تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٣٥

وكان في الحاضرين ابن شبرمة فناداه ابن شبرمة يا غيلان أراه قد برح قال : فشنق ناقته وجعل يتأخر بها ويتفكر ثم قال : «لم أجد» عوض «لم يكد» قال عنبسة : فلما انصرفت حدثت أبي فقال لي : أخطأ ابن شبرمة حين أنكر على ذي الرمة ، وأخطأ ذو الرمة حين غيّر شعره لقول ابن شبرمة : إنما هذا كقول الله تعالى : (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها) [النور : ٤٠] وإنما هو لم يرها ولم يكد.

وذهب قوم ـ منهم أبو الفتح بن جني وعبد القاهر وابن مالك في «التسهيل» ـ إلى أن أصل كاد أن يكون نفيها لنفي الفعل بالأولى كما قال الجمهور إلا أنها قد يستعمل نفيها للدلالة على وقوع الفعل بعد بطء وجهد وبعد أن كان بعيدا في الظن أن يقع وأشار عبد القاهر إلى أن ذلك استعمال جرى في العرف وهو يريد بذلك أنها مجاز تمثيلي بأن تشبه حالة من فعل الأمر بعد عناء بحالة من بعد عن الفعل فاستعمل المركب الدال على حالة المشبه به في حالة المشبه ، ولعلهم يجعلون نحو قوله (فَذَبَحُوها) قرينة على هذا القصد.

قال في «التسهيل» : «وتنفي كاد إعلاما بوقوع الفعل عسيرا أو بعدمه وعدم مقاربته» واعتذر في شرحه للتسهيل عن ذي الرمة في تغييره بيته بأنه غيره لدفع احتمال هذا الاستعمال.

وذهب قوم إلى أن كاد إن نفيت بصيغة المضارع فهي لنفي المقاربة وإن نفيت بصيغة الماضي فهي للإثبات وشبهته أن جاءت كذلك في الآيتين (لَمْ يَكَدْ يَراها) [النور : ٤٠] (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) وأن نفي الفعل الماضي لا يستلزم الاستمرار إلى زمن الحال بخلاف نفي المضارع. وزعم بعضهم أن قولهم ما كاد يفعل وهم يريدون أنه كاد ما يفعل إن ذلك من قبيل القلب الشائع.

وعندي أن الحق هو المذهب الثاني وهو أن نفيها في معنى الإثبات وذلك لأنهم لما وجدوها في حالة الإثبات مفيدة معنى النفي جعلوا نفيها بالعكس كما فعلوا في لو ولو لا ويشهد لذلك مواضع استعمال نفيها فإنك تجد جميعها بمعنى مقاربة النفي لا نفي المقاربة ولعل ذلك من قبيل القلب المطرد فيكون قولهم ما كاد يفعل ولم يكد يفعل بمعنى كاد ما يفعل ، ولا يبعد أن يكون هذا الاستعمال من بقايا لغة قديمة من العربية تجعل حرف النفي الذي حقه التأخير مقدما ولعل هذا الذي أشار إليه المعري بقوله : «جرت في لساني جرهم وثمود» ويشهد لكون ذلك هو المراد تغيير ذي الرمة بيته وهو من أهل اللسان وأصحاب الذوق ، فإنه وإن كان من عصر المولدين إلا أنه لانقطاعه إلى سكنى باديته كان في مرتبة شعراء العرب حتى عد فيمن يحتج بشعره ، وما كان مثله ليغير شعره بعد التفكر لو كان

٥٤١

لصحته وجه فما اعتذر به عنه ابن مالك في «شرح التسهيل» ضعيف. وأما دعوى المجاز فيه فيضعفها اطراد هذا الاستعمال حتى في آية (لَمْ يَكَدْ يَراها) فإن الواقف في الظلام إذا مد يده يراها بعناء وقال تأبط شرا «فأبت إلى فهم وما كدت آئبا» وقال تعالى : (وَلا يَكادُ يُبِينُ) [الزخرف : ٥٢]. وإنما قال : (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) ولم يقل يذبحون كراهية إعادة اللفظ تفننا في البيان.

[٧٢ ، ٧٣] (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣))

تصديره بإذ على طريقة حكاية ما سبق من تعداد النعم والألطاف ومقابلتهم إياها بالكفران والاستخفاف يومئ إلى أن هذه قصة غير قصة الذبح ولكنها حدثت عقب الأمر بالذبح لإظهار شيء من حكمة ذلك الأمر الذي أظهروا استنكاره عند سماعه إذ قالوا (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) [البقرة : ٦٧] وفي ذلك إظهار معجزة لموسى. وقد قيل إن ما حكى في هذه الآية هو أول القصة وإن ما تقدم هو آخرها ، وذكروا للتقديم نكتة تقدم القول في بيانها وتوهينها.

وليس فيما رأيت من كتب اليهود ما يشير إلى هذه القصة فلعلها مما أدمج في قصة البقرة المتقدمة لم تتعرض السورة لذكرها لأنها كانت معجزة لموسى عليه‌السلام ولم تكن تشريعا بعده.

وأشار قوله : (قَتَلْتُمْ) إلى وقوع قتل فيهم وهي طريقة القرآن في إسناد أفعال البعض إلى الجميع جريا على طريقة العرب في قولهم : قتلت بنو فلان فلانا ، قال النابغة يذكر بني حنّ (١) :

وهم قتلوا الطائي بالجو عنوة

أبا جابر واستنكحوا أم جابر

وذلك أن نفرا من اليهود قتلوا ابن عمهم الوحيد ليرثوا عمهم وطرحوه في محلة قوم وجاءوا موسى يطالبون بدم ابن عمهم بهتانا وأنكر المتهمون فأمره الله بأن يضرب القتيل ببعض تلك البقرة فينطق ويخبر بقاتله ، والنفس الواحد من الناس لأنه صاحب نفس أي روح وتنفس وهي مأخوذة من التنفس وفي الحديث «ما من نفس منفوسة» ولإشعارها بمعنى

__________________

(١) بحاء مهملة مضمومة ونون مشددة حي من عذرة.

٥٤٢

التنفس اختلف في جواز إطلاق النفس على الله وإضافتها إلى الله فقيل يجوز لقوله تعالى حكاية عن كلام عيسى : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) [المائدة : ١١٦] ولقوله في الحديث القدسي : «وإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي» وقيل : لا يجوز إلا للمشاكلة كما في الآية والحديث القدسي والظاهر الجواز ولا عبرة بأصل مأخذ الكلمة من التنفس فالنفس الذات قال تعالى : (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) [النحل : ١١١]. وتطلق النفس على روح الإنسان وإدراكه ومنه قوله تعالى : (تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي) وقول العرب قلت في نفسي أي في تفكري دون قول لفظي ، ومنه إطلاق العلماء الكلام النفسي على المعاني التي في عقل المتكلم التي يعبر عنها باللفظ.

و (ادّارأتم) افتعال ، وادارأتم أصله تدارأتم تفاعل من الدرء وهو الدفع لأن كل فريق يدفع الجناية عن نفسه فلما أريد إدغام التاء في الدال على قاعدة تاء الافتعال مع الدال والذال جلبت همزة الوصل لتيسير التسكين للإدغام.

