تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٣٥

فأثبت النهل للرماح تشبيها لها بحالة الناهل فيما تصيبه من دماء الجرحى المرة بعد الأخرى كأنها لا يرويها ما تصيبه أولا ثم أتى بنهلت على وجه التبعية ، ومن هذا القسم عند التفتازانيّ الاستعارة في (على) من قوله تعالى : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) [البقرة : ٥] وقد تقدم الكلام عليه هناك.

فأما المثل الذي هو قول شبه مضربه بمورده ، وهو الذي وعدت بذكره آنفا فمعنى تشبيه مضربه بمورده أن تحصل حالة لها شبه بالحالة التي صدر فيها ذلك القول فيستحضر المتكلم تلك الحالة التي صدر فيها القول ويشبه بها الحالة التي عرضت وينطق بالقول الذي كان صدر في أثناء الحالة المشبه بها ليذكّر السامع بتلك الحالة ، وبأن حالة اليوم شبيهة بها ويجعل علامة ذكر ذلك القول الذي قيل في تلك الحالة وإذا حققت التأمل وجدت هذا العمل من قبيل الاستعارة التمثيلية المكنية لأجل كون تلك الألفاظ المسماة بالأمثال قد سارت ونقلت بين البلغاء في تلك الحوادث فكانت من لوازم الحالات المشبه بها لا محالة لمقارنتها لها في أذهان الناس فهي لوازم عرفية لها بين أهل الأدب فصارت من روادف أحوالها وكان ذكر تلك الأمثال رمزا إلى اعتبار الحالات التي قيلت فيها ، ومن أجل ذلك امتنع تغييرها عن ألفاظها الواردة بها لأنها إذا غيرت لم تبق على ألفاظها المحفوظة المعهودة فيزول اقترانها في الأذهان بصور الحوادث التي قيلت فيها فلم يعد ذكرها رمزا للحال المشبه به التي هي من روادفها لا محالة وفي هذا ما يغني عن تطلب الوجه في احتراس العرب من تغيير الأمثال حتى تسلموا من الحيرة في الحكم بين صاحب «الكشاف» وصاحب «المفتاح» إذ جعل صاحب «الكشاف» سبب منع الأمثال من التغيير ما فيها من الغرابة فقال : «ولم يضربوا مثلا ولا رأوه أهلا للتسيير ، ولا جديرا بالتداول إلا قولا فيه غرابة من بعض الوجوه ومن ثم حوفظ عليه وحمي من التغيير» فتردد شراحه في مراده من الغرابة ، وقال الطيبي الغرابة غموض الكلام وندرته وذلك إما أن يكون بحسب المعنى وإما أن يكون بحسب اللفظ ، أما الأول فكأن يرى عليه أثر التناقض وما هو بتناقض نحو قول الحكم بن عبد يغوث : رب رمية من غير رام ، أي رب رمية مصيبة من غير رام أي عارف وقوله تعالى : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) [البقرة : ١٧٩] إذ جعل القتل حياة. وأما الثاني بأن يكون فيه ألفاظ غريبة لا تستعملها العامة نحو قول الحباب بن المنذر : «أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجّب» (١) أو فيه حذف وإضمار نحو رمية من

__________________

(١) الجذيل والعذيق ـ بوزن التصغير ـ فالجذيل تصغير جذل وهو أصل الشجرة. والمحكك بصيغة

٣٠١

غير رام. أو فيه مشاكلة نحو : «كما تدين تدان». أراد كما تفعل تجازى. وفسر بعضهم الغرابة بالبلاغة والفصاحة حتى صارت عجيبة وعندي أنه ما أراد بالغرابة إلا أن يكون قولا بديعا خاصيا إذ الغريب مقابل المألوف والغرابة عدم الإلف يريد عدم الإلف به في رفعة الشأن. وأما صاحب «المفتاح» فجعل منعها من التغيير لورودها على سبيل الاستعارة فقال : ثم إن التشبيه التمثيلي متى شاع واشتهر استعماله على سبيل الاستعارة صار يطلق عليه المثل لا غير ا ه. وإلى طريقته مال التفتازانيّ والسيد. وقد علمت سرها وشرحها فيما بيناه. ولورود الأمثال على سبيل الاستعارة لا تغير عن لفظها الذي ورد في الأصل تذكيرا وتأنيثا وغيرهما. فمعنى قولهم في تعريف المثل بهذا الإطلاق : «قول شبه مضربه بمورده» أن مضربه هو الحالة المشبهة سميت مضربا لأنها بمنزلة مكان ضرب ذلك القول أي وضعه أي النطق به يقال ضرب المثل أي شبه ومثل قال تعالى : (أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما) [البقرة : ٢٦] وأما مورده فهو الحالة المشبه بها وهي التي ورد ذلك القول أي صدر عند حدوثها ، سميت موردا لأنها بمنزلة مكان الماء الذي يرده المستقون ، ويقال الأمثال السائرة أي الفاشية التي يتناقلها الناس ويتداولونها في مختلف القبائل والبلدان فكأنها تسير من بلد إلى بلد. و (الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) مفرد مراد به مشبه واحد لأن مستوقد النار واحد ولا معنى لاجتماع جماعة على استيقاد نار ولا يريبك كون الحالة المشبه حالة جماعة المنافقين ، كأن تشبيه الهيئة بالهيئة إنما يتعلق بتصوير الهيئة المشبهة بها لا بكونها على وزن الهيئة المشبهة فإن المراد تشبيه حال المنافقين في ظهور أثر الإيمان ونوره مع تعقبه بالضلالة ودوامه ، بحال من استوقد نارا.

واستوقد بمعنى أوقد فالسين والتاء فيه للتأكيد كما هما في قوله تعالى : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ) [آل عمران : ١٩٥] وقولهم استبان الأمر وهذا كقول بعض بني بولان من طي في «الحماسة» :

نستوقد النبل بالحضيض ونص

طاد نفوسا بنت على الكرم

__________________

اسم المفعول بمعنى المحكك عليه أي تتحكك عليه الإبل الجرباء فيصير صلبا بعد أن يزول قشره. والعذيق : تصغير عذق ـ بفتح العين ـ وهو النخلة ، والمرجب بصيغة اسم المفعول الذي جعلت له رجبة ـ بضم الراء وسكون الجيم ـ وهي دعامة تبنى حوله لئلا ينقعر أسفله. وهو مثل يضرب لمن خبر الأمور وجربها حتى صار الناس يستشفون برأيه. قاله الحباب الأنصاري يوم السقيفة.

٣٠٢

أراد وقودا يقع عند الرمي بشدة. وكذلك في الآية لإيراد تمثيل حال المنافقين في إظهار الإيمان بحال طالب الوقود بل هو حال الموقد وقوله :

(فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ).

مفرع على (اسْتَوْقَدَ). و (فَلَمَّا) حرف يدل على وقوع شيء عند وقوع غيره فوقوع جوابها مقارن لوقوع شرطها وذلك معنى قولهم حرف وجود لوجود أي حرف يدل على وجود الجواب لوجود شرطها أي أن يكون جوابها كالمعلول لوجود شرطها سواء كان من ترتب المعلول على العلة أو كان ترتب المسبب العرفي على السبب أم كان ترتب المقارن على مقارنه المهيأ والمقارن الحاصل على سبيل المصادفة وكلها استعمالات واردة في كلام العرب وفي القرآن.

