تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٣٥

أفاد عموم الرسول وشمل هذا موسى عليه‌السلام فإنهم وإن لم يكذبوه بصريح اللفظ لكنهم عاملوه معاملة المكذبين به إذ شكوا غير مرة فيما يخبرهم عن الله تعالى وأساءوا الظن به مرارا في أوامره الاجتهادية وحملوه على قصد التغرير بهم والسعي لإهلاكهم كما قالوا حين بلغوا البحر الأحمر وحين أمرهم بالحضور لسماع كلام الله تعالى ، وحين أمرهم بدخول أريحا ، وغير ذلك ، وأما بقية الرسل فكذبوهم بصريح القول مثل عيسى وقتلوا بعض الرسل مثل أشعياء وزكرياء ويحيى ابنه وأرمياء.

وجاء في (تَقْتُلُونَ) بالمضارع عوضا عن الماضي لاستحضار الحالة الفظيعة وهي حالة قتلهم رسلهم كقوله : (اللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ) [الروم : ٤٨] مع ما في صيغة (تَقْتُلُونَ) من مراعاة الفواصل فاكتمل بذلك بلاغة المعنى وحسن النظم.

[٨٨] (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (٨٨))

إما عطف على قوله : (اسْتَكْبَرْتُمْ) [البقرة : ٨٧] أو على (كَذَّبْتُمْ) [البقرة : ٨٧] فيكون على الوجه الثاني تفسيرا للاستكبار أي يكون على تقدير عطفه على (كَذَّبْتُمْ) من جملة تفصيل الاستكبار بأن أشير إلى أن استكبارهم أنواع : تكذيب وتقتيل وإعراض. وعلى الوجهين ففيه التفات من الخطاب إلى الغيبة وإبعاد لهم عن مقام الحضور فهو من الالتفات الذي نكتته أن ما أجري على المخاطب من صفات النقص والفظاعة قد أوجب إبعاده عن البال وإعراض البال عنه فيشار إلى هذا الإبعاد بخطابه بخطاب البعد فهو كناية (١).

وقد حسّن الالتفات أنه مؤذن بانتقال الكلام إلى سوء مقابلتهم للدعوة المحمدية وهو غرض جديد فإنهم لما تحدث عنهم بما هو من شئونهم مع أنبيائهم وجه الخطاب إليهم ، ولما أريد الحديث عنهم في إعراضهم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صار الخطاب جاريا مع المؤمنين وأجرى على اليهود ضمير الغيبة. على أنه يحتمل أن قولهم (قُلُوبُنا غُلْفٌ) لم يصرحوا به علنا ويدل لذلك أن أسلوب الخطاب جرى على الغيبة من مبدأ هذه الآية إلى قوله تعالى :

__________________

(١) قلت نظير هذا الالتفات من الخطاب إلى الغيبة بعد إجراء صفات نقص قول الشاعر يذم من بخل في قضاء مهم :

أبى لك كسب الحمد رأي مقصر

ونفس أضاق الله بالخير باعها

إذا هي حثته على الخير مرّة

عصاها وإن همّت بشرّ أطاعها

٥٨١

(وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) [البقرة : ٩٢]. والقلوب مستعملة في معنى الأذهان على طريقة كلام العرب في إطلاق القلب على العقل.

والغلف بضم فسكون جمع أغلف وهو الشديد الغلاف مشتق من غلّفه إذا جعل له غلافا وهو الوعاء الحافظ للشيء والساتر له من وصول ما يكره له.

وهذا كلام كانوا يقولونه للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين يدعوهم للإسلام قصدوا به التهكم وقطع طمعه في إسلامهم وهو كقول المشركين : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) [فصلت : ٥]. وفي الكلام توجيه لأن أصل الأغلف أن يكون محجوبا عما لا يلائمه فإن ذلك معنى الغلاف فهم يخيلون أن قلوبهم مستورة عن الفهم ويريدون أنها محفوظة من فهم الضلالات ولذلك قال المفسرون : إنه مؤذن بمعنى أنها لا تعي ما تقول ولو كان حقا لوعته ، وهذان المعنيان اللذان تضمنهما لتوجيه يلاقيهما الرد بقوله تعالى : (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) أي ليس عدم إيمانهم لقصور في أفهامهم ولا لربوها عن قبول مثل ما دعوا إليه ولكن لأنهم كفروا فلعنهم الله بكفرهم وأبعدهم عن الخير وأسبابه. وبهذا حصل المعنيان المرادان لهم من غير حاجة إلى فرض احتمال أن يكون (غلف) جمع غلاف لما فيه من التكلف في حذف المضاف إليه حتى يقدر أنها أوعية للعلم والحق فلا يتسرب إليها الباطل.

وقوله : (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) تسجيل عليهم وفضح لهم بأنهم صمموا على الكفر والتمسك بدينهم من غير التفات لحجة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما صمموا على ذلك عاقبهم الله باللعن والإبعاد عن الرحمة والخير فحرمهم التوفيق والتبصر في دلائل صدق الرسول ، فاللعنة حصلت لهم عقابا على التصميم على الكفر وعلى الإعراض عن الحق وفي ذلك رد لما أوهموه من أن قلوبهم خلقت بعيدة عن الفهم لأن الله خلقهم كسائر العقلاء مستطيعين لإدراك الحق لو توجهوا إليه بالنظر وترك المكابرة وهذا معتقد أهل الحق من المؤمنين عدا الجبرية.

وقوله : (فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ) تفريع على (لَعَنَهُمُ) و (فَقَلِيلاً) صفة لمحذوف دل عليه الفعل والتقدير فإيمانا قليلا وما زائدة للمبالغة في التقليل والضمير لمجموع بني إسرائيل ويجوز أن يكون (قليلا) صفة للزمان الذي يستلزمه الفعل أي فحينا قليلا يؤمنون. وقيل يجوز أن يكون باقيا على حقيقته مشارا به إلى إيمانهم ببعض الكتاب أو إلى إيمانهم ببعض ما يدعو له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما يوافق دينهم القديم كالتوحيد ونبوءة موسى أو إلى إيمان أفراد

٥٨٢

منهم في بعض الأيام فإن إيمان أفراد قليلة منهم يستلزم صدور إيمان من مجموع بني إسرائيل في أزمنة قليلة أو حصول إيمانات قليلة. ويجوز أن يكون (قليلا) هنا مستعملا في معنى العدم فإن القلة تستعمل في العدم في كلام العرب قال أبو كبير الهذلي :

قليل التشكي للمهم يصيبه

كثير الهوى شتى النوى والمسالك

أراد أنه لا يتشكى ، وقال عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود في أرض نصيبين «كثيرة العقارب قليلة الأقارب» أراد عديمة الأقارب ويقولون : فلان قليل الحياء وذلك كله إما مجاز لأن القليل شبه بالعدم وإما كناية وهو أظهر لأن الشيء إذا قل آل إلى الاضمحلال فكان الانعدام لازما عرفيا للقلة ادعائيا فتكون (ما) مصدرية والوجهان أشار إليهما في «الكشاف» باختصار واقتصر على الوجه الثاني منهما في تفسيره قوله تعالى : (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) في سورة النمل [٦٢] فقال : «والمعنى نفي التذكير والقلة تستعمل في معنى النفي» وكأنّ وجه ذلك أن التذكر من شأنه تحصيل العلم فلو تذكر المشركون المخاطبون بالآية لحصل لهم العلم بأن الله واحد لا شريك له ، كيف وخطابهم بقوله : (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) المقصود منه الإنكار بناء على أنهم غير معتقدين ذلك.