وقوله : (وَاللهُ مُخْرِجٌ) جملة حالية من (فَادَّارَأْتُمْ) أي تدارأتم في حال أن الله سيخرج ما كتمتموه فاسم الفاعل فيه للمستقبل باعتبار عامله وهو (فَادَّارَأْتُمْ).

والخطاب هنا على نحو الخطاب في الآيات السابقة المبني على تنزيل المخاطبين منزلة أسلافهم لحمل تبعتهم عليهم بناء على ما تقرر من أن خلق السلف يسري إلى الخلف كما بيناه فيما مضى وسنبينه إن شاء الله تعالى عند قوله : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) [البقرة : ٧٥].

وإنما تعلقت إرادة الله تعالى بكشف حال قاتلي هذا القتيل مع أن دمه ليس بأول دم طل في الأمم إكراما لموسى عليه‌السلام أن يضيع دم في قومه وهو بين أظهرهم وبمرأى منه ومسمع لا سيما وقد قصد القاتلون استغفال موسى ودبروا المكيدة في إظهارهم المطالبة بدمه فلو لم يظهر الله تعالى هذا الدم في أمة لضعف يقينها برسولها ولكان ذلك مما يزيدهم شكا في صدقه فينقلبوا كافرين فكان إظهار هذا الدم كرامة لموسى ورحمة بالأمة لئلا تضل فلا يشكل عليكم أنه قد ضاع دم في زمن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما في حديث حويصة ومحيصة الآتي لظهور الفرق بين الحالين بانتفاء تدبير المكيدة وانتفاء شك الأمة في رسولها وهي خير أمة أخرجت للناس.

وقوله : (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) الإشارة إلى محذوف للإيجاز أي فضربوه فحيي فأخبر بمن قتله أي كذلك الإحياء يحيي الله الموتى فالتشبيه في التحقق وإن كانت كيفية

٥٤٣

المشبه أقوى وأعظم لأنها حياة عن عدم بخلاف هاته فالمقصد من التشبيه بيان إمكان المشبه كقول المتنبي :

فإن تفق الأنام وأنت منهم

فإن المسك بعض دم الغزال

وقوله : (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) من بقية المقول لبني إسرائيل فيتعين أن يقدر وقلنا لهم كذلك يحيي الله الموتى لأن الإشارة لشيء مشاهد لهم وليس هو اعتراضا أريد به مخاطبة الأمة الإسلامية لأنهم لم يشاهدوا ذلك الإحياء حتى يشبه به إحياء الله الموتى.

وقوله : (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) رجاء لأن يعقلوا فلم يبلغ الظن بهم مبلغ القطع مع هذه الدلائل كلها.

وقد جرت عادة فقهائنا أن يحتجوا بهذه الآية على مشروعية اعتبار قول المقتول : دمي عند فلان موجبا للقسامة ويجعلون الاحتجاج بها لذلك متفرعا على الاحتجاج بشرع من قبلنا ، وفي ذلك تنبيه على أن محل الاستدلال بهذه الآية على مشروعية ذلك هو أن إحياء الميت لم يقصد منه إلّا سماع قوله فدل على أن قول المقتول كان معتبرا في أمر الدماء. والتوراة قد أجملت أمر الدماء إجمالا شديدا في قصة ذبح البقرة التي قدمناها ، نعم إن الآية لا تدل على وقوع القسامة مع قول المقتول ولكنها تدل على اعتبار قول المقتول سببا من أسباب القصاص ، ولما كان الظن بتلك الشريعة أن لا يقتل أحد بمجرد الدعوى من المطعون تعين أن هنالك شيئا تقوى به الدعوى وهو القسامة.

وقد أورد على احتجاج المالكية بها أن هذا من خوارق العادات وهي لا تفيد أحكاما وأجاب ابن العربي بأن المعجزة في إحياء الميت فلما حيي صار كلامه ككلام سائر الأحياء ، وهو جواب لطيف لكنه غير قاطع.

والخلاف في القضاء بالقسامة إثباتا ونفيا وفي مقدار القضاء بها مبسوط في كتب الفقه وقد تقصاه القرطبي وليس من أغراض الآية.

[٧٤] (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤))

(ثم) هنا للترتيب الرتبي الذي تتهيأ له (ثم) إذا عطفت الجمل ، أي ومع ذلك كله لم

٥٤٤

تلن قلوبكم ولم تنفعكم الآيات (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ) وكان من البعيد قسوتها.

وقوله : (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) زيادة تعجيب من طرق القساوة للقلب بعد تكرر جميع الآيات السابقة المشار إلى مجموعها بذلك على حد قول القطامي :

أكفرا بعد ردّ الموت عني

وبعد عطائك المائة الرّتاعا

أي كيف أكفر نعمتك أي لا أكفرها مع إنجائك لي من الموت إلخ. ووجه استعمال (بعد) في هذا المعنى أنها مجاز في معنى (مع) لأن شأن المسبب ، أن يتأخر عن السبب ولما لم يكن المقصد التنبيه على تأخره للعلم بذلك وأريد التنبيه على أنه معه إثباتا أو نفيا عبر ببعد عن معنى (مع) مع الإشارة إلى التأخر الرتبي.

والقسوة والقساوة توصف بها الأجسام وتوصف بها النفوس المعبر عنها بالقلوب فالمعنى الجامع للوصفين هو عدم قبول التحول عن الحالة الموجودة إلى حالة تخالفها. وسواء كانت القساوة موضوعة للقدر المشترك بين هذين المعنيين الحسي والقلبي ـ وهو احتمال ضعيف ـ أم كانت موضوعة للأجسام حقيقة واستعملت في القلوب مجازا وهو الصحيح ، فقد شاع هذا المجاز حتى ساوى الحقيقة وصار غير محتاج إلى القرينة فآل اللفظ إلى الدلالة على القدر المشترك بالاستعمال لا بأصل الوضع وقد دل على ذلك العطف في قوله : (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) كما سيأتي.

وقوله : (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ) تشبيه فرع بالفاء لإرادة ظهور التشبيه بعد حكاية الحالة المعبر عنها بقست لأن القسوة هي وجه الشبه ولأن أشهر الأشياء في هذا الوصف هو الحجر فإذا ذكرت القسوة فقد تهيأ التشبيه بالحجر ولذا عطف بالفاء أي إذا علمت أنها قاسية فشبهها بالحجارة كقول النابغة يصف الحجيج :

عليهن شعث عامدون لربهم

فهنّ كأطراف الحنيّ خواشع

وقد كانت صلابة الحجر أعرف للناس وأشهر لأنها محسوسة فلذلك شبه بها ، وهذا الأسلوب يسمى عندي تهيئة التشبيه وهو من محاسنه ، وإذا تتبعت أساليب التشبيه في كلامهم تجدها على ضربين ضرب لا يهيأ فيه التشبيه وهو الغالب وضرب يهيأ فيه كما هنا والعطف بالفاء في مثله حسن جدا وأما أن يأتي المتكلم بما لا يناسب التشبيه فذلك عندي بعد مذموما. وقد رأيت بيتا جمع تهيئة التشبيه والبعد عنه وهو قول ابن نباتة :

في الريق سكر وفي الأصداغ تجعيد

هذا المدام وهاتيك العناقيد

٥٤٥

فإنه لما ذكر السكر تهيأ التشبيه بالخمر ولكن قوله : تجعيد لا يناسب العناقيد.