مثال ترتب المعلول على العلة لما تعفنت أخلاطه حمّ ، والمسبب على السبب ، (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) [هود : ٧٧] ، وقول عمرو بن معد يكرب :

لما رأيت نساءنا

يفحصن بالمعزاء شدا

نازلت كبشهم ولم

أر من نزال الكبش بدا

ومثال المقارن المهيأ قول امرئ القيس :

فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى

بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل

هصرت بفودي رأسها فتمايلت

عليّ هضيم الكشح ريّا المخلخل

ومثال المقارن الحاصل اتفاقا (وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا ...)(١) [العنكبوت : ٣١] وقوله : (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ) [يوسف : ٦٩] فمن ظن أن لما تؤذن بالسببية اغترارا بقولهم وجود لوجود حملا للّام في عبارتهم على التعليل فقد ارتكب شططا ولم يجد من كلام الأئمة فرطا.

و (أضاء) يجىء متعديا وهو الأصل لأن مجرده ضاء فتكون حينئذ همزته للتعدية كقول أبي الطمحان القيني :

أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم

دجى الليل حتى ثقب الجزع ثاقبه

__________________

(١) في المطبوعة سَلاماً* بدل إِنَّا مُهْلِكُوا وهو خلط بين آيتين.

٣٠٣

ويجىء قاصرا بمعنى ضاء فهمزته للصيرورة أي صار ذا ضوء فيساوي ضاء كقول امرئ القيس يصف البرق :

يضىء سناه أو مصابيح راهب

أمال السليط بالذبال المفتل

والآية تحتملهما أي فلما أضاءت النار الجهات التي حوله وهو معنى ارتفاع شعاعها وسطوع لهبها ، فيكون ما حوله موصولا مفعولا لأضاءت وهو المتبادر ، وتحتمل أن تكون من أضاء القاصر أي أضاءت النار أي اشتعلت وكثر ضوؤها في نفسها ، ويكون ما حوله على هذا ظرفا للنار أي حصل ضوء النار حولها غير بعيد عنها.

و (حَوْلَهُ) ظرف للمكان القريب ولا يلزم أن يراد به الإحاطة فحوله هنا بمعنى لديه ومن توهم أن (ما حَوْلَهُ) يقتضي ذلك وقع في مشكلات لم يجد منها مخلصا إلا بعناء.

وجمع الضمير في قوله : (بِنُورِهِمْ) مع كونه بلصق الضمير المفرد في قوله : (ما حَوْلَهُ) مراعاة للحال المشبهة وهي حال المنافقين لا للحال المشبه بها ؛ وهي حال المستوقد الواحد على وجه بديع في الرجوع إلى الغرض الأصلي وهو انطماس نور الإيمان منهم ، فهو عائد إلى المنافقين لا إلى (الذي) ، قريبا من رد العجز على الصدر فأشبه تجريد الاستعارة المفردة وهو من التفنين كقول طرفة :

وفي الحي أحوى ينفض المرد شادن

مظاهر سمطي لؤلؤ وزبرجد

وهذا رجوع بديع ، وقريب منه الرجوع الواقع بطريق الاعتراض في قوله الآتي : (وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) [البقرة : ١٩] وحسنه أن التمثيل جمع بين ذكر المشبه وذكر المشبه به فالمتكلم بالخيار في مراعاة كليهما لأن الوصف لهما فيكون ذلك البعض نوعا واحدا في المشبه والشبه به ، فما ثبت للمشبه به يلاحظ كالثابت للمشبه. وهذا يقتضي أن تكون جملة (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) جواب (لمّا) فيكون جمع ضمائر بنورهم وتركهم إخراجا للكلام على خلاف مقتضى الظاهر إذ مقتضى الظاهر أن يقول ذهب الله بنوره وتركه ، ولذلك اختير هنا لفظ النور عوضا عن النار المبتدأ به ، للتنبيه على الانتقال من التمثيل إلى الحقيقة ليدل على أن الله أذهب نور الإيمان من قلوب المنافقين ، فهذا إيجاز بديع كأنه قيل فلما أضاءت ذهب الله بناره فكذلك ذهب الله بنورهم وهو أسلوب لا عهد للعرب بمثله فهو من أساليب الإعجاز. وقريب منه قوله تعالى : (بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ

٣٠٤

قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) [الزخرف : ٢٢ ـ ٢٤] فقوله : (أُرْسِلْتُمْ) حكاية لخطاب أقوام الرسل في جواب سؤال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم قومه بقوله : (أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ). وبهذا يكون ما في هذه الآية موافقا لما في الآية بعدها من قوله تعالى : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) إذ يتعين رجوعه لبعض المشبه به دون المشبه. وجوز صاحب «الكشاف» أن يكون قوله : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) استئنافا ويكون التمثيل قد انتهى عند قوله تعالى (فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ) ويكون جواب (لما) محذوفا دلت عليه الجملة المستأنفة وهو قريب مما ذكرته إلا أن الاعتبار مختلف.

ومعنى (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) : أطفأ نارهم فعبر بالنور لأنه المقصود من الاستيقاد ، وأسند إذهابه إلى الله تعالى لأنه حصل بلا سبب من ريح أو مطر أو إطفاء مطفئ ، والعرب والناس يسندون الأمر الذي لم يتضح سببه لاسم الله تعالى كما تقدم عند قوله : (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ) [البقرة : ١٥] و (ذَهَبَ) المعدى بالباء أبلغ من أذهب المعدى بالهمزة وهاته المبالغة في التعدية بالباء نشأت من أصل الوضع لأن أصل ذهب به أن يدل على أنهما ذهبا متلازمين فهو أشد في تحقيق ذهاب المصاحب كقوله : (فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ) [يوسف : ١٥] وأذهبه جعله ذاهبا بأمره أو إرساله فلما كان الذي يريد إذهاب شخص إذهابا لا شك فيه يتولى حراسة ذلك بنفسه حتى يوقن بحصول امتثال أمره صار ذهب به مفيدا معنى أذهبه ، ثم تنوسي ذلك بكثرة الاستعمال فقالوا ذهب به ونحوه ولو لم يصاحبه في ذهابه كقوله : (يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ) [البقرة : ٢٥٨] وقوله : (وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ) [يوسف : ١٠٠] ثم جعلت الهمزة لمجرد التعدية في الاستعمال فيقولون : ذهب القمار بمال فلان ولا يريدون أنه ذهب معه ، ولكنهم تحفظوا ألا يستعملوا ذلك إلا في مقام تأكيد الإذهاب فبقيت المبالغة فيه. وضمير المفرد في قوله و (ما حَوْلَهُ) مراعاة للحال المشبهة.

واختيار لفظ النور في قوله : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) دون الضوء ودون النار لأن لفظ النور أنسب ؛ لأن الذي يشبه النار من الحالة المشبهة هو مظاهر الإسلام التي يظهرونها وقد شاع التعبير عن الإسلام بالنور في القرآن فصار اختيار لفظ النور هنا بمنزلة تجريد الاستعارة لأنه أنسب بالحال المشبهة ، وعبّر عما يقابله في الحال المشبه بها بلفظ يصلح لهما أو هو بالمشبه أنسب في اصطلاح المتكلم كما قدمنا الإشارة إليه في وجه جمع الضمير في قوله : (بِنُورِهِمْ).

(وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ).

