تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٣٥

يقتل غالبا قتل قودا (يعني إذا ثبت أنه مات بسببه) وإن قال : إن سحري قد يقتل وقد لا يقتل فهو شبه عمد ، وإن كان سحره لغير القتل فمات منه فهو قتل خطأ تجب الدية فيه مخففة في ماله.

ويجب أن يستخلص من اختلافهم ومن متفرق أقوالهم ما يكون فيه بصيرة لإجراء أعمال ما يسمى بالسحر وصاحبه بالساحر مجرى جنايات أمثاله ومقدار ما أثره من الاعتداء دون مبالغة ولا أوهام ، وقد يطلق اسم الساحر اليوم على اللاعب بالشعوذة في الأسمار وذلك من أصناف اللهو فلا ينبغي عد ذلك جناية.

(وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ).

يتعين أن (ما) موصولة وهو معطوف على قوله : (مُلْكِ سُلَيْمانَ) أي وما تتلوا الشياطين على ما أنزل على الملكين ، والمراد بما أنزل ضرب من السحر لكنه سحر يشتمل على كفر عظيم وتعلم الخضوع لغير الله مع الاستخفاف بالدين ومع الإضرار بالناس كما بيناه آنفا فيكون عطفا على (ما تَتْلُوا) الذي هو صادق على السحر فعطف (ما أنزل) عليه لأنه نوع منه أشد مما تتلوه الشياطين الذين كانوا يعلّمونه الناس مع السحر الموضوع منهم ، فالعطف لتغاير الاعتبار أو للتنبيه على أن أصل السحر مقتبس مما ظهر ببابل في زمن هذين المعلّمين وعطف شيء على نفسه باعتبار تغاير المفهوم والاعتبار وارد في كلامهم كقول الشاعر : (وهو من شواهد النحو) :

إلى الملك القرم وابن الهما

م وليث الكتيبة في المزدحم

وقيل : أريد من السحر أخفّ مما وضعته الشياطين على عهد سليمان لأن غاية ما وصف به هذا الذي ظهر ببابل في زمن هذين المعلمين أنه يفرق بين المرء وزوجه وذلك ليس بكفر وفيه ضعف.

والقراءة المتواترة (الملكين) بفتح لام الملكين وقرأه ابن عباس والضحاك والحسن وابن أبزى بكسر اللام.

وكل هاته الوجوه تقتضي ثبوت نزول شيء على الملكين ببابل وذلك هو الذي يعنيه سياق الآية إذا فصّلت كيفية تعليم هذين المعلمين علم السحر.

٦٢١

فالوجه أن قوله : (وَما أُنْزِلَ) عطف على (مُلْكِ سُلَيْمانَ) فهو معمول لتتلوا الذي هو بمعنى تكذب فيكون المراد عدم صحة هذا الخبر أي ما تكذبه الشياطين على ما أنزل على الملكين ببابل ، أي ينسبون بعض السحر إلى ما أنزل ببابل. قال الفخر وهو اختيار أبي مسلم وأنكر أبو مسلم أن يكون السحر نازلا على الملكين إذ لا يجوز أمر الله به وكيف يتولى الملائكة تعليمه مع أنه كفر أو فسق.

وقيل : (ما) نافية معطوفة على (ما كفر سليمان) أي وما كفر سليمان بوضع السحر كما يزعم الذين وضعوه ، ولا أنزل السحر على الملكين ببابل. وتعريف الملكين تعريف الجنس أو هو تعريف العهد بأن يكون الملكان معهودين لدى العارفين بقصة ظهور السحر ، وقد قيل إن (هاروت وماروت) بدل من (الشياطين) وإن المراد بالشياطين شيطانان وضعا السحر للناس هما هاروت وماروت ، على أنه من إطلاق الجمع على المثنى كقوله : (قُلُوبُكُما) [التحريم : ٤] وهذا تأويل خطأ إذ يصير قوله : (عَلَى الْمَلَكَيْنِ) كلاما حشوا.

وعلى ظاهر هذه الآية إشكال من أربعة وجوه : أحدها كون السحر منزلا إن حمل الإنزال على المعروف منه وهو الإنزال من الله ، الثاني كون المباشر لذلك ملكين من الملائكة على القراءة المتواترة ، الثالث كيف يجمع الملكان بين قولهما (نَحْنُ فِتْنَةٌ) وقولهما (فَلا تَكْفُرْ) فكيف يجتمع قصد الفتنة مع التحذير من الوقوع فيها الرابع كيف حصرا حالهما في الاتصاف بأنهما فتنة فما هي الحكمة في تصديهما لذلك لأنهما إن كانا ملكين فالإشكال ظاهر وإن كانا ملكين بكسر اللام فهما قد علما مضرة الكفر بدليل نهيهما عنه وعلما معنى الفتنة بدليل قولهما (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ) فلما ذا تورطا في هذه الحالة؟

ودفع هذا الإشكال برمته أن الإنزال هو الإيصال وهو إذا تعدى بعلى دل على إيصال من علو واشتهر ذلك في إيصال العلم من وحي أو إلهام أو نحوهما ، فالإنزال هنا بمعنى الإلهام وبمعنى الإيداع في العقل أو في الخلقة بأن يكون الملكان قد برعا في هذا السحر وابتكرا منه أساليب لم يسبق لهما تلقيها من معلم شأن العلامة المتصرف في علمه المبتكر لوجوه المسائل وعللها وتصاريفها وفروعها.

والظاهر عندي أن ليس المراد بالإنزال إنزال السحر إذ السحر أمر موجود من قبل ولكنه إنزال الأمر للملكين أو إنزال الوحي أو الإلهام للملكين بأن يتصديا لبث خفايا السحر بين المتعلمين ليبطل انفراد شرذمة بعلمه فيندفع الوجهان الأول والثاني.

ثم إن الحكمة من تعميم تعليمه أن السحرة في بابل كانوا اتخذوا السحر وسيلة

٦٢٢

لتسخير العامة لهم في أبدانهم وعقولهم وأموالهم ثم تطلعوا منه إلى تأسيس عبادة الأصنام والكواكب وزعموا أنهم ـ أي السحرة ـ مترجمون عنهم وناطقون بإرادة الآلهة فحدث فساد عظيم وعمت الضلالة فأراد الله على معتاد حكمته إنقاذ الخلق من ذلك فأرسل أو أوحى أو ألهم هاروت وماروت أن يكشفا دقائق هذا الفن للناس حتى يشترك الناس كلهم في ذلك فيعلموا أن السحرة ليسوا على ذلك ويرجع الناس إلى صلاح الحال فاندفع الوجه الثالث. وأما الوجه الرابع فستعرف دفعه عند تفسير قوله : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ) الآية.

وفي قراءة ابن عباس والحسن (الملكين) بكسر اللام وهي قراءة صحيحة المعنى فمعنى ذلك أن ملكين كانا يملكان ببابل قد علما علم السحر ، وعلى قراءة فتح اللام فالأظهر في تأويله أنه استعارة وأنهما رجلان صالحان كان حكما مدينة بابل وكانا قد اطلعا على أسرار السحر التي كانت تأتيها السحرة ببابل أو هما وضعا أصله ولم يكن فيه كفر فأدخل عليه الناس الكفر بعد ذلك. وقيل هما ملكان أنزلهما الله تعالى تشكلا للناس يعلمانهم السحر لكشف أسرار السحرة لأن السحرة كانوا يزعمون أنهم آلهة أو رسل فكانوا يسخرون العامة لهم فأراد الله تكذيبهم ذبا عن مقام النبوءة فأنزل ملكين لذلك.