فإن قلت لم عددته مذموما وما هو إلا كتجريد الاستعارة؟

قلت : لا لأن التجريد يجيء بعد تكرر الاستعارة وعلم بها فيكون تفننا لطيفا بخلاف ما يجيء قبل العلم بالتشبيه.

وقوله : (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) مرفوع على أنه خبر مبتدأ دل عليه قوله : (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ) و (أو) بمعنى بل الانتقالية لتوفر شرطها وهو كون معطوفها جملة. وهذا المعنى متولد من معنى التخيير الموضوعة له (أو) لأن الانتقال ينشأ عن التخيير فإن القلوب بعد أن شبهت بالحجارة وكان الشأن يكون المشبه أضعف في الوصف من المشبه به يبنى على ذلك ابتداء التشبيه بما هو أشهر ثم عقب التشبيه بالترقي إلى التفضيل في وجه الشبه على حد قول ذي الرمة (١) :

بدت مثل قرن الشمس في رونق الضّحى

وصورتها أو أنت في العين أملح

فليست (أو) للتخيير في التشبيه أي ليست عاطفة على قوله الحجارة المجرورة بالكاف لأن تلك لها موقع ما إذا كرر المشبه به كما قدمناه عند قوله تعالى : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) [البقرة : ١٩]. ويجوز أن تكون للتخيير في الأخبار عطفا على الخبر الذي هو (كَالْحِجارَةِ) أي فهي مثل الحجارة أو هي أقوى من الحجارة والمقصود من التخيير أن المتكلم يشير إلى أنه لا يرمي بكلامه جزافا ولا يذمهم تحاملا بل هو متثبت متحر في شأنهم فلا يثبت لهم إلا ما تبين له بالاستقراء والتقصي فإنه ساواهم بالحجارة في وصف ثم تقصّى فرأى أنهم فيه أقوى فكأنه يقول للمخاطب إن شئت فسوّهم بالحجارة في القسوة ولك أن تقول هم أشد منها وذلك يفيد مفاد الانتقال الذي تدل عليه بل وهو إنما يحسن في مقام الذم لأن فيه تلطفا وأما في مقام المدح فالأحسن هو التعبير ببل كقول الفرزدق :

فقالت لنا أهلا وسهلا وزوّدت

جنى النّحل بل ما زوّدت منه أطيب

ووجه تفضيل تلك القلوب على الحجارة في القساوة أن القساوة التي اتصفت بها القلوب مع كونها نوعا مغايرا لنوع قساوة الحجارة قد اشتركا في جنس القساوة الراجعة إلى معنى عدم قبول التحول كما تقدم فهذه القلوب قساوتها عند التمحيص أشد من قساوة

__________________

(١) نسبه إليه ابن جني وقال البغدادي لم أجده في «ديوان ذي الرمة».

٥٤٦

الحجارة لأن الحجارة قد يعتريها التحول عن صلابتها وشدتها بالتفرق والتشقق وهذه القلوب لم تجد فيها محاولة.

وقوله : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ) إلخ تعليل لوجه التفضيل إذ من شأنه أن يستغرب ، وموقع هذه الواو الأولى في قوله : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ) عسير فقيل : هي للحال من الحجارة المقدّرة بعد (أشد) أي أشد من الحجارة قسوة ، أي تفضيل القلوب على الحجارة في القسوة يظهر في هذه الأحوال التي وصفت بها الحجارة ومعنى التقييد أن التفضيل أظهر في هذه الأحوال ، وقيل هي الواو للعطف على قوله : (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) قاله التفتازانيّ ، وكأنه يجعل مضمون هذه المعطوفات غير راجع إلى معنى تشبيه القلوب بالحجارة في القساوة بل يجعلها إخبارا عن مزايا فضلت بها الحجارة على قلوب هؤلاء بما يحصل عن هذه الحجارة من منافع في حين تعطّل قلوب هؤلاء من صدور النفع بها ، وقيل : الواو استئنافية وهو تذييل للجملة السابقة وفيه بعد كما صرح به ابن عرفة ، والظاهر أنها الواو الاعتراضية وأن جملة (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ) وما عطف عليها معترضات بين قوله : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ) وبين جملة الحال منها وهي قوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).

والتوكيد بإنّ للاهتمام بالخبر وهذا الاهتمام يؤذن بالتعليل ووجود حرف العطف قبلها لا يناكد ذلك كما تقدم عند قوله تعالى : (فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) [البقرة : ٦١].

ومن بديع التخلص تأخّر قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) والتعبير عن التسخّر لأمر التكوين بالخشية ليتم ظهور تفضيل الحجارة على قلوبهم في أحوالها التي نهايتها الامتثال للأمر التكليفي مع تعاصي قلوبهم عن الامتثال للأمر التكليفي ليتأتى الانتقال إلى قوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وقوله : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) [البقرة : ٧٥].

وقد أشارت الآية إلى أن انفجار الماء من الأرض من الصخور منحصر في هذين الحالين وذلك هو ما تقرر في علم الجغرافيا الطبيعية أن الماء النازل على الأرض يخرق الأرض بالتدريج لأن طبع الماء النزول إلى الأسفل جريا على قاعدة الجاذبية فإذا أضغط عليه بثقل نفسه من تكاثره أو بضاغط آخر من أهوية الأرض تطلب الخروج حتى إذا بلغ طبقة صخرية أو صلصالية طفا هناك فالحجر الرملي يشرب الماء والصخور والصلصال لا يخرقها الماء إلا إذا كانت الصخور مركبة من مواد كلسية وكان الماء قد حمل في جريته

٥٤٧

أجزاء من معدن الحامض الفحمي فإن له قوة على تحليل الكلس فيحدث ثقبا في الصخور الكلسية حتى يخرقها فيخرج منها نابعا كالعيون. وإذا اجتمعت العيون في موضع نشأت عنها الأنهار كالنيل النابع من جبال القمر ، وأما الصخور غير الكلسية فلا يفتتها الماء ولكن قد يعرض لها انشقاق بالزلازل أو بفلق الآلات فيخرج منها الماء إما إلى ظاهر الأرض كما نرى في الآبار وقد يخرج منها الماء إلى طبقة تحتها فيختزن تحتها حتى يخرج بحالة من الأحوال السابقة. وقد يجد الماء في سيره قبل الدخول تحت الصخر أو بعده منفذا إلى أرض ترابية فيخرج طافيا من سطح الصخور التي جرى فوقها. وقد يجد الماء في سيره منخفضات في داخل الأرض فيستقر فيها ثم إذا انضمت إليه كميات أخرى تطلّب الخروج بطريق من الطرق المتقدمة ولذلك يكثر أن تنفجر الأنهار عقب الزلازل.

والخشية في الحقيقة الخوف الباعث على تقوى الخائف غيره. وهي حقيقة شرعية في امتثال الأمر التكليفي لأنها الباعث على الامتثال. وجعلت هنا مجازا عن قبول الأمر التكويني إما مرسلا بالإطلاق والتقييد ، وإما تمثيلا للهيئة عند التكوين بهيئة المكلّف إذ ليست للحجارة خشية إذ لا عقل لها. وقد قيل إن إسناد (يهبط) للحجر مجاز عقلي والمراد هبوط القلوب أي قلوب الناظرين إلى الصخور والجبال أي خضوعها فأسند الهبوط إليها لأنها سببه كما قالوا ناقة تاجرة أي تبعث من يراها على المساومة فيها (١).

وقوله : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) تذييل في محل الحال أي فعلتم ما فعلتم وما الله بغافل عن كل صنعكم.