٣٠٥

هذه الجملة تتضمن تقريرا لمضمون (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) لأن من ذهب نوره بقي في ظلمة لا يبصر ، والقصد منه زيادة إيضاح الحالة التي صاروا إليها فإن للدلالة الصريحة من الارتسام في ذهن السامع ما ليس للدلالة الضمنية فإن قوله (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) يفيد أنهم لما استوقدوا نارا فانطفأت انعدمت الفائدة وخابت المساعي ولكن قد يذهل السامع عما صاروا إليه عند هاته الحالة فيكون قوله بعد ذلك : (وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ) تذكيرا بذلك وتنبيها إليه ، فإنهم لا يقصدون من البيان إلا شدة تصوير المعاني ولذلك يطنبون ويشبهون ويمثلون ويصفون المعرفة ويأتون بالحال ويعددون الأخبار والصفات فهذا إطناب بديع كما في قول طرفة :

نداماي بيض كالنجوم وقينة

تروح إلينا بين برد ومجسد

فإن قوله تروح إلينا إلخ لا يفيد أكثر من تصوير حالة القينة وتحسين منادمتها ، وتفيد هذه الجملة أيضا أنهم لم يعودوا إلى الاستنارة من بعد ، على ما في قوله (وَتَرَكَهُمْ) من إفادة تحقيرهم ، وما في جمع (ظُلُماتٍ) من إفادة شدة الظلمة وهي فائدة زائدة على ما استفيد ضمنا من جملة (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) وما يقتضيه جمع (ظُلُماتٍ) من تقدير تشبيهات ثلاثة لضلالات ثلاث من ضلالاتهم كما سيأتي. وبهذا الاعتبار الزائد على تقرير مضمون الجملة قبلها عطفت على الجملة ولم تفصل.

وحقيقة الترك مفارقة أحد شيئا كان مقارنا له في موضع وإبقاؤه في ذلك الموضع. وكثيرا ما يذكرون الحال التي ترك الفاعل المفعول عليها ، وفي هذا الاستعمال يكثر أن يكون مجازا عن معنى صيّر أو جعل. قال النابغة :

فلا تتركنّي بالوعيد كأنني

إلى الناس مطليّ به القار أجرب

أي لا تصيرني بهذه المشابهة ، وقول عنترة :

جادت عليه كل عين ثرة

فتركن كل قرارة كالدرهم

يريد صيرن ، والأكثر أن يكنى به في هذا الاستعمال عن الزهادة في مفعوله كما في بيت النابغة ، أو عن تحقيره كما في هذه الآية.

والفرق بين ما يعتبر فيه معنى صيّر حتى يكون منصوبه الثاني مفعولا ، وما يعتبر المنصوب الثاني معه حالا ، أنه إن كان القصد إلى الإخبار بالتخلية والتنحي عنه فالمنصوب الثاني حال وإن كان القصد أولا إلى ذلك المنصوب الثاني وهو محل الفائدة

٣٠٦

فالمنصوب الثاني مفعول وهو في معنى الخبر فلا يحتمل واحد منهما غير ذلك معنى وإن احتمله لفظا.

وجمع (ظُلُماتٍ) لقصد بيان شدة الظلمة كقوله تعالى : (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) [الأنعام : ٦٣] وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الظلم ظلمات يوم القيامة» فإن الكثرة لما كانت في العرف سبب القوة أطلقوها على مطلق القوة وإن لم يكن تعدد ولا كثرة مثل لفظ كثير كما يأتي عند قوله تعالى : (وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) في سورة الفرقان [١٤] ، ومنه ذكر ضمير الجمع للتعظيم ، للواحد ، وضمير المتكلم ومعه غيره للتعظيم ، وصيغة الجمع من ذلك القبيل ، قيل لم يرد في القرآن ذكر الظلمة مفردا ، ولعل لفظ ظلمات أشهر إطلاقا في فصيح الكلام وسيأتي بيان هذا عند قوله تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) في سورة الأنعام [١] بخلاف قوله تعالى : (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) [الزمر : ٦] فإن التعدد مقصود بقرينة وصفه بثلاث. ولكن بلاغة القرآن وكلام الرسول عليه‌السلام لا تسمح باستعمال جمع غير مراد به فائدة زائدة على لفظه المفرد ، ويتعين في هذه الآية أن جمع (ظلمات) أشير به إلى أحوال من أحوال المنافقين كل حالة منها تصلح لأن تشبه بالظلمة وتلك هي حالة الكفر ، وحالة الكذب ، وحالة الاستهزاء بالمؤمنين ، وما يتبع تلك الأحوال من آثار النفاق.

وهذا التمثيل تمثيل لحال المنافقين في ترددهم بين مظاهر الإيمان وبواطن الكفر فوجه الشبه هو ظهور أمر نافع ثم انعدامه قبل الانتفاع به ، فإن في إظهارهم الإسلام مع المؤمنين صورة من حسن الإيمان وبشاشته لأن للإسلام نورا وبركة ثم لا يلبثون أن يرجعوا عند خلوهم بشياطينهم فيزول عنهم ذلك ويرجعوا في ظلمة الكفر أشد مما كانوا عليه لأنهم كانوا في كفر فصاروا في كفر وكذب وما يتفرع عن النفاق من المذام ، فإن الذي يستوقد النار في الظلام يتطلب رؤية الأشياء فإذا انطفأت النار صار أشد حيرة منه في أول الأمر لأن ضوء النار قد عوّد بصره فيظهر أثر الظلمة في المرة الثانية أقوى ويرسخ الكفر فيهم. وبهذا تظهر نكتة البيان بجملة : (لا يُبْصِرُونَ) لتصوير حال من انطفأ نوره بعد أن استضاء به.

ومفعول (لا يُبْصِرُونَ) محذوف لقصد عموم نفي المبصرات فتنزل الفعل منزلة اللازم ولا يقدّر له مفعول كأنه قيل لا إحساس بصر لهم ، كقول البحتري :

شجو حساده وغيظ عداه

أن يرى مبصر ويسمع واع

وقد أجمل وجه الشبه في تشبيه حال المنافقين اعتمادا على فطنة السامع لأنه يمخضه

٣٠٧

من مجموع ما تقدم من شرح حالهم ابتداء من قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) [البقرة : ٨] إلخ ومما يتضمنه المثلان من الإشارة إلى وجوه المشابهة بين أجزاء أحوالهم وأجزاء الحالة المشبه بها ، فإن إظهارهم الإيمان بقولهم : (آمَنَّا بِاللهِ) وقولهم : (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) [البقرة : ١١] وقولهم عند لقاء المؤمنين : (آمَنَّا) [البقرة : ١٤] أحوال ومظاهر حسنة تلوح على المنافقين حينما يحضرون مجلس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحينما يتظاهرون بالإسلام والصلاة والصدقة مع المسلمين ويصدر منهم طيّب القول وقويم السلوك وتشرق عليهم الأنوار النبوية فيكاد نور الإيمان يخترق إلى نفوسهم ولكن سرعان ما يعقب تلك الحالة الطيبة حالة تضادها عند انفضاضهم عن تلك المجالس الزكية وخلوصهم إلى بطانتهم من كبرائهم أو من أتباعهم فتعاودهم الأحوال الذميمة من مزاولة الكفر وخداع المؤمنين والحقد عليهم والاستهزاء بهم ووصفهم بالسفه ، مثّل ذلك التظاهر وذلك الانقلاب بحال الذي استوقد نارا ثم ذهب عنه نورها.

