك فلكم العذر في قولكم لأن الله لا يخلف عهده وتقدم ذلك عند قوله تعالى : (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً) [البقرة : ٦٠]. ولكون ما بعد فاء الفصيحة دليل شرط وجزائه لم يلزم أن يكون ما بعدها مسببا عما قبلها ولا مترتبا عنه حتى يشكل عليه عدم صحة ترتب الجزاء في الآية على الشرط المقدر لأن (لن) للاستقبال.

و (أم) في قوله : (أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) معادلة همزة الاستفهام فهي متصلة وتقع بعدها الجملة كما صرح به ابن الحاجب في «الإيضاح» وهو التحقيق كما قال عبد الحكيم ، فما قاله صاحب «المفتاح» من أن علامة أم المنقطعة كون ما بعدها جملة أمر أغلبي ولا معنى للانقطاع هنا لأنه يفسد ما أفاده الاستفهام من الإلجاء والتقرير.

وقوله : (بَلى) إبطال لقولهم : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) ، وكلمات الجواب تدخل على الكلام السابق لا على ما بعدها فمعنى بلى بل أنتم تمسكم النار مدة طويلة.

وقوله : (مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) سند لما تضمنته (بلى) من إبطال قولهم ، أي ما أنتم إلا ممن كسب سيئة إلخ ومن كسب سيئة وأحاطت به خطيئاته فأولئك أصحاب النار فأنتم منهم لا محالة على حد قول لبيد :

٥٦٢

تمنّى ابنتاي أن يعيش أبوهما

وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر

أي فلا أخلد كما لم يخلد بنو ربيعة ومضر ، فمن في قوله : (مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) شرطية بدليل دخول الفاء في جوابها وهي في الشرط من صيغ العموم فلذلك كانت مؤذنة بجملة محذوفة دل عليها تعقيب (بلى) بهذا العموم لأنه لو لم يرد به أن المخاطبين من زمر هذا العموم لكان ذكر العموم بعدها كلاما متناثرا ففي الكلام إيجاز الحذف ليكون المذكور كالقضية الكبرى لبرهان قوله : (بَلى).

والمراد بالسيئة هنا السيئة العظيمة وهي الكفر بدليل العطف عليها بقوله : (وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ).

وقوله : (وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) الخطيئة اسم لما يقترفه الإنسان من الجرائم وهي فعيلة بمعنى مفعولة من خطى إذا أساء ، والإحاطة مستعارة لعدم الخلو عن الشيء لأن ما يحيط بالمرء لا يترك له منفذا للإقبال على غير ذلك قال تعالى : (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ) [يونس : ٢٢] وإحاطة الخطيئات هي حالة الكفر لأنها تجرّئ على جميع الخطايا ولا يعتبر مع الكفر عمل صالح كما دل عليه قوله : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) [البلد : ١٧]. فلذلك لم تكن في هذه الآية حجة للزاعمين خلود أصحاب الكبائر من المسلمين في النار إذ لا يكون المسلم محيطة به الخطيئات بل هو لا يخلو من عمل صالح وحسبك من ذلك سلامة اعتقاده من الكفر وسلامة لسانه من النطق بكلمة الكفر الخبيثة.

والقصر المستفاد من التعريف في قوله : (فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) قصر إضافي لقلب اعتقادهم.

وقوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) تذييل لتعقيب النذارة بالبشارة على عادة القرآن.

والمراد بالخلود هنا حقيقته.

[٨٣] (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣))

أعيد ذكر أحوال بني إسرائيل بعد ذلك الاستطراد المتفنن فيه ، فأعيد الأسلوب

٥٦٣

القديم وهو العطف بإعادة لفظ (إذ) في أول القصص. وأظهر هنا لفظ (بَنِي إِسْرائِيلَ) وعدل عن الأسلوب السابق الواقع فيه التعبير بضمير الخطاب المراد به سلف المخاطبين وخلفهم لوجهين : أحدهما أن هذا رجوع إلى مجادلة بني إسرائيل وتوقيفهم على مساويهم فهو افتتاح ثان جرى على أسلوب الافتتاح الواقع في قوله تعالى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) [البقرة : ٤٠] الآية. ثانيهما : أن ما سيذكر هنا لما كان من الأحوال التي اتصف بها السلف والخلف وكان المقصود الأول منه إثبات سوء صنيع الموجودين في زمن القرآن تعين أن يعبر عن سلفهم باللفظ الصريح ليتأتى توجيه الخطاب من بعد ذلك إلى المخاطبين حتى لا يظن أنه من الخطاب الذي أريد به أسلافهم على وزان (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) [البقرة : ٤٩] أو على وزان (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ) [البقرة : ٥١].

وقوله : (مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) أريد به أسلافهم لأنهم الذين أعطوا الميثاق لموسى على امتثال ما أنزل الله من التوراة كما قدمناه ، أو المراد بلفظ (بني إسرائيل) المتقدمون والمتأخرون ، والمراد بالخطاب في (تَوَلَّيْتُمْ) خصوص من بعدهم لأنهم الذين تولوا فليس في الكلام التفات ما ، وهو أولى من جعل ما صدق (بَنِي إِسْرائِيلَ) هو ما صدق ضمير (تَوَلَّيْتُمْ) وأن الكلام التفات.

وقوله : (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) خبر في معنى الأمر ومجيء الخبر للأمر أبلغ من صيغة الأمر لأن الخبر مستعمل في غير معناه لعلاقة مشابهة الأمر الموثوق بامتثاله بالشيء الحاصل حتى إنه يخبر عنه. وجملة (لا تَعْبُدُونَ) مبدأ بيان للميثاق فلذلك فصلت وعطف ما بعدها عليها ليكون مشاركا لها في معنى البيانية سواء قدّرت أن أو لم تقدّرها أو قدّرت قولا محذوفا.

