تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٣٥

عجزهم لأن القرآن بلغ فيما اشتمل عليه من الخصائص البلاغية التي يقتضيها الحال حد الإطاقة لأذهان بلغاء البشر بالإحاطة به ، بحيث لو اجتمعت أذهانهم وانقدحت قرائحهم وتآمروا وتشاوروا في نواديهم وبطاحهم وأسواق موسمهم ، فأبدى كل بليغ ما لاح له من النكت والخصائص لوجدوا كل ذلك قد وفت به آيات القرآن في مثله وأتت بأعظم منه ، ثم لو لحق بهم لا حق ، وخلف من بعدهم خلف فأبدى ما لم يبدوه من النكت لوجد تلك الآية التي انقدحت فيها أفهام السابقين وأحصت ما فيها من الخصائص قد اشتملت على ما لاح لهذا الأخير وأوفر منه ، فهذا هو القدر الذي أدركه بلغاء العرب بفطرهم ، فأعرضوا عن معارضته علما بأنهم لا قبل لهم بمثله ، وقد كانوا من علو الهمة ورجاحة الرأي بحيث لا يعرضون أنفسهم للافتضاح ولا يرضون لأنفسهم بالانتقاص لذلك رأوا الإمساك عن المعارضة أجدى بهم واحتملوا النداء عليهم بالعجز عن المعارضة في مثل هذه الآية ، لعلهم رأوا أن السكوت يقبل من التأويل بالأنفة ما لا تقبله المعارضة القاصرة عن بلاغة القرآن فثبت أنه معجز لبلوغه حدا لا يستطيعه البشر فكان هذا الكلام خارقا للعادة ودليلا على أن الله أوجده كذلك ليكون دليلا على صدق الرسول فالعجز عن المعارضة لهذا الوجه كان لعدم القدرة على الإتيان بمثله وهذا هو رأي جمهور أهل السنة والمعتزلة وأعيان الأشاعرة مثل أبي بكر الباقلاني وعبد القاهر الجرجاني وهو المشهور عن الأشعري.

وقد يجوز أن يكونوا قادرين على الإتيان بمثله ممكنة منهم المعارضة ولكنهم صرفهم الله عن التصدي لها مع توفر الدواعي على ذلك فيكون صدهم عن ذلك مع اختلاف أحوالهم أمرا خارقا للعادة أيضا وهو دليل المعجزة ، وهذا مذهب من قول ذهب إليه فريق وقد ذكره أبو بكر الباقلاني في كتابه في «إعجاز القرآن» ولم يعين له قائلا وقد نسبه التفتازانيّ في كتاب «المقاصد» إلى القائلين إن الإعجاز بالصرفة (١) وهو قول النظام من المعتزلة وكثير من المعتزلة ونسبه الخفاجي إلى أبي إسحاق الأسفرائيني ونسبه عياض إلى أبي الحسن الأشعري ولكنه لم يشتهر عنه وقال به الشريف المرتضى من الشيعة كما في

__________________

(١) وقعت كلمة الصرفة في عبارات المتكلمين ومنهم أبو بكر الباقلاني في كتابه «إعجاز القرآن» ولم أر من ضبط الصاد منه فيجوز أن يكون صاده مفتوحا على زنة المرة مرادا بها مطلق وجود الصرف والأظهر أن يكون الصاد مقصورا على صيغة الهيئة أي حرفا مخصوصا بقدرة الله ويشعر بهذا قول الباقلاني في كتاب «إعجاز القرآن» صرفهم الله عنه ضربا من الصرف.

٣٤١

«المقاصد» وهو مع كونه كافيا في أن عجزهم على المعارضة بتعجيز الله إياهم هو مسلك ضعيف. وقد تقدم الكلام على وجوه إعجاز القرآن تفصيلا في المقدمة العاشرة من مقدمات هذا التفسير.

فإن قلت : لم لا يجوز أن يكون ترك العرب للمعارضة تعاجزا لا عجزا؟ وبعد فمن آمننا أن يكون العرب قد عارضوا القرآن ولم ينقل إلينا ما عارضوا به؟ قلت يستحيل أن يكون فعلهم ذلك تعاجزا فإن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث في أمة مناوئة له معادية لا كما بعث موسى في بني إسرائيل موالين معاضدين له ومشايعين فكانت العرب قاطبة معارضة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذ كذبوه ولمزوه بالجنون والسحر وغير ذلك لم يتبعه منهم إلا نفر قليل مستضعفين بين قومهم لا نصير لهم في أول الدعوة ثم كان من أمر قومه أن قاطعوه ثم أمروه بالخروج بين هم بقتله واقتصار على إخراجه كل هذا ثبت عنهم في أحاديثهم وأقوالهم المنقولة نقلا يستحيل تواطؤنا عليه على الكذب وداموا على مناوأته بعد خروجه كذلك يصدونه عن الحج ويضطهدون أتباعه إلى آخر ما عرف في التاريخ والسير ولم تكن تلك المناوأة في أمد قصير يمكن في خلاله كتم الحوادث وطي نشر المعارضة فإنها مدة تسع عشرة سنة إلى يوم فتح مكة.

لا جرم أن أقصى رغبة لهم في تلك المدة هي إظهار تكذيبه انتصارا لأنفسهم ولآلهتهم وتظاهرا بالنصر بين قبائل العرب كل هذا ثبت بالتواتر عند جميع الأمم المجاورة لهم من فرس وروم وقبط وأحباش.

ولا جرم أن القرآن قصر معهم مسافة المجادلة وهيأ لهم طريق إلزامه بحقية ما نسبوه إليه فأتاهم كتابا منزلا نجوما ودعاهم إلى المعارضة بالإتيان بقطعة قصيرة مثله وأن يجمعوا لذلك شهداءهم وأعوانهم نطق بذلك هذا الكتاب ، كل هذا ثبت بالتواتر فإن هذا الكتاب متواتر بين العرب ولا يخلو عن العلم بوجوده أهل الدين من الأمم وإن اشتماله على طلب المعارضة ثابت بالتواتر المعلوم لدينا فإنه هو هذا الكتاب الذي آمن المسلمون قبل فتح مكة به وحفظوه وآمن به جميع العرب أيضا بعد فتح مكة فألفوه كما هو اليوم شهدت على ذلك الأجيال جيلا بعد جيل.

وقد كان هؤلاء المتحدون المدعوون إلى المعارضة بالمكانة المعروفة من أصالة الرأي واستقامة الأذهان ، ورجحان العقول وعدم رواج الزيف عليهم ، وبالكفاءة والمقدرة على التفنن في المعاني والألفاظ تواتر ذلك كله عنهم بما نقل من كلامهم نظما ونثرا وبما

٣٤٢

اشتهر وتواتر من القدر المشترك من بين المرويات من نوادرهم وأخبارهم فلم يكن يعوزهم أن يعارضوه لو وجدوه على النحو المتعارف لديهم فإن صحة أذهانهم أدركت أنه تجاوز الحد المتعارف لديهم فلذلك أعرضوا عن المعارضة مع توفر داعيهم بالطبع وحرصهم لو وجدوا إليه سبيلا ثبت إعراضهم عن المعارضة بطريق التواتر إذ لو وقع مثل هذا لأعلنوه وأشاعوه وتناقله الناس لأنه من الحوادث العظيمة فعدلوا عن المعارضة باللسان إلى المحاربة والمكافحة ، ثبت ذلك بالتواتر لا محالة عند أهل التاريخ وغيرهم.