[٨٩] (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩))

معطوف على قوله : (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) [البقرة : ٨٨] لقصد الزيادة في الإنحاء عليهم بالتوبيخ فإنهم لو أعرضوا عن الدعوة المحمدية إعراضا مجردا عن الأدلة لكان في إعراضهم معذرة ما ولكنهم أعرضوا وكفروا بالكتاب الذي جاء مصدقا لما معهم والذي كانوا من قبل يستفتحون به على المشركين. فقوله : (مِنْ عِنْدِ اللهِ) متعلق بجاءهم وليس صفة لأنه ليس أمرا مشاهدا معلوما حتى يوصف به. وقوله : (مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) وصف شأن لقصد زيادة التسجيل عليهم بالمذمة في هذا الكفر والقول في تفسيره قد مضى عند قوله تعالى : (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) [البقرة : ٤١].

والاستفتاح ظاهره طلب الفتح أي النصر قال تعالى : (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) [الأنفال : ١٩] وقد فسروه بأن اليهود كانوا إذا قاتلوا المشركين أي من أهل المدينة استنصروا عليهم بسؤال الله أن يبعث إليهم الرسول الموعود به في التوراة. وجوز أن يكون (يَسْتَفْتِحُونَ) بمعنى يفتحون أي يعلمون ويخبرون كما يقال فتح على القارئ أي علمه

٥٨٣

الآية التي ينساها فالسين والتاء لمجرد التأكيد مثل زيادتهما في استعصم واستصرخ واستعجب والمراد كانوا يخبرون المشركين بأن رسولا سيبعث فيؤيد المؤمنين ويعاقب المشركين. وقوله : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا) أي ما كانوا يستفتحون به أي لما جاء الكتاب الذي عرفوه كفروا به وقد عدل عن أن يقال فلما جاءهم الكتاب ليكون اللفظ أشمل فيشمل الكتاب والرسول الذي جاء به فإنه لا يجيء كتاب إلا مع رسول. ووقع التعبير بما الموصولة دون من لأجل هذا الشمول ولأن الإبهام يناسبه الموصول الذي هو أعم فإن الحق أن ما تجيء لما هو أعم من العاقل.

والمراد بما عرفوا القرآن أي أنهم عرفوه بالصفة المتحققة في الخارج وإن جهلوا انطباقها على القرآن لضلالهم لأن الظاهر أن بني إسرائيل لم يكن أكثرهم يعتقد صدق القرآن وصدق الرسول وبعضهم كان يعتقد ذلك ولكنه يتناسى ويتغافل حسدا قال تعالى : (حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ) [البقرة : ١٠٩] ويصير معنى الآية : «وما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم» وعرفوا أنه الذي كانوا يستفتحون به على المشركين.

وجملة : (وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ) في موضع الحال وفائدتها هنا استحضار حالتهم العجيبة وهي أنهم كذبوا بالكتاب والرسول في حال ترقبهم لمجيئه وانتظار النصر به وهذا منتهى الخذلان والبهتان.

وقوله : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا) بالفاء عطف على جملة (كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ). و (لما) الثانية تتنازع مع (لما) الأولى الجواب وهو قوله : (كَفَرُوا بِهِ) فكان موقع جملة (وكانوا) إلخ بالنسبة إلى كون الكتاب مصدقا موقع الحال لأن الاستنصار به أو التبشير به يناسب اعتقاد كونه «مصدقا لما معهم» وموقعها بالنسبة إلى كون الكتاب والرسول معروفين لهم بالأمارات والدلائل موقع المنشإ من المتفرع عنه مع أن مفاد جملة (لَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) إلخ وجملة (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا) إلخ واحد وإعادة (لما) في الجملة الثانية دون أن يقول : وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فجاءهم ما عرفوا إلخ قصد إظهار اتحاد مفاد الجملتين المفتتحتين بلما وزيادة الربط بين المعنيين حيث انفصل بالجملة الحالية فحصل بذلك نظم عجيب وإيجاز بديع ، وطريقة تكرير العامل مع كون المعمول واحدا طريقة عربية فصحى ، قال تعالى : (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) [آل عمران : ١٨٨] وقال : (أَيَعِدُكُمْ

٥٨٤

أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) [المؤمنون : ٣٥] فأعاد (أنكم) قبل خبر الأولى وقد عدلنا في هذا البيان عن طريقة الزجاج وطريقة المبرد وطريقة الفراء المذكورات في حاشية الخفاجي وعبد الحكيم وصغناه من محاسن تلك الطرائق كلها لما في كل طريقة منها من مخالفة للظاهر.

وقوله : (فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) جملة دعاء عليهم وعلى أمثالهم والدعاء من الله تعالى تقدير وقضاء لأنه تعالى لا يعجزه شيء وليس غيره مطلوبا بالأدعية وهذا كقوله : (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) [المائدة : ٦٤] وقوله : (قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [التوبة : ٣٠] وسيأتي بيانه عند قوله تعالى : (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) في سورة براءة [٩٨].

والفاء للسببية والمراد التسبب الذكري بمعنى أن ما قبلها وهو المعطوف عليه يسبب أن ينطق المتكلم بما بعدها كقول قيس بن الخطيم :

وكنت امرأ لا أسمع الدهر سبة

أسب بها إلا كشفت غطاءها

فإني في الحرب الضروس موكل

بإقدام نفس ما أريد بقاءها

فعطف قوله : (فإني) على قوله كشفت غطاءها لأن هذا الحكم يوجب بيان أنه في الحرب مقدام.

واللام في (الكافرين) للاستغراق بقرينة مقام الدعاء يشمل المتحدث عنهم لأنهم من جملة أفراد هذا العموم بل هم أول أفراده سبقا للذهن لأن سبب ورود العام قطعي الدخول ابتداء في العموم. وهذه طريقة عربية فصيحة في إسناد الحكم إلى العموم والمراد ابتداء بعض أفراده لأن دخول المراد حينئذ يكون بطريقة برهانية كما تدخل النتيجة في القياس قال بشامة بن حزن النهشلي :

إنّا محيوك يا سلمى فحيينا

وإن سقيت كرام الناس فاسقينا

أراد الكناية عن كرمهم بأنهم يسقون حين يسقى كرام الناس.

[٩٠] (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٩٠))

استئناف لذمهم وتسفيه رأيهم إذ رضوا لأنفسهم الكفر بالقرآن وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأعرضوا

٥٨٥

عن النظر فيما اشتملت عليه كتبهم من الوعد بمجيء رسول بعد موسى ، إرضاء لداعية الحسد وهم يحسبون أنهم مع ذلك قد استبقوا أنفسهم على الحق إذ كفروا بالقرآن ، فهذا إيقاظ لهم نحو معرفة داعيهم إلى الكفر وإشهار لما ينطوي عليه عند المسلمين.

