تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٣٥

فلا يعدلون عنه إلى المفرد مهما استقام اعتباره ولهذا قال الشيخ في «دلائل الإعجاز» عند ذكر بيت بشار :

كأنّ مثار النّقع فوق رءوسنا

وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه

«قصد تشبيه النقع والسيوف فيه بالليل المتهاوية كواكبه ، لا تشبيه النقع بالليل من جانب والسيوف بالكواكب من جانب ، ولذلك وجب الحكم بأن أسيافنا في حكم الصلة للمصدر (أي مثار) لئلا يقع في تشبيهه تفرق ، فإن نصب الأسياف على أن الواو بمعنى مع لا على العطف». إذا تقرر هذا تبين لديك أن للتشبيه التمثيلي الحظ الأوفى عند أهل البلاغة ووجهه أن من أهم أغراض البلغاء وأولها باب التشبيه وهو أقدم فنونها ، ولا شك أن التمثيل أخص أنواع التشبيه لأنه تشبيه هيئة بهيئة فهو أوقع في النفوس وأجلى للمعاني.

ونحن نجد اعتبار التمثيلية في الآية أرجح لأنها أوضح وأبلغ وأشهر وأسعد بكلام «الكشاف» ، أما كونها أوضح فلأن تشبيه التمثيل منزع واضح لا كلفة فيه فيفيد تشبيه مجموع هيئة المتقين في اتصافهم بالهدى بهيئة الراكب إلخ بخلاف طريقة التبعية فإنها لا تفيد إلا تشبيه التمكن بالاستعلاء ثم يستفاد ما عدا ذلك بالتقييد. وأما كونها أبلغ فلأن المقام لما سمح بكلا الاعتبارين باتفاق الفريقين لا جرم كان أو لا هما بالاعتبار ما فيه خصوصيات أقوى وأعز. وأما كونها أشهر فلأن التمثيلية متفق عليها بخلاف التبعية. وأما كونه أسعد بكلام «الكشاف» فلأن ظاهر قوله : «مثل» أنه أراد التمثيل ، لأن كلام مثله من أهل هذه الصناعة لا تخرج فيه اللفظة الاصطلاحية عن متعارف أهلها إلى أصل المعنى اللغوي.

فإذا صح أن التمثيلية أرجح فلننقل الكلام إلى تصحيح الجمع بينها وبين التبعية وهو المجال الثاني للخلاف بين العلامتين فالسعد والطيبي يجوزان اعتبار التبعية مع التمثيلية في الآية والسيد يمنع ذلك كما علمتم ويقول إذا كان التشبيه منتزعا من متعدد فقد انتزع كل جزء في المشبّه من جزئي المشبّه به وهو معنى التركيب فكيف يعتبر بعض المشبه به مستعارا لبعض المشبه فينتقض التركيب. وهذا الدليل ناظر إلى قول أئمة البلاغة إن أصل مفردات المركب التمثيلي أن تكون مستعملة في معانيها الحقيقية وإنما المجاز في جملة المركب أي في إطلاقه على الهيئة المشبهة ، فكلام السيد وقوف عندها. ولكن التفتازانيّ لم ير مانعا من اعتبار المجاز في بعض مفردات المركب التمثيلي إذا لم يكن فيه تكلف ، ولعله يرى ذلك زيادة في خصوصيات إعجاز هذه الآية ، ومن شأن البليغ أن لا يفيت ما

٢٤١

يقتضيه الحال من الخصوصيات ، وبهذا تفاوتت البلغاء كما تقرر في مبحث تعريف البلاغة وحد الإعجاز هو الطرف الأعلى للبلاغة الجامع لأقصى الخصوصيات كما بيناه في موضعه وهو المختار فلما وجد في الهيئة المشبهة والهيئة المشبه بها شيئان يصلحان لأن يشبه أحدهما بالآخر تشبيها مستقلا غير داخل في تشبيه الهيئة كان حق هذا المقام تشبيه التمكن بالاستعلاء وهو تشبيه بديع وأشير إليه بكلمة على وأما غير هذين من أجزاء الهيئتين فلما لم يحسن تشبيه شيء منها بآخر ألغي التشبيه المفرد فيها إذ لا يحسن تشبيه المتقي بخصوص الراكب ولا الهدى بالمركوب فتكون «على» على هذا الوجه بعضا من المجاز المركب دليلا عليه باعتبار ومجازا مفردا باعتبار آخر.

والذي أختاره في هذه الآية أن يكون قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً) استعارة تمثيلية مكنية شبهت الحالة بالحالة وحذف لفظ المشبه به وهو المركب الدال على الركوب كأن يقال راكبين مطية الهدى وأبقى ما يدل على المشبه وهو (أُولئِكَ) والهدى ، ورمز للمركب الدال على المشبه به بشيء من لوازمه وهو لفظ (على) الدال على الركوب عرفا كما علمتم ، فتكمل لنا في أقسام التمثيلية الأقسام الثلاثة : الاستعارة كما في الاستعارة المفردة فيكون التمثيل منه مجاز مرسل كاستعمال الخبر في التحسر ومنه استعارة مصرحة نحو أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى ومنه مكنية كما في الآية على رأينا ، ومنه تبعية كما في قول الحماسي :

وفارس في غمار الموت منغمس

إذا تألّى على مكروهة صدقا

فإن منغمس تمثيل لهيئة إحاطة أسباب الموت به من كل جانب بهيئة من أحاطت به المياه المهلكة من كل جانب ولفظ منغمس تبعية لا محالة.

وإنما نكر هدى ولم يعرف باللام لمساواة التعريف والتنكير هنا إذ لو عرّف لكان التعريف تعريف الجنس فرجح التنكير تمهيدا لوصفه بأنه من عند ربهم ، فهو مغاير للهدى السابق في قوله : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) مغايرة بالاعتبار إذ القصد التنويه هنا بشأن الهدى وتوسلا إلى إفادة تعظيم الهدى بقرينة مقام المدح وبذكر ما يدل على التمكن فتعين قصد التعظيم. فقوله : (مِنْ رَبِّهِمْ) تنويه بهذا الهدى يقتضي تعظيمه وكل ذلك يرجع إلى تعظيم المتصفين بالتمكن منه.

وإنما وصف الهدى بأنه من ربهم للتنويه بذلك الهدى وتشريفه مع الإشارة بأنهم بمحل العناية من الله وكذلك إضافة الرب إليهم هي إضافة تعظيم لشأن المضاف إليه

٢٤٢

بالقرينة.

(وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

مرجع الإشارة الثانية عين مرجع الأولى ، ووجه تكرير اسم الإشارة التنبيه على أن كلتا الأثرتين جديرة بالاعتناء والتنويه ، فلا تذكر إحداهما تبعا للأخرى بل تخص بجملة وإشارة خاصة ليكون اشتهارهم بذلك اشتهارا بكلتا الجملتين وأنهم ممن يقال فيه كلا القولين.

ووجه العطف بالواو دون الفصل أن بين الجملتين توسطا بين كمالي الاتصال والانقطاع لأنك إن نظرت إلى اختلاف مفهومهما وزمن حصولهما فإن مفهوم إحداهما وهو الهدى حاصل في الدنيا ومفهوم الأخرى وهو الفلاح حاصل في الآخرة كانتا منقطعتين. وأن نظرت إلى تسبب مفهوم إحداهما عن مفهوم الأخرى ، وكون كل منهما مقصودا بالوصف كانتا متصلتين ، فكان التعارض بين كمالي الاتصال والانقطاع منزلا إياهما منزلة المتوسطين ، كذا قرر شراح «الكشاف» ومعلوم أن حالة التوسط تقتضي العطف كما تقرر في علم المعاني ، وتعليله عندي أنه لما تعارض المقتضيان تعين العطف لأنه الأصل في ذكر الجمل بعضها بعد بعض.