وقوله : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) هو مما أخذ عليهم الميثاق به وهو أمر مؤكد لما دل عليه تقديم المتعلق على متعلقه وهما (بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) وأصله وإحسانا بالوالدين ، والمصدر بدل من فعله والتقدير وأحسنوا بالوالدين إحسانا. ولا يريبكم أنه معمول مصدر وهو لا يتقدم على عامله على مذهب البصريين لأن تلك دعوى واهية دعاهم إليها أن المصدر في معنى أن والفعل فهو في قوة الصلة ومعمول الصلة لا يتقدم عليها مع أن أن والفعل هي التي تكون في معنى المصدر لا العكس ، والعجب من ابن جني كيف تابعهم في «شرحه للحماسة» على هذا عند قول الحماسي :

٥٦٤

وبعض الحلم عند الجهل للذلة إذعان

وعلى طريقتهم تعلق قوله : (بِالْوالِدَيْنِ) بفعل محذوف تقديره وأحسنوا ، وقوله : (إِحْساناً) مصدر ويرد عليهم أن حذف عامل المصدر المؤكد ممتنع لأنه تبطل به فائدة التأكيد الحاصلة من التكرير فلا حاجة إلى جميع ذلك. ونجزم بأن المجرور مقدم على المصدر ، على أن التوسع في المجرورات أمر شائع وأصل مفروغ منه.

واليتامى جمع يتيم كالندامى للنديم وهو قليل في جمع فعيل.

وجعل الإحسان لسائر الناس بالقول لأنه القدر الذي يمكن معاملة جميع الناس به وذلك أن أصل القول أن يكون عن اعتقاد ، فهم إذا قالوا للناس حسنا فقد أضمروا لهم خيرا وذلك أصل حسن المعاملة مع الخلق قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه».

وقد علمنا الله تعالى ذلك بقوله : (وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) [الحشر : ١٠] على أنه إذا عرض ما يوجب تكدر الخاطر فإن القول الحسن يزيل ما في نفس القائل من الكدر ويرى للمقول له الصفاء فلا يعامله إلا بالصفاء قال المعري :

والخل كالماء يبدي لي ضمائره

مع الصفاء ويخيفها مع الكدر

على أن الله أمر بالإحسان الفعلي حيث يتعين ويدخل تحت قدرة المأمور وذلك الإحسان للوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين وإيتاء الزكاة ، وأمر بالإحسان القولي إذا تعذر الفعلي على حد قول أبي الطيب :

فليسعد النطق إن لم تسعد الحال

وقوله : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) أطلقت الزكاة فيه على الصدقة مطلقا أو على الصدقة الواجبة على الأموال : وليس المراد الكناية عن شريعة الإسلام لما علمت من أن هاته المعاطيف تابعة لبيان الميثاق وهو عهد موسى عليه‌السلام.

وقوله : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ) خطاب للحاضرين وليس بالتفات كما علمت آنفا. والمعنى أخذنا ميثاق الأمة الإسرائيلية على التوحيد وأصول الإحسان فكنتم ممن تولى عن ذلك وعصيتم شرعا اتبعتموه. والتولي الإعراض وإبطال ما التزموه ، وحذف متعلقه لدلالة ما تقدم عليه ، أي توليتم عن جميع ما أخذ عليكم الميثاق به أي أشركتم بالله وعبدتم الأصنام وعققتم الوالدين وأسأتم لذوي القربى واليتامى والمساكين وقلتم للناس أفحش القول وتركتم الصلاة ومنعتم الزكاة.

٥٦٥

ويجوز أن يكون المراد بالخطاب في (تَوَلَّيْتُمْ) المخاطبين زمن نزول الآية ، وبعض من تقدمهم من متوسط عصور الإسرائيليين فيكون ضمير الخطاب تغليبا ، نكتته إظهار براءة الذين أخذ عليهم العهد أولا من نكثه وهو من الإخبار بالجمع والمراد التوزيع أي توليتم فمنكم من لم يحسن للوالدين وذي القربى إلخ وهذا من صفات اليهود في عصر نزول الآية كما سيأتي في تفسير الآية التي بعدها ، ومنكم من أشرك بالله وهذا لم ينقل عن يهود زمن النزول وإنما هو من صفات من تقدمهم من بعد سليمان فقد كانت من ملوك إسرائيل عبدة أصنام وتكرر ذلك فيهم مرارا كما هو مسطور في سفري الملوك الأول والثاني من التوراة.

و (ثم) للترتيبين الترتبي والخارجي.

وقوله : (إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ) إنصاف لهم في توبيخهم ومذمتهم وإعلان بفضل من حافظ على العهد.

وقوله : (وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) جملة حالية ولكونها اسمية أفادت أن الإعراض وصف ثابت لهم وعادة معروفة منهم كما أشار إليه في «الكشاف» وهو مبني على اعتبار اسم الفاعل مشتقا من فعل منزل منزلة اللازم ولا يقدر له متعلق ويجوز أن يقدر مشتقا من فعل حذف متعلقه تعويلا على القرينة أي وأنتم معرضون عن الوصايا التي تضمنت ذلك الميثاق أي توليتم عن تعمد وجرأة وقلة اكتراث بالوصايا وتركا للتدبر فيها والعمل بها.

[٨٤ ـ ٨٦] (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦))

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ).

٥٦٦

تفنن الخطاب هنا فجاء على نسق ما قبل الآية السابقة ، إذ عبر هنا عن جميع بني إسرائيل بضمير الخطاب على طريق التغليب لأن المخاطبين حين نزول القرآن (١) هم المقصودون من هذه الموعظة أو على طريق تنزيل الخلف منزلة السلف كما تقدم ، لأن الداعي للإظهار عند الانتقال من الاستطراد إلى بقية المقصود في الآية السابقة قد أخذ ما يقتضيه فعاد أسلوب الخطاب إلى ما كان عليه.

والقول في (لا تَسْفِكُونَ) كالقول في (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) [البقرة : ٨٣] والسفك الصب. وإضافة الدماء إلى ضمير فاعل (تَسْفِكُونَ) اقتضت أن مفعول (تَسْفِكُونَ) هو دماء السافكين وليس المراد النهي عن أن يسفك الإنسان دم نفسه أو يخرج نفسه من داره لأن مثل هذا مما يزع المرء عنه وازعه الطبيعي فليس من شأن الشريعة الاهتمام بالنهي عنه ، وإنما المراد أن لا يسفك أحد دم غيره ولا يخرج غيره من داره على حد قوله تعالى : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) [النور : ٦١] أي فليسلم بعضكم على بعض.