و (بِئْسَمَا) مركّب من (بئس) و (ما) الزائدة. وفي بئس وضدّها نعم خلاف في كونهما فعلين أو اسمين والأصح أنهما فعلان. وفي (ما) المتصلة بهما مذاهب أحدها أنها معرفة تامة أي تفسر باسم معرف بلام التعريف وغير محتاجة إلى صلة احترازا عن (ما) الموصولة فقوله : (بِئْسَمَا) يفسر ببئس الشيء قاله سيبويه والكسائي. والآخر أنها موصولة قاله الفراء والفارسي وهذان هما أوضح الوجوه فإذا وقعت بعدها (ما) وحدها كانت (ما) معرفة تامة نحو قوله تعالى : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ) [البقرة : ٢٧١] أي نعم الشيء هي وإن وقعت بعد ما جملة تصلح لأن تكون صلة كانت (ما) معرفة ناقصة أي موصولة نحو قوله هنا : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) و (ما) فاعل (بئس).

وقد يذكر بعد بئس ونعم اسم يفيد تعيين المقصود بالذم أو المدح ، ويسمى في علم العربية المخصوص وقد لا يذكر لظهوره من المقام أو لتقدم ما يدل عليه فقوله : (أَنْ يَكْفُرُوا) هو المخصوص بالذم والتقدير كفرهم بآيات الله ، ولك أن تجعله مبتدأ محذوف الخبر أو خبرا محذوف المبتدأ أو بدلا أو بيانا من (ما) وعليه فقوله تعالى : (اشْتَرَوْا) إما صفة للمعرفة أو صلة للموصولة و (أَنْ يَكْفُرُوا) هو المخصوص بالذم خبر مبتدأ محذوف وذلك على وزان قولك نعم الرجل فلان.

والاشتراء الابتياع وقد تقدم في قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) [البقرة : ١٦] فقوله تعالى هنا : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) مجاز أطلق فيه الاشتراء على استبقاء الشيء المرغوب فيه تشبيها لاستبقائه بابتياع شيء مرغوب فيه فهم قد آثروا أنفسهم في الدنيا فأبقوا عليها بأن كفروا بالقرآن حسدا ، فإن كانوا يعتقدون أنهم محقون في إعراضهم عن دعوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتمسكهم بالتوراة وأن قوله فيما تقدم (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا) [البقرة : ٨٩] بمعنى جاءهم ما عرفوا صفته وإن فرطوا في تطبيقها على الموصوف ، فمعنى اشتراء أنفسهم جار على اعتقادهم لأنهم نجوها من العذاب في اعتقادهم فقوله : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) أي بئسما هو في الواقع وأما كونه اشتراء فبحسب اعتقادهم وقوله : (أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) هو أيضا بحسب الواقع ، وفيه تنبيه لهم على حقيقة حالهم وهي أنهم كفروا برسول مرسل إليهم للدوام على شريعة نسخت. وإن كانوا معتقدين

٥٨٦

صدق الرسول وكان إعراضهم لمجرد المكابرة كما يدل عليه قوله قبله : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا) على أحد الاحتمالين المتقدمين ، فالاشتراء بمعنى الاستبقاء الدنيوي أي بئس العوض بذلهم الكفر ورضاهم به لبقاء الرئاسة والسمعة وعدم الاعتراف برسالة الصادق بالآية على نحو قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) [البقرة : ٨٦].

وقيل : إن (اشْتَرَوُا) بمعنى باعوا أي بذلوا أنفسهم والمراد بذلها للعذاب في مقابلة إرضاء مكابرتهم وحسدهم وهذا الوجه منظور فيه إلى قوله قبله : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) وهو بعيد من اللفظ لأن استعمال الاشتراء بمعنى البيع مجاز بعيد إذ هو يفضي إلى إدخال الغلط على السامع وإفساد ما أحكمته اللغة من التفرقة وإنما دعا إليه قصد قائله إلى بيان حاصل المعنى ، على أنك قد علمت إمكان الجمع بين مقتضى قوله : (ما عَرَفُوا) وقوله هنا : (اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) فأنت في غنى عن التكلف. وعلى كلا التفسيرين يكون (اشْتَرَوْا) مع ما تفرع عنه من قوله : (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) تمثيلا لحالهم بحال من حاول تجارة ليربح فأصابه خسران ، وهو تمثيل يقبل بعض أجزائه أن يكون استعارة وذلك من محاسن التمثيلية.

وجيء بصيغة المضارع في قوله : (أَنْ يَكْفُرُوا) ولم يؤت به على ما يناسب المبيّن وهو ما (اشْتَرَوْا) المقتضي أن الاشتراء قد مضى للدلالة على أنهم صرحوا بالكفر بالقرآن من قبل نزول الآية فقد تبين أن اشتراء أنفسهم بالكفر عمل استقر ومضى ، ثم لما أريد بيان ما اشتروا به أنفسهم نبه على أنهم لم يزالوا يكفرون ويعلم أنهم كفروا فيما مضى أيضا إذ كان المبيّن بأن يكفروا معبّرا عنه بالماضي بقوله : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا).

وقوله : (بَغْياً) مفعول لأجله علة لقوله : (أَنْ يَكْفُرُوا) لأنه الأقرب إليه ، ويجوز كونه علة لاشتروا لأن الاشتراء هنا صادق على الكفر فإنه المخصوص بحكم الذم وهو عين المذموم ، والبغي هنا مصدر بغى يبغي إذا ظلم وأراد به هنا ظلما خاصا وهو الحسد وإنما جعل الحسد ظلما لأن الظلم هو المعاملة بغير حق والحسد تمني زوال النعمة عن المحسود ولا حق للحاسد في ذلك لأنه لا يناله من زوالها نفع ، ولا من بقائها ضر ، ولقد أجاد أبو الطيب إذ أخذ المعنى في قوله :

وأظلم خلق الله من بات حاسدا

لمن بات في نعمائه يتقلّب

وقوله : (أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ) متعلق بقوله : (بَغْياً) بحذف حرف الجر وهو حرف الاستعلاء لتأويل (بَغْياً) بمعنى حسدا.

٥٨٧

فاليهود كفروا حسدا على خروج النبوءة منهم إلى العرب وهو المشار إليه بقوله تعالى : (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) وقوله : (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) أي فرجعوا من تلك الصفقة وهي اشتراء أنفسهم بالخسران المبين وهو تمثيل لحالهم بحال الخارج بسلعته لتجارة فأصابته خسارة فرجع إلى منزله خاسرا. شبه مصيرهم إلى الخسران برجوع التاجر الخاسر بعد ضميمة قوله : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ).

والظاهر أن المراد بغضب على غضب الغضب الشديد على حد قوله تعالى : (نُورٌ عَلى نُورٍ) [النور : ٣٥] أي نور عظيم وقوله : (ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ) [النور : ٤٠] وقول أبي الطيب :

أرق على أرق ومثلى يأرق

وهذا من استعمال التكرير باختلاف صيغه في معنى القوة والشدة كقول الحطيئة :

أنت آل شماس بن لأي وإنما

أتاهم بها الأحلام والحسب العد

أي الكثير العدد أي العظيم وقال المعري :

بني الحسب الوضاح والمفخر الجم

أي العظيم قال القرطبي قال بعضهم : المراد به شدة الحال لا أنه أراد غضبين وهما غضب الله عليهم للكفر وللحسد أو للكفر بمحمد وعيسى عليهما‌السلام.