وقوله : (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الضمير للفصل ، والتعريف في المفلحون للجنس وهو الأظهر إذ لا معهود هنا بحسب ظاهر الحال ، بل المقصود إفادة أن هؤلاء مفلحون ، وتعريف المسند بلام الجنس إذا حمل على مسند إليه معرف أفاد الاختصاص فيكون ضمير الفصل لمجرد تأكيد النسبة ، أي تأكيدا للاختصاص. فأما إذا كان التعريف للجنس وهو الظاهر فتعريف المسند إليه مع المسند من شأنه إفادة الاختصاص غالبا لكنه هنا مجرد عن إفادة الاختصاص الحقيقي ، ومفيد شيئا من الاهتمام بالخبر ، فلذلك جلب له التعريف دون التنكير وهذا مثّله عبد القاهر بقولهم : هو البطل الحامي ، أي إذا سمعت بالبطل الحامي وأحطت به خبرا فهو فلان. وإليه أشار في «الكشاف» هنا بقوله : «أو على أنهم الذين إن حصلت صفة المفلحين وتحققوا ما هم وتصوروا بصورتهم الحقيقية فهم هم» والسكاكي لم يتابع الشيخين على هذا فعدل عنه في «المفتاح» ولله دره.

والفلاح : الفوز وصلاح الحال ، فيكون في أحوال الدنيا وأحوال الآخرة ، والمراد به في اصطلاح الدين الفوز بالنجاة من العذاب في الآخرة. والفعل منه أفلح أي صار ذا فلاح ، وإنما اشتق منه الفعل بواسطة الهمزة الدالة على الصيرورة لأنه لا يقع حدثا قائما

٢٤٣

بالذات بل هو جنس تحف أفراده بمن قدرت له ، قال في «الكشاف» : انظر كيف كرر الله عزوجل التنبيه على اختصاص المتقين بنيل ما لا يناله أحد على طرق شتى وهي ذكر اسم الإشارة وتكريره وتعريف المفلحين ، وتوسيط ضمير الفصل بينه وبين (أُولئِكَ) ليبصرك مراتبهم ويرغبك في طلب ما طلبوا وينشطك لتقديم ما قدموا.

[٦] (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦))

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ).

هذا انتقال من الثناء على الكتاب ومتقلّديه ووصف هديه وأثر ذلك الهدى في الذين اهتدوا به والثناء عليهم الراجع إلى الثناء على الكتاب لمّا كان الثناء إنما يظهر إذا تحققت آثار الصفة التي استحق بها الثناء ، ولما كان الشيء قد يقدّر بضده انتقل إلى الكلام على الذين لا يحصل لهم الاهتداء بهذا الكتاب ، وسجل أن حرمانهم من الاهتداء بهديه إنما كان من خبث أنفسهم إذ نبوا بها عن ذلك ، فما كانوا من الذين يفكرون في عاقبة أمورهم ويحذرون من سوء العواقب فلم يكونوا من المتقين ، وكان سواء عندهم الإنذار وعدمه فلم يتلقوا الإنذار بالتأمل بل كان سواء والعدم عندهم ، وقد قرنت الآيات فريقين فريقا أضمر الكفر وأعلنه وهم من المشركين كما هو غالب اصطلاح القرآن في لفظ (الَّذِينَ كَفَرُوا) وفريقا أظهر الإيمان وهو مخادع وهم المنافقون المشار إليهم بقوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا) [البقرة : ٨]. وإنما قطعت هاته الجملة عن التي قبلها لأن بينهما كمال الانقطاع إذ الجمل السابقة لذكر الهدى والمهتدين ، وهذه لذكر الضالين فبينهما الانقطاع لأجل التضاد ، ويعلم أن هؤلاء قسم مضاد للقسمين المذكورين قبله من سياق المقابلة. وتصدير الجملة بحرف التأكيد إما لمجرد الاهتمام بالخبر وغرابته دون ردّ الإنكار أو الشك ؛ لأن الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللأمة وهو خطاب أنف بحيث لم يسبق شك في وقوعه ، ومجيء (إن) للاهتمام كثير في الكلام وهو في القرآن كثير. وقد تكون (إن) هنا لرد الشك تخريجا للكلام على خلاف مقتضى الظاهر ؛ لأن حرص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على هداية الكافرين تجعله لا يقطع الرجاء في نفع الإنذار لهم وحاله كحال من شك في نفع الإنذار ، أو لأن السامعين لما أجرى على الكتاب من الثناء ببلوغه الدرجة القصوى في الهداية يطمعهم أن تؤثر هدايته في الكافرين المعرضين وتجعلهم كالذين يشكون في أن يكون الإنذار وعدمه سواء فأخرج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر ونزل غير الشاك منزلة الشاك. وقد نقل عن المبرد أن (إنّ) لا تأتي لرد الإنكار بل لرد الشك.

٢٤٤

وقد تبين أن (الذين كفروا) المذكورين هنا هم فريق من المشركين الذين هم مأيوس من إيمانهم ، فالإتيان في ذكرهم بالتعريف بالموصول إما أن يكون لتعريف العهد مرادا منه قوم معهودون كأبي جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهم من رءوس الشرك وزعماء العناد دون من كان مشركا في أيام نزول هذه الآية ثم من آمن بعد مثل أبي سفيان بن حرب وغيره من مسلمة الفتح وإما أن يكون الموصول لتعريف الجنس المفيد للاستغراق على أن المراد من الكفر أبلغ أنواعه بقرينة قوله : (لا يُؤْمِنُونَ) فيكون عاما مخصوصا بالحس لمشاهدة من آمن منهم أو يكون عاما مرادا به الخصوص بالقرينة وهذان الوجهان هما اللذان اقتصر عليهما المحققون من المفسرين وهما ناظران إلى أن الله أخبر عن هؤلاء بأنهم لا يؤمنون فتعيّن أن يكونوا ممن تبين بعد أنه مات على الكفر.

ومن المفسرين من تأوّل قوله تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا) على معنى الذين قضى عليهم بالكفر والشقاء ونظره بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) [يونس : ٩٦] وهو تأويل بعيد من اللفظ وشتان بينه وبين تنظيره. ومن المفسرين من حمل (الَّذِينَ كَفَرُوا) على رؤساء اليهود مثل حيي بن أخطب وأبي رافع يعني بناء على أن السورة نزلت في المدينة وليس فيها من الكافرين سوى اليهود والمنافقين وهذا بعيد من عادة القرآن وإعراض عن السياق المقصود منه ذكر من حرم من هدي القرآن في مقابلة من حصل لهم الاهتداء به ، وأيّا ما ما كان فالمعنى عند الجميع أن فريقا خاصا من الكفار لا يرجى إيمانهم وهم الذين ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وروى ذلك عن ابن عباس والمقصود من ذلك أن عدم اهتدائهم بالقرآن كان لعدم قابليتهم لا لنقص في دلالة القرآن على الخير وهديه إليه.

والكفر بالضم : إخفاء النعمة ، وبالفتح : الستر مطلقا وهو مشتق من كفر إذا ستر. ولما كان إنكار الخالق أو إنكار كماله أو إنكار ما جاءت به رسله ضربا من كفران نعمته على جاحدها ، أطلق عليه اسم الكفر وغلب استعماله في هذا المعنى. وهو في الشرع إنكار ما دلت عليه الأدلة القاطعة وتناقلته جميع الشرائع الصحيحة الماضية حتى علمه البشر وتوجهت عقولهم إلى البحث عنه ونصبت عليه الأدلة كوحدانية الله تعالى ووجوده ولذلك عد أهل الشرك فيما بين الفترة كفارا. وإنكار ما علم بالضرورة مجيء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم به ودعوته إليه وعده في أصول الإسلام أو المكابرة في الاعتراف بذلك ولو مع اعتقاد صدقه ولذلك عبر بالإنكار دون التكذيب. ويلحق بالكفر في إجراء أحكام الكفر عليه كل قول أو

٢٤٥

فعل لا يجترئ عليه مؤمن مصدق بحيث يدل على قلة اكتراث فاعله بالإيمان وعلى إضماره الطعن في الدين وتوسله بذلك إلى نقض أصوله وإهانته بوجه لا يقبل التأويل الظاهر وفي هذا النوع الأخير مجال لاجتهاد الفقهاء وفتاوى أساطين العلماء إثباتا ونفيا بحسب مبلغ دلالة القول والفعل على طعن أو شك. ومن اعتبر الأعمال أو بعضها المعين في الإيمان اعتبر فقدها أو فقد بعضها المعين في الكفر.