وأيا ما جعلت سبب إعراضهم عن المعارضة من خروج كلامه عن طوق البشر أو من صرف الله أذهانهم عن ذلك فهو دليل على أمر خارق للعادة كان بتقدير من خالق القدر ومعجز البشر.

ووراء هذا كله دليل آخر يعرفنا بأن العرب بحسن فطرتهم قد أدركوا صدق الرسول وفطنوا لإعجاز القرآن وأنه ليس بكلام معتاد للبشر وأنهم ما كذبوا إلا عنادا أو مكابرة وحرصا على السيادة ونفورا من الاعتراف بالخطإ ، ذلك الدليل هو إسلام جميع قبائل العرب وتعاقبهم في الوفادة بعد فتح مكة فإنهم كانوا مقتدين بقريش في المعارضة مكبرين المتابعة لهذا الدين خشية مسبة بعضهم وخاصة قريش ومن ظاهرهم ، فلما غلبت قريش لم يبق ما يصد بقية العرب عن المجيء طائعين معترفين عن غير غلب فإنهم كانوا يستطيعون الثبات للمقارعة أكثر مما ثبتت قريش إذ قد كان من تلك القبائل أهل البأس والشدة من عرب نجد وطئ وغيرهم ممن اعتز بهم الإسلام بعد ذلك فإنه ليس مما عرف في عوائد الأمم وأخلاقها أن تنبذ قبائل عظيمة كثيرة أديانا تعتقد صحتها وتجيء جميعها طائعا نابذا دينه في خلال أشهر من عام الوفود لم يجمعهم فيه ناد ولم تسر بينهم سفراء ولا حشرهم مجمع لو لا أنهم كانوا متهيئين لهذا الاعتراف لا يصدهم عنه إلا صاد ضعيف وهو المكابرة والمعاندة.

ثم في هذه الآية معجزة باقية وهي قوله : (وَلَنْ تَفْعَلُوا) فإنها قد مرت عليها العصور والقرون وما صدقها واضح إذ لم تقع المعارضة من أحد من المخاطبين ولا ممن لحقهم إلى اليوم.

فإن قلت : ثبت بهذا أن القرآن معجز للعرب وبذلك ثبت لديهم أنه معجزة وثبت لديهم به صدق الرسول ولكن لم يثبت ذلك لمن ليس مثلهم فما هي المعجزة لغيرهم؟ قلت إن ثبوت الإعجاز لا يستلزم مساواة الناس في طريق الثبوت فإنه إذا أعجز العرب

٣٤٣

ثبت أنه خارق للعادة لما علمت من الوجهين السابقين فيكون الإعجاز للعرب بالبداهة ولمن جاء بعدهم بالاستدلال والبرهان وهما طريقان لحصول العلم.

وبعد فإن من شاء أن يدرك الإعجاز كما أدركه العرب فما عليه إلا أن يشتغل بتعلم اللغة وأدبها وخصائصها حتى يساوي أو يقارب العرب في ذوق لغتهم ثم ينظر بعد ذلك في نسبة القرآن من كلام بلغائهم ولم يخل عصر من فئة اضطلعت بفهم البلاغة العربية وأدركت إعجاز القرآن وهم علماء البلاغة وأدب العربية الصحيح.

قال الشيخ عبد القاهر في مقدمة «دلائل الإعجاز» فإن قال قائل إن لنا طريقا إلى إعجاز القرآن غير ما قلت (أي من توقفه على علم البيان) وهو علمنا بعجز العرب عن أن يأتوا بمثله وتركهم أن يعارضوه مع تكرار التحدي عليهم وطول التقريع لهم بالعجز عنه ولو كان الأمر كذلك ما قامت به الحجة على العجم قيامها على العرب وما استوى الناس فيه قاطبة فلم يخرج الجاهل بلسان العرب عن أن يكون محجوجا بالقرآن قيل له خبرنا عما اتفق عليه المسلمون من اختصاص نبينا عليه‌السلام بأن كانت معجزته باقية على وجه الدهر أتعرف له معنى غير ألا يزال البرهان منه لائحا معرضا لكل من أراد العلم به والعلم به ممكنا لمن التمسه وألا معنى لبقاء المعجزة بالقرآن إلا أن الوصف الذي كان به معجزا قائم فيه أبدا ا ه.

وقال السكاكي في معرض التنويه ببعض مسائل التقديم قوله : «متوسلا بذلك إلى أن يتأنق في وجه الإعجاز في التنزيل منتقلا مما أجمله عجز المتحدين به عندك إلى التفصيل» وقد بينت في المقدمة العاشرة تفاصيل من وجوه إعجازه فقد اشتملت هذه الآية على أصناف من الإعجاز إذ نقلت الإعجاز بالتواتر وكانت ببلاغتها معجزة ، وكانت معجزة من حيث الإخبار عن المستقبل كله بما تحقق صدقه فسبحان منزلها ومؤتيها.

[٢٥] (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥))

(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ).

في «الكشاف» من عادته عزوجل في كتابه أن يذكر الترغيب مع الترهيب ويشفع البشارة بالإنذار إرادة التنشيط لاكتساب ما يزلف والتثبيط عن اقتراف ما يتلف فلما ذكر

٣٤٤

الكفار وأعمالهم وأوعدهم بالعقاب قفاه ببشارة عباده الذين جمعوا بين التصديق والأعمال الصالحة ا ه.

وجعل جملة : (وَبَشِّرِ) معطوفة على مجموع الجمل المسوقة لبيان وصف عقاب الكافرين يعني جميع الذي فصل في قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) [البقرة : ٢٣] إلى قوله : (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) [البقرة : ٢٤] فعطف مجموع أخبار عن ثواب المؤمنين على مجموع أخبار عن عقاب الكافرين والمناسبة واضحة مسوغة لعطف المجموع على المجموع ، وليس هو عطفا لجملة معينة على جملة معينة الذي يطلب معه التناسب بين الجملتين في الخبرية والإنشائية ، ونظّره بقولك : زيد يعاقب بالقيد والإرهاق وبشر عمرا بالعفو والإطلاق.

وجعل السيد الجرجاني لهذا النوع من العطف لقب عطف القصة على القصة لأن المعطوف ليس جملة على جملة بل طائفة من الجمل على طائفة أخرى ، ونظيره في المفردات ما قيل إن الواو الأولى والواو الثالثة في قوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) [الحديد : ٣] ليستا مثل الواو الثانية لأن كل واحدة منهما لإفادة الجمع بين الصفتين المتقابلتين وأما الثانية فلعطف مجموع الصفتين المتقابلتين اللتين بعدها على مجموع الصفتين المتقابلتين اللتين قبلها ولو اعتبر عطف الظاهر وحده على إحدى السابقتين لم يكن هناك تناسب ، هذا حاصله ، وهو يريد أن الواو عاطفة جملة ذات مبتدأ محذوف وخبرين على جملة ذات مبتدأ ملفوظ به وخبرين ، فالتقدير وهو الظاهر والباطن وليس المراد أن المبتدأ فيها مقدر لإغناء حرف العطف عنه بل هو محذوف للقرينة أو المناسبة في عطف جملة (الظاهر والباطن) على جملة (الأول والآخر). أنهما صفتان متقابلتان ثبتتا لموصوف واحد هو الذي ثبتت له صفتان متقابلتان أخريان.