وقوله : (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) هو كقوله : (فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) [البقرة : ٨٩] أي ولهم عذاب مهين لأنهم من الكافرين ، والمهين المذل أي فيه كيفية احتقارهم.

[٩١] (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩١))

معطوف على قوله : (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) [البقرة : ٨٩] المعطوف على قوله : (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) [البقرة : ٨٨] وبهذا الاعتبار يصح اعتباره معطوفا على (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ) على المعروف في اعتبار العطف على ما هو معطوف وهذا كله من عطف حكايات أحوالهم في معاذيرهم عن الإعراض عن الدعوة الإسلامية فإذا دعوا قالوا : قلوبنا غلف وإذا سمعوا الكتاب أعرضوا عنه بعد أن كانوا منتظريه حسدا أن نزل على رجل من

٥٨٨

غيرهم ، وإذا وعظوا وأنذروا ودعوا إلى الإيمان بالقرآن وبأنه أنزله الله وأن ينظروا في دلائل كونه منزلا من عند الله أعرضوا وقالوا : نؤمن بما أنزل علينا أي بما أنزله الله على رسولنا موسى ، وهذا هو مجمع ضلالاتهم ومنبع عنادهم فلذلك تصدى القرآن لتطويل المحاجة فيه بما هنا وما بعده تمهيدا لقوله الآتي : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) [البقرة : ١٠٦] الآيات.

وقولهم : (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) أرادوا به الاعتذار وتعلة أنفسهم لأنهم لما قيل لهم (آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) علموا أنهم إن امتنعوا امتناعا مجردا عدت عليهم شناعة الامتناع من الإيمان بما يدعى أنه أنزله الله فقالوا في معذرتهم ولإرضاء أنفسهم (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) أي أن فضيلة الانتساب للإيمان بما أنزل الله قد حصلت لهم أي فنحن نكتفي بما أنزل علينا وزادوا إذ تمسكوا بذلك ولم يرفضوه. وهذا وجه التعبير في الحكاية عنهم بلفظ المضارع (نُؤْمِنُ) أي ندوم على الإيمان بما أنزل علينا وقد عرضوا بأنهم لا يؤمنون بغيره لأن التعبير بنؤمن بما أنزل علينا في جواب من قال لهم (آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) وقد علم أن مراد القائل الإيمان بالقرآن مشعر بأنهم يؤمنون بما أنزل عليهم فقط لأنهم يرون الإيمان بغيره مقتضيا الكفر به فههنا مستفاد من مجموع جملتي (آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) وجوابها بقولهم (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا).

وقوله تعالى : (وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ) جيء بالمضارع محاكاة لقولهم (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) وتصريح بما لوحوا إليه ورد عليهم أي يدومون على الإيمان بما أنزل عليهم ويكفرون كذلك بما وراءه فهم يرون أن الإيمان به مقتض للكفر بغيره على أن للمضارع تأثيرا في معنى التعجب والغرابة. وفي قرنه بواو الحال إشعار بالرد عليهم وزاد ذلك بقوله (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ).

والوراء في الأصل اسم مكان للجهة التي خلف الشيء وهو عريق في الظرفية وليس أصله مصدرا. جعل الوراء مجازا أو كناية عن الغائب لأنه لا يبصره الشخص واستعمل أيضا مجازا عن المجاوز لأن الشيء إذا كان أمام السائر فهو صائر إليه فإذا صاروا وراءه فقد تجاوزه وتباعد عنه قال النابغة :

وليس وراء الله للمرء مطلب

واستعمل أيضا بمعنى الطلب والتعقب تقول ورائي فلان بمعنى يتعقبني ويطلبني ومنه قول الله تعالى : (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) [الكهف : ٧٩] وقول لبيد :

٥٨٩

أليس ورائي أن تراخت منيتي

لزوم العصا تحني عليها الأصابع

فمن ثم زعم بعضهم أن الوراء يطلق على الخلف والأمام إطلاق اسم الضدين واحتج ببيت لبيد وبقرآن وكان أمامهم ملك وقد علمت أنه لا حجة فيه ولذلك أنكر الآمدي في «الموازنة» كونه ضدا.

فالمراد بما وراءه في الآية بما عداه وتجاوزه أي بغيره والمقصود بهذا الغير هنا خصوص القرآن بقرينة السياق لتقدم قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) ولتعقيبه بقوله : (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً).

وجملة (وَهُوَ الْحَقُ) حالية واللام في (الحق) للجنس والمقصود اشتهار المسند إليه بهذا الجنس أي وهو المشتهر بالحقية المسلم ذلك له على حد قول حسان :

وإن سنام المجد من آل هشام

بنو بنت مخزوم ووالدك العبد

لم يرد حسان انحصار العبودية في الوالد وإنما أراد أنه المعروف بذلك المشتهر به فليست اللام هنا مفيدة للحصر لأن تعريف المسند باللام لا تطرد إفادته الحصر على ما في «دلائل الإعجاز». وقيل يفيد الحصر باعتبار القيد أعني قوله (مُصَدِّقاً) أي هو المنحصر في كونه حقا مع كونه مصدقا فإن غيره من الكتب السماوية حق لكنه ليس مصدقا لما معهم ولعل صاحب هذا التفسير يعتبر الإنجيل غير متعرض لتصديق التوراة بل مقتصرا على تحليل بعض المحرمات وذلك يشبه عدم التصديق. ففي الآية صد لبني إسرائيل عن مقابلة القرآن بمثل ما قابلوا به الإنجيل وزيادة في توبيخهم.

وقوله : (مُصَدِّقاً) حال مؤكدة لقوله : (وَهُوَ الْحَقُ) وهذه الآية علم في التمثيل للحال المؤكدة وعندي أنها حال مؤسسة لأن قوله (مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ) مشعر بوصف زائد على مضمون (وَهُوَ الْحَقُ) إذ قد يكون الكتاب حقا ولا يصدق كتابا آخر ولا يكذبه وفي مجيء الحال من الحال زيادة في استحضار شئونهم وهيئاتهم.

وقوله : (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فصله عما قبله لأنه اعتراض في أثناء ذكر أحوالهم قصد به الرد عليهم في معذرتهم هذه لإظهار أن معاداة الأنبياء دأب لهم وأن قولهم : (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) كذب إذ لو كان حقا لما قتل أسلافهم الأنبياء الذين هم من قومهم ودعوهم إلى تأييد التوراة والأمر بالعمل بها ولكنهم يعرضون عن كل ما لا يوافق أهواءهم. وهذا إلزام للحاضرين بما فعله أسلافهم لأنهم

٥٩٠

يرونهم على حق فيما فعلوا من قتل الأنبياء.

والإتيان بالمضارع في قوله : (تَقْتُلُونَ) مع أن القتل قد مضى لقصد استحضار الحالة الفظيعة وقرينة ذلك قوله : (مِنْ قَبْلُ) فذلك كما جاء الحطيئة بالماضي مرادا به الاستقبال في قوله :

شهد الحطيئة يوم يلقى ربه

أن الوليد أحق بالعذر

بقرينة قوله يوم يلقى ربه.