قال القاضي أبو بكر الباقلاني : القول عندي أن الكفر بالله هو الجهل بوجوده والإيمان بالله هو العلم بوجوده فالكفر لا يكون إلا بأحد ثلاثة أمور أحدها الجهل بالله تعالى ، الثاني أن يأتي بفعل أو قول أخبر الله ورسوله أو أجمع المؤمنون على أنه لا يكون إلا من كافر كالسجود للصنم ، الثالث أن يكون له قول أو فعل لا يمكن معه العلم بالله تعالى.

ونقل ابن راشد في «الفائق» عن الأشعري رحمه‌الله أن الكفر خصلة واحدة. قال القرافي في الفرق ٢٤١ أصل الكفر هو انتهاك خاص لحرمة الربوبية ويكون بالجهل بالله وبصفاته أو بالجرأة عليه وهذا النوع هو المجال الصعب لأن جميع المعاصي جرأة على الله.

وقوله : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) خبر (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) و (سواء) اسم بمعنى الاستواء فهو اسم مصدر دل على ذلك لزوم إفراده وتذكيره مع اختلاف موصوفاته ومخبراته فإذا أخبر به أو وصف كان ذلك كالمصدر في أن المراد به معنى اسم الفاعل لقصد المبالغة. وقد قيل إن (سواء) اسم بمعنى المثل فيكون التزام إفراده وتذكيره لأن المثلية لا تتعدد ، وإن تعدد موصوفها تقول هم رجال سواء لزيد بمعنى مثل لزيد.

وإنما عدي سواء بعلى هنا وفي غير موضع ولم يعلق بعند ونحوها مع أنه المقصود من الاستعلاء في مثله ، للإشارة إلى تمكن الاستواء عند المتكلم وأنه لا مصرف له عنه ولا تردد له فيه فالمعنى سواء عندهم الإنذار وعدمه.

واعلم أن للعرب في سواء استعمالين : أحدهما أن يأتوا بسواء على أصل وضعه من الدلالة على معنى التساوي في وصف بين متعدد فيقع معه (سواء) ما يدل على متعدد نحو ضمير الجمع في قوله تعالى : (فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ) [النحل : ٧١] ونحو العطف في قول بثينة :

سواء علينا يا جميل بن معمر

إذا مت بأساء الحياة ولينها

٢٤٦

ويجري إعرابه على ما يقتضيه موقعه من التركيب ، وثانيهما أن يقع مع همزة التسوية وما هي إلا همزة استفهام كثر وقوعها بعد كلمة (سَواءٌ) ومعها (أَمْ) العاطفة التي تسمى المتصلة كقوله تعالى) (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا) وهذا أكثر استعماليها وتردد النحاة في إعرابه وأظهر ما قالوه وأسلّمه أن (سَواءٌ) خبر مقدم وأن الفعل الواقع بعده مقترنا بالهمزة في تأويل مبتدأ لأنه صار بمنزلة المصدر إذ تجرد عن النسبة وعن الزمان ، فالتقدير في الآية سواء عليهم إنذارك وعدمه.

وأظهر عندي مما قالوه أن المبتدأ بعد (سَواءٌ) مقدر يدل عليه الاستفهام الواقع معه وأن التقدير سواء جواب (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) وهذا يجري على نحو قول القائل علمت أزيد قائم إذ تقديره علمت جواب هذا السؤال ، ولك أن تجعل (سَواءٌ) مبتدأ رافعا لفاعل سد مسد الخبر لأن (سَواءٌ) في معنى مستو فهو في قوة اسم الفاعل فيرفع فاعلا سادا مسد خبر المبتدأ وجواب مثل هذا الاستفهام لما كان واحدا من أمرين كان الإخبار باستوائهما عند المخبر مشيرا إلى أمرين متساويين ولأجل كون الأصل في خبره الإفراد كان الفعل بعد (سواء) مؤولا لا بمصدر ووجه الأبلغية فيه أن هذين الأمرين لخفاء الاستواء بينهما حتى ليسأل السائلون أفعل فلان كذا وكذا فيقال إن الأمرين سواء في عدم الاكتراث بهما وعدم تطلب الجواب على الاستفهام من أحدهما فيكون قوله تعالى : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ) مشيرا إلى أن الناس لتعجبهم في دوام الكفار على كفرهم مع ما جاءهم من الآيات بحيث يسأل السائلون أأنذرهم النبي أم لم ينذرهم متيقنين أنه لو أنذرهم لما ترددوا في الإيمان فقيل إنهم سواء عليهم جواب تساؤل الناس عن إحدى الأمرين ، وبهذا انتفى جميع التكلفات التي فرضها النحاة هنا ونبرأ مما ورد عليها من الأبحاث ككون الهمزة خارجة عن معنى الاستفهام ، وكيف يصح عمل ما بعد الاستفهام فيما قبله إذا أعرب (سواء) خبرا والفعل بعد الهمزة مبتدأ مجردا عن الزمان ، وككون الفعل مرادا منه مجرد الحدث ، وكدعوى كون الهمزة في التسوية مجازا بعلاقة اللزوم ، وكون أم بمعنى الواو ليكون الكلام لشيئين لا لأحد شيئين ونحو ذلك ، ولا نحتاج إلى تكلف الجواب عن الإيراد الذي أورد على جعل الهمزة بمعنى سواء إذ يؤول إلى معنى استوى الإنذار وعدمه عندهم سواء فيكون تكرارا خاليا من الفائدة فيجاب بما نقل عن صاحب «الكشاف» أنه قال معناه أن الإنذار وعدمه المستويين في علم المخاطب هما مستويان في عدم النفع ، فاختلفت جهة المساواة كما نقله التفتازانيّ في «شرح الكشاف».

٢٤٧

ويتعين إعراب (سواء) في مثله مبتدأ والخبر محذوف دل عليه الاستفهام تقديره جواب هذا الاستفهام فسواء في الآية مبتدأ ثان والجملة خبر (الَّذِينَ كَفَرُوا). ودع عنك كل ما خاض فيه الكاتبون على «الكشاف» ، وحرف (على) الذي يلازم كلمة (سَواءٌ) غالبا هو للاستعلاء المجازي المراد به التمكن أي إن هذا الاستواء متمكن منهم لا يزول عن نفوسهم ولذلك قد يجيء بعض الظروف في موضع على مع كلمة سواء مثل عند ، ولدي ، قال أبو الشغب العبسي (١) :

لا تعذلي في حندج إنّ حندجا

وليث كفرّين لدىّ سواء

وسيأتي تحقيق لنظير هذا التركيب عند قوله تعالى في سورة الأعراف [١٩٣] : (سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ) ، وقرأ ابن كثير : (أَأَنْذَرْتَهُمْ) بهمزتين أولهما محققة والثانية مسهلة. وقرأ قالون عن نافع وورش عنه في رواية البغداديين وأبو عمرو وأبو جعفر كذلك مع إدخال ألف بين الهمزتين ، وكلتا القراءتين لغة حجازية. وقرأه حمزة وعاصم والكسائي بتحقيق الهمزتين وهي لغة تميم. وروى أهل مصر عن ورش إبدال الهمزة الثانية ألفا. قال الزمخشري : وهو لحن ، وهذا يضعّف رواية المصريين عن ورش ، وهذا اختلاف في كيفية الأداء فلا ينافي التواتر.

(لا يُؤْمِنُونَ).