قال السيد ولم يذكر صاحب «المفتاح» عطف القصة على القصة فتحير الجامدون على كلامه في هذا المقام وتوهموا أن مراد صاحب «الكشاف» هنا عطف الجملة على الجملة وأن الخبر المتقدم مضمن معنى الطلب أو بالعكس لتتناسب الجملتان مع أن عبارة «الكشاف» صريحة في غير ذلك وقصد السيد من ذلك إبطال فهم فهمه سعد الدين من كلام «الكشاف» وأودعه في شرحه «المطول» على «التخليص» (١).

__________________

(١) قال قد يوهم تمثيل صاحب «الكشاف» لذلك بقولك : زيد يعاقب بالقيد والإرهاق وبشر عمرا

٣٤٥

وجوز صاحب «الكشاف» أن يكون قوله : (وَبَشِّرِ) معطوفا على قوله : (فَاتَّقُوا) [البقرة : ٢٤] الذي هو جواب الشرط فيكون له حكم الجواب أيضا وذلك لأن الشرط وهو (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) [البقرة : ٢٤] سبب لهما لأنهم إذا عجزوا عن المعارضة فقد ظهر صدق النبي فحق اتقاء النار وهو الإنذار لمن دام على كفره وحقت البشارة للذين آمنوا. وإنما كان المعطوف على الجواب مخالفا له لأن الآية سيقت مساق خطاب للكافرين على لسان النبي فلما أريد ترتب الإنذار لهم والبشارة للمؤمنين جعل الجواب خطابا لهم مباشرة لأنهم المبتدأ بخطابهم وخطابا للنبي ليخاطب المؤمنين إذ ليس للمؤمنين ذكر في هذا الخطاب فلم يكن طريق لخطابهم إلا الإرسال إليهم.

وقد استضعف هذا الوجه بأن علماء النحو قرروا امتناع عطف أمر مخاطب على أمر مخاطب إلا إذا اقترن بالنداء نحو قم يا زيد واكتب يا عمرو ، وهذا لا نداء فيه.

وجوز صاحب «المفتاح» أن (بَشِّرِ) معطوف على قل مقدّرا قبل (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا) [البقرة : ٢١] وقال القزويني في «الإيضاح» إنه معطوف على مقدر بعد قوله : (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) [البقرة : ٢٤] أي فأنذر الذين كفروا وكل ذلك تكلف لا داعي إليه إلا الوقوف عند ظاهر كلام النحاة مع أن صاحب «الكشاف» لم يعبأ به قال عبد الحكيم لأن منع النحاة إذا انتفت قرينة تدل على تغاير المخاطبين والنداء ضرب من القرينة نحو : (يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) [يوسف : ٢٩] ا ه. يريد أن كل ما يدل على المراد بالخطاب فهو كاف وإنما خص النحاة النداء لأنه أظهر قرينة واختلاف الأمرين هنا بعلامة الجمع والإفراد دال على المراد ، وأيّا ما كان فقد روعي في الجمل المعطوفة ما يقابل ما في الجمل المعطوف عليها فقوبل الإنذار الذي في قوله : (فَاتَّقُوا النَّارَ) [البقرة : ٢٤] بالتبشير وقوبل (النَّاسُ) [البقرة : ٢١] المراد به المشركون بالذين آمنوا وقوبل (النار) بالجنة فحصل ثلاثة طباقات.

__________________

بالعفو والإطلاق توجيه ما توهمه المتوهمون في مراد «الكشاف» لأن مثاله من قبيل عطف الجمل ، إلا أن كشف ذلك عنهم أنه أشار إلى تمثيل المناسبة بين الجملتين الموجبة العطف وإن كان المحكوم عليه بإحداهما غير المحكوم عليه بالأخرى وكانتا مختلفتين بالخبرية والإنشائية. ومقصد السيد التعريض بكلام التفتازانيّ في «المطول» لأنه ذكر بحثا بناه على أن كلام «الكشاف» ناظر إلى أن الآية من عطف الجمل وأنه لم يرد أن الخبر بمعنى الإنشاء أو العكس حتى ورد أن التأويل غير متعين عند من لا يشترط اتحاد الجملتين في الخبرية والإنشائية فإن التفتازانيّ في «شرح الكشاف» هو الذي فتح الطريق للسيد في هذا الفهم.

٣٤٦

والتبشير الإخبار بالأمر المحبوب فهو أخص من الخبر. وقيد بعض العلماء معنى التبشير بأن يكون المخبر (بالفتح) غير عالم بذلك الخبر والحق أنه يكفي عدم تحقق المخبر (بالكسر) علم المخبر (بالفتح) فإن المخبر (بالكسر) لا يلزمه البحث عن علم المخاطب فإذا تحقق المخبر علم المخاطب لم يصح الإخبار إلا إذا استعمل الخبر في لازم الفائدة أو في توبيخ ونحوه.

والصالحات جمع صالحة وهي الفعلة الحسنة فأصلها صفة جرت مجرى الأسماء لأنهم يقولون صالحة وحسنة ولا يقدرون موصوفا محذوفا قال الحطيئة :

كيف الهجاء وما تنفكّ صالحة

من آل لأم بظهر الغيب تأتينا

وكأنّ ذلك هو وجه تأنيثها للنقل من الوصفية للاسمية.

والتعريف هنا للاستغراق وهو استغراق عرفي يحدد مقداره بالتكليف والاستطاعة والأدلة الشرعية مثل كون اجتناب الكبائر يغفر الصغائر فيجعلها كالعدم.

فإن قلت : إذا لم يقل وعملوا الصالحة بالإفراد فقد قالوا إن استغراق المفرد أشمل من استغراق المجموع ، قلت تلك عبارة سرت إليهم من كلام صاحب «الكشاف» في هذا الموضع من تفسيره إذ قال : «إذا دخلت لام الجنس على المفرد كان صالحا لأن يراد به الجنس إلى أن يحاط به وأن يراد به بعضه إلى الواحد منه وإذا دخلت على المجموع صلح أن يراد به جميع الجنس وأن يراد به بعضه لا إلى الواحد منه ا ه. فاعتمدها صاحب «المفتاح» وتناقلها العلماء ولم يفصّلوا بيانها.

ولعل سائلا يسأل عن وجه إتيان العرب بالجموع بعد أل الاستغراقية إذا كان المفرد مغنيا غناءها فأقول : إن أل المعرّفة تأتي للعهد وتأتي للجنس مرادا به الماهية وللجنس مرادا به جميع أفراده التي لا قرار له في غيرها فإذا أرادوا منها الاستغراق نظروا فإن وجدوا قرينة الاستغراق ظاهرة من لفظ أو سياق نحو : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) [العصر : ٢ ، ٣] (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ) [آل عمران : ١١٩] (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) [الحاقة : ١٧] اقتنعوا بصيغة المفرد لأنه الأصل الأحفّ وإن رأوا قرينة الاستغراق خفية أو مفقودة عدلوا إلى صيغة الجمع لدلالة الصيغة على عدة أفراد لا على فرد واحد. ولما كان تعريف العهد لا يتوجه إلى عدد من الأفراد غالبا تعين أن تعريفها للاستغراق نحو : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران : ١٣٤] لئلا يتوهم أن الحديث على محسن خاص نحو قولها :

٣٤٧

(وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ) [يوسف : ٥٢] لئلا يتوهم أن الحديث عن خائن معين تعني نفسها فيصير الجمع في هذه المواطن قرينة على قصد الاستغراق.