وقد أجيب بأن تعلم السحر في زمن هاروت وماروت جائز على جهة الابتلاء من الله لخلقه فالطائع لا يتعلمه والعاصي يبادر إليه وهو فاسد لمنافاته عموم قوله : (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ) قالوا : كما امتحن الله قوم طالوت بالنهر إلخ ولا يخفى فساد التنظير.

وبابل بلد قديم من مدن العالم وأصل الاسم باللغة الكلدانية باب إيلو أي باب الله ويرادفه بالعبرانية باب إيل وهو بلد كائن على ضفتي الفرات بحيث يخترقه الفرات يقرب موضعه من موقع بلد الحلة الآن على بعد أميال من ملتقى الفرات والدجلة. كانت من أعظم مدن العالم القديم بناها أولا أبناء نوح بعد الطوفان فيما يقال ثم توالى عليها اعتناء أصحاب الحضارة بمواطن العراق في زمن الملك النمروذ في الجيل الثالث من أبناء نوح ولكن ابتداء عظمة بابل كان في حدود سنة ٣٧٥٥ ثلاثة آلاف وسبعمائة وخمس وخمسين قبل المسيح فكانت إحدى عواصم أربعة لمملكة الكلدانيين وهي أعظمها وأشهرها ولم تزل همم ملوك الدولتين الكلدانية والأشورية منصرفة إلى تعمير هذا البلد وتنميقه فكان بلد العجائب من الأبنية والبساتين ومنبع المعارف الأسيوية والعجائب السحرية وقد نسبوا إليها قديما الخمر المعتقة والسحر قال أبو الطيب :

٦٢٣

سقى الله أيام الصّبا ما يسرها

ويفعل فعل البابلي المعتق (١)

ولاشتهار بابل عند الأمم القديمة بمعارف السحر كما قدمنا في تعريف السحر صح جعل صلة الموصول قوله : (أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ) إشارة إلى قصة يعلمونها.

و (هاروت وماروت) بدل من (الملكين) وهما اسمان كلدانيان دخلهما تغيير التعريف لإجرائهما على خفة الأوزان العربية ، والظاهر أن هاروت معرب (هاروكا) وهو اسم القمر عند الكلدانيين وأن ماروت معرب (ماروداخ) وهو اسم المشتري عندهم وكانوا يعدون الكواكب السيارة من المعبودات المقدسة التي هي دون الآلهة لا سيما القمر فإنه أشد الكواكب تأثيرا عندهم في هذا العالم وهو رمز الأنثى ، وكذلك المشتري فهو أشرف الكواكب السبعة عندهم ولعله كان رمز الذكر عندهم كما كان بعل عند الكنعانيين الفنيقيين. ومن المعلوم أن إسناد هذا التقديس للكواكب ناشئ عن اعتقادهم أنهم كانوا من الصالحين المقدسين وأنهم بعد موتهم رفعوا للسماء في صورة الكواكب فيكون (هاروكا) و (ماروداخ) قد كانا من قدماء علمائهم وصالحيهم والحاكمين في البلاد وهما اللذان وضعا السحر ولعل هذا وجه التعبير عنهما في القصة بالملكين بفتح اللام.

ولأهل القصص هنا قصة خرافية من موضوعات اليهود في خرافاتهم الحديثة اعتاد بعض المفسرين ذكرها منهم ابن عطية والبيضاوي وأشار المحققون مثل البيضاوي والفخر وابن كثير والقرطبي وابن عرفة إلى كذبها وأنها من مرويات كعب الأحبار وقد وهم فيها بعض المتساهلين في الحديث فنسبوا روايتها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو عن بعض الصحابة بأسانيد واهية والعجب للإمام أحمد بن حنبل رحمه‌الله تعالى كيف أخرجها مسندة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولعلها مدسوسة على الإمام أحمد أو أنه غرّه فيها ظاهر حال رواتها مع أن فيهم موسى بن جبير وهو متكلم فيه واعتذر عبد الحكيم بأن الرواية صحيحة إلا أن المروي راجع إلى أخبار اليهود فهو باطل في نفسه ورواته صادقون فيما رووا وهذا عذر قبيح لأن الرواية أسندت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ابن عرفة في «تفسيره» وقد كان الشيوخ يخطئون ابن عطية في هذا الموضع لأجل ذكره القصة ونقل بعضهم عن القرافي أن مالكا رحمه الله أنكر ذلك في

__________________

(١) الذي ذكره الواحدي والمعري في تفسير البيت أنه أراد بالبابلي الخمر وكنت رأيت في بعض كتب الأدب أن بعض من ناظر المتنبي انتقد هذا الإطناب مع أنه كان يستطيع أن يقول سقاها خمرا لا سيما وقد قال ما يسرها ، قلت : وقرينة كونه المراد وصفه بالمعتق وهو من أوصاف الخمر ، والعذر للمتنبي أنه أراد سقاها الله خمرا كخمر بابل فلا ضير في ذلك.

٦٢٤

حق هاروت وماروت.

وقوله : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ) جملة حالية من «هاروت وماروت» و (ما) نافية والتعبير بالمضارع لحكاية الحال إشارة إلى أن قولهما لمتعلمي السحر (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ) قول مقارن لوقت التعليم لا متأخر عنه. وقد علم من هذا أنهما كانا معلمين وطوى ذلك للاستغناء عنه بمضمون هاته الجملة فهو من إيجاز الحذف أو هو من لحن الخطاب مفهوم للغاية.

وقوله : (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ) الفتنة لفظ يجمع معنى مرج واضطراب أحوال أحد وتشتت باله بالخوف والخطر على الأنفس والأموال على غير عدل ولا نظام وقد تخصص وتعمم بحسب ما تضاف إليه أو بحسب المقام يقال فتنة المال وفتنة الدين.

ولما كانت هذه الحالة يختلف ثبات الناس فيها بحسب اختلاف رجاحة عقولهم وصبرهم ومقدرتهم على حسن المخارج منها كان من لوازمها الابتلاء والاختبار فكان ذلك من المعاني التي يكنى بالفتنة عنها كثيرا ولذلك تسامح بعض علماء اللغة ففسر الفتنة بالابتلاء وجرأه على ذلك قول الناس فتنت الذهب أو الفضة إذا أذابهما بالنار لتمييز الرديء من الجيد وهذا الإطلاق إن لم يكن مولدا فإن معنى الاختبار غير منظور إليه في لفظ الفتنة وإنما المنظور إليه ما في الإذابة من الاضطراب والمرج وقد سمى القرآن هاروت وماروت فتنة وقال : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) [البروج : ١٠] وقال : (لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ) [الأعراف : ٢٧]. والإخبار عن أنفسهم بأنهم فتنة إخبار بالمصدر للمبالغة وقد أكّدت المبالغة بالحصر الإضافي والمقصد من ذلك أنهما كانا يصرحان أن ليس في علمهما شيء من الخير الإلهي وأنه فتنة محضة ابتلاء من الله لعباده في مقدار تمسكهم بدينهم وإنما كانا فتنة لأن كل من تعلم منهما عمل به. فلا تكفر كما كفر السحرة حين نسبوا التأثيرات للآلهة وقد علمت سرها. وفي هذا ما يضعف أن يكون المقصد من تعليمهما الناس السحر إظهار كذب السحرة الذين نسبوا أنفسهم للألوهية أو النبوءة.