الأظهر أن هاته الجملة مسوقة لتقرير معنى الجملة التي قبلها وهي (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ) إلخ فلك أن تجعلها خبرا ثانيا عن (إنّ) واستفادة التأكيد من السياق ولك أن تجعلها تأكيدا وعلى الوجهين فقد فصلت إما جوازا على الأول وإما وجوبا على الثاني ، وقد فرضوا في إعرابها وجوها أخر لا نكثر بها لضعفها ، وقد جوز في «الكشاف» جعل جملة (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) اعتراضا لجملة (لا يُؤْمِنُونَ) وهو مرجوح لم يرتضه السعد والسيد ، إذ ليس محل الإخبار هو (لا يُؤْمِنُونَ) إنما المهم أن يخبر عنهم باستواء الإنذار وعدمه عندهم ، فإن في ذلك نداء على مكابرتهم وغباوتهم ، وعذرا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحرص على إيمانهم ، وتسجيلا بأن من لم يفتح سمعه وقلبه لتلقي الحق والرشاد لا ينفع فيه حرص ولا ارتياد ، وهذا وإن كان يحصل على تقديره جعل (لا

__________________

(١) هو من شعراء ديوان «الحماسة» إلا أن هذا الشعر في ديوان «الحماسة» غير منسوب في غالب النسخ ، وفي بعضها منسوب لأبي الشغب وهو بفتح الشين وسكون الغين المعجمتين ، اسمه عكرشة بن أربد ، شاعر مقل من شعراء العصر الأموي.

٢٤٨

يُؤْمِنُونَ) خبرا إلا أن المقصود من الكلام هو الأولى بالإخبار ، ولأنه يصير الخبر غير معتبر إذ يصير بمثابة أن يقال إن الذين كفروا لا يؤمنون ، فقد علم أنهم كفروا فعدم إيمانهم حاصل ، وإن كان المراد من (لا يُؤْمِنُونَ) استمرار الكفر في المستقبل إلا أنه خبر غريب بخلاف ما إذا جعل تفسيرا للخبر.

وقد احتج بهاته الآية الذين قالوا بوقوع التكليف بما لا يطاق احتجاجا على الجملة إذ مسألة التكليف بما لا يطاق بقيت زمانا غير محررة ، وكان كل من لاح له فيها دليل استدل به ، وكان التعبير عنها بعبارات فمنهم من يعنونها التكليف بالمحال ، ومنهم من يعبر بالتكليف بما ليس بمقدور ، ومنهم من يعبر بالتكليف بما لا يطاق ، ثم إنهم ينظرون مرة للاستحالة الذاتية العقلية ، ومرة للذاتية العادية ، ومرة للعرضية ، ومرة للمشقة القوية المحرجة للمكلف فيخلطونها بما لا يطاق ولقد أفصح أبو حامد الأسفراييني وأبو حامد الغزالي وأضرابهما عما يرفع القناع عن وجه المسألة فصارت لا تحير أفهاما وانقلب قتادها ثماما ، وذلك أن المحال منه محال لذاته عقلا كجمع النقيضين ومنه محال عادة كصعود السماء ومنه ما فيه حرج وإعنات كذبح المرء ولده ووقوف الواحد لعشرة من أقرانه ، ومنه محال عرضت له الاستحالة بالنظر إلى شيء آخر كإيمان من علم الله عدم إيمانه وحج من علم الله أنه لا يحج ، وكل هاته أطلق عليها ما لا يطاق كما في قوله تعالى : (وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) إذ المراد ما يشق مشقة عظيمة ، وأطلق عليها المحال حقيقة ومطابقة في بعضها والتزاما في البعض ، ومجازا في البعض ، وأطلق عليها عدم المقدور كذلك ، كما أطلق الجواز على الإمكان ، وعلى الإمكان للحكمة ، وعلى الوقوع ، فنشأ من تفاوت هاته الأقسام واختلاف هاته الإطلاقات مقالات ملأت الفضاء ، وكانت للمخالفين كحجر المضاء ، فلما قيض الله أعلاما نفوا ما شاكها ، وفتحوا أغلاقها ، تبين أن الجواز الإمكاني في الجميع ثابت لأن الله تعالى يفعل ما يشاء لو شاء ، لا يخالف في ذلك مسلم. وثبت أن الجواز الملائم للحكمة منتف عندنا وعند المعتزلة وإن اختلفنا في تفسير الحكمة لاتفاق الكل على أن فائدة التكليف تنعدم إذا كان المكلف به متعذر الوقوع. وثبت أن الممتنع لتعلق العلم بعدم وقوعه مكلف به جوازا ووقوعا ، وجل التكاليف لا تخلو من ذلك ، وثبت ما هو أخص وهو رفع الحرج الخارجي عن الحد المتعارف ، تفضلا من الله لقوله : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج : ٧٨] وقوله : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ) [المزمل : ٢٠] أي لا تطيقونه كما أشار إليه ابن العربي في «الأحكام».

٢٤٩

هذا ملاك هاته المسألة على وجه يلتئم به متناثرها ، ويستأنس متنافرها. وبقي أن نبين لكم وجه تعلق التكليف بمن علم الله عدم امتثاله أو بمن أخبر الله تعالى بأنه لا يمتثل كما في هاته الآية ، وهي أخص من مسألة العلم بعدم الوقوع إذ قد انضم الإخبار إلى العلم كما هو وجه استدلال المستدل بها ، فالجواب أن من علم الله عدم فعله لم يكلفه بخصوصه ولا وجّه له دعوة تخصه إذ لم يثبت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خص أفرادا بالدعوة إلّا وقد آمنوا كما خص عمر بن الخطاب حين جاءه ، بقوله : «أما آن لك يا ابن الخطاب أن تقول لا إله إلا الله» وقوله لأبي سفيان يوم الفتح قريبا من تلكم المقالة ، وخص عمه أبا طالب بمثلها ، ولم تكن يومئذ قد نزلت هذه الآية ، فلما كانت الدعوة عامة وهم شملهم العموم بطل الاستدلال بالآية وبالدليل العقلي ، فلم يبق إلا أن يقال لما ذا لم يخصّص من علم عدم امتثاله من عموم الدعوة ، ودفع ذلك أن تخصيص هؤلاء يطيل الشريعة ويجرئ غيرهم ويضعف إقامة الحجة عليهم ، ويوهم عدم عموم الرسالة ، على أن الله تعالى قد اقتضت حكمته الفصل بين ما في قدره وعلمه ، وبين ما يقتضيه التشريع والتكليف ، وسرّ الحكمة في ذلك بيناه في مواضع يطول الكلام بجلبها ويخرج من غرض التفسير ، وأحسب أن تفطنكم إلى مجمله ليس بعسير.

[٧] (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧))

(خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ).

هذه الجملة جارية مجرى التعليل للحكم السابق في قوله تعالى : (سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [البقرة : ٦] وبيان لسببه في الواقع ليدفع بذلك تعجب المتعجبين من استواء الإنذار وعدمه عندهم ومن عدم نفوذ الإيمان إلى نفوسهم مع وضوح دلائله ، فإذا علم أن على قلوبهم ختما وعلى أسماعهم وأن على أبصارهم غشاوة علم سبب ذلك كله وبطل العجب ، فالجملة استئناف بياني يفيد جواب سائل يسأل عن سبب كونهم لا يؤمنون ، وموقع هذه الجملة في نظم الكلام مقابل موقع جملة (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥] فلهذه الجملة مكانة بين ذم أصحابها بمقدار ما لتلك من المكانة في الثناء على أربابها.