ومن بدائع هذا التمثيل أنه مع ما فيه من تركيب الهيئة المشبه بها ومقابلتها للهيئة المركبة من حالهم هو قابل لتحليله بتشبيهات مفردة لكل جزء من هيئة أحوالهم بجزء مفرد من الهيئة المشبه بها فشبه استماعهم القرآن باستيقاد النار ، ويتضمن تشبيه القرآن في إرشاد الناس إلى الخير والحق بالنار في إضاءة المسالك للسالكين ، وشبه رجوعهم إلى كفرهم بذهاب نور النار ، وشبه كفرهم بالظلمات ، ويشبهون بقوم انقطع إبصارهم.

[١٨] (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨))

أخبار لمبتدإ محذوف هو ضمير يعود إلى ما عاد إليه ضمير (مَثَلُهُمْ) [البقرة : ١٧] ولا يصح أن يكون عائدا على (الَّذِي اسْتَوْقَدَ) [البقرة : ١٧] لأنه لا يلتئم به أول التشبيه وآخره لأن قوله : (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) يقتضي أن المستوقد ذو بصر وإلا لما تأتى منه الاستيقاد ، وحذف المسند إليه في هذا المقام استعمال شائع عند العرب إذا ذكروا موصوفا بأوصاف أو أخبار جعلوه كأنه قد عرف للسامع فيقولون : فلان أو فتى أو رجل أو نحو ذلك على تقدير هو فلان ، ومنه قوله تعالى : (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) [النبأ : ٣٦ ، ٣٧] التقدير هو رب السماوات عدل عن جعل (رب) بدلا من ربك ، وقول الحماسي (١) :

__________________

(١) من «الحماسة» في باب الأضياف غير منسوب ، ونسبه الشريف المرتضى في «أماليه» لإبراهيم بن العباس الصولي. وقيل لعبد الله بن الزبير. وقيل لمحمد بن سعيد الكاتب ، وعمرو المذكور هو عمرو بن سعد بن العاص الملقب بالأشدق.

٣٠٨

سأشكر عمرا إن تراخت منيتي

أيادي لم تمنن وإن هي جلّت

فتى غير محجوب الغنى عن صديقه

ولا مظهر الشكوى إذا النعل زلت

وسمى السكاكي هذا الحذف «الحذف الذي اتبع فيه الاستعمال الوارد على تركه». والإخبار عنهم بهذه الأخبار جاء على طريقة التشبيه البليغ شبهوا في انعدام آثار الإحساس منهم بالصم البكم العمي أي كل واحد منهم اجتمعت له الصفات الثلاث وذلك شأن الأخبار الواردة بصيغة الجمع بعد مبتدأ هو اسم دال على جمع ، فالمعنى كل واحد منهم كالأصم الأبكم الأعمى وليس المعنى على التوزيع فلا يفهم أن بعضهم كالأصم وبعضهم كالأبكم وبعضهم كالأعمى ، وليس هو من الاستعارة عند محققي أهل البيان. قال صاحب «الكشاف» : «فإن قلت هل يسمى ما في الآية استعارة قلت مختلف فيه والمحققون على تسميته تشبيها بليغا لا استعارة لأن المستعار له مذكور وهم المنافقون» ا ه أي لأن الاستعارة تعتمد على لفظ المستعار منه أو المستعار له في جملة الاستعارة فمتى ذكرا معا فهو تشبيه ، ولا يضر ذكر لفظ المستعار له في غير جملة الاستعارة لظهور أنه لو لا العلم بالمستعار له في الكلام لما ظهرت الاستعارة ولذلك اتفقوا على أن قول ابن العميد :

قامت تظللني من الشمس

نفس أعزّ عليّ من نفسي

قامت تظللني ومن عجب

شمس تظللني من الشمس

أن قوله شمس استعارة ولم يمنعهم من ذلك ذكر المستعار له قبل في قوله نفس أعز ، وضميرها في قوله قامت تظللني وكذا إذا لفظ المستعار غير مقصود ابتناء التشبيه عليه لم يكن مانعا من الاستعارة كقول أبي الحسن ابن طباطبا :

لا تعجبوا من بلى غلالته

قد زرّ أزراره على القمر

فإن الضمير لم يذكر ليبنى عليه التشبيه بل جاء التشبيه عقبه.

والصم والبكم والعمى جمع أصم وأعمى وأبكم وهم من اتصف بالصمم والبكم والعمي ، فالصمم انعدام إحساس السمع عمن من شأنه أن يكون سميعا ، والبكم انعدام النطق عمن من شأنه النطق ، والعمي انعدام البصر عمن من شأنه الإبصار.

وقوله : (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) تفريع على جملة : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) لأن من اعتراه هذه

٣٠٩

الصفات انعدم منه الفهم والإفهام وتعذر طمع رجوعه إلى رشد أو صواب. والرجوع الانصراف من مكان حلول ثان إلى مكان حلول أول وهو هنا مجاز في الإقلاع عن الكفر.

[١٩] (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩))

(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ).

عطف على التمثيل السابق وهو قوله : (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) [البقرة : ١٧] أعيد تشبيه حالهم بتمثيل آخر وبمراعاة أوصاف أخرى فهو تمثيل لحال المنافقين المختلطة بين جواذب ودوافع حين يجاذب نفوسهم جاذب الخير عند سماع مواعظ القرآن وإرشاده ، وجاذب الشر من أعراق النفوس والسخرية بالمسلمين ، بحال صيب من السماء اختلطت فيه غيوث وأنوار ومزعجات وأكدار ، جاء على طريقة بلغاء العرب في التفنن في التشبيه وهم يتنافسون فيه لا سيما التمثيلي منه وهي طريقة تدل على تمكن الواصف من التوصيف والتوسع فيه.

وقد استقريت من استعمالهم فرأيتهم قد يسلكون طريقة عطف تشبيه على تشبيه كقول امرئ القيس في معلقته :

أصاح ترى برقا أريك وميضه

كلمع اليدين في حبيّ مكلّل

يضيء سناه أو مصابيح راهب

أمال السليط بالذّبال المفتّل

وقول لبيد في معلقته يصف راحلته :

فلها هباب في الزمام كأنها

صهباء خفّ مع الجنوب جهامها

أو ملمع وسقت لأحقب لاحه

طرد الفحول وضربها وكدامها (١)

وكثر أن يكون العطف في نحوه بأو دون الواو ، وأو موضوعة لأحد الشيئين أو الأشياء فيتولد منها معنى التسوية وربما سلكوا في إعادة التشبيه مسلك الاستفهام بالهمزة

__________________

(١) الهباب ـ بكسر الهاء ـ مصدر كالهبوب وهو النهوض والنشاط. والصهباء : السحابة المائل لونها للسواد. والجهام : السحاب لا مطر فيه وهو خفيف السير. والملمع : التي استبان حملها ، وأراد الأتان ووسقت : حملت. والأحقب : هو حمار الوحش وقوله : لأحقب أي من أحقب. ولاحه : غيره. وطرد الفحول : خصامها. والكدام ـ بكسر الكاف ـ العض.