والذي يظهر في تفسير هذه الجملة أن قولهما : (إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ) قصر ادعائي للمبالغة فجعلا كثرة افتتان الناس بالسحر الذي تصديا لتعليمه بمنزلة انحصار أوصافهما في الفتنة ووجه ابتدائهما لمن يعلمانه بهذه الجملة أن يبينا له أن هذا العلم في مبادئه يظهر كأنه فتنة وشر فيوشك أن يكفر متعلمه عند مفاجأة تلك التعاليم إياه إذا كانت نفسه قد توطنت على اعتقاد أن ظهور خوارق العادات علامة على ألوهية من يظهرها ، وقولهما :

٦٢٥

(فَلا تَكْفُرْ) أي لا تعجل باعتقاد ذلك فينا فإنك إذا توغلت في معارف السحر علمت أنها معلولة لعلل من خصائص النفوس أو خصائص الأشياء فالفتنة تحصل لمن يتعلم السحر حين يرى ظواهره وعجائبه على أيدي السحرة ولمن كان في مبدأ التعليم فإذا تحقق في علمه اندفعت الفتنة فذلك معنى قولهما (فَلا تَكْفُرْ) فالكفر هو الفتنة وقولهما (فَلا تَكْفُرْ) بمنزلة فلا تفتتن وقد اندفع الإشكال الرابع المتقدم.

(فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ).

تفريع عما دل عليه قوله : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا) المقتضي أن التعليم حاصل فيتعلمون ، والضمير في (فَيَتَعَلَّمُونَ) راجع لأحد ، الواقع في حيز النفي مدخولا لمن الاستغراقية في قوله تعالى : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ) فإنه بمعنى كل أحد فصار مدلوله جمعا.

قوله : (ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) إشارة إلى جزئي من جزئيات السحر وهو أقصى تأثيراته إذ فيه التفرقة بين طرفي آصرة متينة إذ هي آصرة مودة ورحمة قال تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) [الروم : ٢١] فإن المودة وحدها آصرة عظيمة وهي آصرة الصداقة والأخوة وتفاريعهما ، والرحمة وحدها آصرة منها الأبوة والبنوة ، فما ظنكم بآصرة جمعت الأمرين وكانت بجعل الله تعالى وما هو بجعل الله فهو في أقصى درجات الإتقان وقد كان يشير إلى هذا المعنى شيخنا الجليل سالم أبو حاجب في قوله تعالى : (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً). وهذا التفريق يكون إما باستعمال مفسدات لعقل أحد الزوجين حتى يبغض زوجه وإما بإلقاء الحيل والتمويهات والنميمة حتى يفرق بينهما.

وقوله : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) جملة معترضة. وضمير (هُمْ) عائد إلى (أحد) من قوله : (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ) لوقوعه في سياق النفي فيعم كل أحد من المتعلمين أي وما المتعلمون بضارين بالسحر أحدا. وهذا تنبيه على أن السحر لا تأثير له بذاته وإنما يختلف تأثير حيله باختلاف قابلية المسحور ، وتلك القابلية متفاوتة ولها أحوال كثيرة أجملتها الآية بالاستثناء منقوله : (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي يجعل الله أسباب القابلية لأثر السحر في بعض النفوس فهذا إجمال حسن مناسب لحال المسلمين الموجه إليهم

٦٢٦

الكلام لأنهم تخلقوا بتعظيم الله تعالى وقدرته وليس المقام مقام تفصيل الأسباب والمؤثرات ولكن المقصود إبطال أن تكون للسحر حالة ذاتية وقواعد غير مموهة ، فالباء في قوله : (بِإِذْنِ اللهِ) للملابسة.

وأصل الإذن في اللغة هو إباحة الفعل ، واستأذن طلب الإذن في الفعل أو في الدخول للبيت وقد استعمله القرآن مجازا في معنى التمكين إما بخلق أسباب الفعل الخارقة للعادة نحو قوله : (وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي) [المائدة : ١١٠] وإما باستمرار الأسباب المودعة في الأشياء والقوى كقوله تعالى : (وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ) [آل عمران : ١٦٦] فقوله : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) أي إلا بما أعد الله في قابل السحر من استعداد لأن يضر به فإن هذا الاستعداد وإمكان التأثر مخلوق في صاحبه فهو بإذن الله ومشيئته كذا قرره الراغب وهو يرجع إلى استعمال مما تستعمل فيه كلمة إذن (ومن هذا القبيل ونظيره لفظة الأمر في قوله تعالى : (لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [الرعد : ١١] أي مما خلق الله من الأشياء التي تلحق أضرارها للناس وقد اشتهر هذا الاستعمال في لسان الشرع حتى صار حقيقة عرفية في معنى المشيئة والإرادة فينبغي أن يلحق بالألفاظ التي فرق المتكلمون بين مدلولاتها وهي الرضا والمحبة والأمر والمشيئة والإرادة). فليس المعنى أن السحر قد يضر وقد لا يضر بل المعنى أنه لا يضر منه إلا ما كان إيصال أشياء ضار بطبعها وقوله : (وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) يعني ما يضر الناس ضرا آخر غير التفرقة بين المرء وزوجه فضمير (يضرهم) عائد على غير ما عاد عليه ضمير (يتعلمون) والمعنى أن أمور السحر لا يأتي منها إلا الضر أي في الدنيا فالساحر لا يستطيع سحر أحد ليصير ذكيا بعد أن كان بليدا أو ليصير غنيا بعد الفقر وهذا زيادة تنبيه على سخافة عقول المشتغلين به وهو مقصد الآية وبهذا التفسير يكون عطف قوله : (وَلا يَنْفَعُهُمْ) تأسيسا لا تأكيدا والملاحظ في هذا الضر والنفع هو ما يحصل في الدنيا وأما حالهم في الآخرة فسيفيده قوله : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) وقد أفادت الآية بجمعها بين إثبات الضر ونفي النفع الذي هو ضده مفاد الحصر كأنه قيل ويتعلمون ما ليس إلا ضرا كقول السموأل وعبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي :

تسيل على حد الظّبات نفوسنا

وليس على غير الظّبات تسيل

وعدل عن صيغة القصر لتلك النكتة المتقدمة وهي التنبيه على أنه ضر. وإعادة فعل

٦٢٧

(يَتَعَلَّمُونَ) مع حرف العطف لأجل ما وقع من الفصل بالجملة المعترضة.

(وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).