والختم حقيقته السد على الإناء والغلق على الكتاب بطين ونحوه مع وضع علامة

٢٥٠

مرسومة في خاتم ليمنع ذلك من فتح المختوم ، فإذا فتح علم صاحبه أنه فتح لفساد يظهر في أثر النقش وقد اتخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاتما لذلك ، وقد كانت العرب تختم على قوارير الخمر ليصلحها انحباس الهواء عنها وتسلم من الأقذار في مدة تعتيقها. وأما تسمية البلوغ لآخر الشيء ختما فلأن ذلك الموضع أو ذلك الوقت هو ظرف وضع الختم فيسمى به مجازا. والخاتم بفتح التاء الطين الموضوع على المكان المختوم ، وأطلق على القالب المنقوش فيه علامة أو كتابة يطبع بها على الطين الذي يختم به. وكان نقش خاتم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : محمد رسول الله. وطين الختم طين خاص يشبه الجبس يبل بماء ونحوه ويشد على الموضع المختوم فإذا جف كان قوي الشد لا يقلع بسهولة وهو يكون قطعا صغيرة كل قطعة بمقدار مضغة وكانوا يجعلونه خواتيم في رقاب أهل الذمة قال بشار :

ختم الحب لها في عنقي

موضع الخاتم من أهل الذّمم

والغشاوة فعالة من غشاه وتغشاه إذا حجبه ومما يصاغ له وزن فعالة بكسر الفاء معنى الاشتمال على شيء مثل العمامة والعلاوة واللّفافة. وقد قيل إن صوغ هذه الزنة للصناعات كالخياطة لما فيها من معنى الاشتمال المجازي ومعنى الغشاوة الغطاء.

وليس الختم على القلوب والأسماع ولا الغشاوة على الأبصار هنا حقيقة كما توهمه بعض المفسرين فيما نقله ابن عطية بل ذلك جار على طريقة المجاز بأن جعل قلوبهم أي عقولهم في عدم نفوذ الإيمان والحق والإرشاد إليها ، وجعل أسماعهم في استكاكها عن سماع الآيات والنذر ، وجعل أعينهم في عدم الانتفاع بما ترى من المعجزات والدلائل الكونية ، كأنها مختوم عليها ومغشّى دونها إما على طريقة الاستعارة بتشبيه عدم حصول النفع المقصود منها بالختم والغشاوة ثم إطلاق لفظ ختم على وجه التبعية ولفظ الغشاوة على وجه الأصلية وكلتاهما استعارة تحقيقية إلا أن المشبه محقق عقلا لا حسا. ولك أن تجعل الختم والغشاوة تمثيلا بتشبيه هيئة وهمية متخيلة في قلوبهم أي إدراكهم من التصميم على الكفر وإمساكهم عن التأمل في الأدلة ـ كما تقدم ـ بهيئة الختم ، وتشبيه هيئة متخيلة في أبصارهم من عدم التأمل في الوحدانية وصدق الرسول بهيئة الغشاوة وكل ذينك من تشبيه المعقول بالمحسوس ، ولك أن تجعل الختم والغشاوة مجازا مرسلا بعلاقة اللزوم والمراد اتصافهم بلازم ذلك وهو أن لا تعقل ولا تحس ، والختم في اصطلاح الشرع استمرار الضلالة في نفس الضال أو خلق الضلالة ، ومثله الطبع ، والأكنة.

٢٥١

والظاهر أن قوله : (وَعَلى سَمْعِهِمْ) معطوف على قوله : (قُلُوبِهِمْ) فتكون الأسماع مختوما عليها وليس هو خبرا مقدما لقوله (غِشاوَةٌ) فيكون : (وَعَلى أَبْصارِهِمْ) معطوفا عليه لأن الغشاوة تناسب الأبصار لا الأسماع ولأن الختم يناسب الأسماع كما يناسب القلوب إذ كلاهما يشبه بالوعاء ويتخيل فيه معنى الغلق والسد ، فإن العرب تقول : استكّ سمعه ووقر سمعه وجعلوا أصابعهم في آذانهم.

والمراد من القلوب هنا الألباب والعقول ، والعرب تطلق القلب على اللحمة الصنوبرية ، وتطلقه على الإدراك والعقل ، ولا يكادون يطلقونه على غير ذلك بالنسبة للإنسان وذلك غالب كلامهم على الحيوان ، وهو المراد هنا ، ومقره الدماغ لا محالة ولكن القلب هو الذي يمده بالقوة التي بها عمل الإدراك.

وإنما أفرد السمع ولم يجمع كما جمع (قلوبهم) و (أبصارهم) إما لأنه أريد منه المصدر الدال على الجنس ، إذ لا يطلق على الآذان سمع ألا ترى أنه جمع لما ذكر الآذان في قوله : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) [البقرة : ١٩] وقوله : (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) [فصلت : ٥] فلما عبر بالسمع أفرد لأنه مصدر بخلاف القلوب والأبصار فإن القلوب متعددة والأبصار جمع بصر الذي هو اسم لا مصدر ، وإما لتقدير محذوف أي وعلى حواس سمعهم أو جوارح سمعهم. وقد تكون في إفراد السمع لطيفة روعيت من جملة بلاغة القرآن هي أن القلوب كانت متفاوتة واشتغالها بالتفكر في أمر الإيمان والدين مختلف باختلاف وضوح الأدلة ، وبالكثرة والقلة وتتلقى أنواعا كثيرة من الآيات فلكل عقل حظه من الإدراك ، وكانت الأبصار أيضا متفاوتة التعلق بالمرئيات التي فيها دلائل الوحدانية في الآفاق ، وفي الأنفس التي فيها دلالة ، فلكل بصر حظه من الالتفات إلى الآيات المعجزات والعبر والمواعظ ، فلما اختلفت أنواع ما تتعلقان به جمعت. وأما الأسماع فإنما كانت تتعلق بسماع ما يلقى إليها من القرآن فالجماعات إذا سمعوا القرآن سمعوه سماعا متساويا وإنما يتفاوتون في تدبره والتدبر من عمل العقول فلما اتحد تعلقها بالمسموعات جعلت سمعا واحدا.

وإطلاق أسماء الجوارح والأعضاء إذا أريد به المجاز عن أعمالها ومصادرها جاز في إجرائه على غير المفرد إفراده وجمعه وقد اجتمعا هنا فأما الإطلاق حقيقة فلم يصح ، قال الجاحظ في «البيان» (١) : قال بعضهم لغلام له اشتر لي رأس كبشين فقيل له ذلك لا

__________________

(١) انظر : صحيفة ٢٠١ من الجزء الأول طبع بولاق.

٢٥٢

يكون ، فقال : إذا فرأسي كبش فزاد كلامه إحالة» وفي «الكشاف» أنهم يقولون ذلك إذا أمن اللبس كقول الشاعر :

كلوا في بعض بطنكم تعفوا

فإنّ زمانكم زمن خميص

وهو نظير ما قاله سيبويه في باب ما لفظ به مما هو مثنى كما لفظ بالجمع من نحو قوله تعالى : (فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) [التحريم : ٤] ويقولون ضع رحالهما وإنما هما اثنان وهو خلاف كلام الجاحظ وقد يكون ما عده الجاحظ على القائل خطأ لأن مثل ذلك القائل لا يقصد المعاني الثانية فحمل كلامه على الخطأ لجهله بالعربية ولم يحمل على قصد لطيفة بلاغية بخلاف ما في البيت فضلا عن الآية كقول علي رضي‌الله‌عنه لمن سأله حين مرت جنازة : من المتوفى (بصيغة اسم الفاعل) فقال له علي : «الله» لأنه علم أنه أخطأ أراد أن يقول المتوفي وإلا فإنه يصح أن يقال توفى فلان بالبناء للفاعل فهو متوف أي استوفى أجله ، وقد قرأ عليّ نفسه قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) بصيغة المبني للفاعل.