وقد قرأه الجمهور بالتاء الفوقية تكملة خطاب بني إسرائيل ، وقرأ ابن كثير ويعقوب وخلف (يعملون) بالياء التحتية وهو انتقال من خطابهم إلى خطاب المسلمين فلذلك غيّر أسلوبه إلى الغيبة وليس ذلك من الالتفات لاختلاف مرجع الضميرين لأن تفريع قوله : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) [البقرة : ٧٥] عليه دل على أن الكلام نقل من خطاب بني إسرائيل إلى خطاب المسلمين. وهو خبر مراد به التهديد والوعيد لهم مباشرة أو تعريضا.

[٧٥] (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ

__________________

(١) قال النابغة يصف نخلا :

بزاخية ألوت بليف كأنه

عفاء قلاص طار عنها تواجر

٥٤٨

يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥))

هذا اعتراض استطرادي بين القصة الماضية والقصة التي أولها : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ) [البقرة : ٨٣] فجميع الجمل من قوله تعالى : (أَفَتَطْمَعُونَ) إلى قوله : (وَإِذْ أَخَذْنا) داخلة في هذا الاستطراد.

والفاء لتفريع الاستفهام الإنكاري أو التعجيبي على جملة (ثُمَّ قَسَتْ) [البقرة : ٧٤] أو على مجموع الجمل السابقة لأن جميعها مما يقتضي اليأس من إيمانهم بما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكأنّه قيل : فلا تطمعوا أن يؤمنوا لكم أو فاعجبوا من طمعكم ، وسيأتي تحقيق موقع الاستفهام مع حرف العطف في مثله عند قوله تعالى : (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ) [البقرة : ٨٧].

والطمع ترقب حصول شيء محبوب وهو يرادف الرجاء وهو ضد اليأس ، والطمع يتعدى بفي حذفت هنا قبل (أن).

فإن قلت ، كيف ينهى عن الطمع في إيمانهم أو يعجّب به والنبي والمسلمون مأمورون بدعوة أولئك إلى الإيمان دائما؟ وهل لمعنى هذه الآية ارتباط بمسألة التكليف بالمحال الذي استحالته لتعلق علم الله بعدم وقوعه؟

قلت : إنما نهينا عن الطمع في إيمانهم لا عن دعائهم للإيمان لأننا ندعوهم للإيمان وإن كنا آيسين منه لإقامة الحجة عليهم في الدنيا عند إجراء أحكام الكفر عليهم وفي الآخرة أيضا ، ولأن الدعوة إلى الحق قد تصادف نفسا نيّرة فتنفعها ، فإن استبعاد إيمانه حكم على غالبهم وجمهرتهم أما الدعوة فإنها تقع على كل فرد منهم والمسألة أخص من تلك المسألة لأن مسألة التكليف بالمحال لتعلق العلم بعدم وقوعه مفروضة فيما علم الله عدم وقوعه وتلك قد كنا أجبنا لكم فيها جوابا واضحا (١) وهو أن الله تعالى وإن علم عدم إيمان مثل أبي جهل إلا أنه لم يطلعنا على ما علمه فيه والأوامر الشرعية لم تجيء بتخصيص أحد بدعوة حتى يقال كيف أمر مع علم الله بأنه لا يؤمن ، وأما هذه الآية فقد أظهرت نفي الطماعية في إيمان من كان دأبهم هذه الأحوال فالجواب عنها يرجع إلى الجواب الأعم وهو أن الدعاء لأجل إقامة الحجة وهو الجواب الأعم لأصحابنا في مسألة

__________________

(١) عند شرح قوله تعالى : لا يُؤْمِنُونَ [البقرة : ٦] وانظر أيضا آخر شرح [البقرة : ٦٥] فإن فيها ذكر مسألة التكليف الإلجائي (مصححه).

٥٤٩

التكليف بما علم الله عدم وقوعه ، على أن بعض أحوالهم قد تتغير فيكون للطماعية بعد ذلك حظ.

واللام في قوله : (لَكُمْ) لتضمين (يُؤْمِنُوا) معنى يقرّوا وكأنّ فيه تلميحا إلى أن إيمانهم بصدق الرسول حاصل ولكنهم يكابرون ويجحدون على نحو قوله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) [البقرة : ١٤٦] الآية فما أبدع نسج القرآن. ويجوز حمل اللام على التعليل وجعل (يُؤْمِنُوا) منزّلا منزلة اللازم تعريضا بهم بأنهم لم يؤمنوا بالحق الذي جاءهم على ألسنة أنبيائهم وهم أخص الناس بهم أفتطمعون أن يعترفوا به لأجلكم.

وقوله : (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ) جملة حالية هي قيد إنكار الطمع في إيمانهم فيكون قد علل هذا الإنكار بعلتين إحداهما بالتفريع على ما علمناه ، والثانية بالتقييد بما علّمناه.

وقوله : (فَرِيقٌ مِنْهُمْ) يحتمل أن يريد من قومهم الأقدمين أومن الحاضرين في زمن نزول الآية.

وسماعهم كلام الله على التقديرين هو سماع الوحي بواسطة الرسول إن كان الفريق من الذين كانوا زمن موسى أو بواسطة النقل إن كان من الذين جاءوا من بعده. أما سماع كلام الله مباشرة فلم يقع إلا لموسى عليه‌السلام. وأيّا ما كان فالمقصود بهذا الفريق جمع من علمائهم دون عامتهم.

والتحريف أصله مصدر حرّف الشيء إذا مال به إلى الحرف وهو يقتضي الخروج عن جادة الطريق ، ولمّا شاع تشبيه الحق والصواب والرشد والمكارم بالجادة وبالصراط المستقيم شاع في عكسه تشبيه ما خالف ذلك بالانحراف وببينات الطريق. قال الأشتر :

بقّيت وفرى وانحرفت عن العلى

ولقيت أضيافي بوجه عبوس

ومن فروع هذا التشبيه قولهم : زاغ ، وحاد ومرق ، وألحد وقوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) [الحج : ١١]. فالمراد بالتحريف إخراج الوحي والشريعة عما جاءت به ، إما بتبديل وهو قليل وإما بكتمان بعض وتناسيه وإما بالتأويل البعيد وهو أكثر أنواع التحريف.

وقوله : (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) حال من (فَرِيقٌ) وهو قيد في القيد يعني يسمعونه ثم يعقلونه ثم يحرفونه وهم يعلمون أنهم يحرفون ، وأن قوما توارثوا هذه الصفة لا يطمع في

٥٥٠

إيمانهم لأن الذين فعلوا هذا إما أن يكونوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو بني عمهم فالغالب أن يكون خلقهم واحدا وطباعهم متقاربة كما قال نوح عليه‌السلام : (وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) [نوح : ٢٧] وللعرب والحكماء في هذا المعنى أقوال كثيرة مرجعها إلى أن الطباع تورث ، ولذلك كانوا يصفون القبيلة بصفات جمهورها ، أو أراد بالفريق علماءهم وأحبارهم ، فالمراد لا طمع لكم في إيمان قوم هذه صفات خاصتهم وعلمائهم فكيف ظنكم بصفات دهمائهم لأن الخاصة في كل أمة هم مظهر محامدها وكمالاتها فإذا بلغت الخاصة في الانحطاط مبلغا شنيعا فاعلم أن العامة أفظع وأشنع ، وأراد بالعامة الموجودين منهم زمن القرآن لأنهم وإن كان فيهم علماء إلا أنهم كالعامة في سوء النظر ووهن الوازع.