٣١٠

أي لتختار التشبيه بهذا أم بذلك وذلك كقول لبيد عقب البيتين السابق ذكرهما :

أفتلك أم وحشية مسبوعة

خذلت وهادية الصّوار قوامها (١)

وقال ذو الرمة في تشبيه سير ناقته الحثيث :

وثب المسحّج من عانات معقلة

كأنّه مستبان الشّكّ أو جنب

ثم قال :

أذاك أم نمش بالوشي أكرعه

مسفّع الخد غاد ناشع شبب

ثم قال :

أذاك أم خاضب بالسّيّ مرتعه

أبو ثلاثين أمسى وهو منقلب (٢)

وربما عطفوا بالواو كما في قوله تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ) [الزمر : ٢٩] الآية ثم قال : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ) [النحل : ٧٦] الآية. وقوله : (ما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ) [فاطر : ١٩ ـ ٢١] الآية بل وربما جمعوا بلا عطف كقوله تعالى : (حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ) [الأنبياء : ١٥] وهذه تفننات جميلة في الكلام البليغ فما ظنك بها إذا وقعت في التشبيه التمثيلي فإنه لعزته مفردا تعز استطاعة تكريره.

و (أو) عطفت لفظ (صيب) على (الَّذِي اسْتَوْقَدَ) [البقرة : ١٧] بتقدير مثل بين الكاف وصيب. وإعادة حرف التشبيه مع حرف العطف المغني عن إعادة العامل ، وهذا التكرير مستعمل في كلامهم وحسّنه هنا أن فيه إشارة إلى اختلاف الحالين المشبهين كما سنبينه

__________________

(١) المسبوعة : التي أكل السبع ولدها. وخذلت بمعنى تأخرت عن صواحبها في الرواح. والهادية المتقدمة. والصوار ـ بكسر الصاد ـ قطيع الغنم. والقوام ـ بكسر القاف ـ ما به يقوم الأمر أي تأخرت النعجة الوحشية ولم تهتد بمقدمة القطيع.

(٢) قوله : أذاك : الإشارة إلى حمار الوحش في الأبيات قبله ، وهو الذي أراده بالمسحج. والمسحج : المكدوم وهو من الصفات الغالبة على حمار الوحش لأنه لا يخلو عن كدام في جلده من العراك مع الحمر ، والنمش ـ بكسر الميم ـ الذي به النمش بفتحها وهو نقط بيض وسود ، وأراد به الثور الوحشي. والوشي : التخطيط. والمسفع : الأسود. والشبب : المسن من ثيران الوحش. وقوله خاضب أراد ذكر النعام فإنه إذا أكل بقل الربيع احمرت ساقاه. والسي ـ بكسر السين وتشديد الياء ـ المستوي من الأرض. وأبو ثلاثين أي له ثلاثين فرخا وذلك عدد ما يبيض النعام. ومنقلب : راجع لفراخه فهو شديد السير.

٣١١

وهم في الغالب لا يكررونه في العطف.

والتمثيل هنا لحال المنافقين حين حضورهم مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسماعهم القرآن وما فيه من آي الوعيد لأمثالهم وآي البشارة ، فالغرض من هذا التمثيل تمثيل حالة مغايرة للحالة التي مثّلت في قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ) [البقرة : ١٧] بنوع إطلاق وتقييد.

فقوله : (أَوْ كَصَيِّبٍ) تقديره أو كفريق ذي صيب أي كقوم على نحو ما تقدم في قوله : (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ) دل على تقدير قوم قوله : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) وقوله : (يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) [البقرة : ٢٠]. الآية ، لأن ذلك لا يصح عوده إلى المنافقين فلا يجيء فيه ما جاز في قوله : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) [البقرة : ١٧] إلخ. فشبهت حال المنافقين بحال قوم سائرين في ليل بأرض قوم أصابها الغيث وكان أهلها كانّين في مساكنهم كما علم ذلك من قوله : (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) [البقرة : ٢٠] فذلك الغيث نفع أهل الأرض ولم يصبهم ممّا اتصل به من الرعد والصواعق ضر ولم ينفع المارين بها وأضرّ بهم ما اتصل به من الظلمات والرعد والبرق ، فالصيب مستعار للقرآن وهدى الإسلام وتشبيهه بالغيث وارد. وفي الحديث الصحيح : «مثل ما بعثني الله به من الهدى كمثل الغيث أصاب أرضا فكان منها نقيّة» إلخ. وفي القرآن : (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ) [الحديد : ٢٠]. ولا تجد حالة صالحة لتمثيل هيئة اختلاط نفع وضر مثل حالة المطر والسحاب وهو من بديع التمثيل القرآني ، ومنه أخذ أبو الطيب قوله :

فتى كالسحاب الجون يرجى ويتّقى

يرجّى الحيا منه وتخشى الصواعق

والظلمات مستعار لما يعتري الكافرين من الوحشة عند سماعه كما تعتري السائر في الليل وحشة الغيم لأنه يحجب عنه ضوء النجوم والقمر ، والرعد لقوارع القرآن وزواجره ، والبرق لظهور أنوار هديه من خلال الزواجر فظهر أن هذا المركب التمثيلي صالح لاعتبارات تفريق التشبيه وهو أعلى التمثيل.

والصيب فيعل من صاب يصوب صوبا إذا نزل بشدة ، قال المرزوقي إن ياءه للنقل من المصدرية إلى الاسمية فهو وصف للمطر بشدة الظلمة الحاصلة من كثافة السحاب ومن ظلام الليل.

والظاهر أن قوله : (مِنَ السَّماءِ) ليس بقيد للصيب وإنما هو وصف كاشف جيء به

٣١٢

لزيادة استحضار صورة الصيب في هذا التمثيل إذ المقام مقام إطناب كقول امرئ القيس :

كجلمود صخر حطّه السيل من عل

إذ قد علم السامع أن السيل لا يحط جلمود صخر إلا من أعلى ولكنه أراد التصوير ، وكقوله تعالى : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨] ، وقوله : (كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ) [الأنعام : ٧١] وقال تعالى : (فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) [الأنفال : ٣٢].

والسماء تطلق على الجو المرتفع فوقنا الذي نخاله قبة زرقاء ، وعلى الهواء المرتفع قال تعالى : (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ) [إبراهيم : ٢٤] وتطلق على السحاب ، وتطلق على المطر نفسه ففي الحديث : «خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إثر سماء» إلخ ، ولما كان تكوّن المطر من الطبقة الزمهريرية المرتفعة في الجو جعل ابتداؤه من السماء وتكرر ذلك في القرآن.

ويمكن أن يكون قوله : (مِنَ السَّماءِ) تقييدا للصيب إما بمعنى من جميع أقطار الجو إذا قلنا إن التعريف في السماء للاستغراق كما ذهب إليه في «الكشاف» على بعد فيه إذ لم يعهد دخول لام الاستغراق إلا على اسم كلي ذي أفراد دون اسم كل ذي أجزاء فيحتاج لتنزيل الأجزاء منزلة أفراد الجنس ولا يعرف له نظير في الاستعمال فالذي يظهر لي إن جعلنا قوله : (مِنَ السَّماءِ) قيدا للصيب أن المراد من السماء أعلى الارتفاع والمطر إذا كان من سمت مقابل وكان عاليا كان أدوم بخلاف الذي يكون من جوانب الجو ويكون قريبا من الأرض غير مرتفع. وضمير (فيه) عائد إلى (صيب) والظرفية مجازية بمعنى معه ، والظلمات مضى القول فيه آنفا.