عطف على قوله : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) أي اتبعوا ذلك كله وهم قد علموا إلخ والضمير لليهود تبعا لضمير (وَاتَّبَعُوا) ، أو الواو للحال أي في حال أنهم تحقق علمهم. واللام في (لَقَدْ عَلِمُوا) يجوز أن تكون لام القسم وهي اللام التي من شأنها أن تدخل على جواب القسم لربطه بالقسم ثم يحذفون القسم كثيرا استغناء لدلالة الجواب عليه دلالة التزامية لأنه لا ينتظم جواب بدون مجاب. ويجوز أن تكون لام الابتداء ، وهي لام تفيد تأكيد القسم ويكثر دخولها في صدر الكلام فلذلك قيل لها لام الابتداء والاحتمالان حاصلان في كل كلام صالح للقسم وليس فيه قسم فإن حذف لفظ القسم مشعر في المقام الخطابي بأن المتكلم غير حريص على مزيد التأكيد كما كان ذكر إن وحدها في تأكيد الجملة الاسمية أضعف تأكيدا من الجمع بينها وبين لام الابتداء لأنهما أداتا تأكيد. قال الرضى إن مواقع لام القسم في نظر الجمهور هي كلها لامات الابتداء. والكوفيون لا يثبتون لام الابتداء ويحملون مواقعها على معنى القسم المحذوف والخلاف في هذا متقارب.

واللام في قوله : (لَمَنِ اشْتَراهُ) يجوز كونها لام قسم أيضا تأكيدا للمعلوم أي علموا تحقيق أنه لا خلاق لمشتري السحر ويجوز كونها لام ابتداء والاشتراء هو اكتساب شيء ببذل غيره فالمعنى أنهم اكتسبوه ببذل إيمانهم المعبر عنه فيما يأتي بقوله أنفسهم.

والخلاق الحظ من الخير خاصة. ففي الحديث : «إنما يلبس هذا من لا خلاق له» وقال البعيث بن حريث :

ولست وإن قربت يوما ببائع

خلاقي ولا ديني ابتغاء التحبب

ونفي الخلاق وهو نكرة مع تأكيد النفي بمن الاستغراقية دليل على أن تعاطي هذا السحر جرم كفر أو دونه فلذلك لم يكن لمتعاطيه حظ من الخير في الآخرة وإذا انتفى كل حظ من الخير ثبت الشر كله لأن الراحة من الشر خير وهي حالة الكفاف وقد تمناها الفضلاء أو دونه خشية من الله تعالى.

قوله : (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) عطف على (وَلَقَدْ عَلِمُوا) عطف الإنشاء على

٦٢٨

الخبر و (شَرَوْا) بمعنى باعوا بمعنى بذلوا وهو مقابل قوله : (لَمَنِ اشْتَراهُ) ومعنى بذل النفس هو التسبب لها في الخسار والبوار.

وقوله : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) مقتض لنفي العلم بطريق لو الامتناعية والعلم المنفي عنهم هنا هو غير العلم المثبت لهم في قوله : (وَلَقَدْ عَلِمُوا) إلا أن الذي علموه هو أن مكتسب السحر ما له خلاق في الآخرة والذي جهلوه هنا هو أن السحر شيء مذموم وفيه تجهيل لهم حيث علموا أن صاحبه لا خلاق له ولم يهتدوا إلى أن نفي الخلاق يستلزم الخسران إذ ما بعد الحق إلا الضلال وهذا هو الوجه لأن (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) ذيل به قوله : (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) فدل على أنه دليل مفعوله وبذلك يندفع الإشكال عن إثبات العلم ونفيه في معلوم واحد بناء على أن العلم بأنه لا خلاق لصاحب السحر عين معنى كون السحر مذوما فكيف يعدون غير عالمين بذمه وقد علمت وجهه وهذا هو الذي تحمل عليه الآية.

ولهم في الجواب عن دفع الإشكال وجوه أخرى أحدها ما ذهب إليه صاحب «الكشاف» وتبعه صاحب «المفتاح» من أن المراد من نفي العلم هو أنهم لما كانوا في علمهم كمن لا يعلم بعدم عملهم به نفي العلم عنهم لعدم الاعتداد به أي فيكون ذلك على سبيل التهكم بهم. الثاني أن المراد بالعلم المنفي هو علم كون ما يتعاطونه من جملة السحر المنهي عنه فكأنهم علموا مذمة السحر علما كليا ولم يتفطنوا لكون صنيعهم منه كما قالوا إن الفقيه يعلم كبرى القياس والقاضي والمفتي يعلمان صغراه وأن الفقيه كالصيدلاني والقاضي والمفتي كالطبيب وهذا الوجه الذي اخترناه. الثالث أن المراد لو كانوا يعلمون ما يتبعه من العذاب في الآخرة أي فهم ظنوا أن عدم الخلاف لا يستلزم العذاب وهذا قريب من الذي ذكرناه. الرابع أن المراد من العلم المنفي التفكر ومن المثبت العلم الغريزي وهذا وجه بعيد جدا إذ لا يمكن أن يكون علمهم بأن من اكتسب السحر لا خلاق له علما غريزيا فلو قيل العلم التصوري والعلم التصديقي. وفي الجمع بين (لَقَدْ عَلِمُوا) و (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) طباق عجيب.

وهنالك جواب آخر مبني على اختلاف معاد ضمير (عَلِمُوا) وضمير (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) فضمير (لَقَدْ عَلِمُوا) راجع إلى الجن الذين يعلمون السحر وضميرا (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) راجعان إلى الإنس الذين تعلموا السحر وشروا به أنفسهم ، قاله فطرب والأخفش وبذلك صار الذين أثبت لهم العلم غير المنفي عنهم.

٦٢٩

[١٠٣] (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣))

أي لو آمنوا بمحمد واتقوا الله فلم يقدموا على إنكار ما بشرت به كتبهم لكانت لهم مثوبة من عند الله ، ومثوبة الله خير من كل نفع حملهم على المكابرة.

و (لو) شرطية امتناعية اقترن شرطها بأن مع التزام الفعل الماضي في جملته على حد قول امرئ القيس :

ولو أنّ ما أسعى لأدنى معيشة

كفاني ولم أطلب قليل من المال

و (أن) مع صلتها في محل مبتدأ عند جمهور البصريين وما في جمل الصلة من المسند والمسند إليه أكمل الفائدة فأغنى عن الخبر. وقيل خبرها محذوف تقديره ثابت أي ولو إيمانهم ثابت.

وقوله : (لَمَثُوبَةٌ) يترجح أن يكون جواب (لو) فإنه مقترن باللام التي يكثر اقتران جواب (لو) المثبت بها والجواب هنا جملة اسمية وهي لا تقع جوابا للو في الغالب وكان هذا الجواب غير ظاهر الترتب والتعليق على جملة الشرط لأن مثوبة الله خير سواء آمن اليهود واتقوا أم لم يفعلوا. قال بعض النحاة الجواب محذوف أي لأثيبوا ومثوبة من عند الله خير. وعدل عنه صاحب «الكشاف» فقال : أوثرت الجملة الاسمية في جواب (لو) على الفعلية لما في ذلك من الدلالة على ثبات المثوبة واستقرارها كما عدل عن النصب إلى الرفع في (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الزمر : ٧٣] لذلك ا ه. ومراده أن تقدير الجواب لأثيبوا مثوبة من الله خيرا لهم مما شروا به أنفسهم ، أو لمثوبة بالنصب على أنه مصدر بدل من فعله ، وكيفما كان فالفعل أو بدله يدلان على الحدوث فلا دلالة له على الدوام والثبات. ولما كان المقام يقتضي حصول المثوبة وثباتها وثبات الخيرية لها ليحصل مجموع معان عدل عن النصب المؤذن بالفعل إلى الرفع لأن الجملة الاسمية لا تفيد الحدوث بل الثبوت ، وينتقل من إفادتها الثبوت إلى إفادة الدوام والثبات فدلالة الآية على ثبات المثوبة بالعدول عن نصب المصدر إلى رفعه كما في (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) و (الْحَمْدُ لِلَّهِ) [الفاتحة : ٢] ودلالتها على ثبات نسبة الخيرية للمثوبة من كون النسبة مستفادة من جملة اسمية فصارت الجملة بمنزلة جملتين لأن أصل المصدر الآتي بدلا من فعله أن يدل على نسبة لفاعله فلو قيل (لمثوبة) بالنصب لكان تقديره لأثيبوا مثوبة فإذا حولت إلى المصدر المرفوع لزم أن تعتبر ما