[٧٦ ، ٧٧] (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧))

الأظهر أن الضمير في (لَقُوا) عائد على بني إسرائيل على نسق الضمائر السابقة في قوله : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا) [البقرة : ٧٥] وما بعده ، وأن الضمير المرفوع بقالوا عائد عليهم باعتبار فريق منهم وهم الذين أظهروا الإيمان نفاق أو تفاديا من مر المقارعة والمحاجة بقرينة قوله : (آمَنَّا) وذلك كثير في ضمائر الأمم والقبائل ونحوها نحو قوله تعالى : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَ) [البقرة : ٢٣٢] لأن ضمير (طَلَّقْتُمُ) للمطلقين وضمير تعضلوا للأولياء لأن الجميع راجع إلى جهة واحدة وهي جهة المخاطبين من المسلمين لاشتمالهم على الصنفين ، ومنه أن تقول لئن نزلت ببني فلان ليكرمنك وإنما يكرمك سادتهم وكرماؤهم ويكون الضمير في قوله : (بَعْضُهُمْ) عائد إلى الجميع أي بعض الجميع إلى بعض آخر ومعلوم أن القائل من لم ينافق لمن نافق ، ثم تلتئم الضمائر بعد ذلك في (يَعْلَمُونَ) و (يُسِرُّونَ) و (يُعْلِنُونَ) بلا كلفة وإلى هذه الطريقة ذهب صاحب «الكشاف» ويرجحها عندي أن فيها الاقتصار على تأويل ما به الحاجة والتأويل عند وجود دليله بجنبه وهو (آمَنَّا).

وجملة (إِذا لَقُوا) معطوفة على جملة (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) [البقرة : ٧٥] على أنهم حال مثلها من أحوال اليهود وقد قصد منها تقييد النهي أو التعجيب من الطمع في إيمانهم فهو معطوف على الحال بتأويل وقد كان فريق منهم آخر إذا لقوا.

وقوله : (وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ) معطوف على (إِذا لَقُوا) وهم المقصود من الحالية أي

٥٥١

والحال أنهم يحصل منهم مجموع هذا لأن مجرد قولهم (آمَنَّا) لا يكون سببا للتعجب من الطمع في إيمانهم فضمير (بَعْضُهُمْ) راجع إلى ما رجع إليه (لَقُوا) وهم عموم اليهود. ونكتة التعبير ب (قالُوا آمَنَّا) مثلها في نظيره السابق في أوائل السورة [البقرة : ١٤].

وقوله : (أَتُحَدِّثُونَهُمْ) استفهام للإنكار أو التقرير أو التوبيخ بقرينة أن المقام دل على أنهم جرى بينهم حديث في ما ينزل من القرآن فاضحا لأحوال أسلافهم ومثالب سيرتهم مع أنبيائهم وشريعتهم. والظاهر عندي أن معناه أنهم لما سمعوا من القرآن ما فيه فضيحة أحوالهم وذكر ما لا يعلمه إلا خاصتهم ظنوا أن ذلك خلص للنبي من بعض الذين أظهروا الإيمان من أتباعهم وأن نفاقهم كان قد بلغ بهم إلى أن أخبروا المسلمين ببعض قصص قومهم سترا لكفرهم الباطن فوبخوهم على ذلك توبيخ إنكار أي كيف يبلغ بكم النفاق إلى هذا وأن في بعض إظهار المودة للمسلمين كفاية على حد قول المثل الذي حكاه بشار بقوله :

واسعد بما قال في الحلم ابن ذي يزن

يلهو الكرام ولا ينسون أحسابا

فحكى الله ذلك عنهم حكاية لحيرتهم واضطراب أمرهم لأنهم كانوا يرسلون نفرا من قومهم جواسيس على النبي والمسلمين يظهرون الإسلام ويبطنون اليهودية ثم اتهموهم بخرق الرأي وسوء التدبير وأنهم ذهبوا يتجسسون فكشفوا أحوال قومهم ، ويدل لهذا عندي قوله تعالى بعد : (أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) وأخبار مروية عن بعض التابعين بأسانيد لبيان المتحدث به ، فعن السدي كان بعض اليهود يحدث المسلمين بما عذب به أسلافهم ، وعن أبي العالية قال بعض المنافقين : إن النبي مذكور في التوراة ، وعن ابن زيد كانوا يخبرون عن بعض قصص التوراة.

والمراد (بِما فَتَحَ اللهُ) إما ما قضى الله به من الأحوال والمصائب فإن الفتح بمعنى القضاء وعليه قوله تعالى : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ) [الأعراف : ٨٩] والفتاح القاضي بلغة اليمن ، وإما بمعنى البيان والتعليم ، ومنه الفتح على الإمام في الصلاة بإظهار الآية له وهو كناية مشهورة لأن القضاء يستلزم بيان الحق ، ومنه قوله تعالى : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) [البقرة : ٨٩] أي يسألونهم العلم بالأمور التشريعية على أحد وجهين ، فالمعنى بما علمكم الله من الدين.

وقوله : (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) صيغة المفاعلة غير مقصود بها حصول الفعل من جانبين بل هي لتأكيد الاحتجاج أي ليحتجوا عليكم به أي بما فتح الله عليكم.

٥٥٢

واللام في قوله تعالى : (لِيُحَاجُّوكُمْ) لام التعليل لكنها مستعملة في التعقيب مجازا أو ترشيحا لاستعمال الاستفهام في الإنكار أو التقرير مجازا فإنه لما كان الاستفهام الموضوع لطلب العلم استعمل هنا في الإنكار أو التقرير مجازا لأن طلب العلم يستلزم الإقرار والمقرر عليه يقتضي الإنكار لأن المقر به مما ينكر بداهة وكانت المحاجة به عند الله فرعا عن التحديث بما فتح الله عليهم جعل فرع وقوع التحديث المنكر كأنه علة مسئول عنها أي لكان فعلكم هذا معللا بأن يحاجوكم ، وهو غاية في الإنكار إذ كيف يسعى أحد في إيجاد شيء تقوم به عليه الحجة فالقرينة هي كون المقام للإنكار لا للاستفهام ولذلك كانت اللام ترشيحا متميزا به أيضا.