وانتصب الصالحات على المفعول به لعملوا على المعروف من كلام أئمة العربية وزعم ابن هشام في الباب السادس من «مغني اللبيب» أن مفعول الفعل إذا كان لا يوجد إلا بوجود فعله كان مفعولا مطلقا لا مفعولا به فنحو : (عَمِلُوا الصَّالِحاتِ) مفعول مطلق ونحو : (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ) [العنكبوت : ٤٤] كذلك ، واعتضد لذلك بأنّ ابن الحاجب في «شرح المفصل» زعم أن المفعول المطلق يكون جملة نحو قال زيد عمرو منطلق وكلام ابن هشام خطأ وكلام ابن الحاجب مثله ، وقد رده ابن هشام نفسه. والصواب أن المفعول المطلق هو مصدر فعله أو ما يجري مجراه.

والجنات جمع جنة ، والجنة في الأصل فعلة من جنه إذا ستره نقلوه للمكان الذي تكاثرت أشجاره والتف بعضها ببعض حتى كثر ظلها وذلك من وسائل التنعم والترفه عند البشر قاطبة (١) لا سيما في بلد تغلب عليه الحرارة كبلاد العرب قال تعالى : (وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً) [النبأ : ١٦].

والجري حقيقته سرعة شديدة في المشي ، ويطلق مجازا على سيل الماء سيلا متكررا متعاقبا وأحسن الماء ما كان جاريا غير قار لأنه يكون بذلك جديدا كلما اغترف منه شارب أو اغتسل مغتسل.

والأنهار جمع نهر بفتح الهاء وسكونها والفتح أفصح والنهر الأخدود الجاري فيه الماء على الأرض وهو مشتق من مادة نهر الدالة على الانشقاق والاتساع ويكون كبيرا وصغيرا. وأكمل محاسن الجنات جريان المياه في خلالها وذلك شيء اجتمع البشر كلهم على أنه من أنفس المناظر لأن في الماء طبيعة الحياة ولأن الناظر يرى منظرا بديعا وشيئا لذيذا.

وأودع في النفوس حب ذلك فإما لأن الله تعالى أعد نعيم الصالحين في الجنة على

__________________

(١) فإن الإنسان مجبول على حب المناظر الجميلة والميل لما يقاربه في الخلقة ، وفي الشجر جمال الشكل واللون وفيه أنس للنفوس لأن فيه حياة فناسب النفوس مثل التأنس بالحيوان والأنعام التي قال تعالى فيها : (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ) [النحل : ٦] ففي مناظر الأشجار جمال يفوق جمال مناظر ما لا حياة فيه كالقصور والرياش.

٣٤٨

نحو ما ألفته أرواحهم في هذا العالم فإن للإلف تمكنا من النفوس والأرواح بمرورها على هذا العالم عالم المادة اكتسبت معارف ومألوفات لم تزل تحن إليها وتعدها غاية المنى ولذا أعد الله لها النعيم الدائم في تلك الصور ، وإما لأن الله تعالى حبب إلى الأرواح هاته الأشياء في الدنيا لأنها على نحو ما ألفته في العوالم العليا قبل نزولها للأبدان لإلفها بذلك في عالم المثال ، وسبب نفرتها من أشكال منحرفة وذوات بشعة عدم إلفها بأمثالها في عوالمها. والوجه الأول الذي ظهر لي أراه أقوى في تعليل مجيء لذات الجنة على صور اللذات المعروفة في الدنيا وسينفعنا ذلك عند قوله تعالى : (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً).

ومعنى (مِنْ تَحْتِهَا) من أسفلها والضمير عائد إلى الجنات باعتبار مجموعها المشتمل على الأشجار والأرض النابتة فيها ويجوز عود الضمير إلى الجنات باعتبار الأشجار لأنها أهم ما في الجنات ، وهذا القيد لمجرد الكشف فإن الأنهار لا تكون إلا كذلك ويفيد هذا القيد تصوير حال الأنهار لزيادة تحسين وصف الجنات كقول كعب بن زهير :

شجّت بذي شبم من ماء محنية

صاف بأبطح أضحى وهو مشمول

البيتين.

وقد أورد صاحب «الكشاف» توجيها لتعريف الأنهار ومخالفتها لتنكير (جنات) إما بأن يراد تعريف الجنس فيكون كالنكرة وإما بأن يراد من التعريف العهد إلا أنه عهد تقديري لأن الجنات لما ذكرت استحضر لذهن السامع لوازمها ومقارناتها فساغ للمتكلم أن يشير إلى ذلك المعهود فجيء باللام ، وهذا معنى قوله أو يراد أنهارها فعوض التعريف باللام من تعريف الإضافة ، يريد أن المتكلم في مثل هذا المقام في حيرة بين أن يأتي بالأنهار معرفة بالإضافة للجنات وبين أن يعرفها بال العهدية عهدا تقديريا واختير الثاني تفاديا من كلفة الإضافة وتنبيها على أن الأنهار نعمة مستقلة جديرة بأن لا يكون التنعم بها تبعا للتنعم بالجنات وليس مراده أن أل عوض عن المضاف إليه على طريقة نحاة الكوفة لأنه قد أباه في تفسير قوله تعالى : (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) [النازعات : ٣٩] وإنما أراد أن الإضافة واللام متعاقبتان هنا وليس ذلك صالحا في كل موضع (١) على أني أرى مذهب

__________________

(١) إشارة إلى التفرقة بين ما جوزه الزمخشري هنا وما منعه من مذهب الكوفيين ، وذلك أن الكوفيين جوزوا جعل اللام عوضا عن المضاف إليه مطلقا ، فعلى مذهبهم يصح أن تقول إذا لقيت زيدا

٣٤٩

الكوفيين مقبولا وأنهم ما أرادوا إلا بيان حاصل المعنى من ذلك التعريف فإن تقدير المضاف إليه هو الذي جعل المضاف المذكور كالمعهود فأدخلت عليه لام التعريف العهدي.

وعندي أن الداعي إلى التعريف هو التفنن لئلا يعاد التنكير مرة ثانية فخولف بينهما في اللفظ اقتناعا بسورة التعريف.

وقوله : (مِنْ تَحْتِهَا) يظهر أنه قيد كاشف قصد منه زيادة إحضار حالة جري الأنهار إذ الأنهار لا تكون في بعض الأحوال تجري من فوق فهذا الوصف جيء به لتصوير الحالة للسامع لقصد الترغيب وهذا من مقاصد البلغاء إذ ليس البليغ يقتصر على مجرد الإفهام ، وقريب من هذا قول النابغة يصف فرس الصائد وكلابه :

من حس أطلس تسعى تحته شرع

كأن أحناكها السفلى مآشير

والتحت اسم لجهة المكان الأسفل وهو ضد الأعلى ، ولكل مكان علوّ وسفل ولا يقتضي ذلك ارتفاع ما أضيف إليه التحت على التحت بل غاية مدلوله أنه بجهة سفله قال تعالى حكاية عن فرعون : (وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) [الزخرف : ٥١] فلا حاجة إلى تأويل الجنة هنا بالأشجار لتصحيح التحت ولا إلى غيره من التكلفات.

(كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ).

جملة : (كُلَّما رُزِقُوا) يجوز أن تكون صفة ثانية لجنات ، ويجوز أن تكون خبرا عن مبتدأ محذوف وهو ضمير (الَّذِينَ آمَنُوا) فتكون جملة ابتدائية الغرض منها بيان شأن آخر من شئون الذين آمنوا ، ولكمال الاتصال بينها وبين جملة (أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ) فصلت عنها كما تفصل الأخبار المتعددة.

و (كلما) ظرف زمان لأن كلا أضيفت إلى ما الظرفية المصدرية فصارت لاستغراق

__________________

فاسمع الكلام ، تريد كلامه ، أو فاضرب الوجه. وأما ما ذكره الزمخشري فذلك عند ما يكون المضاف مستحضرا في الذهن فتصح الإضافة وتصح اللام فهو أخص من مذهب الكوفيين وهو أيضا محتاج لنكتة بخلاف مذهبهم وصحة حلول اللام عوضا عن المضاف على قوله حاصلة غير مقصودة بل هي بطريق المآل بخلاف مذهب الكوفيين.

٣٥٠

الأزمان المقيدة بصلة ما المصدرية وقد أشربت معنى الشرط لذلك فإن الشرط ليس إلا تعليقا على الأزمان المقيدة بمدلول فعل الشرط ولذلك خرجت كثير من كلمات العموم إلى معنى الشرط عند اقترانها بما الظرفية نحو كيفما وحيثما وأنما وأينما ومتى وما مهما. والناصب لكلما الجواب لأن الشرطية طارئة عليها طريانا غير مطرد بخلاف مهما وأخواتها.

وإذ كانت كلما نصا في عموم الأزمان تعين أن قوله (مِنْ قَبْلُ) المبني على الضم هو على تقدير مضاف ظاهر التقدير أي من قبل هذه المرة فيقتضي أن ذلك ديدن صفات ثمراتهم أن تأتيهم في صور ما قدم إليهم في المرة السابقة. وهذا إما أن يكون حكاية لصفة ثمار الجنة وليس فيه قصد امتنان خاص فيكون المعنى أن ثمار الجنة متحدة الصورة مختلفة الطعوم. ووجه ذلك والله أعلم أن اختلاف الأشكال في الدنيا نشأ من اختلاف الأمزجة والتراكيب فأما موجودات الآخرة فإنها عناصر الأشياء فلا يعتورها الشكل وإنما يجيء في شكل واحد وهو الشكل العنصري. ويحتمل أن في ذلك تعجيبا لهم والشيء العجيب لذيذ الوقع عند النفوس ولذلك يرغب الناس في مشاهدة العجائب والنوادر. وهذا الاحتمال هو الأظهر من السياق. ويحتمل أن كلما لعموم غير الزمن الأول فهو عام مراد به الخصوص بالقرينة ، ومعنى (من قبل) في المرة الأولى من دخول الجنة. ومن المفسرين من حمل قوله (مِنْ قَبْلُ) على تقدير من قبل دخول الجنة أي هذا الذي رزقناه في الدنيا ، ووجهه في «الكشاف» : «بأن الإنسان بالمألوف آنس» وهو بعيد لاقتضائه أن يكون عموم كلما مرادا به خصوص الإتيان به في المرة الأولى في الجنة ولأنه يقتضي اختلاف الطعم واختلاف الأشكال وهذا أضعف في التعجب ، ولأن من أهل الجنة من لا يعرف جميع أصناف الثمار فيقتضي تحديد الأصناف بالنسبة إليه.

وقوله : (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) ظاهر في أن التشابه بين المأتي به لا بينه وبين ثمار الدنيا. ثم منّ الله عليهم بنعمة التأنس بالأزواج ونزه النساء عن عوارض نساء الدنيا مما تشمئز منه النفس لو لا النسيان فجمع لهم سبحانه اللذات على نحو ما ألفوه فكانت نعمة على نعمة.

والأزواج جمع زوج يقال للذكر والأنثى لأنه جعل الآخر بعد أن كان مفردا زوجا وقد يقال للأنثى زوجة بالتاء وورد ذلك في حديث عمار بن ياسر في البخاري : «إني لأعلم أنها زوجته في الدنيا والآخرة» يعني عائشة وقال الفرزدق :

٣٥١

وإنّ الذي يسعى ليفسد زوجتي

كساع إلى أسد الشّرى يستمليها

وقوله : (وَهُمْ فِيها خالِدُونَ) احتراس من توهّم الانقطاع بما تعودوا من انقطاع اللذات في الدنيا لأن جميع اللذات في الدنيا معرضة للزوال وذلك ينغصها عند المنعم عليه كما قال أبو طيب :

أشدّ الغم عندي في سرور

تحقّق عنه صاحبه انتقالا

وقوله : (مُطَهَّرَةٌ) هو بزنة الإفراد وكان الظاهر أن يقال مطهرات كما قرئ بذلك ولكن العرب تعدل عن الجمع مع التأنيث كثيرا لثقلهما لأن التأنيث خلاف المألوف والجمع كذلك ، فإذا اجتمعا تفادوا عن الجمع بالإفراد وهو كثير شائع في كلامهم لا يحتاج للاستشهاد.

[٢٦ ، ٢٧] (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧))

(إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها).

قد يبدو في بادئ النظر عدم التناسب بين مساق الآيات السالفة ومساق هاته الآية ، فبينما كانت الآية السابقة ثناء على هذا الكتاب المبين ، ووصف حالي المهتدين بهديه والناكبين عن صراطه وبيان إعجازه والتحدي به مع ما تخلل وأعقب ذلك من المواعظ والزواجر النافعة والبيانات البالغة والتمثيلات الرائعة ، إذا بالكلام قد جاء يخبر بأن الله تعالى لا يعبأ أن يضرب مثلا بشيء حقير أو غير حقير ، فحقيق بالناظر عند التأمل أن تظهر له المناسبة لهذا الانتقال ، ذلك أن الآيات السابقة اشتملت على تحدي البلغاء بأن يأتوا بسورة مثل القرآن ، فلما عجزوا عن معارضة النظم سلكوا في المعارضة طريقة الطعن في المعاني فلبسوا على الناس بأن في القرآن من سخيف المعنى ما ينزه عنه كلام الله ليصلوا بذلك إلى إبطال أن يكون القرآن من عند الله بإلقاء الشك في نفوس المؤمنين وبذر الخصيب في تنفير المشركين والمنافقين.

روى الواحدي في «أسباب النزول» عن ابن عباس أن الله تعالى لما أنزل قوله : (إِنَ

٣٥٢

الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ) [الحج : ٧٣] وقوله : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً) [العنكبوت : ٤١] قال المشركون أرأيتم أي شيء يصنع بهذا فأنزل الله : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) وروي عن الحسن وقتادة أن الله لما ذكر الذباب والعنكبوت في كتابه وضرب بها المثل ضحك اليهود وقالوا ما يشبه أن يكون هذا كلام الله فأنزل الله : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي) الآية.