فوجه إضافة الدماء إلى ضمير السافكين أن هذه الأحكام المتعلقة بالأمة أو القبيلة يكون مدلول الضمائر فيها مجموع الناس ، فإذا تعلقت أحكام بتلك الضمائر من إسناد أو مفعولية أو إضافة أرجع كل إلى ما يناسبه على طريقة التوزيع وهذا كثير في استعمال القرآن ونكتته الإشارة إلى أن المغايرة في حقوق أفراد الأمة مغايرة صورية وأنها راجعة إلى شيء واحد وهو المصلحة الجامعة أو المفسدة الجامعة ، ومثله قوله تعالى : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) [البقرة : ١٨٨] ومن هذا القبيل قول الحماسي الحارث بن وعلة الذهلي :

قومي هم قتلوا أميم أخي

فإذا رميت يصيبني سهمي

فلئن عفوت لأعفون جللا

ولئن سطوت لأوهنن عظمي

يريد أن سهمه إذا أصاب قومه فقد أضرّ بنفسه وإلى هذا الوجه أشار ابن عطية وسماه اللف في القول ، أي الإجمال المراد به التوزيع ، وذهب صاحب «الكشاف» إلى أنه من تشبيه الغير بالنفس لشدة اتصال الغير بالنفس في الأصل أو الدين فإذا قتل المتصل به نسبا أو دينا فكأنما قتل نفسه وهو قريب من الأول ومبناه على المجاز في الضمير المضاف إليه في قوله : (دِماءَكُمْ) و (أَنْفُسَكُمْ).

__________________

(١) في المطبوعة (القراءات).

٥٦٧

وقيل : إن المعنى لا تسفكون دماءكم بالتسبب في قتل الغير فيقتص منكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم بالجناية على الغير فتنفوا من دياركم ، وهذا مبني على المجاز التبعي في (تَسْفِكُونَ) و (تُخْرِجُونَ) بعلاقة التسبب.

وأشارت هذه الآية إلى وصيتين من الوصايا الإلهية الواقعة في العهد المعروف بالكلمات العشر المنزلة على موسى عليه‌السلام من قوله : «لا تقتل ، لا تشته بيت قريبك» فإن النهي عن شهوة بيت القريب لقصد سد ذريعة السعي في اغتصابه منه بفحوى الخطاب. وعليه فإضافة (ميثاق) إلى ضمير المخاطبين مراعى فيها أنهم لما كانوا متدينين بشريعة التوراة فقد التزموا بجميع ما تحتوي عليه.

وقوله : (ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) مرتب ترتيبا رتبيا أي أخذ عليكم العهد وأقررتموه أي عملتم به وشهدتم عليه فالضميران في (أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) راجعان لما رجع له ضمير (مِيثاقَكُمْ) وما بعده لتكون الضمائر على سنن واحد في النظم. وجملة (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) حالية أي لا تنكرون إقراركم بذلك إذ قد تقلدتموه والتزمتم التديّن به.

والعطف بثم في قوله : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) للترتيب الرتبي أي وقع ذلك كله وأنتم هؤلاء تقتلون ، والخطاب لليهود الحاضرين في وقت نزول القرآن بقرينة قوله : (هؤُلاءِ) لأن الإشارة لا تكون إلى غائب وذلك نحو قولهم : ها أنا ذا وها أنتم أولاء ، فليست زيادة اسم الإشارة إلا لتعيين مفاد الضمير وهذا استعمال عربي يختص غالبا بمقام التعجب من حال المخاطب وذلك لأن أصل الإخبار أن يكون بين المخبر والمخبر عنه تخالف في المفهوم واتحاد في الصدق في الخارج وهو المعروف عند المناطقة بحمل الاشتقاق نحو أنت صادق ، ولذلك لزم اختلاف المسند والمسند إليه بالجمود والاشتقاق غالبا أو الاتحاد في الاشتقاق ولا تجدهما جامدين إلا بتأويل.

ثم إن العرب قد تقصد من الإخبار معنى مصادفة المتكلم الشيء عين شيء يبحث عنه في نفسه نحو «أنت أبا جهل» قاله له ابن مسعود يوم بدر إذ وجده مثخنا بالجراح صريعا ومصادفة المخاطب ذلك في اعتقاد المتكلم نحو «قال أنا يوسف وهذا أخي» فإذا أرادوا ذلك توسعوا في طريقة الإخبار فمن أجل ذلك صح أن يقال : «أنا ذلك» إذا كانت الإشارة إلى متقرر في ذهن السامع وهو لا يعلم أنه عين المسند إليه كقول خفاف بن ندبة :

٥٦٨

تأمّل خفافا إنني أنا ذلكا (١)

وقول طريف العنبري :

فتوسموني إنني أنا ذلكم (٢)

وأوسع منه عندهم نحو قول أبي النجم :

أنا أبو النجم وشعري شعري

ثم إذا أرادوا العناية بتحقيق هذا الاتحاد جاءوا «بها التنبيه» فقالوا : ها أنا ذا يقوله المتكلم لمن قد يشك أنه هو نحو قول الشاعر :

إن الفتى من يقول ها أنا ذا (٣)

فإذا كان السبب الذي صحح الإخبار معلوما اقتصر المتكلم على ذلك وإلا أتبع مثل ذلك التركيب بجملة تدل على الحال التي اقتضت ذلك الإخبار ولهم في ذلك مراتب :

الأولى (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ) ، الثانية : (ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ) [آل عمران : ١١٩]. ومنه «ها أنا ذا لديكما» قاله أمية بن أبي الصلت. الثالثة (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) [النساء : ١٠٩] ويستفاد معنى التعجب في أكثر مواقعه من القرينة كما تقول لمن وجدته حاضرا وكنت لا تترقب حضوره ها أنت ذا ، أو من الجملة المذكورة بعده إذا كان مفادها عجيبا كما رأيت في الأمثلة.

والأظهر أن يكون الضمير واسم الإشارة مبتدأ وخبرا والجملة بعدهما حالا ، وقيل : هي مستأنفة لبيان منشأ التعجب ، وقيل : الجملة هي الخبر واسم الإشارة منادى معترض ومنعه سيبويه ، وقيل : اسم الإشارة منصوب على الاختصاص وهذا ضعيف.

وعلى الخلاف في موقع الجملة اختلف فيما لو أتى بعدها أنت ذا ونحوه بمفرد فقيل يكون منصوبا على الحال وقيل : مرفوعا على الخبر ولم يسمع من العرب إلا مثال أنشده النحاة وهو قوله :

__________________

(١) قبله «أقول له والرمح يأطر متنه».