والمراد بالظلمات ظلام الليل أي كسحاب في لونه ظلمة الليل وسحابة الليل أشد مطرا وبرقا وتسمى سارية. والرعد أصوات تنشأ في السحاب. والبرق لا مع ناري مضيء يظهر في السحاب ، والرعد والبرق ينشآن في السحاب من أثر كهربائي يكون في السحاب فإذا تكاثفت سحابتان في الجو إحداهما كهرباؤها أقوى من كهرباء الأخرى وتحاكّتا جذبت الأقوى منهما الأضعف فحدث بذلك انشقاق في الهواء بشدة وسرعة فحدث صوت قوي هو المسمى الرعد وهو فرقعة هوائية من فعل الكهرباء ، ويحصل عند ذلك التقاء الكهرباءين وذلك يسبب انقداح البرق.

وقد علمت أن الصيب تشبيه للقرآن وأن الظلمات والرعد والبرق تشبيه لنوازع الوعيد

٣١٣

بأنها تسر أقواما وهم المنتفعون بالغيث وتسوء المسافرين غير أهل تلك الدار ، فكذلك الآيات تسر المؤمنين إذ يجدون أنفسهم ناجين من أن تحق عليهم وتسوء المنافقين إذ يجدونها منطبقة على أحوالهم.

[٢٠] (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠))

الأظهر أن تكون جملة : (يَجْعَلُونَ) حالا اتضح بها المقصود من الهيئة المشبه بها لأنها كانت مجملة ، وأما جملة : (يَكادُ الْبَرْقُ) فيجوز كونها حالا من ضمير (يَجْعَلُونَ) ، لأن بها كمال إيضاح الهيئة المشبه بها ويجوز كونها استئنافا لبيان حال الفريق عند البرق نشأ عن بيان حالهم عند الرعد. وجملة : (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ) حال من (البرق) أو من ضمير (أبصارهم) لا غير ، وفي هذا تشبيه لجزع المنافقين من آيات الوعيد بما يعتري القائم تحت السماء حين الرعد والبرق والظلمات فهو يخشى استكاك سمعه ويخشى الصواعق حذر الموت ويعشيه البرق حين يلمع بإضاءة شديدة ويعمي عليه الطريق بعد انقطاع لمعانه. وقوله : (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ) تمثيل لحال حيرة المنافقين بحال حيرة السائرين في الليل المظلم المرعد المبرق. وقوله : (وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) اعتراض للتذكير بأن المقصود التمثيل لحال المنافقين في كفرهم لا لمجرد التفنن في التمثيل. وقوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) رجوع إلى وعيد المنافقين الذين هم المقصود من التمثيل فالضمائر التي في جملة (وَلَوْ شاءَ اللهُ) راجعة إلى أصل الكلام ، وتوزيع الضمائر دل عليه السياق. فعبر عن زواجر القرآن بالصواعق وعن انحطاط قلوب المنافقين وهي البصائر عن قرار نور الإيمان فيها بخطف البرق للأبصار ، وإلى نحو من هذا يشير كلام ابن عطية نقلا عن جمهور المفسرين وهو مجاز شائع ، يقال فلان يرعد ويبرق ، على أن بناءه هنا على المجاز السابق يزيده قبولا ، وعبر عما يحصل للمنافقين من الشك في صحة اعتقادهم بمشي الساري في ظلمة إذا أضاء له البرق ، وعن إقلاعهم عن ذلك الشك حين رجوعهم إلى كفرهم بوقوف الماشي عند انقطاع البرق على طريقة التمثيل ، وخلل ذلك كله بتهديد لا يناسب إلا المشبهين وهو ما أفاده الاعتراض بقوله : (وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) وقوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) فجاء بهذه الجمل الحالية والمستأنفة تنبيها على وجه الشبه وتقريرا لقوة مشابهة الزواجر وآيات الهدى والإيمان بالرعد والبرق

٣١٤

في حصول أثري النفع والضر عنهما مع تفنن في البلاغة وطرائق الحقيقة والمجاز.

وجعل في «الكشاف» الجمل الثلاث مستأنفا بعضها عن بعض بأن تكون الأولى استئنافا عن جملة : (أَوْ كَصَيِّبٍ) [البقرة : ١٩] والثانية وهي : (يَكادُ الْبَرْقُ) مستأنفة عن جملة : (يَجْعَلُونَ) لأن الصواعق تستلزم البرق ، والثالثة وهي : (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا) مستأنفة عن قوله : (يَكادُ الْبَرْقُ) والمعنى عليه ضعيف وهو في بعضها أضعف منه في بعض كما أشرنا إليه آنفا.

والجعل والأصابع مستعملان في حقيقتهما على قول بعض المفسرين لأن الجعل هو هنا بمعنى النوط ، والظرفية لا تقتضي الإحاطة فجعل بعض الإصبع في الأذن هو جعل للإصبع فتمثل بعض علماء البيان بهذه الآية للمجاز الذي علاقته الجزئية تسامح ولذلك عبر عنه صاحب «الكشاف» بقوله هذا من الاتساعات في اللغة التي لا يكاد الحاصر يحصرها كقوله : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) [المائدة : ٦] (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) [المائدة : ٣٨] ومنه قولك مسحت بالمنديل ، ودخلت البلد ، وقيل ذلك مجاز في الأصابع ، وقيل مجاز في الجعل ولمن شاء أن يجعله مجازا في الظرفية فتكون تبعية لكلمة (في).

و (من) في قوله : (مِنَ الصَّواعِقِ) للتعليل أي لأجل الصواعق إذ الصواعق هي علة جعل الأصابع في الآذان ولا ضير في كون الجعل لاتقائها حتى يقال يلزم تقدير مضاف نحو ترك واتقاء إذ لا داعي إليه ، ونظير هذا قولهم سقاه من العيمة (بفتح العين وسكون الياء وهي شهوة اللبن) لأن العيمة سبب السقي والمقصود زوالها إذ المفعول لأجله هو الباعث وجوده على الفعل سواء كان مع ذلك غاية للفعل وهو الغالب أم لم يكن كما هنا.

والصواعق جمع صاعقة وهي نار تندفع من كهربائية الأسحبة كما تقدم آنفا. وقوله : (حَذَرَ الْمَوْتِ) مفعول لأجله وهو هنا علة وغاية معا.

ومن بديع هذا التمثيل أنه مع ما احتوى عليه من مجموع الهيئة المركبة المشبه بها حال المنافقين حين منازعة الجواذب لنفوسهم من جواذب الاهتداء وترقبها ما يفاض على نفوسهم من قبول دعوة النبي وإرشاده مع جواذب الإصرار على الكفر وذبهم عن أنفسهم أن يعلق بها ذلك الإرشاد حينما يخلون إلى شياطينهم ، هو مع ذلك قابل لتفريق التشبيه في مفرداته إلى تشابيه مفردة بأن يشبه كل جزء من مجموع الهيئة المشبهة لجزء من مجموع هيئة قوم أصابهم صيب معه ظلمات ورعد وصواعق لا يطيقون سماع قصفها ويخشون الموت منها وبرق شديد يكاد يذهب بأبصارهم وهم في حيرة بين السير وتركه. وقوله :

٣١٥

(وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) اعتراض راجع للمنافقين إذ قد حق عليهم التمثل واتضح منه حالهم فآن أن ينبه على وعيدهم وتهديدهم وفي هذا رجوع إلى أصل الغرض كالرجوع في قوله تعالى (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ) [البقرة : ١٧] إلخ كما تقدم إلا أنه هنا وقع بطريق الاعتراض.