والمراد بأنبياء الله الذين ذكرناهم عند قوله تعالى : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ) [البقرة : ٦١].

[٩٢ ، ٩٣] (وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٩٢) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٩٣))

عطف على قوله : (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ) [البقرة : ٩١] والقصد منه تعليم الانتقال في المجادلة معهم إلى ما يزيد إبطال دعواهم الإيمان بما أنزل إليهم خاصة ، وذلك أنه بعد أن أكذبهم في ذلك بقوله : (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ) كما بينا ، ترقى إلى ذكر أحوالهم في مقابلتهم دعوة موسى الذي يزعمون أنهم لا يؤمنون إلا بما جاءهم به فإنهم مع ذلك قد قابلوا دعوته بالعصيان قولا وفعلا فإذا كانوا أعرضوا عن الدعوة المحمدية بمعذرة أنهم لا يؤمنون إلا بما أنزل عليهم فلما ذا قابلوا دعوة أنبيائهم بعد موسى بالقتل؟ ولما ذا قابلوا؟ دعوة موسى بما قابلوا. فهذا وجه ذكر هذه الآيات هنا وإن كان قد تقدم نظائرها فيما مضى ، فإن ذكرها هنا في محاجة أخرى وغرض جديد ، وقد بينت أن القرآن ليس مثل تأليف في علم يحال فيه على ما تقدم بل هو جامع مواعظ وتذكيرات وقوارع ومجادلات نزلت في أوقات كثيرة وأحوال مختلفة فلذلك تتكرر فيه الأغراض لاقتضاء المقام ذكرها حينئذ عند سبب نزول تلك الآيات.

وفي «الكشاف» أن تكرير حديث رفع الطور هنا لما نيط به من الزيادة على ما في الآية السابقة معنى في قوله : (قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا) الآية وهي نكتة في الدرجة الثانية.

٥٩١

وقال البيضاوي إن تكرير القصة للتنبيه على أن طريقتهم مع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم طريقة أسلافهم مع موسى وهي نكتة في الدرجة الأولى وهذا إلزام لهم بعمل أسلافهم بناء على أن الفرع يتبع أصله والولد نسخة من أبيه ، وهو احتجاج خطابي.

والقول في هاته الآيات كالقول في سابقتها [البقرة : ٦٣] وكذلك القول في (البينات). إلا أن قوله : (وَاسْمَعُوا) مراد به الامتثال فهو كناية كما تقول فلان لا يسمع كلامي أي لا يمتثل أمري إذ ليس الأمر هنا بالسماع بمعنى الإصغاء إلى التوراة فإن قوله : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) يتضمنه ابتداء لأن المراد من الأخذ بالقوة الاهتمام به وأول الاهتمام بالكلام هو سماعه والظاهر أن قوله : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) لا يشمل الامتثال فيكون قوله : (وَاسْمَعُوا) دالا على معنى جديد وليس تأكيدا ، ولك أن تجعله تأكيدا لمدلول (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) بأن يكون الأخذ بقوة شاملا لنية الامتثال وتكون نكتة التأكيد حينئذ هي الإشعار بأنهم مظنة الإهمال والإخلال حتى أكد عليهم ذلك قبل تبين عدم امتثالهم فيما يأتي ففي هذه الآية زيادة بيان لقوله في الآية الأولى : (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) [البقرة : ٦٣].

واعلم أن من دلائل النبوة والمعجزات العلمية إشارات القرآن إلى العبارات التي نطق بها موسى في بني إسرائيل وكتبت في التوراة فإن الأمر بالسماع تكرر في مواضع مخاطبات موسى لملإ بني إسرائيل بقوله : اسمع يا إسرائيل ، فهذا من نكت اختيار هذا اللفظ للدلالة على الامتثال دون غيره مما هو أوضح منه وهذا مثل ما ذكرنا في التعبير بالعهد.

وقوله : (قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا) يحتمل أنهم قالوه في وقت واحد جوابا لقوله : (وَاسْمَعُوا) وإنما أجابوه بأمرين لأن قوله : (اسْمَعُوا) تضمن معنيين معنى صريحا ومعنى كنائيا فأجابوا بامتثال الأمر الصريح وأما الأمر الكنائي فقد رفضوه وذلك يتضمن جواب قوله : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) أيضا لأنه يتضمن ما تضمنه (وَاسْمَعُوا) وفي هذا الوجه بعد ظاهر إذ لم يعهد منهم أنهم شافهوا نبيهم بالعزم على المعصية وقيل : إن قوله : (سَمِعْنا) جواب لقوله : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ) أي سمعنا هذا الكلام ، وقوله : (وَعَصَيْنا) جواب لقوله : (وَاسْمَعُوا) لأنه بمعنى امتثلوا ليكون كل كلام قد أجيب عنه ويبعده أن الإتيان في جوابهم بكلمة (سَمِعْنا) مشير إلى كونه جوابا لقوله : (اسْمَعُوا) لأن شأن الجواب أن يشتمل على عبارة الكلام المجاب به وقوله : ليكون كل كلام قد أجيب عنه قد علمت أن جعل (سَمِعْنا وَعَصَيْنا) جوابا لقوله : (وَاسْمَعُوا) يغني عن تطلب جواب

٥٩٢

لقوله : (خُذُوا) ففيه إيجاز ، فالوجه في معنى هذه الآية هو ما نقله الفخر عن أبي مسلم أن قولهم : (عَصَيْنا) كان بلسان الحال يعني فيكون (قالُوا) مستعملا في حقيقته ومجازه أي قالوا : سمعنا وعصوا فكأن لسانهم يقول عصينا. ويحتمل أن قولهم (عَصَيْنا) وقع في زمن متأخر عن وقت نزول التوراة بأن قالوا عصينا في حثهم على بعض الأوامر مثل قولهم لموسى حين قال لهم : ادخلوا القرية (لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً) [المائدة : ٢٤] وهذان الوجهان أقرب من الوجه الأول. وفي هذا بيان لقوله في الآية الأولى : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) [البقرة : ٦٤].

والإشراب هو جعل الشيء شاربا ، واستعير لجعل الشيء متصلا بشيء وداخلا فيه ووجه الشبه هو شدة الاتصال والسريان لأن الماء أسرى الأجسام في غيره ولذا يقول الأطباء الماء مطية الأغذية والأدوية ومركبها الذي تسافر به إلى أقطار البدن فلذلك استعاروا الإشراب لشدة التداخل استعارة تبعية قال بعض الشعراء :

تغلغل حب عثمة في فؤادي

فباديه مع الخافي يسير (١)

تغلغل حيث لم يبلغ شراب

ولا حزن ولم يبلغ سرور

ومنه قولهم أشرب الثوب الصبغ ، قال الراغب : من عادتهم إذا أرادوا مخامرة حب وبغض أن يستعيروا لذلك اسم الشراب ا ه. وقد اشتهر المعنى المجازي فهجر استعمال الإشراب بمعنى السقي وذكر القلوب قرينة على أن إشراب العجل على تقدير مضاف من شأن القلب مثل عبادة العجل أو تأليه العجل. وإنما جعل حبهم العجل إشرابا لهم للإشارة إلى أنه بلغ حبهم العجل مبلغ الأمر الذي لا اختيار لهم فيه كأن غيرهم أشربهم إياه كقولهم أولع بكذا وشغف.