(٢) تمامه «شاكي سلاحي في الحوادث معلم».

(٣) تمامه «ليس الفتى من يقول كان أبي».

٥٦٩

أبا حكم ها أنت نجم مجالد

ولأجل ذلك جاء ابن مالك في خطبة «التسهيل» بقوله : وها أنا ساع فيما انتدبت إليه ، وجاء ابن هشام في خطبة «المغني» بقوله : وها أنا مبيح بما أسررته.

واختلف النحاة أيضا في أن وقوع الضمير بعد (ها) التنبيه هل يتعين أن يعقبه اسم الإشارة فقال في «التسهيل» هو غالب لا لازم وقال ابن هشام هو لازم صرح به في «حواشي التسهيل» بنقل الدماميني في «الحواشي المصرية» في الخطبة وفي الهاء المفردة. وقال الرضى إن دخول (ها) التنبيه في الحقيقة إنما هو على اسم الإشارة على ما هو المعروف في قولهم هذا وإنما يفصل بينها وبين اسم الإشارة بفاصل فمنه الضمير المرفوع المنفصل كما رأيت ومنه القسم نحو قول الشاعر من «شواهد الرضي» :

تعلّمن ها لعمر الله ذا قسما

فاقدر بذرعك فانظر أين تنسلك

وشذ بغير ذلك نحو قول النابغة :

ها إنّ تا عذرة إن لا تكن نفعت

فإن صاحبها قد تاه في البلد

وقوله : (تَقْتُلُونَ) حال أو خبر. وعبر بالمضارع لقصد الدلالة على التجدد وأن ذلك من شأنكم وكذلك قوله : (وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ).

وجعل في «الكشاف» المقصود بالخطابات كلها في هذه الآية مرادا به أسلاف الحاضرين وجعل قوله : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ) مع إشعاره بمغايرة المشار إليهم للذين وجه إليهم الخطاب مرادا منه مغايرة تنزيلية لتغير صفات المخاطب الواحد وذلك تكلف ساقه إليه محبة جعل الخطابات في هذه الآية موافقة للخطابات التي في الآي قبلها ، وقد علمت أنه غير لازم وأن المغايرة مقصودة هنا وقد استقامت فلا داعي إلى التكلف.

وقد أشارت هذه الآية إلى ما حدث بين اليهود من التخاذل وإهمال ما أمرتهم به شريعتهم (١) والأظهر أن المقصود يهود قريظة والنضير وقينقاع. وأراد من ذلك بخاصة ما

__________________

(١) ابتدأ التخاذل بين اليهود بعد وفاة سليمان وبيعة ابنه رحبعام ملكا على إسرائيل إذ شق عليه عصا الطاعة غلام أبيه المسمى يربعام وتحزب الأسباط عدا سبطي يهوذا وبنيامين مع يربعام وقد هم رحبعام أن يقاتل من خرج عنه فنهاه النبي شمعيا وبذلك كف رحبعام عن القتال ورضي بمن بقي معه (إصحاح ١٢ ملوك أول) ولما مات رحبعام وولى ابنه «أبيا» جمع جيشا لقتال يربعام عبد جده وصارت بينهم مقاتلات كثيرة في جبل (أفرايم) قيل إن القتلى من الفريقين بلغت خمسمائة ألف (إصحاح ١٣ الأيام الثاني) ثم نشأت بينهم حروب سنة (٤٠) للمسيح.

٥٧٠

حدث بينهم في حروب بعاث القائمة بين الأوس والخزرج وذلك أنه لما تقاتل الأوس والخزرج اعتزل اليهود الفريقين زمنا طويلا والأوس مغلوبون في سائر أيام القتال فدبر الأوس أن يخرجوا يسعون لمحالفة قريظة والنّضير فلما علم الخزرج توعدوا اليهود إن فعلوا ذلك فقالوا لهم : إنا لا نحالف الأوس ولا نحالفكم فطلب الخزرج على اليهود رهائن أربعين غلاما من غلمان قريظة والنضير فسلموهم لهم. ثم إن عمرو بن النعمان البياضي الخزرجي أطمع قومه أن يتحولوا لقريظة والنضير لحسن أرضهم ونخلهم وأرسل إلى قريظة والنضير يقول لهم : إما أن تخلوا لنا دياركم وإما أن نقتل الرهائن فخشي القوم على رهائنهم واستشاروا كعب بن أسيد القرظي فقال لهم : «يا قوم امنعوا دياركم وخلوه يقتل الغلمان فما هي إلا ليلة يصيب أحدكم فيها امرأته حتى يولد له مثل أحدهم» فلما أجابت قريظة والنضير عمرا بأنهم يمنعون ديارهم عدا عمرو على الغلمان فقتلهم فلذلك تحالفت قريظة والنضير مع الأوس فسعى الخزرج في محالفة بني قينقاع من اليهود وبذلك نشأ قتال بين فرق اليهود وكان بينهم يوم بعاث قبل الهجرة بخمس سنين فكانت اليهود تتقاتل وتجلي المغلوبين من ديارهم وتأسرهم ، ثم لمّا ارتفعت الحرب جمعوا مالا وفدوا به أسرى اليهود الواقعين في أسر أحلاف أحد الفريقين من الأوس أو الخزرج فعيرت العرب اليهود بذلك وقالت : كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم بأموالكم فقالوا : قد حرم علينا قتالهم ولكنا نستحي أن نخذل حلفاءنا وقد أمرنا أن نفدي الأسرى فذلك قوله تعالى : (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ).

(وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) (٨٦).