والوجه أن نجمع بين الروايتين ونبين ما انطوتا عليه بأن المشركين كانوا يفزعون إلى يهود يثرب في التشاور في شأن نبوءة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وخاصة بعد أن هاجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة ، فيتلقون منهم صورا من الكيد والتشغيب فيكون قد تظاهر الفريقان على الطعن في بلاغة ضرب المثل بالعنكبوت والذباب فلما أنزل الله تعالى تمثيل المنافقين بالذي استوقد نارا وكان معظمهم من اليهود هاجت أحناقهم وضاف خناقهم فاختلقوا هذه المطاعن فقال كل فريق ما نسب إليه في إحدى الروايتين ونزلت الآية للرد على الفريقين ووضح الصبح لذي عينين.

فيحتمل أن ذلك قاله علماء اليهود الذين لا حظ لهم في البلاغة ، أو قد قالوه مع علمهم بفنون ضرب الأمثال مكابرة وتجاهلا. وكون القائلين هم اليهود هو الموافق لكون السورة نزلت بالمدينة ، وكان أشد المعاندين فيها هم اليهود ، ولأنه الأوفق بقوله تعالى : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) وهذه صفة اليهود ، ولأن اليهود قد شاع بينهم التشاؤم والغلو في الحذر من مدلولات الألفاظ حتى اشتهروا باستعمال الكلام الموجه بالشتم والذم كقولهم (راعِنا) [البقرة : ١٠٤] ، قال تعالى : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) [البقرة : ٥٩] كما ورد تفسيره في «الصحيح» ولم يكن ذلك من شأن العرب.

وإما أن يكون قائله المشركون من أهل مكة مع علمهم بوقوع مثله في كلام بلغائهم كقولهم أجرأ من ذبابة ، وأسمع من قراد ، وأطيش من فراشة ، وأضعف من بعوضة. وهذا الاحتمال أدلّ ، على أنهم ما قالوا هذا التمثيل إلا مكابرة ومعاندة فإنهم لما غلبوا بالتحدي وعجزوا عن الإتيان بسورة من مثله تعلقوا في معاذيرهم بهاته السفاسف ، والمكابر يقول ما لا يعتقد ، والمحجوج المبهوت يستعوج المستقيم ويخفي الواضح ، وإلى هذا الثاني ينزع كلام صاحب «الكشاف» وهو أوفق بالسياق. والسورة وإن كانت مدنية فإن المشركين لم

٣٥٣

يزالوا يلقون الشبه في صحة الرسالة ويشيعون ذلك بعد الهجرة بواسطة المنافقين. وقد دل على هذا المعنى قوله بعده : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) إلى قوله : (وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً).

فإن قيل : لم يكن الرد عقب نزول الآيات الواقع فيها التمثيل الذي أنكروه فإن البدار بالرد على من في مقاله شبهة رائجة يكون أقطع لشبهته من تأخيره زمانا.

قلنا : الوجه في تأخير نزولها أن يقع الرد بعد الإتيان بأمثال معجبة اقتضاها مقام تشبيه الهيئات ، فذلك كما يمنع الكريم عدوه من عطاء فيلمزه الممنوع بلمز البخل ، أو يتأخر الكمي عن ساحة القتال مكيدة فيظنه ناس جبنا فيسرها الأول في نفسه حتى يأتيه القاصد فيعطيه عطاء جزلا ، والثاني حتى يكر كرة تكون القاضية على قرنه. فكذلك لما أتى القرآن بأعظم الأمثال وأروعها وهي قوله : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ) [البقرة : ١٧] (أَوْ كَصَيِّبٍ) [البقرة : ١٩] الآيات وقوله : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) [البقرة : ١٨] أتى إثر ذلك بالرد عليهم فهذا يبين لك مناسبة نزول هذه الآية عقب التي قبلها وقد غفل عن بيانه المفسرون.

والمراد بالمثل هنا الشبه مطلقا لا خصوص المركب من هيئة ، بخلاف قوله فيما سبق (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) لأن المعنىّ هنا ما طعنوا به في تشابيه القرآن مثل قوله : (لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً) [الحج : ٧٣] وقوله : (كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً) [العنكبوت : ٤١].

وموقع (إنّ) هنا بيّن.

وأما الإتيان بالمسند إليه علما دون غيره من الصفات فلأن هذا العلم جامع لجميع صفات الكمال فذكره أوقع في الإقناع بأن كلامه هو أعلى كلام في مراعاة ما هو حقيق بالمراعاة وفي ذلك أيضا إبطال لتمويههم بأن اشتمال القرآن على مثل هذا المثل دليل على أنه ليس من عند الله فليس من معنى الآية أن غير الله ينبغي له أن يستحي أن يضرب مثلا من هذا القبيل. ولهذا أيضا اختير أن يكون المسند خصوص فعل الاستحياء زيادة في الرد عليهم لأنهم أنكروا التمثيل بهاته الأشياء لمراعاة كراهة الناس ومثل هذا ضرب من الاستحياء كما سنبينه فنبهوا على أن الخالق لا يستحي من ذلك إذ ليس مما يستحي منه ، ولأن المخلوقات متساوية في الضعف بالنسبة إلى خالقها والمتصرف فيها ، وقد يكون ذكر الاستحياء هنا محاكاة لقولهم أما يستحي رب محمد أن يضرب مثلا بالذباب والعنكبوت.

فإن قلت : إذا كان استعمال هذه الألفاظ الدالة على معان حقيرة غير مخل بالبلاغة

٣٥٤

فما بالنا نرى كثيرا من أهل النقد قد نقدوا من كلام البلغاء ما اشتمل على مثل هذا كقول الفرزدق :

من عزّهم حجرت كليب بيتها

زربا كأنهم لديه القمّل

وقول أبي الطيب :

أماتكم من قبل موتكم الجهل

وجركم من خفة بكم النمل

وقول الطرمّاح :

ولو أن برغوثا على ظهر قملة

يكرّ على ضبعي تميم لولّت

قلت أصول الانتقاد الأدبي تؤول إلى بيان ما لا يحسن أن يشتمل عليه كلام الأديب من جانب صناعة الكلام ، ومن جانب صور المعاني ، ومن جانب المستحسن منها والمكروه وهذا النوع الثالث يختلف باختلاف العوائد ومدارك العقول وأصالة الأفهام بحسب الغالب من أحوال أهل صناعة الأدب ، ألا ترى أنه قد يكون اللفظ مقبولا عند قوم غير مقبول عند آخرين ، ومقبولا في عصر مرفوضا في غيره ، ألا ترى إلى قول النابغة يخاطب الملك النعمان :

فإنك كالليل الذي هو مدركي

وإن خلت أن المنتأى عنك واسع

فإن تشبيه الملك بالليل لو وقع في زمان المولدين لعدّ من الجفاء أو العجرفة ، وكذلك تشبيههم بالحية في الإقدام وإهلاك العدو في قول ذي الإصبع :

عذير الحي من عدوا

ن كانوا حيّة الأرض

وقول النابغة في رثاء الحارث الغسّاني :

ما ذا رزئنا به من حيّة ذكر

نضناضة بالرزايا صلّ أصلال

وقد زعم بعض أهل الأدب أن عليّا بن الجهم مدح الخليفة المتوكل بقوله :

أنت كالكلب في وفائك بالعه

د وكالتيس في قراع الخطوب

وأنه لما سكن بغداد وعلقت نضارة الناس بخياله قال في أول ما قاله :

عيون المها بين الرصافة والجسر

جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري (١)

__________________

(١) انظر : صفحة ٤ جزء ٣ من «محاضرات الأبرار» لابن عربي طبع حجر بمطبعة شعراوي سنة ١٢٨٢ ه‍ بالقاهرة.