والأظهر أن قوله : (عِنْدَ رَبِّكُمْ) ظرف على بابه مراد منه عندية التحاكم المناسب لقوله : (لِيُحَاجُّوكُمْ) وذلك يوم القيامة لا محالة أي يجعلون ذلك حجة عليكم أمام الله على صدق رسولهم وعلى تبعتكم في عدم الإيمان به وذلك جار على حكاية حال عقيدة اليهود من تشبيههم الرب سبحانه وتعالى بحكام البشر في تمشي الحيل عليه وفي أنه إنما يأخذ المسببات من أسبابها الظاهرية فلذلك كانوا يرتكبون التحيل في شرعهم وتجد كتبهم ملأى بما يدل على أن الله ظهر له كذا وعلم أن الأمر الفلاني كان على خلاف المظنون وكقولهم في سفر التكوين «وقال الرب هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا يعرف الخير والشر» وقال فيه : «ورأى الرب أن شر الإنسان قد كثر فحزن الرب أنه عمل الإنسان في الأرض وتأسف في قلبه فقال : أمحو عن وجه الأرض الإنسان الذي خلقته» وجاء في التكوين أيضا «لما شاخ إسحاق وكلت عيناه عن النظر دعا ابنه الأكبر عيسو وقال له : إني شخت ولست أعرف يوم وفاتي فالآن خذ عدتك واخرج إلى البرية فتصيد لي صيدا واصنع لي أطعمة حتى أباركك قبل أن أموت فسمعت (رفقة) أمهما (١) ذلك فكلمت ابنها يعقوب وقالت : اذهب إلى الغنم وخذ جديين جيدين من المعزى فاصنعهما أطعمة لأبيك حتى يباركك قبل وفاته فقال : يعقوب لأمه إن عيسو أخي رجل أشعر وأنا رجل أملس ربما يجسني أبي فأكون في عينيه كمتهاون وأجلب على نفسي لعنة فقالت : اسمع لقولي فذهب وصنعت له أمه الطعام وأخذت ثياب ابنها الأكبر عيسو وألبستها يعقوب وألبست يديه وملاسة عنقه جلود الجديين فدخل يعقوب إلى أبيه وقال : يا أبي أنا ابنك الأكبر قد فعلت

__________________

(١) رفقة هي أم عيسو ويعقوب ولكنها تميل إلى يعقوب لأن عيسو كان قد تزوج امرأتين من بني حث فكانت رفقة ساخطة على عيسو.

٥٥٣

كما كلمتني فجسه إسحاق وقال الصوت صوت يعقوب ولكن اليدين يدا عيسو فباركه (أي جعله نبيئا) وجاء عيسو وكلم أباه وعلم الحيلة ثم قال لأبيه : باركني أنا فقال قد جاء أخوك بكرة وأخذ بركتك» إلخ فما ظنك بقوم هذه مبالغ عقائدهم أن لا يقولوا لا تعلموهم لئلا يحاجوكم عند الله يوم القيامة وبهذا يندفع استبعاد البيضاوي وغيره أن يكون المراد بعند ربكم يوم القيامة بأن إخفاء الحقائق يوم القيامة لا يفيد من يحاوله حتى سلكوا في تأويل معنى قوله (عِنْدَ رَبِّكُمْ) مسالك في غاية التكلف قياسا منهم لحال اليهود على حال عقائد الإسلام ففسروا (عند) بمعنى الكتاب أو على حذف مضاف أو حذف موصول ثم سلك متعقبوهم في إعرابه غاية الإغراب.

وقوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) من بقية مقولهم لقومهم ولا يصح جعله خطابا من الله للمسلمين تذييلا لقوله : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ) [البقرة : ٧٥] لأن المسلمين وفيهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليسوا جديرين بمثل هذا التوبيخ وحسبهم ما تضمنه الاستفهام من الاستغراب أو النهي.

فإن قلت : لم لم يذكر في الآية جواب المخاطبين بالتبرؤ من أن يكونوا حدثوا المؤمنين بما فتح الله عليهم كما ذكر في قوله المتقدم : (وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ)؟

قلت : ليس القرآن بصدد حكاية مجادلاتهم وأحوالهم فإنها أقل من ذلك وإنما يحكي منها ما فيه شناعة حالهم وسوء سلوكهم ودوام إصرارهم وانحطاط أخلاقهم فتبريهم مما نسب إليه كبراؤهم من التهمة معلوم ، للقطع بأنهم لم يحدثوا المسلمين بشيء ولما دل عليه قوله الآتي (أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ) إلخ. وأما ما في الآية المتقدمة من تنصلهم بقولهم (إِنَّا مَعَكُمْ) فلأن فيه التسجيل عليهم في قولهم فيه : (إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ).

وقوله : (أَوَلا يَعْلَمُونَ) الآية ، الاستفهام فيه على غير حقيقته فهو إما مجاز في التقرير أي ليسوا يعلمون ذلك والمراد التقرير بلازمه وهو أنه إن كان الله يعلمه فقد علمه رسوله وهذا لزوم عرفي ادعائي في المقام الخطابي أو مجاز في التوبيخ والمعنى هو هو ، أو مجاز في التحضيض أي هل كان وجود أسرار دينهم في القرآن موجبا لعلمهم أن الله يعلم ما يسرون والمراد لازم ذلك أي يعلمون أنه منزل عن الله أي هلا كان ذلك دليلا على صدق الرسول عوض عن أن يكون موجبا لتهمة قومهم الذين تحققوا صدقهم في اليهودية ، وهذا الوجه هو الظاهر لي ويرجحه التعبير بيعلمون بالمضارع دون علموا.

٥٥٤

وموقع الاستفهام مع حرف العطف في قوله : (أَفَلا تَعْقِلُونَ) وقوله : (أَوَلا يَعْلَمُونَ) سيأتي على نظائره وخلاف علماء العربية فيه عند قوله تعالى : (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ) [البقرة : ٨٧].

[٧٨] (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨))

معطوف على قوله : (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ) [البقرة : ٧٥] عطف الحال على الحال و (مِنْهُمْ) خبر مقدم وتقديمه للتشويق إلى المسند إليه كما تقدم في قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ) [البقرة : ٨] والمعنى كيف تطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم محرفين وفريق جهلة وإذا انتفى إيمان أهل العلم منهم المظنون بهم تطلب الحق المنجي والاهتداء إلى التفرقة بينه وبين الباطل فكانوا يحرفون الدين ويكابرون فيما يسمعون من معجزة القرآن في الإخبار عن أسرار دينهم فكيف تطمعون أيضا في إيمان الفريق الأميين الذين هم أبعد عن معرفة الحق وألهى عن تطلبه وأضل في التفرقة بين الحق والباطل وأجدر بالاقتداء بأئمتهم وعلمائهم فالفريق الأول هم الماضون. وعلى هذا فجملة (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ) معطوفة على جملة (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) إلخ باعتبار كونها معادلا لها من جهة ما تضمنته من كونها حالة فريق منهم وهذه حالة فريق آخر. وأما قوله : (وَإِذا لَقُوا) [البقرة : ٧٦] وقوله : (وَإِذا خَلا) [البقرة : ٧٦] فتلك معطوفات على جملة (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ) عطف الحال على الحال أيضا لكن باعتبار ما تضمنته الجملة الأولى من قوله : (يَسْمَعُونَ) الذي هو حال من أحوال اليهود وبهذا لا يجيء في جملة (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ) التخيير المبني على الخلاف في عطف الأشياء المتعددة بعضها على بعض هل يجعل الأخير معطوفا على ما قبله من المعطوفات أو معطوفا على المعمول الأول لأن ذلك إذا كان مرجع العطف جهة واحدة وهنا قد اختلفت الجهة.

والأمي من لا يعرف القراءة والكتابة والأظهر أنه منسوب إلى الأمة بمعنى عامة الناس فهو يرادف العامي ، وقيل : منسوب إلى الأم وهي الوالدة أي إنه بقي على الحالة التي كان عليها مدة حضانة أمه إياه فلم يكتسب علما جديدا ولا يعكر عليه أنه لو كان كذلك لكان الوجه في النسب أن يقولوا أمهى بناء على أن النسب يرد الكلمات إلى أصولها وقد قالوا في جمع الأم : أمهات فردّوا المفرد إلى أصله فدلوا على أن أصل أم أمهة لأن الأسماء إذا نقلت من حالة الاشتقاق إلى جعلها أعلاما قد يقع فيها تغيير لأصلها.