٦٣٠

كان فيه من النسبة قبل الرفع ، ولما كان المصدر المرفوع لا نسبة فيه علم السامع أن التقدير لمثوبة لهم كما أنك إذا قلت سلاما وحمدا علم السامع أنك تريد سلمت سلاما وحمدت حمدا ، فإذا قلت سلام وحمد كان التقدير سلام مني وحمد مني ، وهذا وجه تنظير «الكشاف» وقرينة كون هذا المصدر في الأصل منصوبا وقوعه جوابا للو المتأصل في الفعلية ، ثم إذا سمع قوله (خير) علم السامع أنه خبر عن المثوبة بعد تحويلها فاستفاد ثبات الخيرية ولهذا لم يتعرض صاحب «الكشاف» لبيان إفادة الجملة ثبات الخيرية للمثوبة لأنه لصراحته لا يحتاج للبيان فإن كل جملة اسمية تدل على ثبات خبرها لمبتدئها. وبهذا ظهر الترتب لأن المقصود من الإخبار عن المثوبة بأنها خير أنها تثبت لهم لو آمنوا.

وعندي وجه آخر وهو أن يقال إن قوله : (لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ) دليل الجواب بطريقة التعريض فإنه لما جعل معلقا على قوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا) علم أن في هذا الخبر شيئا يهمهم. ولما كانت (لو) امتناعية ووقع في موضع جوابها جملة خبرية تامة علم السامع أن هذا الخبر ممتنع ثبوته لمن امتنع منه شرط لو فيكون تنكيلا عليهم وتلميحا بهم.

وقد قيل : إن (لو) للتمني على حد (لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً) [الشعراء : ١٠٢]. والتحقيق أن لو التي للتمني هي لو الشرطية أشربت معنى التمني لأن الممتنع يتمنى إن كان محبوبا :

وأحب شيء إلى الإنسان ما منعا

واستدل على هذا بأنها إذا جاءت للتمني أجيبت جوابين جوابا منصوبا كجواب ليت وجوابا مقترنا باللام كجواب الامتناعية كقول المهلهل :

فلو نبش المقابر عن كليب

فيخبر بالذنائب أي زير

ويوم الشعثمين لقر عينا

وكيف لقاء من تحت القبور

فأجيب بقوله : فيخبر وقوله : لقر عينا. والتمني على تقديره مجاز من الله تعالى عن الدعاء للإيمان والطاعة أو تمثيل لحال الداعي لذلك بحال المتمني فاستعمل له المركب الموضوع للتمني أو هو ما لو نطق به العربي في هذا المقام لنطق بالتمني على نحو ما قيل في قوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة : ٢١] ونحوه. وعلى هذا الوجه يكون قوله (لَمَثُوبَةٌ) مستأنفا واللام للقسم.

والمثوبة اسم مصدر أثاب إذا أعطى الثواب والثواب الجزاء الذي يعطى لخير المعطي ، ويقال ثوب وأثوب بمعنى أثاب فالمثوبة على وزن المفعولة كالمصدوقة والمشورة

٦٣١

والمكروهة.

وقوله : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) شرط ثان محذوف الجواب لدلالة ما تقدم عليه وحذف مفعول (يَعْلَمُونَ) لدلالة المثوبة من الله خير ، أي لو كانوا يعلمون مثوبة الله لما اشتروا السحر.

وليس تكرير اللفظة أو الجملة في فواصل القرآن بإيطاء لأن الإيطاء إنما يعاب في الشعر دون النثر لأن النثر إنما يعتد فيه بمطابقة مقتضى الحال وفائدة هذا التكرير التسجيل عليهم بأنهم لا يعلمون ما هو النفع الحق.

[١٠٤] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤))

يتعين في مثل هذه الآية (١) تطلب سبب نزولها ليظهر موقعها ووجه معناها ، فإن النهي عن أن يقول المؤمنون كلمة لا ذم فيها ولا سخف لا بد أن يكون لسبب ، وقد ذكروا في سبب نزولها أن المسلمين كانوا إذا ألقى عليهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الشريعة والقرآن يتطلبون منه الإعادة والتأني في إلقائه حتى يفهموه ويعوه فكانوا يقولون له راعنا يا رسول الله أي لا تتحرج منا وارفق وكان المنافقون من اليهود يشتمون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خلواتهم سرا وكانت لهم كلمة بالعبرانية تشبه كلمة راعنا بالعربية ومعناها في العبرانية سب ، وقيل معناها لا سمعت ، دعاء فقال بعضهم لبعض : كنا نسب محمدا سرّا فأعلنوا به الآن أو قالوا هذا وأرادوا به اسم فاعل من رعن إذا اتصف بالرعونة وسيأتي ، فكانوا يقولون هاته الكلمة مع المسلمين ناوين بها السب فكشفهم الله وأبطل عملهم بنهي المسلمين عن قول هاته الكلمة حتى ينتهي المنافقون عنها ويعلموا أن الله أطلع نبيه على سرهم.

ومناسبة نزول هاته الآية عقب الآيات المتقدمة في السحر وما نشأ عن ذمه ، أن السحر كما قدمنا راجع إلى التمويه ، وأن من ضروب السحر ما هو تمويه ألفاظ وما مبناه

__________________

(١) أي مثلها من الآيات التي نزلت في أحوال معينة ولم يشرح في أثنائها ما يفصح عن سبب نزولها إيجازا واستغناء بعلم المخاطبين بها يوم نزولها بالسبب الذي أوجب نزولها ، فإذا لم ينقل السبب لمن لم يحضره لم يعلم المراد منها.

٦٣٢

على اعتقاد تأثير الألفاظ في المسحور بحسب نية الساحر وتوجهه النفسي إلى المسحور ، وقد تأصل هذا عند اليهود واقتنعوا به في مقاومة أعدائهم. ولما كان أذى الشخص بقول أو فعل لا يعلم مغزاهما كخطابه بلفظ يفيد معنى ومقصود المتكلم منه أذى ، أو كإهانة صورته أو الوطء على ظله ، كل ذلك راجعا إلى الاكتفاء بالنية والتوجه في حصول الأذى ، كان هذا شبيها ببعض ضروب السحر ولذلك كان من شعار من استهواهم السحر واشتروه ناسب ذكر هاته الحالة من أحوالهم عقب الكلام على افتتانهم بالسحر وحبه دون بقية ما تقدم من أحوالهم وهاته المناسبة هي موجب التعقيب في الذكر.