الواو في قوله : (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى) يجوز أن تكون للعطف فهو عطف على قوله : (تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ) فهو من جملة ما وقع التوبيخ عليه مما نكث فيه العهد وهو وإن لم يتقدم في ذكر ما أخذ عليهم العهد ما يدل عليه إلا أنه لما رجع إلى إخراج الناس

٥٧١

من ديارهم كان في جملة المنهيات. ولك أن تجعل الواو للحال من قوله : (وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً) أي تخرجونهم والحال إن أسرتموهم تفدونهم. وكيفما قدرت فقوله : (وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ) جملة حالية من قوله : (يَأْتُوكُمْ) إما حال من معطوف وإما حال من حال إذ ليس فداء الأسير بمذموم لذاته ولكن ذمه باعتبار ما قارنه من سبب الفداء فحمل التوبيخ هو مجموع المفاداة مع كون الإخراج محرما وبعد أن قتلوهم وأخرجوهم ، فجملة (وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ) حالية من ضمير (تُفادُوهُمْ). وصدرت بضمير الشأن للاهتمام بها وإظهار أن هذا التحريم أمر مقرر مشهور لديهم وليست معطوفة على قوله : (وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ) وما بينهما اعتراض لقلة جدواه إذ قد تحقق ذلك بقوله : (وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ).

وفي قوله : (وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ) تشنيع وتبليد لهم إذ توهموا القربة فيما هو من آثار المعصية أي كيف ترتكبون الجناية وتزعمون أنكم تتقربون بالفداء وإنما الفداء المشروع هو فداء الأسرى من أيدي الأعداء لا من أيديكم فهلا تركتم موجب الفداء؟.

وعندي أن في الآية دلالة على ترجيح قول إمام الحرمين في أن الخارج من المغصوب ليس آتيا بواجب ولا بحرام ولكنه انقطع عنه تكليف النهي وأن القربة لا تكون قربة إلا إذا كانت غير ناشئة عن معصية.

والأسارى ـ بضم الهمزة ـ جمع أسير حملا له على كسلان كما حملوا كسلان على أسير فقالوا : كسلى هذا مذهب سيبويه لأن قياس جمعه أسرى كقتلى. وقيل : هو جمع نادر وليس مبنيا على حمل ، كما قالوا قدامى جمع قديم. وقيل : هو جمع جمع فالأسير يجمع على أسرى ثم يجمع أسرى على أسارى وهو أظهر. والأسير فعيل بمعنى مفعول من أسره إذا أوثقه وهو فعل مشتق من الاسم الجامد فإن الإسار هو السّير من الجلد الذي يوثق به المسجون والموثوق وكانوا يوثقون المغلوبين في الحرب بسيور من الجلد ، قال النابغة :

لم يبق غير طريد غير منفلت

أو موثق في حباله القدّ مسلوب

وقرأ الجمهور (أسارى) ، وقرأه حمزة (أسرى).

وقرأ نافع والكسائي وعاصم ويعقوب (تُفادُوهُمْ) بصيغة المفاعلة المستعملة في المبالغة في الفداء أي تفدوهم فداء حريصا ، فاستعمال فادى هنا مسلوب المفاضلة مثل

٥٧٢

عافاه الله وقول امرئ القيس :

فعادى عداء بين ثور ونعجة

دراكا فلم ينضح بماء فيغسل

وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وحمزة وأبو جعفر وخلف (تُفادُوهُمْ) بفتح الفوقية وإسكان الفاء دون ألف بعد الفاء.

والمحرم الممنوع ومادة حرم في كلام العرب للمنع ، والحرام الممنوع منعا شديدا أو الممنوع منعا من قبل الدين ، ولذلك قالوا : الأشهر الحرم وشهر المحرم.

وقوله : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) استفهام إنكاري توبيخي أي كيف تعمدتم مخالفة التوراة في قتال إخوانكم واتبعتموها في فداء أسراهم ، وسمي الاتباع والإعراض إيمانا وكفرا على طريقة الاستعارة لتشويه المشبه وللإنذار بأن تعمد المخالفة للكتاب قد تفضي بصاحبها إلى الكفر به ، وإنما وقع (فَتُؤْمِنُونَ) في حيز الإنكار تنبيها على أن الجمع بين الأمرين عجيب وهو مؤذن بأنهم كادوا أن يجحدوا تحريم إخراجهم أو لعلهم جحدوا ذلك وجحد ما هو قطعي من الدين مروق من الدين.

والفاء عاطفة على (تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) ، وما عطف عليه ، عطفت الاستفهام أو عطفت مقدرا دل عليه الاستفهام وسيأتي تحقيق ذلك قريبا عند قوله (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ) [البقرة : ٨٧].

والفاء في قوله : (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ) فصيحة عاطفة على محذوف دل عليه الاستفهام الإنكاري أو عاطفة على نفس الاستفهام لما فيه من التوبيخ. وقال عبد الحكيم : إن الجملة معترضة والاعتراض بالفاء وهذا بعيد معنى ولفظا ، وأما الأول فلأن الاعتراض في آخر الكلام المعبر عنه بالتذييل لا يكون إلا مفيدا لحاصل ما تقدم وغير مفيد حكما جديدا وأما الثاني فلأن اقتران الجملة المعترضة بحرف غير الواو غير معروف في كلامهم.

والخزي بالكسر ذل في النفس طارئ عليها فجأة لإهانة لحقتها أو معرة صدرت منها أو حيلة وغلبة تمشت عليها وهو اسم لما يحصل من ذلك وفعله من باب سمع فمصدره بفتح الخاء ، والمراد بالخزي ما لحق باليهود بعد تلك الحروب من المذلة بإجلاء النضير عن ديارهم وقتل قريظة وفتح خيبر وما قدر لهم من الذل بين الأمم.

وقرأ الجمهور (يردون) و (يعملون) بياء الغيبة ، وقرأ عاصم في رواية عنه (تردون) بتاء

٥٧٣

الخطاب نظرا إلى معنى (من) وإلى قوله (منكم) ، وقرأ نافع وابن كثير ويعقوب : (يعملون) بياء الغيبة وقرأه الجمهور بتاء الخطاب.

وقد دلت هذه الآية على أن الله يعاقب الحائدين عن الطريق بعقوبات في الدنيا وعقوبات في الآخرة.

وقد وقع اسم الإشارة وهو قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا) موقع نظيره في قوله : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥].

والقول في (اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) كالقول في : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) [البقرة : ١٦]. والقول في (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) قريب من القول في (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ).

وموقع الفاء في قوله : (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) هو الترتب لأن المجرم بمثل هذا الجرم العظيم يناسبه العذاب العظيم ولا يجد نصيرا يدفع عنه أو يخفف.