٥٥٥

وقد اشتهر اليهود عند العرب بوصف أهل الكتاب فلذلك قيل هنا : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ) أي ليس جميعهم أهل كتاب. ولم تكن الأمية في العرب وصف ذم لكنها عند اليهود وصف ذم كما أشار إليه قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) [آل عمران : ٧٥] وقال ابن صيّاد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أشهد أنك رسول» وذلك لما تقتضيه الأميين من قلة المعرفة ومن أجل ذلك كانت الأمية معجزة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث كان أعلم الناس مع كونه نشأ أمّيّا قبل النبوءة وقد قال أبو الوليد الباجي : إن الله علّم نبيه القراءة والكتابة بعد تحقق معجزة الأمية بأن يطلعه على ما يعرف به ذلك عند الحاجة استنادا لحديث البخاري في صلح الحديبية وأيده جماعة من العلماء في هذا وأنكر عليه أكثرهم مما هو مبسوط في ترجمته في كتاب «المدارك» لعياض وما أراد إلا إظهار رأيه.

والكتاب إما بمعنى التوراة اسم للمكتوب وإما مصدر كتب أي لا يعلمون الكتابة ويبعده قوله بعده : (إِلَّا أَمانِيَ) فعلى الوجه الأول يكون قوله : (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ) أثرا من آثار الأمية أي لا يعلمون التوراة إلا علما مختلطا حاصلا مما يسمعونه ولا يتقنونه ، وعلى الوجه الثاني تكون الجملة وصفا كاشفا لمعنى الأميين كقول أوس بن حجر :

الألمعي الذي يظن بك الظ

ن كأن قد رأى وقد سمعا

والأمانيّ بالتشديد جمع أمنيّة على وزن أفاعيل وقد جاء بالتخفيف فهو جمع على وزن أفاعل عند الأخفش كما جمع مفتاح على مفاتح ومفاتيح ، والأمنية كأثفيّة وأضحية أفعولة كالأعجوبة والأضحوكة والأكذوبة والأغلوطة ، والأماني كالأعاجيب والأضاحيك والأكاذيب والأغاليط ، مشتقة من منى كرمى بمعنى قدّر الأمر ولذلك قيل تمنى بمعنى تكلف تقدير حصول شيء متعذر أو متعسر ، ومنّاه أي جعله مانيا أي مقدّرا كناية عن الوعد الكاذب لأنه ينقل الموعود من تقدير حصول الشيء اليوم إلى تقدير حصوله غدا ، وهكذا كما قال كعب بن زهير :

فلا يغرّنك ما منّت وما وعدت

إن الأماني والأحلام تضليل

ولأن الكاذب ما كذب إلا لأنه يتمنى أن يكون ما في نفس الأمر موافقا لخبره فمن أجل ذلك حدثت العلاقة بين الكذب والتمني فاستعملت الأمنية في الأكذوبة ، فالأماني هي التقادير النفسية أي الاعتقادات التي يحسبها صاحبها حقا وليست بحق أو هي الفعال التي يحسبها العامة من الدين وليست منه بل ينسون الدين ويحفظونها ، وهذا دأب الأمم الضالة عن شرعها أن تعتقد ما لها من العوائد والرسوم والمواسم شرعا ، أو هي التقادير التي

٥٥٦

وضعها الأحبار موضع الوحي الإلهي إما زيادة عليه حتى أنستهم الأصل وإما تضليلا وهذا أظهر الوجوه.

وقيل : الأماني هنا الأكاذيب أي ما وضعه لهم الذين حرفوا الدين ، وقد قيل الأماني القراءة أي لا يعلمون الكتاب إلا كلمات يحفظوها ويدرسونها لا يفقهون منها معنى كما هو عادة الأمم الضالة إذ تقتصر من الكتب على السرد دون فهم وأنشدوا على ذلك قول حسان في رثاء عثمان رضي‌الله‌عنه :

تمنّى كتاب الله أوّل ليله

وآخره لاقى حمام المقادر

أي قرأ القرآن في أول الليل الذي قتل في آخره.

وعندي أن الأماني هنا التمنيات وذلك نهاية في وصفهم بالجهل المركب أي هم يزعمون أنهم يعلمون الكتاب وهم أميون لا يعلمونه ولكنهم يدّعون ذلك لأنهم تمنوا أن يكونوا علماء فلما لم ينالوا العلم ادعوه باطلا فإن غي العالم إذا اتهم بميسم العلماء دل ذلك على أنه يتمنى لو كان عالما ، وكيفما كان المراد فالاستثناء منقطع لأن واحدا من هاته المعاني ليس من علم الكتاب.

[٧٩] (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩))

الفاء للترتيب والتسبب فيكون ما بعدها مترتبا على ما قبلها والظاهر أن ما بعدها مترتب على قوله : (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [البقرة : ٧٥] الدال على وقوع تحريف منهم عن عمد فرتب عليه الإخبار باستحقاقهم سوء الحالة ، أو رتب عليه إنشاء استفظاع حالهم ، وأعيد في خلال ذلك ما أجمل في الكلام المعطوف عليه إعادة تفصيل.

ومعنى : (يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) أنهم يكتبون شيئا لم يأتهم من رسلهم بل يضعونه ويبتكرونه كما دل عليه قوله : (ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ) المشعر بأن ذلك قولهم : بأفواههم ليس مطابقا لما في نفس الأمر.

و (ثم) للترتيب الرتبي لأن هذا القول أدخل في استحقاقهم الويل من كتابة الكتاب بأيديهم إذ هو المقصود. وليس هذا القول متراخيا عن كتابتهم ما كتبوه في الزمان بل هما متقارنان.

٥٥٧

والويل لفظ دال على الشر أو الهلاك ولم يسمع له فعل من لفظه فلذلك قيل هو اسم مصدر ، وقال ابن جني : هو مصدر امتنع العرب من استعمال فعله لأنه لو صرّف لوجوب اعتلال فائه وعينه بأن يجتمع فيه إعلالان أي فيكون ثقيلا ، والويلة : البلية. وهي مؤنث الويل قال تعالى : (يَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا) [الكهف : ٤٩] وقال امرئ القيس :

فقالت لك الويلات إنّك مرجلي

ويستعمل الويل بدون حرف نداء كما في الآية ويستعمل بحرف النداء كقوله تعالى : (قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) [الأنبياء : ١٤] كما يقال يا حسرتا.

فأما موقعه من الإعراب فإنه إذا لم يضف أعرب إعراب الأسماء المبتدإ بها وأخبر عنه بلام الجر كما في هذه الآية وقوله : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) [المطففين : ١] قال الجوهري : وينصب فيقال : ويلا لزيد وجعل سيبويه ذلك قبيحا وأوجب إذا ابتدئ به أن يكون مرفوعا ، وأما إذا أضيف فإنه يضاف إلى الضمير غالبا كقوله تعالى : (وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ) [القصص : ٨٠] وقوله : (وَيْلَكَ آمِنْ) [الأحقاف : ١٧] فيكون منصوبا وقد يضاف إلى الاسم الظاهر فيعرب إعراب غير المضاف كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي بصير : «ويل أمّه مسعر حرب».