والإحاطة استعارة للقدرة الكاملة شبهت القدرة التي لا يفوتها المقدور بإحاطة المحيط بالمحاط على طريقة التبعية أو التمثيلية وإن لم يذكر جميع ما يدل على جميع المركب الدال على الهيئة المشبهة بها وقد استعمل هذا الخبر في لازمه وهو أنه لا يفلتهم وأنه يجازيهم على سوء صنعهم.

والخطف الأخذ بسرعة.

و (كلما) كلمة تفيد عموم مدخولها ، و (ما) كافة لكل عن الإضافة أو هي مصدرية ظرفية أو نكرة موصوفة فالعموم فيها مستفاد من كلمة (كل). وذكر (كلما) في جانب الإضاءة و (إذا) في جانب الإظلام لدلالة (كلما) على حرصهم على المشي وأنهم يترصدون الإضاءة فلا يفيتون زمنا من أزمان حصولها ليتبينوا الطريق في سيرهم لشدة الظلمة.

و (أَضاءَ) فعل يستعمل ومتعديا باختلاف المعنى كما تقدم في قوله : (فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ) [البقرة : ١٧] وأظلم يستعمل قاصرا كثيرا ويستعمل متعديا قليلا. والظاهر أم (أضاء) هنا متعد فمفعول (أضاء) محذوف لدلالة (مشوا) عليه وتقديره الممشى أو الطريق أي أضاء لهم البرق الطريق وكذلك (أظلم) أي وإذا أظلم عليهم البرق الطريق بأن أمسك وميضه فإسناد الإظلام إلى البرق مجاز لأنه تسبب في الإظلام. ومعنى القيام عدم المشي أي الوقوف في الموضع.

وقوله تعالى : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) مفعول (شاء) محذوف لدلالة الجواب عليه وذلك شأن فعل المشيئة والإرادة ونحوهما إذا وقع متصلا بما يصلح لأن يدل على مفعوله مثل وقوعه صلة لموصول يحتاج إلى خبر نحو ما شاء الله كان أي ما شاء كونه كان ومثل وقوعه شرطا للو لظهور أن الجواب هو دليل المفعول وكذلك إذا كان في الكلام السابق قبل فعل المشيئة ما يدل على مفعول الفعل نحو قوله تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللهُ) [الأعلى : ٦ ، ٧] قال الشيخ في «دلائل الإعجاز» : إن البلاغة في أن يجاء به كذلك محذوفا وقد يتفق في بعضه أن يكون إظهار المفعول هو الأحسن وذلك نحو قول الشاعر (هو إسحاق الخريمي مولى بني خريم من شعراء عصر الرشيد يرثي أبا

٣١٦

الهيذام الخريمي حفيده ابن ابن عمارة).

ولو شئت أن أبكي دما لبكيته

عليه ولكن ساحة الصبر أوسع

وسبب حسنه أنه كأنه بدع عجيب أن يشاء الإنسان أن يبكي دما فلما كان كذلك كان الأولى أن يصرح بذكره ليقرره في نفس السامع إلخ كلامه وتبعه صاحب «الكشاف» وزاد عليه أنهم لا يحذفون في الشيء المستغرب إذ قال لا يكادون يبرزون المفعول إلا في الشيء المستغرب إلخ وهو مؤول بأن مراده أن عدم الحذف حينئذ يكون كثيرا. وعندي أن الحذف هو الأصل لأجل الإيجاز فالبليغ تارة يستغني بالجواب فيقصد البيان بعد الإبهام وهذا هو الغالب في كلام العرب ، قال طرفة : وإن شئت لم ترقل وإن شئت أرقلت ، وتارة يبيّن بذكر الشرط أساس الإضمار في الجواب نحو البيت وقوله تعالى : (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ) [الأنبياء : ١٧] ويحسن ذلك إذا كان في المفعول غرابة فيكون ذكره لابتداء تقريره كما في بيت الخريمي والإيجاز حاصل على كل حال لأن فيه حذفا إما من الأول أو من الثاني. وقد يوهم كلام أئمة المعاني أن المفعول الغريب يجب ذكره وليس كذلك فقد قال الله تعالى : (قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) [فصلت : ١٤] فإن إنزال الملائكة أمر غريب قال أبو العلاء المعري.

وإن شئت فازعم أنّ من فوق ظهرها

عبيدك واستشهد إلهك يشهد

فإن زعم ذلك زعم غريب.

والضمير في قوله : (بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) ظاهره أن يعودوا إلى أصحاب الصيب المشبه بحالهم حال المنافقين لأن الإخبار بإمكان إتلاف الأسماع والأبصار يناسب أهل الصيب المشبه بحالهم بمقتضى قوله : (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) وقوله : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) والمقصود أن الرعد والبرق الواقعين في الهيئة المشبه بها هما رعد وبرق بلغا منتهى قوة جنسيهما بحيث لا يمنع قصيف الرعد من إتلاف أسماع سامعيه ولا يمنع وميض البرق من إتلاف أبصار ناظريه إلا مشيئة الله عدم وقوع ذلك لحكمة وفائدة ذكر هذا في الحالة المشبهة بها أن يسري نظيره في الحالة المشبهة وهي حالة المنافقين فهم على وشك انعدام الانتفاع بأسماعهم وأبصارهم انعداما تاما من كثرة عنادهم وإعراضهم عن الحق إلا أن الله لم يشأ ذلك استدراجا لهم وإملاء ليزدادوا إثما أو تلوما لهم وإعذارا لعل منهم من يثوب إلى الهدى وقد صيغ هذا المعنى في هذا الأسلوب لما فيه من التوجيه بالتهديد لهم أن يذهب الله سمعهم وأبصارهم من نفاقهم إن لم يبتدروا

٣١٧

الإقلاع عن النفاق وذلك يكون له وقع الرعب في قلوبهم كما وقع لعتبة بن ربيعة لما قرأ عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) [فصلت : ١٣]. فليس المقصود من اجتلاب لو في هذا الشرط إفادة ما تقتضيه (لو) من الامتناع لأنه ليس المقصود الإعلام بقدرة الله على ذلك بل المقصود إفادة لازم الامتناع وهو أن توفر أسباب إذهاب البرق والرعد أبصارهم الواقعين في التمثيل متوفرة وهي كفران النعمة الحاصلة منهما إذ إنما رزقوهما للتبصر في الآيات الكونية وسماع الآيات الشرعية فلما أعرضوا عن الأمرين كانوا أحرياء بسلب النعمة إلا أن الله لم يشأ ذلك إمهالا لهم وإقامة للحجة عليهم فكانت لو مستعملة مجازا مرسلا في مجرد التعليق إظهارا لتوفر الأسباب لو لا وجود المانع على حد قول أبي بن سلمى بن ربيعة من شعراء «الحماسة» يصف فرسه :

ولو طار ذو حافر قبلها

لطارت ولكنه لم يطر

أي توفر فيها سبب الطيران ، فالمعنى لو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم بزيادة ما في البرق والرعد من القوة فيفيد بلوغ الرعد والبرق قرب غاية القوة ، ويكون لقوله : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) موقع عجيب.

وقوله : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تذييل ، وفيه ترشيح للتوجيه المقصود للتهديد زيادة في تذكيرهم وإبلاغا لهم وقطعا لمعذرتهم في الدنيا والآخرة.