والعجل مفعول (أُشْرِبُوا) على حذف مضاف مشهور في أمثاله من تعليق الأحكام وإسنادها إلى الذوات مثل (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) [المائدة : ٣] أي أكل لحمها. وإنما شغفوا به استحسانا واعتقادا أنه إلههم وأن فيه نفعهم لأنهم لما رأوه من ذهب قدسوه من فرط حبهم الذهب. وقد قوي ذلك الإعجاب به بفرط اعتقادهم ألوهيته ولذلك قال تعالى :

__________________

(١) ذكر هذه الأبيات القرطبي في «تفسيره» وقال إنها لأحد النابغتين أي النابغة الذبياني أو النابغة الجعدي في زوجته عثمة كان عتب عليها في بعض الأمر فطلقها وكان محبا لها. وبعدهما :

أكاد إذا ذكرت العهد منها

أطير لو أن إنسانا يطير

٥٩٣

(بِكُفْرِهِمْ) فإن الاعتقاد يزيد المعتقد توغلا في حب معتقده.

وإسناد الإشراب إلى ضمير ذواتهم ثم توضيحه بقوله : (فِي قُلُوبِهِمُ) مبالغة وذلك مثل ما يقع في بدل البعض والاشتمال وما يقع في تمييز النسبة. وقريب منه قوله تعالى : (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) [النساء : ١٠] وليس هو مثل ما هنا لأن الأكل متمحض لكونه منحصرا في البطن بخلاف الإشراب فلا اختصاص له بالقلوب.

وقوله : (قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) تذييل واعتراض ناشئ عن قولهم (سَمِعْنا وَعَصَيْنا) هو خلاصة لإبطال قولهم : (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) [البقرة : ٩١] بعد أن أبطل ذلك بشواهد التاريخ وهي قوله : (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ) [البقرة : ٩١] وقوله : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ) وقوله : (قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا) ولذلك فصله عن قوله : (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ) لأنه يجري من الأول مجرى التقرير والبيان لحاصله ، والمعنى قل لهم إن كنتم مؤمنين بما أنزل عليكم كما زعمتم يعني التوراة فبئسما أمركم به هذا الإيمان إذ فعلتم ما فعلتم من الشنائع من قتل الأنبياء ومن الإشراك بالله في حين قيام التوراة فيكم فكيف وأنتم اليوم لا تعرفون من الشريعة إلا قليلا ، وخاصة إذا كان هذا الإيمان بزعمهم يصدهم عن الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالجملة الشرطية كلها مقول (قُلْ) والأمر هنا مستعمل مجازا في التسبب.

وإنما جعل هذا مما أمرهم به إيمانهم مع أنهم لم يدعوا ذلك لأنهم لما فعلوه وهم يزعمون أنهم متصلبون في التمسك بما أنزل إليهم حتى أنهم لا يخالفونه قيد فتر ولا يستمعون لكتاب جاء من بعده فلا شك أن لسان حالهم ينادي بأنهم لا يفعلون فعلا إلا وهو مأذون فيه من كتابهم ، هذا وجه الملازمة وأما كون هذه الأفعال مذمومة شنيعة فذلك معلوم بالبداهة فأنتج ذلك أن إيمانهم بالتوراة يأمرهم بارتكاب الفظائع وهذا ظاهر الكلام والمقصود منه القدح في دعواهم الإيمان بالتوراة وإبطال ذلك بطريق يستنزل طائرهم ويرمي بهم في مهواة الاستسلام للحجة فأظهر إيمانهم المقطوع بعدمه في مظهر الممكن المفروض ليتوصل من ذلك إلى تبكيتهم وإفحامهم نحو : (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) [الزخرف : ٨١] ولهذا أضيف الإيمان إلى ضميرهم لإظهار أن الإيمان المذموم هو إيمانهم أي الذي دخله التحريف والاضطراب لما هو معلوم من أن الإيمان بالكتب والرسل إنما هو لصلاح الناس والخروج بهم من الظلمات إلى النور فلا جرم أن يكون مرتكبو هاته الشنائع ليسوا من الإيمان بالكتاب الذي فيه هدى ونور في شيء فبطل بذلك

٥٩٤

كونهم (مُؤْمِنِينَ) وهو المقصود فقوله : (بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ) جواب الشرط مقدم عليه أو (قُلْ) دليل الجواب ولأجل هذا جيء في هذا الشرط بإن التي من شأن شرطها أن يكون مشكوك الحصول وينتقل من الشك في حصوله إلى كونه مفروضا كما يفرض المحال وهو المراد هنا ؛ لأن المتكلم عالم بانتفاء الشرط ولأن المخاطبين يعتقدون وقوع الشرط فكان مقتضى ظاهر حال المتكلم أن لا يؤتى بالشرط المتضمن لكونهم (مُؤْمِنِينَ) إلا منفيا ومقتضى ظاهر حال المخاطب أن لا يؤتى به إلا مع إذا ولكن المتكلم مع علمه بانتفاء الشرط فرضه كما يفرض المحال استنزالا لطائرهم. وفي الإتيان بإن إشعار بهذا الفرض حتى يقعوا في الشك في حالهم وينتقلوا من الشك إلى اليقين بأنهم غير مؤمنين حين مجيء الجواب وهو (بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ) وإلى هذا أشار صاحب «الكشاف» كما قاله التفتازانيّ وهو لا ينافي كون القصد التبكيت لأنها معان متعاقبة يفضي بعضها إلى بعض فمن الفرض يتولد التشكيك ومن التشكيك يظهر التبكيت.

ولا معنى لجعل (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ابتداء كلام وجوابه محذوفا تقديره فإيمانكم لا يأمركم بقتل الأنبياء وعبادة العجل إلخ لأنه قطع لأواصر الكلام وتقدير بلا داع مع أن قوله : (قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ) إلخ يتطلبه مزيد تطلب ونظائره في آيات القرآن كثيرة. على أن معنى ذلك التقدير لا يلاقي الكلام المتقدم المثبت أن إيمانهم أمرهم بهذا المذام فكيف ينفي بعد ذلك أن يكون إيمانهم يأمرهم؟

و (بِئْسَما) هنا نظير بئسما المتقدم في قوله : (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) [البقرة : ٩٠] سوى أن هذا لم يؤت له باسم مخصوص بالذم لدلالة قوله : (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ) والتقدير بئسما يأمركم به إيمانكم عبادة العجل.