٣٥٥

وقد انتقد بشار على كثيّر قوله :

ألا إنما ليلى عصا خيزرانة

إذا لمسوها بالأكف تلين

فقال لو جعلها عصا مخ أو عصا زبد لما تجاوز من أن تكون عصا ، على أن بشارا هو القائل :

إذا قامت لجارتها تثنت

كأن عظامها من خيزران

وشبّه بشار عبدة بالحيّة في قوله :

وكأنها لما مشت

أيم تأود في كثيب

والاستحياء والحياء واحد ، فالسين والتاء فيه للمبالغة مثل استقدم واستأخر واستجاب ، وهو انقباض النفس من صدور فعل أو تلقيه لاستشعار أنه لا يليق أو لا يحسن في متعارف أمثاله ، فهو هيئة تعرض للنفس هي من قبيل الانفعال يظهر أثرها على الوجه وفي الإمساك عن ما من شأنه أن يفعل.

والاستحياء هنا منفي عن أن يكون وصفا لله تعالى فلا يحتاج إلى تأويل في صحة إسناده إلى الله ، والتعلل لذلك بأن نفي الوصف يستلزم صحة الاتصاف تعلل غير مسلم.

والضرب في قوله : (أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً) مستعمل مجازا في الوضع والجعل من قولهم ضرب خيمة وضرب بيتا قال عبدة بن الطبيب :

إنّ التي ضربت بيتا مهاجرة

بكوفة الجند غالت ودّها غول

وقول الفرزدق :

ضربت عليك العنكبوت بنسجها

وقضى عليك به الكتاب المنزل

أي جعل شيئا مثلا أي شبها ، قال تعالى : (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ) [النحل : ٧٤] أي لا تجعلوا له مماثلا من خلقه فانتصاب (مَثَلاً) على المفعول به. وجوز بعض أئمة اللغة أن يكون فعل ضرب مشتقا من الضرب بمعنى المماثل فانتصاب (مَثَلاً) على المفعولية المطلقة للتوكيد لأن مثلا مرادف مصدر فعله على هذا التقدير ، والمعنى لا يستحي أن يشبّه بشيء ما.

والمثل المثيل والمشابه وغلب على مماثلة هيئة بهيئة وقد تقدم عند قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) [البقرة : ١٧] وتقدم هناك معنى ضرب المثل بالمعنى الآخر

٣٥٦

وتنكير (مَثَلاً) للتنويع بقرينة بيانه بقوله (بَعُوضَةً فَما فَوْقَها).

وما إبهامية تتصل بالنكرة فتؤكد معناها من تنويع أو تفخيم أو تحقير ، نحو لأمر ما وأعطاه شيئا ما. والأظهر أنها مزيدة لتكون دلالتها على التأكيد أشد. وقيل اسم بمعنى النكرة المبهمة.

و (بَعُوضَةً) بدل أو بيان من قوله : (مَثَلاً). والبعوضة واحدة البعوض وهي حشرة صغيرة طائرة ذات خرطوم دقيق تحوم على الإنسان لتمتص بخرطومها من دمه غذاء لها ، وتعرف في لغة هذيل بالخموش ، وأهل تونس يسمونه الناموس واحدته الناموسة وقد جعلت هنا مثلا لشدة الضعف والحقارة.

وقوله : (فَما فَوْقَها) عطف على (بَعُوضَةً) ، وأصل فوق اسم للمكان المعتلي على غيره فهو اسم مبهم فلذلك كان ملازما للإضافة لأنه تتميز جهته بالاسم الذي يضاف هو إليه فهو من أسماء الجهات الملازمة للإضافة لفظا أو تقديرا ويستعمل مجازا في المتجاوز غيره في صفة تجاوزا ظاهرا تشبيها بظهور الشيء المعتلي على غيره على ما هو معتل عليه ، ففوق في مثله يستعمل في معنى التغلب والزيادة في صفة سواء كانت من المحامد أو من المذام يقال : فلان خسيس وفوق الخسيس وفلان شجاع وفوق الشجاع ، وتقول : أعطى فلان فوق حقه أي زائدا على حقه. وهو في هذه الآية صالح للمعنيين أي ما هو أشد من البعوضة في الحقارة وما هو أكبر حجما. ونظيره قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة» رواه مسلم ، يحتمل أقل من الشوكة في الأذى مثل نخبة النملة كما جاء في حديث آخر ، أو ما هو أشد من الشوكة مثل الوخز بسكين وهذا من تصاريف لفظ فوق في الكلام ولذلك كان لاختياره في هذه الآية دون لفظ أقل ودون لفظ أقوى مثلا موقع من بليغ الإيجاز.

والفاء عاطفة (ما فوقها) على (بعوضة) أفادت تشريكهما في ضرب المثل بهما ، وحقها أن تفيد الترتيب والتعقيب ولكنها هنا لا تفيد التعقيب وإنما استعملت في معنى التدرج في الرتب بين مفاعيل (أَنْ يَضْرِبَ) ولا تفيد أن ضرب المثل يكون بالبعوضة ويعقبه ضربه بما فوقها بل المراد بيان المثل بأنه البعوضة وما يتدرج في مراتب القوة زائدا عليها درجة تلي درجة فالفاء في مثل هذا مجاز مرسل علاقته الإطلاق عن القيد لأن الفاء موضوعة للتعقيب الذي هو اتصال خاص ، فاستعملت في مطلق الاتصال ، أو هي مستعارة للتدرج لأنه شبيه بالتعقيب في التأخر في التعقل كما أن التعقيب تأخر في الحصول ومنه :

٣٥٧

«رحم الله المحلقين فالمقصرين».

والمعنى أن يضرب البعوضة مثلا فيضرب ما فوقها أي ما هو درجة أخرى أي أحقر من البعوضة مثل الذرة وأعظم منها مثل العنكبوت والحمار.

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً).

الفاء للتعقيب الذكري دون الحصولي أي لتعقيب الكلام المفصل على الكلام المجمل عطفت المقدر في قوله : (لا يَسْتَحْيِي) لأن تقديره لا يستحي من الناس كما تقدم ، ولما كان في الناس مؤمنون وكافرون وكلا الفريقين تلقى ذلك المثل واختلفت حالهم في الانتفاع به ، نشأ في الكلام إجمال مقدر اقتضى تفصيل حالهم. وإنما عطف بالفاء لأن التفصيل حاصل عقب الإجمال.