[٨٧] (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧))

انتقال من الإنحاء على بني إسرائيل في فعالهم مع الرسول موسى عليه‌السلام بما قابلوه به من العصيان والتبرم والتعلل في قبول الشريعة وبما خالفوا من أحكام التوراة بعد موته إلى قرب مجيء الإسلام إلى الإنحاء عليهم بسوء مقابلتهم للرسل الذين أتوا بعد موسى مثل يوشع وإلياس وأرمياء وداود مؤيدين لشريعته ومفسرين وباعثين للأمة على تجديد العمل بالشريعة مع تعدد هؤلاء الرسل واختلاف مشاربهم في الدعوة لذلك المقصد من لين وشدة ، ومن رغبة ورهبة ، ثم جاء عيسى مؤيدا وناسخا ومبشرا فكانت مقابلتهم لأولئك كلهم بالإعراض والاستكبار وسوء الصنيع وتلك أمارة على أنهم إنما يعرضون عن الحق لأجل مخالفة الحق أهواءهم وإلا فكيف لم يجدوا في خلال هاته العصور ومن بين تلك المشارب ما يوافق الحق ويتمحض للنصح. وإن قوما هذا دأبهم يرثه الخلف عن السلف لجديرون بزيادة التوبيخ ليكون هذا حجة عليهم في أن تكذيبهم للدعوة المحمدية مكابرة وحسد حتى تنقطع حجتهم إذ لو كانت معاندتهم للإسلام هي أولى فعلاتهم لأوهموا الناس أنهم ما أعرضوا إلا لما تبين لهم من بطلان فكان هذا مرتبطا بقوله :

٥٧٤

(وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً) [البقرة : ٤١] ومقدمة للإنحاء عليهم في مقابلتهم للدعوة المحمدية الآتي ذكرها في قوله تعالى : (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) [البقرة : ٨٨].

فقوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) تمهيد للمعطوف وهو قوله : (وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ) الذي هو المبني عليه التعجب في قوله : (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ) فقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) تمهيد التمهيد وإلا فهو قد علم من الآيات السابقة فلا مقتضى للإعلام به استقلالا هنا ولكنه ذكر ليبنى عليه ما بعده فكأنه تحصيل لما تقدم أي ولقد كان ما كان مما تقدم وهو إيتاء موسى الكتاب وقفينا أيضا بعده بالرسل فهو كالعلاوة أو كقول القائل هذا وقد كان كذا.

و (قفى) مضاعف قفا تقول قفوت فلانا إذا جئت في إثره لأنك حينئذ كأنك تقصد جهة قفاه فهو من الأفعال المشتقة من الجوامد مثل جبهه ، فصار المضاعف قفاه بفلان تقفية وذلك أنك جعلته مأمورا بأن يقفو بجعل منك لا من تلقاء نفسه أي جعلته يقفوه غيره ولكون المفعول واحدا جعلوا المفعول الثاني عند التضعيف متعلقا بالفعل بباء التعدية لئلا يلتبس التابع بالمتبوع فقالوا : قفّى زيدا بعمرو عوض أن يقولوا : قفى زيدا عمرا.

فمعنى (قَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ) أرسلنا رسلا وقد حذف مفعول (قَفَّيْنا) للعلم به وهو ضمير موسى. وقوله : (مِنْ بَعْدِهِ) أي من بعد ذهابه أي موته ، وفيه إيماء إلى التسجيل على اليهود بأن مجيء الرسل بعد موسى ليس ببدع.

والجمع في الرسل للعدد والتعريف للجنس وهو مراد به التكثير قاله صاحب «الكشاف» أي لأن شأن لفظ الجنس المعرف إذا لم يكن عهد أن يدل على الاستغراق فلما كان الاستغراق هنا متعذرا دل على التكثير مجازا لمشابهة الكثير بجميع أفراد الجنس كقولك لم يبق أحد في البلد لم يشهد الهلال إذا شهده جماعات كثيرة وهو قريب من معنى الاستغراق العرفي (١).

وسمي أنبياء بني إسرائيل الذين من بعد موسى رسلا مع أنهم لم يأتوا بشرع جديد اعتبارا بأن الله لما أمرهم بإقامة التوراة وتفسيرها والتفريع منها فقد جعل لهم تصرفا شرعيا

__________________

(١) لأن الاستغراق العرفي منظور فيه إلى استغراق جميع الأفراد في مكان أو زمان تنزيلا لهم منزلة الكل. وهذا جعل بمعنى الكثرة لا غير.

٥٧٥

وبذلك كانوا زائدين على مطلق النبوة التي لا تعلق لها بالتشريع لا تأصيلا ولا تفريعا. وقال الباقلاني فيما نقله عنه الفخر : لا بد أن يكون هؤلاء الرسل جاءوا بشرع جديد ولو مع المحافظة على الشرع الأول أو تجديد ما اندرس منه وهو قريب مما قلناه قال تعالى : (وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) [الصافات : ١٢٣] وقال : (وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) [الصافات : ١٣٩] وما كان عيسى عليه‌السلام إلا مثلهم في أنه ما أتى بأحكام جديدة إلا شيئا قليلا وخص عيسى بالذكر من بين سائر الأنبياء الذين جاءوا بعد موسى زيادة في التنكيل على اليهود لأنهم يكفرون به ويكذبونه ولذلك أيضا خصه بقوله : (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) ولأن من جاء بعد موسى من الرسل لم يخبروا أن جبريل جاءهم بوحي وعيسى كان أوسع منهم في الرسالة.

وعيسى اسم معرب من يشوع أو يسوع وهو اسم عيسى ابن مريم قلبوه في تعريبه قلبا مكانيا ليجري على وزن خفيف كراهية اجتماع ثقل العجمة وثقل ترتيب حروف الكلمة فإن حرفي علة في الكلمة وشينا والختم بحرف حلق لا يجري هذا التنظيم على طبيعة ترتيب الحروف مع التنفس عند النطق بها فقدموا العين لأنها حلقية فهي مبدأ النطق ثم حركوا حروفه بحركات متناسبة وجعلوا شينه المعجمة الثقيلة سينا مهملة فلله فصاحة العربية. ومعنى يشوع بالعبرانية السيد أو المبارك.