[٩٤ ، ٩٥] (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥))

إبطال لدعوى قارة في نفوسهم اقتضاها قولهم : (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) [البقرة : ٩١] الذي أرادوا به الاعتذار عن إعراضهم عن دعوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعذر أنهم متصلبون في التمسك بالتوراة لا يعدونها وأنهم بذلك استحقوا محبة الله إياهم وتكون الآخرة لهم فلما أبطلت دعوى إيمانهم بما أنزل عليهم بإلزامهم الكذب في دعواهم بسند ما أتاه سلفهم وهم

٥٩٥

جدودهم من الفظائع مع أنبيائهم والخروج عن أوامر التوراة بالإشراك بالله تعالى بعبادة العجل ، عقب ذلك بإبطال ما في عقائدهم من أنهم أهل الانفراد برحمة الله ما داموا متمسكين بالتوراة وأن من خالفها لا يكون له حظ في الآخرة ، وارتكب في إبطال اعتقادهم هذا طريقة الإحالة على ما عقدوا عليه اعتقادهم من الثقة بحسن المصير أو على شكهم في ذلك فإذا ثبت لديهم شكهم في ذلك علموا أن إيمانهم بالتوراة غير ثابت على حقه وذلك أشد ما يفت في أعضادهم ويسقط في أيديهم لأن ترقب الحظ الأخروي أهم ما يتعلق به المعتقد المتدين فإن تلك هي الحياة الدائمة والنعيم المقيم.

وقد قيل : إن هذه الآية رد لدعوى أخرى صدرت من اليهود تدل على أنهم يجعلون الجنة خاصة بهم مثل قولهم نحن (أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] وقولهم (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً) [البقرة : ١١١] ، وإلى هذا مال القرطبي والبيضاوي ، وعليه فيكون ذكر الرد عليهم بينا لمجرد المناسبة في رد معتقد لهم باطل أيضا لا في خصوص الغرض المسوق فيه الآيات المتقدمة بناء على أن الآيات لا يلزم أن تكون متناسبة تمام المناسبة ، ونحن لا نساعد على ذلك فعلى هذا الوجه تكون هاته الآية هنا نزلت مع سوابقها للرد على أقوالهم المتفرقة المحكية في آيات أخرى وإنما اتصلت مع الآيات الراجعة إلى رد دعواهم الإيمان بما أنزل عليهم للمناسبة بجمع رد جميع دعاويهم ولكن فيما ذكرناه غنية. وأيّا ما كان فهذه الآية تحدت اليهود كما تحدى القرآن مشركي العرب بقوله : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣]. وإنما فصلت هاته الجملة عما قبلها لاختلاف السياق لأن هذه الآية إلقاء حجة عليهم والآيات السابقة تفظيع لأحوالهم وإن كان في كل من ذلك احتجاج لكن الانتقال من أسلوب إلى أسلوب كان محسنا للفصل دون العطف لا سيما مع افتتاح الاحتجاج بقل.

والكلام في (لَكُمُ) مشعر بأن المراد من الدار الآخرة نعيمها و (لَكُمُ) خبر (كانَتْ) قدم للحصر بناء على اعتقادهم كتقديمه في قول الكميت يمدح هشاما بن عبد الملك حين عفا عنه من قصيدة :

لكم مسجدا الله المزوران والحصى

لكم قبصه من بين أثرى وأقترا

و (عِنْدَ اللهِ) ظرف متعلق بكانت والعندية عندية تشريف وادخار أي مدخرة لكم عند الله وفي ذلك إيذان بأن الدار الآخرة مراد بها الجنة. وانتصب (خالِصَةً) على الحال من اسم (كان) ولا وجه لتوقف بعض النحاة في مجيء الحال من اسم (كان). ومعنى

٥٩٦

الخالصة السالمة من مشاركة غيركم لكم فيها فهو يؤول إلى معنى خاصة بكم.

وقوله : (مِنْ دُونِ النَّاسِ) دون في الأصل ظرف للمكان الأقرب من مكان آخر غير متصرف وهو مجاز في المفارقة فلذلك تدل على تخالف الأوصاف أو الأحوال ، تقول هذا لك دون زيد أي لا حق لزيد فيه فقوله : (مِنْ دُونِ النَّاسِ) توكيد لمعنى الاختصاص المستفاد من تقديم الخبر ومن قوله : (خالِصَةً) لدفع احتمال أن يكون المراد من الخلوص الصفاء من المشارك في درجاتهم مع كونه له حظ من النعيم. والمراد من الناس جميع الناس فاللام فيه للاستغراق لأنهم قالوا : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً) [البقرة : ١١١].

وقوله : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) جواب الشرط ووجه الملازمة بين الشرط ـ وهو أن الدار الآخرة لهم ـ وجزائه ـ وهو تمني الموت ـ أن الدار الآخرة لا يخلص أحد إليها إلا بالروح حين تفارق جسده ومفارقة الروح الجسد هو الموت فإذا كان الموت هو سبب مصيرهم إلى الخيرات كان الشأن أن يتمنوا حلوله كما كان شأن أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قال عمير بن الحمام رضي‌الله‌عنه :

جريا إلى الله بغير زاد

إلا التقى وعمل المعاد

وارتجز جعفر بن أبي طالب يوم غزوة مؤتة حين اقتحم على المشركين بقوله :

يا حبذا الجنة واقترابها

طيبة وبارد شرابها

وقال عبد الله بن رواحة عند خروجه إلى غزوة مؤتة ودعا المسلمون له ولمن معه أن يردهم الله سالمين :

لكني أسأل الرحمن مغفرة

وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا

أو طعنة من يدي حران مجهزة

بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا

حتى يقولوا إذا مروا على جدثي

أرشدك الله من غاز وقد رشدا

وجملة (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) إلى آخره معترضة بين جملة (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ) وبين جملة (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) [البقرة : ٩٧] والكلام موجه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين إعلاما لهم ليزدادوا يقينا وليحصل منه تحد لليهود إذ يسمعونه ويودون أن يخالفوه لئلا ينهض حجة على صدق المخبر به فيلزمهم أن الدار الآخرة ليست لهم.

وقوله : (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) يشير إلى أنهم قد صاروا في عقيدة مختلطة متناقضة

٥٩٧

كشأن عقائد الجهلة المغرورين فهم يعتقدون أن الدار الآخرة لهم بما دل عليه قولهم : (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) [البقرة : ٩١] وقولهم : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة : ١٨] ثم يعترفون بأنهم اجترءوا على الله واكتسبوا السيئات حسبما سطر ذلك عليهم في التوراة وفي كتب أنبيائهم فيعتذرون بأن النار تمسهم أياما معدودة ولذلك يخافون الموت فرارا من العذاب.

والمراد بما قدمت أيديهم ما أتوه من المعاصي سواء كان باليد أم بغيرها بقرينة المقام ، فقيل عبر باليد هنا عن الذات مجازا كما في قوله : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة : ١٩٥] وكما عبر عن الذات بالعين في باب التوكيد لأن اليد أهم آلات العمل. وقيل : أريد بها الأيدي حقيقة لأن غالب جنايات الناس بها وهو كناية عن جميع الأعمال قاله الواحدي ولعل التكني بها دون غيرها لأن أجمع معاصيها وأفظعها كان باليد فالأجمع هو تحريف التوراة والأفظع هو قتل الأنبياء لأنهم بذلك حرموا الناس من هدي عظيم.

وإسناد التقديم للأيدي على الوجه الأول حقيقة وعلى الوجه الثاني مجاز عقلي.

وقوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) خبر مستعمل في التهديد لأن القدير إذا علم بظلم الظالم لم يتأخر عن معاقبته فهذا كقول زهير :

فمهما يكتم الله يعلم

وقد عدت هذه الآية في دلائل نبوة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنها نفت صدور تمني الموت مع حرصهم على أن يظهروا تكذيب هذه الآية. ولا يقال لعلهم تمنوا الموت بقلوبهم لأن التمني بالقلب لو وقع لنطقوا به بألسنتهم لقصد الإعلان بإبطال هذه الوصمة فسكوتهم يدل على عدم وقوعه وإن كان التمني موضعه القلب لأنه طلب قلبي إذ هو محبة حصول الشيء وتقدم في قوله : (إِلَّا أَمانِيَ) [البقرة : ٧٨] أن الأمنية ما يقدر في القلب. وهذا بالنسبة إلى اليهود المخاطبين زمن النزول ظاهر إذ لم ينقل عن أحد منهم أنه تمنى الموت كما أخبرت الآية. وهي أيضا من أعظم الدلائل عند أولئك اليهود على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنهم قد أيقن كل واحد منهم أنه لا يتمنى الموت وأيقن أن بقية قومه لا يتمنونه لأنه لو تمناه أحد لأعلن بذلك لعلمهم بحرص كل واحد منهم على إبطال حكم هذه الآية ، ويفيد بذلك إعجازا عاما على تعاقب الأجيال كما أفاد عجز العرب عن المعارضة علم جميع الباحثين بأن القرآن معجز وأنه من عند الله. على أن الظاهر أن الآية تشمل اليهود الذين يأتون بعد

٥٩٨

يهود عصر النزول إذ لا يعرف أن يهوديا تمنى الموت إلى اليوم فهذا ارتقاء في دلائل النبوة. وجملة (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) في موضع الحال من ضمير الرفع في (يَتَمَنَّوْهُ) أي علم الله ما في نفوسهم فأخبر رسوله بأن يتحداهم وهذا زيادة في تسجيل امتناعهم من تمني الموت ، والمراد بالظالمين اليهود فهو من وضع الظاهر موضع الضمير ليصفهم بالظلم.

[٩٦] (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٩٦))

معطوف على قوله : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) [البقرة : ٩٥] للإشارة إلى أن عدم تمنيهم الموت ليس على الوجه المعتاد عند البشر من كراهة الموت ما دام المرء بعافية بل هم تجاوزوا ذلك إلى كونهم أحرص من سائر البشر على الحياة حتى المشركين الذين لا يرجون بعثا ولا نشورا ولا نعيما فنعيمهم عندهم هو نعيم الدنيا وإلى أن تمنوا أن يعمروا أقصى أمد التعمير مع ما يعتري صاحب هذا العمر من سوء الحالة ورذالة العيش. فلما في هذه الجمل المعطوفة من التأكيد لمضمون الجملة المعطوف عليها أخرت عنها ، ولما فيها من الزيادة في وصفهم بالأحرصية المتجاوزة الحد عطف عليه ولم يفصل لأنه لو كان لمجرد التأكيد لفصل كما يفصل التأكيد عن المؤكد.

وقوله : (لَتَجِدَنَّهُمْ) من الوجدان القلبي المتعدي إلى مفعولين. والمراد من الناس في الظاهر جميع الناس أي جميع البشر فهم أحرصهم على الحياة فإن الحرص على الحياة غريزية في الناس إلا أن الناس فيه متفاوتون قوة وكيفية وأسبابا قال أبو الطيب :

أرى كلنا يهوى الحياة بسعيه

حريصا عليها مستهاما بها صبّا

فحب الجبان النفس أوده التّقى

وحبّ الشجاع النفس أورده الحربا

ونكر (الحياة) قصدا للتنويع أي كيفما كانت تلك الحياة وتقول يهود تونس ما معناه «الحياة وكفى».

وقوله : (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) عطف على (الناس) لأن المضاف إليه أفعل التفضيل تقدر معه من التفضيلية لا محالة فإذا عطف عليه جاز إظهارها ويتعين الإظهار إذا كان المفضل من غير نوع المفضل عليه لأن الإضافة حينئذ تمتنع كما هنا فإن اليهود من الناس وليسوا من الذين أشركوا. وعند سيبويه أن إضافته على تقدير اللام فيكون قوله : (وَمِنَ

٥٩٩

الَّذِينَ أَشْرَكُوا) ـ على قوله ـ عطفا بالحمل على المعنى أو بتقدير معطوف محذوف تقديره أحرص هو متعلق من (الَّذِينَ أَشْرَكُوا) وإليه مال في «الكشاف».

وقوله : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ) بيان لأحرصيتهم على الحياة وتحقيق لعموم النوعية في الحياة المنكرة لدفع توهم أن الحرص لا يبلغ بهم مبلغ الطمع في الحياة البالغة لمدة ألف سنة فإنها مع تعذرها لو تمت لهم كانت حياة خسف وأرذل عيش يظن بهم أن لا يبلغ حبهم الحياة إلى تمنيها ، وقد قال الحريري :

والموت خير للفتى

من عيشه عيش البهيمة

فجيء بهاته الجملة لتحقيق أن ذلك الحرص يشمل حتى هاته الحياة الذميمة ولما في هاته الجملة من البيان لمضمون الجملة قبلها فصلت عنها.

والود المحبة و (لو) للتمني وهو حكاية للفظ الذي يودون به والمجيء فيه بلفظ الغائب مراعاة للمعنى ويجوز أن تكون (لو) مصدرية والتقدير يود أحدهم تعمير ألف سنة.

وقوله : (لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) بيان ليود أي يود ودّا بيانه لو يعمر ألف سنة ، وأصل (لو) أنه حرف شرط للماضي أو للمستقبل فكان أصل موقعه مع فعل يود ونحوه أنه جملة مبينة لجملة (يَوَدُّ) على طريقة الإيجاز والتقدير في مثل هذا يود أحدهم لو يعمر ألف سنة لما سئم أو لما كره فلما كان مضمون شرط (لو) ومضمون مفعول (يَوَدُّ) واحدا استغنوا بفعل الشرط عن مفعول الفعل فحذفوا المفعول ونزل حرف الشرط مع فعله منزلة المفعول فلذلك صار الحرف مع جملة الشرط في قوة المفعول فاكتسب الاسمية في المعنى فصار فعل الشرط مؤولا بالمصدر المأخوذ منه ولذلك صار حرف (لو) بمنزلة أن المصدرية نظرا لكون الفعل الذي بعدها صار مؤولا بمصدر فصارت جملة الشرط مستعملة في معنى المصدر استعمالا غلب على (لو) الواقعة بعد فعل (يَوَدُّ) وقد يلحق به ما كان في معناه من الأفعال الدالة على المحبة والرغبة.

هذا تحقيق استعمال لو في مثل هذا الجاري على قول المحققين من النحاة ولغلبة هذا الاستعمال وشيوع هذا الحذف ذهب بعض النحاة إلى أن (لو) تستعمل حرفا مصدريا وأثبتوا لها من مواقع ذلك موقعها بعد (يَوَدُّ) ونحوه وهو قول الفراء وأبي علي الفارسي والتبريزي والعكبري وابن مالك فيقولون : لا حذف ويجعلون (لو) حرفا لمجرد السبك بمنزلة أن المصدرية والفعل مسبوكا بمصدر والتقدير يود أحدهم التعمير وهذا القول

٦٠٠