وإنما فصلت هذه الآية عما قبلها لاختلاف الغرضين لأن هذه في تأديب المؤمنين ثم يحصل منه التعريض باليهود في نفاقهم وأذاهم والإشعار لهم بأن كيدهم قد أطلع الله عليه نبيه. وقد كانوا يعدون تفطن المسحور للسحر يبطل أثره فأشبهه التفطن للنوايا الخبيثة وصريح الآيات قبلها في أحوالهم الدينية المنافية لأصول دينهم ولأن الكلام المفتتح بالنداء والتنبيه ونحوه نحو (يا أَيُّهَا النَّاسُ) ويا زيد وألا ونحوها لا يناسب عطفه على ما قبله وينبغي أن يعتبر افتتاح كلام بحيث لا يعطف إلا بالفاء إذا كان مترتبا عما قبله لأن العطف بالفاء بعيد عن العطف بالواو وأوسع من جهة التناسب.

و (راعِنا) أمر من راعاه يراعيه وهو مبالغة في رعاه يرعاه إذا حرسه بنظره من الهلاك والتلف وراعى مثل رعى قال طرفة :

خذول تراعى ربربا بخميلة

وأطلق مجازا على حفظ مصلحة الشخص والرفق به ومراقبة نفعه وشاع هذا المجاز حتى صار حقيقة عرفية ومنه رعاك الله ورعى ذمامه ، فقول المسلمين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (راعنا) هو فعل طلب من الرعي بالمعنى المجازي أي الرفق والمراقبة أي لا تتحرج من طلبنا وارفق بنا.

وقوله : (وَقُولُوا انْظُرْنا) أبدلهم بقولهم : (راعِنا) كلمة تساويها في الحقيقة والمجاز وعدد الحروف والمقصود من غير أن يتذرع بها الكفار لأذى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا من أبدع البلاغة فإنّ نظر في الحقيقة بمعنى حرس وصار مجازا على تدبير المصالح ، ومنه قول الفقهاء هذا من النظر ، والمقصود منه الرفق والمراقبة في التيسير فيتعين أن قوله : (انْظُرْنا) بضم همزة الوصل وضم الظاء وأنه من النظر لا من الانتظار.

٦٣٣

وقد دلت هذه الآية على مشروعية أصل من أصول الفقه ـ وهو من أصول المذهب المالكي ـ يلقب بسد الذرائع وهي الوسائل التي يتوسل بها إلى أمر محظور.

وقوله تعالى : (وَاسْمَعُوا) أريد به سماع خاص وهو الوعي ومزيد التلقي حتى لا يحتاجوا إلى طلب المراعاة أو النظر وقيل : أراد من (اسمعوا) امتثلوا لأوامر الرسول قاله ابن عطية وهو أظهر.

وقوله : (وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) التعريف للعهد. والمراد بالكافرين اليهود خاصة أي تأدبوا أنتم مع الرسول ولا تتأسوا باليهود في أقوالهم : فلهم عذاب أليم ، والتعبير بالكافرين دون اليهود زيادة في ذمهم. وليس هنا من التذييل لأن الكلام السابق مع المؤمنين فلا يصلح ما بعده من تعميم حكم الكافرين لتذييل ما قبله.

[١٠٥] (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (١٠٥))

فصله عما قبله لاختلاف الغرضين ، لأن الآية قبله في تأديب المؤمنين مع التعريض باليهود وهذه الآية لبيان حسد اليهود وغيرهم للمسلمين. ووجه المناسبة بين الآيتين ظاهر لاتحاد المآل ولأن الداعي للسب والأذى هو الحسد.

وهذه الآية رجوع إلى كشف السبب الذي دعا لامتناع اليهود من الإيمان بالقرآن لما قيل لهم (آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) فقالوا : (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) [البقرة : ٩١] أي ليس الصارف لهم تمسكهم بما أنزل إليهم بل هو الحسد على ما أنزل على النبي والمسلمين من خير ، فبين أدلة نفي كون الصارف لهم هو التصلب والتمسك بدينهم بقوله : (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ) [البقرة : ٩١] وما تخلل ذلك ونشأ عنه من المجادلات وبيان إعراضهم عن أوامر دينهم واتباعهم السحر وبين الآن حقيقة الصارف عن الإيمان بالقرآن والموجب للشتم وقول البهتان ليتخلص من ذلك إلى بيان النسخ.

و (الود) بضم الواو المحبة ومن أحب شيئا تمناه فليس الود هو خصوص التمني ولا المحبة المفرطة كما حققه الراغب.

وذكر (الذين كفروا) هنا دون اليهود لقصد شمول هذا الحكم اليهود والنصارى معا تمهيدا لما يأتي من ذكر حكمة النسخ ومن قوله : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ

٦٣٤

هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١١١] الآيات. ونبه بقوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) دون ما يود أهل الكتاب على أنهم لم يتبعوا كتابهم لأن كتبهم تأمرهم باتباع الحق حيثما وجدوه وبالإيمان بالنبيء المقفي على آثارهم وفي التوراة والإنجيل مواضع كثيرة فيها أخذ الميثاق على ذلك فلما حسدوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على النبوءة وحسدوا المسلمين فقد كفروا بما أمرت به كتبهم وبهذا تخلص الكلام إلى الجمع بين موعظة النصارى مع موعظة اليهود.

ولما كان ما اقتضاه الحال من التعبير بقوله : (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) قد يوهم كون البيان قيدا وأن الكافرين من غير أهل الكتاب لا يحسدون المسلمين عطف عليه قوله : (وَلَا الْمُشْرِكِينَ) كالاحتراس وليكون جمعا للحكم بين الجميع فيكون له حظ في التمهيد لقوله فيما يأتي : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) [البقرة : ١١٤] وقرأ الجمهور (أن ينزل) بتشديد الزاي مفتوحة. والتعبير بالتنزيل دون الإنزال لحكاية الواقع إذ القرآن نزل منجما لتسهيل حفظه وفهمه وكتابته وللتيسير على المكلفين في شرع الأحكام تدريجا. وقرأه ابن كثير وابن عمرو بتخفيف الزاي مفتوحة أيضا وذلك على أن نفي ودادتهم متعلق بمطلق إنزال القرآن سواء كان دفعة أو منجما.

والخير النعمة والفضل ، قال النابغة :

فلست على خير أتاك بحاسد

وأراد به هنا النبوءة وما أيدها من الوحي والقرآن والنصر وهو المعبر عنه بالرحمة في قوله : (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ).

وقوله : (وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) عطف على (ما يَوَدُّ) لتضمنه أن الله أراد ذلك وإن كانوا هم لا يريدونه.

والرحمة هنا مثل الخير المنزل عليهم وذلك إدماج للامتنان عليهم بأن ما نزل عليهم هو رحمة بهم ومعنى الاختصاص جعلها لأحد دون غيره لأن أصل الاختصاص والتخصيص راجع إلى هذا المعنى أعني جعل الحكم خاصا غير عام سواء خص واحدا أو أكثر. ومفعول المشيئة محذوف كما هو الشأن فيه إذا تقدم عليه كلام أو تأخر عنه أي من يشاء اختصاصه بالرحمة.