ومريم هي أم عيسى وهذا اسمها بالعبرانية نقل للعربية على حاله لخفته ولا معنى لمريم في العربية غير العلمية إلا أن العرب المتنصرة عاملوه معاملة الصفة في معنى المرأة المتباعدة عن مشاهدة النساء لأن هاته الصفة اشتهرت بها مريم إذ هي أول امرأة عبرانية خدمت بيت المقدس فلذلك يقولون امرأة مريم أي معرضة عن صفات النساء كما يقولون رجل حاتم بمعنى جواد وذلك معلوم منهم في الأعلام المشتهرة بالأوصاف ولذلك قال رؤبة :

قلت لزير لم تزره مريمه (١)

فليس هو مشتقا من رام يريم كما قد يتوهم. وينبغي أن يكون وزنها فعيل بفتح الفاء

__________________

(١) قال في «الكشاف» وزن مريم عند النحويين مفعل لأن فعيل بفتح الفاء لم يثبت أي وثبت فعيل بكسر الفاء نحو عثير للغبار ، لكن الحق أن وزن فعيل ثبت قليلا منه صهين اسم مكان أعني فيختص بالأسماء الجوامد.

٥٧٦

وإن كان نادرا (١).

وعيسى عليه‌السلام هو ابن مريم كونه الله في بطنها بدون مس رجل ، وأمه مريم ابنة عمران من سبط يهوذا.

ولد عيسى في مدة سلطنة أغسطس ملك رومية وفي مدة حكم هيرودس على القدس من جهة سلطان الرومان وذلك في سنة ٤٣٠ عشرين وستمائة قبل الهجرية المحمدية ، وكانت ولادته بقرية تعرف ببيت لحم اليهودية ، ولما بلغ ثلاثين سنة بعث رسولا إلى بني إسرائيل وبقي في الدنيا إلى أن بلغ سنه ثلاثا وثلاثين سنة.

وأما مريم أمه فهي مريم ابنة عمران بن ماثان من سبط يهوذا ولدت عيسى وهي ابنة ثلاث عشرة سنة فتكون ولادتها في سنة ثلاث عشرة قبل ميلاد عيسى وتوفيت بعد أن شاخت ولا تعرف سنة وفاتها ، وكان أبوها مات قبل ولادتها فكفلها زكرياء من بني أبيا وهو زوج اليصابات خالة مريم وكان كاهنا من أحبار اليهود كما سيأتي في سورة آل عمران.

والبينات صفة لمحذوف أي الآيات والمعجزات الواضحات ، (وَأَيَّدْناهُ) قويناه وشددنا عضده ونصرناه وهو مشتق من اسم جامد وهو اليد فأيد بمعنى جعله ذا يد واليد مجاز في القوة والقدرة فوزن أيد أفعل ، ولك أن تجعله مشتقا من الأيد وهو القوة فوزنه فعل.

والتأييد التقوية والإقدار على العمل النفسي وهو مشتق من الأيد وهو القوة قال تعالى : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ) [ص : ١٧] والأيد مشتق من اليد لأنها آلة القدرة والأحسن أن يكون مشتقا من اليد أي جعله ذا يد أي قوة ، والمراد هنا قوة معنوية وهي قوة الرسالة وقوة الصبر على أذى قومه وسيأتي في الأنفال [٦٢] قوله ؛ (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ).

والروح جوهر نوراني لطيف أي غير مدرك بالحواس فيطلق على النفس الإنساني

__________________

(١) الزير بكسر الزاي هو الرجل الذي يميل لمحادثة النساء ومجالستهن وياؤه منقلبة عن الواو ووزنه فعل بكسر الفاء من زار يزور. وقوله مريمه : أي المرأة التي ترغب في محادثته وهذا البيت من قصيدة مدح بها أبا جعفر المنصور.

٥٧٧

الذي به حياة الإنس ، ولا يطلق على ما به حياة العجماوات إلا لفظ نفس ، قال تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء : ٨٥] ويطلق على قوة من لدن الله تعالى يكون بها عمل عجيب ومنه قوله : (فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا) [التحريم : ١٢] ، ويطلق على جبريل كما في قوله : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) [الشعراء : ١٩٣ ، ١٩٤] وهو المراد في قوله تعالى : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها) [القدر : ٤] وقوله : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ) [النبأ : ٣٨].

والقدس بضمتين وبضم فسكون مصدر أو اسم مصدر بمعنى النزاهة والطهارة. والمقدس المطهر وتقدم في قوله تعالى : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) [البقرة : ٣٠].

وروح القدس روح مضاف إلى النزاهة فيجوز أن يكون المراد به الروح الذي نفخ الله في بطن مريم فتكوّن منه عيسى وإنما كان ذلك تأييدا له لأن تكوينه في ذلك الروح اللدني المطهر هو الذي هيأه لأن يأتي بالمعجزات العظيمة ، ويجوز أن يكون المراد به جبريل والتأييد به ظاهر لأنه الذي يأتيه بالوحي وينطق على لسانه في المهد وحين الدعوة إلى الدين وهذا الإطلاق أظهر هنا ، وفي الحديث الصحيح «إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستوفي أجلها». وعلى كلا الوجهين فإضافة (روح) إلى (القدس) إما من إضافة ما حقه أن يكون موصوفا إلى ما حقه أن تشتق منه الصفة ولكن اعتبر طريق الإضافة إلى ما منه اشتقاق الصفة لأن الإضافة أدل على الاختصاص بالجنس المضاف إليه لاقتضاء الإضافة ملابسة المضاف بالمضاف إليه وتلك الملابسة هنا تؤول إلى التوصيف وإلى هذا قال التفتازانيّ في «شرح الكشاف» وأنكر أن يكون المضاف إليه في مثله صفة حقيقة حتى يكون في الوصف بالمصدر.

وقوله تعالى : (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ) هو المقصود من الكلام السابق ، وما قبله من قوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا) تمهيد له كما تقدم ، فالفاء للسببية والاستفهام للتعجيب من طغيانهم ومقابلتهم جميع الرسل في جميع الأزمان بمقابلة واحدة ساوى فيها الخلف السلف مما دل على أن ذلك سجية في الجميع.