وبعد كون الختم مجازا في عدم نفوذ الحق لعقولهم وأسماعهم وكون ذلك مسببا لا محالة عن إعراضهم ومكابرتهم أسند ذلك الوصف إلى الله تعالى لأنه المقدّر له على طريقة إسناد نظائر مثل هذا الوصف في غير ما آية من القرآن نحو قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) [النحل : ١٠٨] وقوله : (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا) [الكهف : ٢٨] ونظائر ذلك كثيرة في القرآن كثرة تنبو عن التأويل ومحملها عندنا على التحقيق أنها واردة على اعتبار أن كل واقع هو بقدر الله تعالى وأن الله هدى ووفق بعضا ، وأضل وخذل بعضا في التقدير والتكوين ، فلا ينافي ذلك ورود الآية ونظائرها في معنى النعي على الموصوفين بذلك والتشنيع بحالهم لأن ذلك باعتبار ما لهم من الميل والاكتساب ، وبالتحقيق القدرة على الفعل والترك التي هي دون الخلق ، فالله تعالى قدّر الشرور وأوجد في الناس القدرة على فعلها ولكنه نهاهم عنها لأنه أوجد في الناس القدرة على تركها أيضا ، فلا تعارض بين القدر والتكليف إذ كلّ راجع إلى جهة خلاف ما توهمته القدرية فنفوا القدر وهو التقدير والعلم وخلاف ما توهمته المعتزلة من عدم تعلق قدرة الله تعالى بأفعال المكلفين ولا هي مخلوقة له وإنما المخلوق له ذواتهم وآلات أفعالهم ، ليتوسلوا بذلك إلى إنكار صحة إسناد مثل هاته الأفعال إلى الله تعالى تنزيها له عن إيجاد الفساد ، وتأويل ما ورد من ذلك : على أن ذلك لم يغن عنهم شيئا لأنهم قائلون بعلمه تعالى بأنهم سيفعلون وهو قادر على سلب القدر منهم فبتركه إياهم على تلك القدرة إمهال لهم على فعل القبيح وهو

٢٥٣

قبيح ، فالتحقيق ما ذهب إليه الأشاعرة وغيرهم من أهل السنة أن الله هو مقدر أفعال العباد إلا أن فعلها هو من العبد لا من الله وهو الذي أفصح عنه إمام الحرمين وأضرابه من المحققين. ولا يرد علينا أنه كيف أقدرهم على فعل المعاصي؟ لأنه يرد على المعتزلة أيضا أنه كيف علم بعد أن أقدرهم بأنهم شارعون في المعاصي ولم يسلب عنهم القدرة؟ فكان مذهب الأشاعرة أسعد بالتحقيق وأجرى على طريق الجمع بين ما طفح به الكتاب والسنة من الأدلة. ولنا فيه تحقيق أعلى من هذا بسطناه في «رسالة القدرة والتقدر» التي لما تظهر.

وإسناد الختم المستعمل مجازا إلى الله تعالى للدلالة على تمكن معنى الختم من قلوبهم وأن لا يرجى زواله كما يقال خلقة في فلان ، والوصف الذي أودعه الله في فلان أو أعطاه فلانا ، وفرق بين هذا الإسناد وبين الإسناد في المجاز العقلي لأن هذا أريد منه لازم المعنى والمجاز العقلي إنما أسند فيه فعل لغير فاعله لملابسة ، والغالب صحة فرض الاعتبارين فيما صلح لأحدهما وإنما يرتكب ما يكون أصلح بالمقام.

وجملة : (وَعَلى سَمْعِهِمْ) معطوفة على قوله : و (عَلى قُلُوبِهِمْ) بإعادة الجار لزيادة التأكيد حتى يكون المعطوف مقصودا لأن على مؤذنة بالمتعلق فكأنّ (خَتَمَ) كرر مرتين. وفيه ملاحظة كون الأسماع مقصودة بالختم إذ ليس العطف كالتصريح بالعامل. وليس قوله (وَعَلى سَمْعِهِمْ) خبرا مقدما لغشاوة لأن الأسماع لا تناسبها الغشاوة وإنما يناسبها السد ألا ترى إلى قوله تعالى : (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) [الجاثية : ٢٣] ولأن تقديم قوله : (وَعَلى أَبْصارِهِمْ) دليل على أنه هو الخبر لأن التقديم لتصحيح الابتداء بالنكرة فلو كان قوله : (وَعَلى سَمْعِهِمْ) هو الخبر لاستغنى بتقديم أحدهما وأبقى الآخر على الأصل من التأخير فقيل وعلى سمعهم غشاوة وعلى أبصارهم.

وفي تقديم السمع على البصر في مواقعه من القرآن دليل على أنه أفضل فائدة لصاحبه من البصر فإن التقديم مؤذن بأهمية المقدم وذلك لأن السمع آلة لتلقي المعارف التي بها كمال العقل ، وهو وسيلة بلوغ دعوة الأنبياء إلى أفهام الأمم على وجه أكمل من بلوغها بواسطة البصر لو فقد السمع ، ولأن السمع ترد إليه الأصوات المسموعة من الجهات الست بدون توجه ، بخلاف البصر فإنه يحتاج إلى التوجه بالالتفات إلى الجهات غير المقابلة.

(وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).

٢٥٤

العذاب : الألم ، وقد قيل إن أصله الإعذاب مصدر أعذب إذا أزال العذوبة لأن العذاب يزيل حلاوة العيش فصيغ منه اسم مصدر بحذف الهمزة ، أو هو اسم موضع للألم بدون ملاحظة اشتقاق من العذوبة إذ ليس يلزم مصير الكلمة إلى نظيرتها في الحروف.

ووصف العذاب بالعظيم دليل على أن تنكير عذاب للنوعية وذلك اهتمام بالتنصيص على عظمه لأن التنكير وإن كان صالحا للدلالة على التعظيم إلا أنه ليس بنص فيه ولا يجوز أن يكون (عَظِيمٌ) تأكيدا لما يفيده التنكير من التعظيم كما ظنه صاحب «المفتاح» لأن دلالة التنكير على التعظيم غير وضعية ، والمدلولات غير الوضعية يستغني عنها إذا ورد ما يدل عليها وضعا فلا يعد تأكيدا. والعذاب في الآية ، إما عذاب النار في الآخر ، وإما عذاب القتل والمسغبة في الدنيا.

[٨] (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨))

هذا فريق آخر وهو فريق له ظاهر الإيمان وباطنه الكفر وهو لا يعدو أن يكون مبطنا الشرك أو مبطنا التمسك باليهودية ويجمعه كله إظهار الإيمان كذبا ، فالواو لعطف طائفة من الجمل على طائفة مسوق كل منهما لغرض جمعتهما في الذكر المناسبة بين الغرضين فلا يتطلب في مثله إلا المناسبة بين الغرضين لا المناسبة بين كل جملة وأخرى من كلا الغرضين على ما حققه التفتازانيّ في شرح الكشاف ، وقال السيد إنه أصل عظيم في باب العطف لم ينتبه له كثيرون فأشكل عليهم الأمر في مواضع شتى وأصله مأخوذ من قول «الكشاف» : «وقصة المنافقين عن آخرها معطوفة على قصة (الَّذِينَ كَفَرُوا) [البقرة : ٦] كما تعطف الجملة على الجملة» فأفاد بالتشبيه أن ذلك ليس من عطف الجملة على الجملة. قال المحقق عبد الحكيم : وهذا ما أهمله السكاكي أي في أحوال الفصل والوصل وتفرد به صاحب «الكشاف».

واعلم أن الآيات السابقة لما انتقل فيها من الثناء على القرآن بذكر المهتدين به بنوعيهم الذين يؤمنون بالغيب والذين يؤمنون بما أنزل إليك إلى آخر ما تقدم ، وانتقل من الثناء عليهم إلى ذكر أضدادهم وهم الكافرون الذين أريد بهم الكافرون صراحة وهم المشركون ، كان السامع قد ظن أن الذين أظهروا الإيمان داخلون في قوله (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) [البقرة : ٣] فلم يكن السامع سائلا عن قسم آخر وهم الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الشرك أو غيره وهم المنافقون الذين هم المراد هنا بدليل قوله : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) [البقرة : ١٤] إلخ ، لأنه لغرابته وندرة وصفه بحيث لا يخطر بالبال وجوده ناسب

٢٥٥

أن يذكر أمره للسامعين ، ولذلك جاء بهذه الجملة معطوفة بالواو إذ ليست الجملة المتقدمة مقتضية لها ولا مثيرة لمدلولها في نفوس السامعين ، بخلاف جملة : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ) [البقرة : ٦] ترك عطفها على التي قبلها لأن ذكر مضمونها بعد المؤمنين كان مترقبا للسامع ، فكان السامع كالسائل عنه فجاء الفصل للاستئناف البياني.