و (أما) حرف موضوع لتفصيل مجمل ملفوظ أو مقدر. ولما كان الإجمال يقتضي استشراف السامع لتفصيله كان التصدي لتفصيله بمنزلة سؤال مفروض كأن المتكلم يقول إن شئت تفصيله فتفصيله كيت وكيت ، فلذلك كانت أما متضمنة معنى الشرط ولذلك لزمتها الفاء في الجملة التي بعدها لأنها كجواب شرط ، وقد تخلو عن معنى التفصيل في خصوص قول العرب أما بعد فتتمحض للشرط وذلك في التحقيق لخفاء معنى التفصيل لأنه مبني على ترقب السامع كلاما بعد كلامه الأول. وقدرها سيبويه بمعنى مهما يكن من شيء ، وتلقفه أهل العربية بعده وهو عندي تقدير معنى لتصحيح دخول الفاء في جوابها وفي النفس منه شيء لأن دعوى قصد عموم الشرط غير بينة ، فإذا جيء بأداة التفصيل المتضمنة معنى الشرط دل ذلك على مزيد اهتمام المتكلم بذلك التفصيل فأفاد تقوية الكلام التي سماها الزمخشري توكيدا وما هو إلا دلالة الاهتمام بالكلام ، على أن مضمونه محقق ولو لا ذلك لما اهتم به وبهذا يظهر فضل قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ) إلخ على أن يقال فالذين آمنوا يعلمون بدون أما والفاء.

وجعل تفصيل الناس في هذه الآية قسمين لأن الناس بالنسبة إلى التشريع والتنزيل قسمان ابتداء مؤمن وكافر ، والمقصود من ذكر المؤمنين هنا الثناء عليهم بثبات إيمانهم وتأييس الذين أرادوا إلقاء الشك عليهم فيعلمون أن قلوبهم لا مدخل فيها لذلك الشك. والمراد بالذين كفروا هنا إما خصوص المشركين كما هو مصطلح القرآن غالبا ، وإما ما يشملهم ويشمل اليهود بناء على ما سلف في سبب نزول الآية.

٣٥٨

وإنما عبر في جانب المؤمنين بيعلمون تعريضا بأن الكافرين إنما قالوا ما قالوا عنادا ومكابرة وأنهم يعلمون أن ذلك تمثيل أصاب المحز ، كيف وهم أهل اللسان وفرسان البيان ، ولكن شأن المعاند المكابر أن يقول ما لا يعتقد حسدا وعنادا.

وضمير (أنه) عائد إلى المثل.

و (الحق) ترجع معانيه إلى موافقة الشيء لما يحق أن يقع وهو هنا الموافق لإصابة الكلام وبلاغته. و (من ربهم) حال من (الحق) و (من) ابتدائية أي وارد من الله لا كما زعم الذين كفروا أنه مخالف للصواب فهو مؤذن بأنه من كلام من يقع منه الخطأ.

وأصل (ما ذا) كلمة مركبة من ما الاستفهامية وذا اسم الإشارة ولذلك كان أصلها أن يسأل بها عن شيء مشار إليه كقول القائل ما ذا مشيرا إلى شيء حاضر بمنزلة قوله ما هذا. غير أن العرب توسعوا فيه فاستعملوه اسم استفهام مركبا من كلمتين وذلك حيث يكون المشار إليه معبرا عنه بلفظ آخر غير الإشارة حتى تصير الإشارة إليه مع التعبير عنه بلفظ آخر لمجرد التأكيد ، نحو ما ذا التواني ، أو حيث لا يكون للإشارة موقع نحو : (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ) [النساء : ٣٩] ولذلك يقول النحاة إن ذا ملغاة في مثل هذا التركيب. وقد يتوسعون فيها توسعا أقوى فيجعلون ذا اسم موصول وذلك حين يكون المسئول عنه معروفا للمخاطب بشيء من أحواله فلذلك يجرون عليه جملة أو نحوها هي صلة ويجعلون ذا موصولا نحو : (ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ) [النحل : ٢٤] وعلى هذين الاحتمالين يصح إعرابه مبتدأ ويصح إعرابه مفعولا مقدما إذا وقع بعده فعل. والاستفهام هنا إنكاري أي جعل الكلام في صورة الاستفهام كناية به عن الإنكار لأن الشيء المنكر يستفهم عن حصوله فاستعمال الاستفهام في الإنكار من قبيل الكناية ، ومثله لا يجاب بشيء غالبا لأنه غير مقصود به الاستعلام. وقد يلاحظ فيه معناه الأصلي فيجاب بجواب لأن الاستعمال الكنائي لا يمنع من إرادة المعنى الأصلي كقوله تعالى : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) [النبأ : ١ ، ٢].

والإشارة بقوله : (بِهذا) مفيدة للتحقير بقرينة المقام كقوله : (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) [الأنبياء : ٣٦].

وانتصب قوله : (مَثَلاً) على التمييز من (هذا) لأنه مبهم فحقّ له التمييز وهو نظير التمييز للضمير في قولهم «ربّه رجلا».

(يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ (٢٦) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ

٣٥٩

عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧)).

بيان وتفسير للجملتين المصدرتين بأما على طريقة النشر المعكوس لأن معنى هاتين الجملتين قد اشتمل عليهما معنى الجملتين السالفتين إجمالا فإنّ علم المؤمنين أنه الحق من ربهم هدى ، وقول الكافرين (ما ذا أَرادَ اللهُ) إلخ ضلال ، والأظهر أن لا يكون قوله : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) جوابا للاستفهام في قول الذين كفروا (ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) لأن ذلك ليس استفهاما حقيقيا كما تقدم. ويجوز أن يجعل جوابا عن استفهامهم تخريجا للكلام على الأسلوب الحكيم بحمل استفهامهم على ظاهره تنبيها على أن اللائق بهم أن يسألوا عن حكمة ما أراد الله بتلك الأمثال فيكون قوله : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) جوابا لهم وردا عليهم وبيانا لحال المؤمنين ، وهذا لا ينافي كون الاستفهام الذي قبله مكنى به عن الإنكار كما علمته آنفا من عدم المانع من جمع المعنيين الكنائي والأصلي. وكون كلا الفريقين من المضلّل والمهدى كثيرا في نفسه ، لا ينافي نحو قوله : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ : ١٣] لأن قوة الشكر التي اقتضاها صيغة المبالغة ، أخصّ في الاهتداء.

والفاسق لفظ من منقولات الشريعة أصله اسم فاعل من الفسق بكسر الفاء ، وحقيقة الفسق خروج الثمرة من قشرها وهو عاهة أو رداءة في الثمر فهو خروج مذموم يعد من الأدواء مثل ما قال النابغة :

صغار النوى مكنوزة ليس قشرها

إذا طار قشر التمر عنها بطائر

قالوا ولم يسمع في كلامهم في غير هذا المعنى حتى نقله القرآن للخروج عن أمر الله تعالى الجازم بارتكاب المعاصي الكبائر ، فوقع بعد ذلك في كلام المسلمين ، قال رؤية يصف إبلا :

فواسقا عن قصدها جوائرا

يهوين في نجد وغور غائرا

والفسق مراتب كثيرة تبلغ بعضها إلى الكفر. وقد أطلق الفسق في الكتاب والسنة على جميعها لكن الذي يستخلص من الجمع بين الأدلة هو ما اصطلح عليه أهل السنة من المتكلمين والفقهاء وهو أن الفسق غير الكفر وأن المعاصي وإن كثرت لا تزيل الإيمان وهو الحق ، وقد لقب الله اليهود في مواضع كثيرة من القرآن بالفاسقين وأحسب أنه المراد هنا وعزاه ابن كثير لجمهور من المفسرين.

٣٦٠