ولما أشبه في إعرابه المصادر الآتية بدلا من أفعالها نصبا ورفعا مثل : حمدا لله وصبر جميل كما تقدم عند قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) [الفاتحة : ٢] قال أكثر أئمة العربية : إنه مصدر أميت فعله ، ومنهم من زعم أنه اسم وجعل نصبه في حالة الإضافة نصبا على النداء بحذف حرف النداء لكثرة الاستعمال فأصل ويله يا ويله بدليل ظهور حرف النداء معه في كلامهم. وربما جعلوه كالمندوب فقالوا : ويلاه وقد أعربه الزجاج كذلك في سورة طه. ومنهم من زعم أنه إذا نصب فعلى تقدير فعل ، قال الزجاج في قوله تعالى : (وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً) [طه : ٦١] في طه يجوز أن يكون التقدير ألزمكم الله ويلا. وقال الفراء إن ويل كلمة مركبة من وي بمعنى الحزن ومن مجرور باللام المكسورة فلما كثر استعمال اللام مع وي صيروهما حرفا واحدا فاختاروا فتح اللام كما قالوا يال ضبّة ففتحوا اللام وهي في الأصل مكسورة. وهو يستعمل دعاء وتعجبا وزجرا مثل قولهم : لا أب لك ، وثكلتك أمك. ومعنى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ) دعاء مستعمل في إنشاء الغضب والزجر ، قال سيبويه : لا ينبغي أن يقال (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) دعاء لأنه قبيح في اللفظ ولكن العباد كلموا بكلامهم وجاء القرآن على لغتهم على مقدار فهمهم أي هؤلاء

٥٥٨

ممن وجب هذا القول لهم. وقد جاء على مثال ويل ألفاظ وهي ويح وويس وويب وويه وويك.

وذكر (بِأَيْدِيهِمْ) تأكيد مثل نظرته بعيني ومثل : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ) [آل عمران : ١٦٧] وقوله : (وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ) [الأنعام : ٣٨] والقصد منه تحقيق وقوع الكتابة ورفع المجاز عنها وأنهم في ذلك عامدون قاصدون.

وقوله : (لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) هو كقوله : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) [البقرة : ٤١] والثمن المقصود هنا هو إرضاء العامة بأن غيّروا لهم أحكام الدين على ما يوافق أهواءهم أو انتحال العلم لأنفسهم مع أنهم جاهلون فوضعوا كتبا تافهة من القصص والمعلومات البسيطة ليتفيهقوا بها في المجامع لأنهم لما لم تصل عقولهم إلى العلم الصحيح وكانوا قد طمعوا في التصدر والرئاسة الكاذبة لفقوا نتفا سطحية وجمعوا موضوعات وفراغات لا تثبت على محك العلم الصحيح ثم أشاعوها ونسبوها إلى الله ودينه وهذه شنشنة الجهلة المتطلعين إلى الرئاسة عن غير أهلية ليظهروا في صور العلماء لدى أنظار العامة ومن لا يميز بين الشحم والورم.

وقوله : (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) تفصيل لجنس الويل إلى ويلين وهما ما يحصل لهم من الشر لأجل ما وضعوه وما يحصل لهم لأجل ما اكتسبوه من جراء ذلك فهو جزاء بالشر على الوسيلة وعلى المقصد ، وليس في الآية ثلاث ويلات كما قد توهم ذلك.

وكأن هذه الآية تشير إلى ما كان في بني إسرائيل من تلاشي التوراة بعد تخريب بيت المقدس في زمن بختنصر ثم في زمن طيطس القائد الروماني وذلك أن التوراة التي كتبها موسى عليه‌السلام قد أمر بوضعها في تابوت العهد حسبما ذلك مذكور في سفر التثنية وكان هذا التابوت قد وضعه موسى في خيمة الاجتماع ثم وضعه سليمان في الهيكل فلما غزاهم بختنصر سنة ٥٨٨ قبل المسيح أحرق الهيكل والمدينة كلها بالنار وأخذ معظم اليهود فباعهم عبيدا في بلده وترك فئة قليلة بأورشليم قصرهم على الغراسة والزراعة ثم ثاروا على بختنصر وقتلوا نائبه وهربوا إلى مصر ومعهم أرميا فخربت مملكة اليهود. ومن المعلوم أنهم لم يكونوا يومئذ يستطيعون إنقاذ التوراة وهم لم يكونوا من حفظتها لأن شريعتهم جعلت التوراة أمانة بأيدي اللاويين كما تضمنه سفر التثنية وأمر موسى القوم بنشر التوراة لهم بعد كل سبع سنين تمضي وقال موسى ضعوا هذا الكتاب عند تابوت العهد

٥٥٩

ليكون هناك شاهدا عليكم لأني أعرف تمردكم وقد صرتم تقاومون ربكم وأنا حي فأحرى أن تفعلوا ذلك بعد موتي ولا يخفى أن اليهود قد نبذوا الديانة غير مرة وعبدوا الأصنام في عهد رحبعام بن سليمان ملك يهوذا وفي عهد يوربعام غلام سليمان ملك إسرائيل قبل تخريب بيت المقدس وذلك مؤذن بتناسي الدين ثم طرأ عليه التخريب المشهور ثم أعقبه التخريب الروماني في زمن طيطس سنة ٤٠ للمسيح ثم في زمن أدريان الذي تم على يده تخريب بلد أورشليم بحيث صيرها مزرعة وتفرق من أبقاه السيف من اليهود في جهات العالم. ولهذا اتفق المحققون من العلماء الباحثين عن تاريخ الدين على أن التوراة قد دخلها التحريف والزيادة والتلاشي وأنهم لما جمعوا أمرهم عقب بعض مصائبهم الكبرى افتقدوا التوراة فأرادوا أن يجمعوها من متفرق أوراقهم وبقايا مكاتبهم. وقد قال : (لنجرك) أحد اللاهوتيين من علماء الإفرنج إن سفر التثنية كتبه يهودي كان مقيما بمصر في عهد الملك يوشيا ملك اليهود وقال غيره : إن الكتب الخمسة التي هي مجموع التوراة قد دخل فيها تحريف كثير من علم صموئيل أو عزير (عزرا). ويذكر علماؤنا أن اليهود إنما قالوا عزير ابن الله لأنه ادعى أنه ظفر بالتوراة. وكل ذلك يدل على أن التوراة قد تلاشت وتمزقت والموجود في سفر الملوك الثاني من كتبهم في الإصحاح الحادي والعشرين أنهم بينما كانوا بصدد ترميم بيت المقدس في زمن يوشيا ملك يهوذا ادعى حلقيا الكاهن أنه وجد سفر الشريعة في بيت الرب وسلمه الكاهن لكاتب الملك فلما قرأه الكاتب على الملك مزق ثيابه وتاب من ارتداده عن الشريعة وأمر الكهنة بإقامة كلام الشريعة المكتوب في السفر الذي وجده حلقيا الكاهن في بيت الرب ا ه. فهذا دليل قوي على أن التوراة كانت مجهولة عندهم منذ زمان.

[٨٠ ـ ٨٢] (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢))

قيل : الواو لعطف الجملة على جملة : (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) [البقرة : ٧٥] فتكون حالا مثلها أي كيف تطمعون أن يؤمنوا لكم وهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه ويقولون : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ). والأظهر عندي أن الواو عطف على قوله (يَكْتُبُونَ) [البقرة : ٧٩] إلخ أي فعلوا ذلك وقالوا لن تمسنا النار. ووجه المناسبة أن قولهم (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ) دل على

٥٦٠