وقوله : (وَمِنَ النَّاسِ) خبر مقدم لا محالة وقد يتراءى أن الإخبار بمثله قليل الجدوى لأنه إذا كان المبتدأ دالا على ذات مثله ، أو معنى لا يكون إلا في الناس كان الإخبار عن المبتدأ بأنه من الناس أو في الناس غير مجد بخلاف قولك الخضر من الناس ، أي لا من الملائكة فإن الفائدة ظاهرة ، فوجه الإخبار بقولهم من الناس في نحو الآية ونحو قول بعض أعزة الأصحاب في تهنئة لي بخطة القضاء :

في الناس من ألقى قلادتها إلى

خلف فحرّم ما ابتغى وأباحا

إن القصد إخفاء مدلول الخبر عنه كما تقول قال هذا إنسان وذلك عند ما يكون الحديث يكسب ذما أو نقصانا ، ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله» وقد كثر تقديم الخبر في مثل هذا التركيب لأن في تقديمه تنبيها للسامع على عجيب ما سيذكر ، وتشويقا لمعرفة ما يتم به الإخبار ولو أخر لكان موقعه زائدا لحصول العلم بأن ما ذكره المتكلم لا يقع إلا من إنسان كقول موسى بن جابر الحنفي :

ومن الرجال أسنة مذروبة

ومزنّدون وشاهد كالغائب

وقد قيل إن موقع (مِنَ النَّاسِ) مؤذن بالتعجب وإن أصل الخبر إفادة أن فاعل هذا الفعل من الناس لئلا يظنه المخاطب من غير الناس لشناعة الفعل ، وهذا بعيد عن القصد لأنه لو كان كما قال لم يكن للتقديم فائدة بل كان تأخيره أولى حتى يتقرر الأمر الذي يوهم أن المبتدأ ليس (مِنَ النَّاسِ) ، هذا توجيه هذا الاستعمال وذلك حيث لا يكون لظاهر الإخبار بكون المتحدث عنه من أفراد الناس كبير فائدة فإن كان القصد إفادة ذلك حيث يجهله المخاطب كقولك من الرجال من يلبس برقعا تريد الإخبار عن القوم المدعون بالملثّمين (من لمتونة) ، أو حيث ينزّل المخاطب منزلة الجاهل كقول عبد الله بن الزّبير (بفتح الزاي وكسر الباء) :

وفي الناس إن رثّت حبالك واصل

وفي الأرض عن دار القلى متحوّل

إذا كان حال المخاطبين حال من يظن أن المتكلم لا يجد من يصله إن قطعه هو ،

٢٥٦

فذكر (مِنَ النَّاسِ) ونحوه في مثل هذا وارد على أصل الإخبار ، وتقديم الخبر هنا للتشويق إلى استعلام المبتدأ وليس فيه إفادة تخصيص. وإذا علمت أن قوله (مِنَ النَّاسِ) مؤذن بأن المتحدث عنهم ستساق في شأنهم قصة مذمومة وحالة شنيعة إذ لا يستر ذكرهم إلا لأن حالهم من الشناعة بحيث يستحي المتكلم أن يصرح بموصوفها وفي ذلك من تحقير شأن النفاق ومذمته أمر كبير ، فوردت في شأنهم ثلاث عشرة آية نعي عليهم فيها خبثهم ومكرهم ، وسوء عواقبهم ، وسفه أحلامهم ، وجهالتهم ، وأردف ذلك كله بشتم واستهزاء وتمثيل حالهم في أشنع الصور وهم أحرياء بذلك فإن الخطة التي تدربوا فيها تجمع مذام كثيرة إذ النفاق يجمع الكذب ، والجبن ، والمكيدة ، وأفن الرأي ، والبله ، وسوء السلوك ، والطمع ، وإضاعة العمر ، وزوال الثقة ، وعداوة الأصحاب ، واضمحلال الفضيلة.

أما الكذب فظاهر ، وأما الجبن فلأنه لولاه لما دعاه داع إلى مخالفة ما يبطن ، وأما المكيدة فإنه يحمل على اتقاء الاطلاع عليه بكل ما يمكن ، وأما أفن الرأي فلأن ذلك دليل على ضعف في العقل إذ لا داعي إلى ذلك ، وأما البله فللجهل بأن ذلك لا يطول الاغترار به ، وأما سوء السلوك فلأنّ طبع النفاق إخفاء الصفات المذمومة ، والصفات المذمومة ، إذا لم تظهر لا يمكن للمربي ولا للصديق ولا لعموم الناس تغييرها على صاحبها فتبقى كما هي وتزيد تمكنا بطول الزمان حتى تصير ملكة يتعذر زوالها ، وأما الطمع فلأن غالب أحوال النفاق يكون للرغبة في حصول النفع ، وأما إضاعة العمر فلأن العقل ينصرف إلى ترويج أحوال النفاق وما يلزم إجراؤه مع الناس ونصب الحيل لإخفاء ذلك وفي ذلك ما يصرف الذهن عن الشغل بما يجدي ، وأما زوال الثقة فلأن الناس إن اطلعوا عليه ساء ظنهم فلا يثقون بشيء يقع منه ولو حقا ، وأما عداوة الأصحاب فكذلك لأنه إذا علم أن ذلك خلق لصاحبه خشي غدره فحذره فأدى ذلك إلى عداوته ، وأما اضمحلال الفضيلة فنتيجة ذلك كله.

وقد أشار قوله تعالى : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) إلى الكذب ، وقوله : (يُخادِعُونَ) [البقرة : ٩] إلى المكيدة والجبن ، وقوله : (ما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) [البقرة : ٩] إلى أفن الرأي ، وقوله : (وَما يَشْعُرُونَ) [البقرة : ٩] إلى البله ، وقوله : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) [البقرة : ١٠] إلى سوء السلوك ، وقوله : (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) [البقرة : ١٠] إلى دوام ذلك وتزايده مع الزمان ، وقوله : (قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) [البقرة : ١١] إلى إضاعة العمر في غير المقصود ، وقوله :

٢٥٧

(قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) [البقرة : ١٤] مؤكّدا بإنّ إلى قلة ثقة أصحابهم فيهم ، وقوله : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) [البقرة : ١٦] إلى أن أمرهم لم يحظ بالقبول عند أصحابهم ، وقوله : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [البقرة : ١٨] إلى اضمحلال الفضيلة منهم وسيجيء تفصيل لهذا ، وجمع عند قوله تعالى : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ).

والناس اسم جمع إنسيّ بكسر الهمزة وياء النسب فهو عوض عن أناسيّ الذي هو الجمع القياسي لإنس وقد عوضوا عن أناسي أناس بضم الهمزة وطرح ياء النسب ، دلّ على هذا التعويض ظهور ذلك في قول عبيد بن الأبرص الأسدي يخاطب إمرأ القيس :

إنّ المنايا يطّلع

ن على الأناس الآمنينا

ثم حذفوا همزته تخفيفا ، وحذف الهمزة للتخفيف شائع كما قالوا لوقة في ألوقة وهي الزّبدة ، وقد التزم حذف همزة أناس عند دخول أل عليه غالبا بخلاف المجرد من أل فذكر الهمزة وحذفها شائع فيه وقد قيل إن ناس جمع وإنه من جموع جاءت على وزن فعال بضم الفاء مثل ظؤار جمع ظئر ، ورخال جمع رخل وهي الأنثى الصغيرة من الضأن ووزن فعال قليل في الجموع في كلام العرب وقد اهتم أئمة اللغة بجمع ما ورد منه فذكرها ابن خالويه في «كتاب (ليس)» وابن السكيت وابن بري. وقد عد المتقدمون منها ثمانية جمعت في ثلاثة أبيات تنسب للزمخشري والصحيح أنها لصدر الأفاضل تلميذه ثم ألحق كثير من اللغويين بتلك الثمان كلمات أخر حتى أنهيت إلى أربع وعشرين جمعا ذكرها الشهاب الخفاجي في «شرح درة الغواص» وذكر معظمها في «حاشيته على تفسير البيضاوي» وهي فائدة من علم اللغة فارجعوا إليها إن شئتم.