وتقديم همزة الاستفهام على حرف العطف المفيد للتشريك في الحكم استعمال متبع في كلام العرب وظاهره غريب لأنه يقتضي أن يكون الاستفهام متسلطا على العاطف والمعطوف وتسلط الاستفهام على حرف العطف غريب فلذلك صرفه علماء النحو عن ظاهره ولهم في ذلك طريقتان : إحداهما طريقة الجمهور قالوا : همزة الاستفهام مقدمة من

٥٧٨

تأخير وقد كان موقعها بعد حرف العطف فقدمت عليه لاستحقاق الاستفهام التصدير في جملته ، وإنما خصوا التقديم بالهمزة دون غيرها من كلمات الاستفهام لأن الهمزة متأصلة في الاستفهام إذ هي الحرف الموضوع للاستفهام الأكثر استعمالا فيه ، وأما غيرها فكلمات أشربت معنى الاستفهام منها ما هو اسم مثل (أين) ، ومنها حرف تحقيق وهو (هل) فإنه بمعنى قد فلما كثر دخول همزة الاستفهام عليه حذفوا الهمزة لكثرة الاستعمال فأصل هل فعلت أهل فعلت فالتقدير فأ كلما جاءكم رسول فقلب ، وقيل : أفكلما جاءكم رسول فعلى هذه الطريقة يكون الاستفهام معطوفا وتكون الجملة معطوفة على التي قبلها أو معطوفة على محذوف بحسب ما يسمح به المقام.

الطريقة الثانية طريقة صاحب «الكشاف» وفي «مغني اللبيب» أن الزمخشري أول القائلين بها وادعى الدماميني أن الزمخشري مسبوق في هذا ولم يعين من سبقه فإنه قد جوز طريقة الجمهور وجوز أن تكون همزة الاستفهام هي مبدأ الجملة وأن المستفهم عنه محذوف دل عليه ما عطف عليه بحرف العطف والتقدير في مثله أتكذبونهم فكلما جاءكم رسول إلخ. وعلى هذه الطريقة تكون الجملة استفهامية مستأنفة محذوفا بقيتها ثم عطف عليها ما عطف ، ولا أثر لهذا إلا في اختلاف الاعتبار والتقدير فأما معنى الكلام فلا يتغير على كلا الاعتبارين لأن العطف والاستفهام كليهما متوجهان إلى الجملة الواقعة بعدهما.

والظاهر من كلام صاحب «الكشاف» في هذه الآية وفي قوله تعالى في سورة آل عمران [١٦٥] : (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها) أن الطريقتين جائزتان في جميع مواقع الاستفهام مع حرف العطف وهو الحق وأما عدم تعرضه لذلك عند آيات (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) [البقرة : ٧٥] (أَفَلا تَعْقِلُونَ) [البقرة : ٤٤]. (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ) [البقرة : ٨٥] فيما مضى من هذه السورة فذلك ذهول منه وقد تداركه هنا.

وعندي جواز طريقة ثالثة وهي أن يكون الاستفهام عن العطف والمعنى أتزيدون على مخالفاتكم استكباركم كلما جاءكم رسول إلخ وهذا متأت في حروف التشريك الثلاثة كما تقدم من أمثلة الواو والفاء وكقوله تعالى : (أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ) في سورة يونس [٥١] وقوله النابغة :

أثم تعذّران إلى منها

فإني قد سمعت وقد رأيت

وقد استقريت هذا الاستعمال فوجدت مواقعه خاصة بالاستفهام غير الحقيقي كما رأيت من الأمثلة.

٥٧٩

ومعنى الفاء هنا تسبب الاستفهام التعجيبي الإنكاري على ما تقرر عندهم من تقفية موسى بالرسل أي قفينا موسى بالرسل فمن عجيب أمركم أن كل رسول جاءكم استكبرتم وجوز صاحب «الكشاف» كون العطف على مقدر أي آتينا موسى الكتاب إلخ ففعلتم ثم وبخهم بقوله : (أَفَكُلَّما) ، فالهمزة للتوبيخ والفاء حينئذ عاطفة مقدرا معطوفا على المقدر المؤهل للتوبيخ ، وهو وجه بعيد ، ومرمى الوجهين إلى أن جملة (آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) إلخ غير مراد منها الإخبار بمدلولها.

وانتصب (كلما) بالنيابة عن الظرف لأنه أضيف إلى ما الظرفية المصدرية والعامل فيه قوله : (اسْتَكْبَرْتُمْ) ، وقدم الظرف ليكون مواليا للاستفهام المراد منه التعجيب ليظهر أن محل العجب هو استمرار ذلك منهم الدال على أنه سجية لهم وليس ذلك لعارض عرض في بعض الرسل وفي بعض الأزمنة ، والتقدير أفاستكبرتم كلما جاءكم رسول فقدم الظرف للاهتمام لأنه محل العجب ، وقد دل العموم الذي في (كلما) على شمول التكذيب أو القتل لجميع الرسل المرسلين إليهم لأن عموم الأزمان يستلزم عموم الأفراد المظروفة فيها.

و (تَهْوى) مضارع هوي بكسر الواو إذا أحب والمراد به ما تميل إليه أنفسهم من الانخلاع عن القيود الشرعية والانغماس في أنواع الملذات والتصميم على العقائد الضالة.

والاستكبار الاتصاف بالكبر وهو هنا الترفع عن اتباع الرسل وإعجاب المتكبرين بأنفسهم واعتقاد أنهم أعلى من أن يطيعوا الرسل ويكونوا أتباعا لهم ، فالسين والتاء في (اسْتَكْبَرْتُمْ) للمبالغة كما تقدم في قوله تعالى : (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ) [البقرة : ٣٤] وقوله : (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) مسبب عن الاستكبار فالفاء للسببية فإنهم لما استكبروا بلغ بهم العصيان إلى حد أن كذبوا فريقا أي صرحوا بتكذيبهم أو عاملوهم معاملة الكاذب وقتلوا فريقا وهذا كقوله تعالى عن أهل مدين : (قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ) [هود : ٩].

وتقديم المفعول هنا لما فيه من الدلالة على التفصيل فناسب أن يقدم ليدل على ذلك كما في قوله تعالى : (فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ) [الأعراف : ٣٠]. وهذا استعمال عربي كثير في لفظ فريق وما في معناه نحو طائفة إذا وقع معمولا لفعل في مقام التقسيم نحو (يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) [آل عمران : ١٥٩].

والتفصيل راجع إلى ما في قوله : (رَسُولٌ) من الإجمال لأن (كلما جاءكم رسول)

٥٨٠