[٢١] (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١))

استئناف ابتدائي ثني به العنان إلى موعظة كل فريق من الفرق الأربع المتقدم ذكرها موعظة تليق بحاله بعد أن قضى حق وصف كل فريق منهم بخلاله ، ومثلت حال كل فريق وضربت له أمثاله فإنه لما استوفى أحوالا للمؤمنين وأضدادهم من المشركين والمنافقين لا جرم تهيأ المقام لخطاب عمومهم بما ينفعهم إرشادا لهم ورحمة بهم لأنه لا يرضى لهم الضلال ولم يكن ما ذكر آنفا من سوء صنعهم حائلا دون إعادة إرشادهم والإقبال عليهم بالخطاب ففيه تأنيس لأنفسهم بعد أن هددهم ولامهم وذم صنعهم ليعلموا أن الإغلاظ عليهم ليس إلا حرصا على صلاحهم وأنه غني عنهم كما يفعله المربي الناصح حين يزجر أو يوبخ فيرى انكسار نفس مرباه فيجبر خاطره بكلمة لينة ليريه أنه إنما أساء إليه استصلاحا وحبا لخيره فلم يترك من رحمته لخلقه حتى في حال عتوهم وضلالهم وفي حال حملهم

٣١٨

إلى مصالحهم.

وبعد فهذا الاستئناس وجبر الخواطر يزداد به المحسنون إحسانا وينكف به المجرمون عن سوء صنعهم فيأخذ كل فريق من الذين ذكروا فيما سلف حظّه منه. فالمقصود بالنداء من قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) الإقبال على موعظة نبذ الشرك وذلك هو غالب اصطلاح القرآن في الخطاب بيا أيها الناس ، وقرينة ذلك هنا قوله : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٢٢] وافتتح الخطاب بالنداء تنويها به.

و (يا) حرف للنداء وهو أكثر حروف النداء استعمالا فهو أصل حروف النداء ولذلك لا يقدر غيره عند حذف حرف النداء ولكونه أصلا كان مشتركا لنداء القريب والبعيد كما في «القاموس». قال الرضي في «شرح الكافية» : إن استعمال يا في القريب والبعيد على السواء ودعوى المجاز في أحدهما أو التأويل خلاف الأصل ، وهو يريد بذلك الرد على الزمخشري إذ قال في «الكشاف» : «ويا حرف وضع في أصله لنداء البعيد ثم استعمل في مناداة من سها أو غفل وإن قرب تنزيلا له منزلة من بعد» وكذلك فعل في كتاب «المفصل».

و (أيّ) في الأصل نكرة تدل على فرد من جنس اسم يتصل بها بطريق الإضافة ، نحو أيّ رجل أو بطريق الإبدال نحو يا أيها الرجل ، ومنه ما في الاختصاص كقولك لجليسك أنا كفيت مهمك أيها الجالس عندك وقد ينادون المنادى باسم جنسه أو بوصفه لأنه طريق معرفته أو لأنه أشمل لإحضاره كما هنا فربما يؤتى بالمنادى حينئذ نكرة مقصودة أو غير مقصودة ، وربما يأتون باسم الجنس أو الوصف معرفا باللام الجنسية إشارة إلى تطرق التعريف إليه على الجملة تفننا فجرى استعمالهم أن يأتوا حينئذ مع اللام باسم إشارة إغراقا في تعريفه (١) ويفصلوا بين حرف النداء والاسم المنادى حينئذ بكلمة أيّ وهو تركيب غير جار على قياس اللغة ولعله من بقايا استعمال عتيق.

وقد اختصروا اسم الإشارة فأبقوا (ها) التنبيهية وحذفوا اسم الإشارة ، فأصل يا أيها الناس يا أي هؤلاء وقد صرحوا بذلك في بعض كلامهم كقول الشاعر الذي لا نعرفه :

__________________

(١) علله كثير من النحويين بأنه لكراهية اجتماع حرفي تعريف ، ورده الرضي بأنه لا يستنكر اجتماع حرفين في أحدهما من الفائدة ما في الآخر وزيادة كما في لقد ، وقالوا يا هذا ، ويا أنت. والذي يختار في تعليله أنه كراهية اجتماع أداتي تعريف وهما حرف النداء وأل المعرفة.

٣١٩

أيهذان كلا زاديكما

وربما أرادوا نداء المجهول الحاضر الذات أيضا بما يدل على طريق إحضاره من حالة قائمة به باعتبار كونه فردا من جنس فتوصلوا لذلك باسم الموصول الدال على الحالة بصلته والدال على الجنسية لأن الموصول يأتي لما تأتي له اللام فيقحمون أيّا كذلك نحو : (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) [الحجر : ٦].

و (الناس) تقدم الكلام في اشتقاقه عند قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ) [البقرة : ٨] وهو اسم جمع نودي هنا وعرف بال يشمل كل أفراد مسماه لأن الجموع المعرفة باللام للعموم ما لم يتحقق عهد كما تقرر في الأصول واحتمالها العهد ضعيف إذ الشأن عهد الأفراد فلذلك كانت في العموم أنص من عموم المفرد المحلى بال.

فإن نظرت إلى صورة الخطاب فهو إنما واجه به ناسا سامعين فعمومه لمن لم يحضر وقت سماع هذه الآية ، ولمن سيوجد من بعد يكون بقرينة عموم التكليف وعدم قصد تخصيص الحاضرين وذلك أمر قد تواتر نقلا ومعنى فلا جرم أن يعم الجميع من غير حاجة إلى القياس ، وإن نظرت إلى أن هذا من أضرب الخطاب الذي لا يكون لمعين فيترك فيه التعيين ليعم كل من يصلح للمخاطبة بذلك وهذا شأن الخطاب الصادر من الدعاة والأمراء والمؤلفين في كتبهم من نحو قولهم يا قوم ، ويا فتى ، وأنت ترى ، وبهذا تعلم ، ونحو ذلك فما ظنك بخطاب الرسل وخطاب هو نازل من الله تعالى كان ذلك عاما لكل من يشمله اللفظ من غير استعانة بدليل آخر. وهذا هو تحقيق المسألة التي يفرضها الأصوليون ويعبرون عنها بخطاب المشافهة والمواجهة هل يعم أم لا؟ والجمهور وإن قالوا إنه يتناول الموجودين دون من بعدهم بناء على أن ذلك هو مقتضى المخاطبة حتى قال العضد إن إنكار ذلك مكابرة ، وبحث فيه التفتازانيّ ، فهم قالوا إن شمول الحكم لمن يأتي بعدهم هو مما تواتر من عموم البعثة وأن أحكامها شاملة للخلق في جميع العصور كما أشار إليه البيضاوي.

قلت : الظاهر أن خطابات التشريع ونحوها غير جارية على المعروف في توجه الخطاب في أصل اللغات لأن المشرع لا يقصد لفريق معين ، وكذلك خطاب الخلفاء والولاة في الظهائر والتقاليد ، فقرينة عدم قصد الحاضرين ثابتة واضحة ، غاية ما في الباب أن تعلقه بالحاضرين تعلق أصلي إلزامي وتعلقه بالذين يأتون من بعد تعلق معنوي إعلامي على نحو ما تقرر في تعلق الأمر في علم أصول الفقه فنفرض مثله في توجه الخطاب.

٣٢٠