والمشيئة هي الإرادة ولما كانت إرادة الله تتعلق بالمراد على وفق علمه تعالى كانت مشيئته أي إرادته جارية على وفق حكمته التي هي من كيفيات علم الله تعالى فهي من

٦٣٥

تعلقات العلم الإلهي بإبراز الحوادث على ما ينبغي وقد تقدم الكلام عليها عند قوله تعالى : (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [البقرة : ٣٢] فالله يختص برحمته من علم أنه حقيق بها لا سيما الرحمة المراد منها النبوءة فإن الله يختص بها من خلقه قابلا لها فهو يخلقه على صفاء سريرة وسلامة فطرة صالحة لتلقي الوحي شيئا فشيئا قال تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) [يوسف : ٢٢] وقال : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) [الأنعام : ١٢٤] ولذلك لم تكن النبوءة حاصلة بالاكتساب لأن الله يخلق للنبوءة من أراده لها لخطر أمرها بخلاف غيرها من الفضائل فهو ممكن الاكتساب كالصلاح والعلم وغيرهما فرب فاسق صلحت حاله ورب جاهل مطبق صار عالما بالسعي والاكتساب ومع هذا فلا بد لصاحبها من استعداد في الجملة ثم وراء ذلك التوفيق وعناية الله تعالى بعبده. ولما كانت الاستعدادات لمراتب الرحمة من النبوءة فما دونها غير بادية للناس طوى بساط تفصيلها لتعذره ووكل إلى مشيئة الله التي لا تتعلق إلا بما علمه واقتضته حكمته سبحانه رفقا بأفهام المخاطبين.

وقوله : (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) تذييل لأن الفضل يشمل إعطاء الخير والمعاملة بالرحمة ، وتنبيه على أن واجب مريد الخير التعرض لفضل الله تعالى والرغبة إليه في أن يتجلى عليه بصفة الفضل والرحمة فيتخلى عن المعاصي والخبائث ويتحلى بالفضائل والطاعات عسى أن يحبه ربه وفي الحديث الصحيح «تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة».

[١٠٦] (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٠٦))

(ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها).

مناسبة هذه الآية للآيات قبلها أن اليهود اعتذروا عن إعراضهم عن الإيمان بالنبيء صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقولهم : (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) [البقرة : ٩١] وأرادوا به أنهم يكفرون بغيره ، وهم في عذرهم ذلك يدعون أن شريعتهم لا تنسخ ويقولون إن محمدا وصف التوراة بأنها حق وأنه جاء مصدقا لها فكيف يكون شرعه مبطلا للتوراة ويموهون على الناس بما سموه البداء وهو لزوم أن يكون الله تعالى غير عالم بما يحسن تشريعه وأنه يبدو له الأمر ثم يعرض عنه ويبذل شريعة بشريعة.

٦٣٦

وقد قدمنا أن الله تعالى رد عليهم عذرهم وفضحهم بأنهم ليسوا متمسكين بشرعهم حتى يتصلبوا فيه وذلك من قوله : (قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ مِنْ قَبْلُ) [البقرة : ٩١] وقوله : (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ) [البقرة : ٩٤] إلخ وبأنهم لا داعي لهم غير الحسد بقوله : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) إلى قوله : (ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [البقرة : ١٠٥] المنبئ أن العلة هي الحسد ، فلما بين الرد عليهم في ذلك كله أراد نقض تلك السفسطة أو الشبهة التي راموا ترويجها على الناس بمنع النسخ. والمقصد الأصلي من هذا هو تعليم المسلمين أصلا من أصول الشرائع وهو أصل النسخ الذي يطرأ على شريعة بشريعة بعدها ويطرأ على بعض أحكام شريعة بأحكام تبطلها من تلك الشريعة. ولكون هذا هو المقصد الأصلي عدل عن مخاطبة اليهود بالرد عليهم. ووجه الخطاب إلى المسلمين كما دل عليه قوله : (أَلَمْ تَعْلَمْ) وعطفه عليه بقوله : (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ) [البقرة : ١٠٨] ولقوله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) ولم يقل من شريعة. وفي هذا إعراض عن مخاطبة اليهود لأن تعليم المسلمين أهم وذلك يستتبع الرد على اليهود بطريق المساواة لأنه إذا ظهرت حكمة تغيير بعض الأحكام لمصلحة تظهر حكمة تغيير بعض الشرائع.

وقد ذكر بعض المفسرين لهاته الآية سبب نزول ، ففي «الكشاف» و«المعالم» : نزلت لما قال اليهود : ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثم ينهاهم عنه ، وفي «تفسير القرطبي» أن اليهود طعنوا في تغيير القبلة وقالوا إن محمدا يأمر أصحابه بشيء وينهاهم عنه فما كان هذا القرآن إلا من جهته ولذلك يخالف بعضه بعضا.

وقرأ الجمهور (ننسخ) بفتح النون الأولى وفتح السين وهو أصل مضارع نسخ ، وقرأه ابن عامر بضم النون الأولى وكسر السين على أنه مضارع أنسخ مهموزا بهمزة التعدية أي نأمر بنسخ آية.

و (ما) شرطية وأصلها الموصولة أشربت معنى الشرط فلذلك كانت اسما للشرط يستحق إعراب المفاعيل وتبين بما يفسر إبهامها وهي أيضا توجب إبهاما في أزمان الربط لأن الربط وهو التعليق لما نيط بمبهم صار مبهما فلا تدل على زمن معين من أزمان تعليق الجواب على الشرط وربطه به.

و (من آية) بيان لما. والآية في الأصل الدليل والشاهد على أمر. قال الحرث بن حلزة :

من لنا عنده من الخير آيا

ت ثلاث في كلّهن القضاء

٦٣٧

ووزنها فعلة بتحريك العين عند الخليل وعينها ياء أو واو قلبت ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها والنسبة إليها آييّ أو آوي. ثم أطلقت الآية على المعجزة لأنها دليل صدق الرسول قال تعالى : (وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) [الإسراء : ٥٩]. وتطلق الآية على القطعة من القرآن المشتملة على حكم شرعي أو موعظة أو نحو ذلك وهو إطلاق قرآني قال تعالى : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [النحل : ١٠١] ويؤيد هذا أن من معاني الآية في كلام العرب الأمارة التي يعطيها المرسل للرسول ليصدقه المرسل إليه وكانوا إذا أرسلوا وصاية أو خبرا مع رسول أرفقوه بأمارة يسمونها آية لا سيما الأسير إذا أرسل إلى قومه برسالة كما فعل ناشب الأعور حين كان أسيرا في بني سعد بن مالك وأرسل إلى قومه بلعنبر رسالة وأراد تحذيرهم بما يبيته لهم أعداؤهم الذين أسروه فقال للرسول : قل لهم كذا بآية ما أكلت معكم حيسا. وقال سحيم العبد :

ألكني إليها عمرك الله يا فتى

بآية ما جاءت إلينا تهاديا

ولذا أيضا سموا الرسالة آية تسمية للشيء باسم مجاوره عرفا.

والمراد بالآية هنا حكم الآية سواء أزيل لفظها أم أبقى لفظها لأن المقصود بيان حكمة إبطال الأحكام لا إزالة ألفاظ القرآن.