وقيل إن ما جاء بهذا الوزن أسماء جموع ، وكلام «الكشاف» يؤذن به ومفرد هذا الجمع إنسي أو إنس أو إنسان وكله مشتق من أنس ضد توحش لأن الإنسان يألف ويأنس.

والتعريف في الناس للجنس لأن ما علمت من استعماله في كلامهم يؤيد إرادة الجنس ويجوز أن يكون التعريف للعهد والمعهود هم الناس المتقدم ذكرهم في قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) [البقرة : ٦] أو الناس الذين يعهدهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون في هذا الشأن ، و (من) موصولة والمراد بها فريق وجماعة بقرينة قوله (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) وما بعده من صيغ الجمع.

والمذكور بقوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ) إلخ قسم ثالث مقابل للقسمين المتقدمين

٢٥٨

للتمايز بين الجميع بأشهر الصفات وإن كان بين البعض أو الجميع صفات متفقة في الجملة فلا يشتبه وجه جعل المنافقين قسيما للكافرين مع أنهم منهم لأن المراد بالتقسيم الصفات المخصصة.

وإنما اقتصر القرآن من أقوالهم على قولهم (آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) مع أنهم أظهروا الإيمان بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إيجازا لأن الأول هو مبدأ الاعتقادات كلها لأن من لم يؤمن برب واحد لا يصل إلى الإيمان بالرسول إذ الإيمان بالله هو الأصل وبه يصلح الاعتقاد وهو أصل العمل ، والثاني هو الوازع والباعث في الأعمال كلها وفيه صلاح الحال العملي أو هم الذين اقتصروا في قولهم على هذا القول لأنهم لغلوهم في الكفر لا يستطيعون أن يذكروا الإيمان بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم استثقالا لهذا الاعتراف فيقتصرون على ذكر الله واليوم الآخر إيهاما للاكتفاء ظاهرا ومحافظة على كفرهم باطنا لأن أكثرهم وقادتهم من اليهود.

وفي التعبير بيقول في مثل هذا المقام إيماء إلى أن ذلك قول غير مطابق للواقع لأن الخبر المحكي عن الغير إذا لم يتعلق الغرض بذكر نصه وحكى بلفظ يقول أومأ ذلك إلى أنه غير مطابق لاعتقاده أو أن المتكلم يكذبه في ذلك ، ففيه تمهيد لقوله : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) وجملة وما هم بمؤمنين في موضع الحال من ضمير (يَقُولُ) أي يقول هذا القول في حال أنهم غير مؤمنين.

والآية أشارت إلى طائفة من الكفار وهم المنافقون الذين كان بعضهم من أهل يثرب وبعضهم من اليهود الذين أظهروا الإسلام وبقيتهم من الأعراب المجاورين لهم ، ورد في حديث كعب بن مالك أن المنافقين الذين تخلفوا في غزوة تبوك بضعة وثمانون ، وقد عرف من أسمائهم عبد الله بن أبي بن سلول وهو رأس المنافقين ، والجد بن قيس ، ومعتب بن قشير ، والجلاس بن سويد الذي نزل فيه : (يَحْلِفُونَ بِاللهِ ما قالُوا) [التوبة : ٧٤] ، وعبد الله بن سبأ اليهودي ولبيد بن الأعصم من بني زريق حليف اليهود كما في باب السحر من كتاب الطب من «صحيح البخاري» ، والأخنس أبىّ بن شريق الثقفي كان يظهر الود والإيمان وسيأتي عند قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ) [البقرة : ٢٠٤] ، وزيد بن اللّصيت القينقاعي ووديعة بن ثابت من بني عمرو بن عوف ، ومخشّن بن حميّر الأشجعي اللذين كانا يثبطان المسلمين من غزوة تبوك ، وقد قيل إن زيد بن اللّصيت تاب وحسن حاله ، وقيل لا ، وأما مخشّن فتاب وعفا الله عنه وقتل شهيدا يوم القيامة.

وفي كتاب «المرتبة الرابعة» لابن حزم قد ذكر قوم معتّب بن قشير الأوسي من بني

٢٥٩

عمرو بن عوف في المنافقين وهذا باطل لأن حضوره بدرا يبطل هذا الظن بلا شك ولكنه ظهر منه يوم أحد ما يدل على ضعف إيمانه فلمزوه بالنفاق فإنه القائل يوم أحد : (لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا) [آل عمران : ١٥٤] ، رواه عنه الزبير بن العوام قال ابن عطية كان مغموصا بالنفاق. ومن المنافقين أبو عفك أحد بني عمرو بن عوف ظهر نفاقه حين قتل رسول الله الحارث بن سويد بن صامت وقال شعرا يعرض بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد أمر رسول الله بقتل أبي عفك فقتله سالم بن عمير ، ومن المنافقات عصماء بنت مروان من بني أمية بن زيد نافقت لما قتل أبو عفك وقالت شعرا تعرض بالنبي قتلها عمير بن عدي الخطمي وقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لا ينتطح فيها عنزان» ، ومن المنافقين بشير بن أبيرق كان منافقا يهجو أصحاب رسول الله وشهد أحدا ومنهم ثعلبة بن حاطب وهو قد أسلم وعد من أهل بدر ، ومنهم بشر المنافق كان من الأنصار وهو الذي خاصم يهوديا فدعا اليهوديّ بشرا إلى حكم النبي فامتنع بشر وطلب المحاكمة إلى كعب بن الأشرف وهذا هو الذي قتله عمر وقصته في قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) في سورة النساء [٦٠]. وعن ابن عباس أن المنافقين على عهد رسول الله كانوا ثلاثمائة من الرجال ومائة وسبعين من النساء ، فأما المنافقون من الأوس والخزرج فالذي سن لهم النفاق وجمعهم عليه هو عبد الله بن أبى حسدا وحنقا على الإسلام لأنه قد كان أهل يثرب بعد أن انقضت حروب بعاث بينهم وهلك جل ساداتهم فيها قد اصطلحوا على أن يجعلوه ملكا عليهم ويعصبوه بالعصابة. قال سعد بن عبادة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث البخاري : «اعف عنه يا رسول الله واصفح فو الله لقد أعطاك الله الذي أعطاك ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة أن يعصبوه بالعصابة فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق بذلك» ا ه.

وأما اليهود فلأنهم أهل مكر بكل دين يظهر ولأنهم خافوا زوال شوكتهم الحالية من جهات الحجاز ، وأما الأعراب فهم تبع لهؤلاء ولذلك جاء : (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً) [الأعراف : ٩٧] الآية ، لأنهم يقلدون عن غير بصيرة وكل من جاء بعدهم على مثل صفاتهم فهو لا حق بهم فيما نعى الله عليهم وهذا معنى قول سلمان الفارسي في تفسير هذه الآية : «لم يجيء هؤلاء بعد» قال ابن عطية معنى قوله أنهم لم ينقرضوا بل يجيئون من كل زمان ا ه ، يعني أن سلمان لا ينكر ثبوت هذا الوصف لطائفة في زمن النبوة ولكن لا يرى المقصد من الآية حصر المذمة فيهم بل وفي الذين يجيئون من بعدهم.

وقوله : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) جيء في نفي قولهم بالجملة الاسمية ولم يجيء على

٢٦٠