والنسخ إزالة الشيء بشيء آخر قاله الراغب ، فهو عبارة عن إزالة صورة أو ذات وإثبات غيرها عوضها تقول نسخت الشمس الظل لأن شعاعها أزال الظل وخلفه في موضعه ونسخ الظل الشمس كذلك لأن خيال الجسم الذي حال بين الجسم المستنير وبين شعاع الشمس الذي أناره قد خلف الشعاع في موضعه ويقال نسخت ما في الخلية من النحل والعسل إلى خلية أخرى ، وقد يطلق على الإزالة فقط دون تعويض كقولهم نسخت الريح الأثر وعلى الإثبات لكن على إثبات خاص وهو إثبات المزيل ، وأما أن يطلق على مجرد الإثبات فلا أحسبه صحيحا في اللغة وإن أوهمه ظاهر كلام الراغب وجعل منه قولهم نسخت الكتاب إذا خططت أمثال حروفه في صحيفتك إذ وجدوه إثباتا محضا لكن هذا توهم لأن إطلاق النسخ على محاكاة حروف الكتاب إطلاق مجازي بالصورة أو تمثيلية بتشبيه الحالة بحالة من يزيل الحروف من الكتاب الأصلي إلى الكتاب المنتسخ ثم جاءت من ذلك النسخة قال تعالى : (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجاثية : ٢٩] وقال : (وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ) [الأعراف : ١٥٤] وأما قولهم الولد نسخة من أبيه فمجاز على مجاز.

٦٣٨

ولا يطلق النسخ على الزوال بدون إزالة فلا تقول نسخ الليل النهار لأن الليل ليس بأمر وجودي بل هو الظلمة الأصلية الحاصلة من انعدام الجرم المنير.

والمراد من النسخ هنا الإزالة وإثبات العوض بدليل قوله : (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) وهو المعروف عند الأصولين بأنه رفع الحكم الشرعي بخطاب فخرج التشريع المستأنف إذ ليس برفع ، وخرج بقولنا الحكم الشرعي رفع البراءة الأصلية بالشرع المستأنف. إذ البراءة الأصلية ليست حكما شرعيا بل هي البقاء على عدم التكليف الذي كان الناس عليه قبل مجيء الشرع بحيث إن الشريعة لا تتعرض للتنصيص على إباحة المباحات إلا في مظنة اعتقاد تحريمها أو في موضع حصر المحرمات أو الواجبات.

فالأول نحو قوله : (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) [البقرة : ١٩٨] في التجارة في الحج حيث ظن المسلمون تحريم التجارة في عشر ذي الحجة كما كانت عليه الجاهلية بعد الانصراف من ذي المجاز (١) كما سيأتي.

ومثال الثاني قوله تعالى : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) [النساء : ٢٤] بعد ذكر النساء المحرمات وقوله : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) [البقرة : ١٨٧] لحصر وجوب الإمساك في خصوص زمن النهار.

وفهم من قولهم في التعريف رفع الحكم أن ذلك الحكم كان ثابتا لو لا رفعه وقد صرح به بعضهم ولذلك اخترنا زيادة قيد في التعريف وهو رفع الحكم الشرعي المعلوم دوامه بخطاب يرفعه ليخرج عن تعريف النسخ رفع الحكم الشرعي المغيّى بغاية عند انتهاء غايته ورفع الحكم المستفاد من أمر لا دليل فيه على التكرار.

وحيث تبينت حكمة نسخ الآيات علم منه حكمة نسخ الشرائع بعضها ببعض وهو الذي أنكروه وأنكروا كون الإسلام قد نسخ التوراة وزعموا أن دوام التوراة مانع من

__________________

(١) ذلك أن العرب كانوا إذا انصرفوا من سوق ذي المجاز ليلة التروية يحرمون البيع إلى انقضاء الحج قال النابغة يذكر ناقته :

كادت تساقطني رحلي وميثرتي

بذي المجاز ولم تحسس به نغما

من صوت حرمية قالت وقد ظعنوا

هل في مخيمكم من يشتري أدما

قالت لها وهي تسعى تحت لبتها

لا تحطمنك إن البيع قد زرما

٦٣٩

الإيمان بالإسلام كما قالوا (نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) [البقرة : ٩١] وهو أحوال : الأول مجيء شريعة لقوم مجيئا مؤقتا لمدة حياة الرسول المرسل بها فإذا توفي ارتفعت الشريعة كشريعة نوح وإبراهيم وشريعة يوسف وشريعة شعيب قال تعالى : (وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ) إلى قوله : (إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) [غافر : ٣٤] وبقي الناس في فترة وكان لكل أحد يريد الاهتداء أن يتبع تلك الشريعة أو بعضها كما كانوا يتبعون شريعة إبراهيم فإذا جاءت شريعة بعدها فليست الثانية بناسخة للأولى في الحقيقة ولكنها نسخ يخير الناس في متابعتها الذي كان لهم في زمن الفترة كما إذا كانت عبس مثلا يجوز لها اتباع شريعة إبراهيم فلما جاءهم خالد بن سنان بشريعته تعين عليهم اتباعه.

الثاني أن تجيء شريعة لقوم مأمورين بالدوام عليها كشرع موسى ثم تجيء بعدها شريعة ليست رافعة لتلك الشريعة بأسرها ولكنها ترفع بعض أحكامها وتثبت بعضا كشريعة عيسى فهذه شريعة ناسخة في الجملة لأنها تنسخ بعضا وتفسر بعضا ، فالمسيح رسول نسخ بعض التوراة وهو ما نص على نسخه وأما غيره فباق على أحكام التوراة فهو في معظمها مبين ومذكر ومفسر كمن سبقه من أنبياء بني إسرائيل مثل أشعياء وأرمياء وزكرياء الأول ودانيال وأضرابهم ولا يخالف هذا النوع نسخ أحكام شريعة واحدة إلا بكونه بواسطة رسول ثان.

الثالث مجيء شريعة بعد أخرى بحيث تبطل الثانية الأولى إبطالا عاما بحيث تعد تلك الشريعة باطلة سواء في ذلك الأحكام التي نصت الشريعة الثانية فيها بشيء يخالف ما في الأولى أم فيما سكتت الشريعة الثانية عنه وهذا هو الإسلام بالنسبة لما تقدمه من الشرائع فإنه رفع الشرائع كلها بحيث لا يجوز لأحد من المسلمين أن يتلقى شيئا من الشرائع السالفة فيما لم يتكلم الإسلام فيه بشيء بل يأخذ أحكام ذلك بالاستنباط والقياس وغير ذلك من طرق أصول الإسلام ، وقد اختلف في أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ ، لكن ذلك الخلاف ناظر إلى دليل آخر وهو قوله تعالى : (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٩٠].

وقوله : (أَوْ نُنْسِها) قرأه نافع وابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وأبو جعفر وخلف (ننسها) بنون مضمومة في أوله وبسين مكسورة ثم هاء. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو (ننسأها) بنون مفتوحة في أوله وبسين مفتوحة وبعدها همزة ساكنة ثم هاء فعلى قراءة ترك الهمز فهو من النسيان والهمزة للتعدية ومفعوله محذوف للعموم أي ننس الناس إياها

٦٤٠