تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٣٥

الزمخشري وفي أكثر ما رجح به نظر سنذكره في مواضعه.

وقد سئل ابن رشد عما يقع في كتب المفسرين والمعربين من اختيار إحدى القراءتين المتواترتين وقولهم هذه القراءة أحسن ، أذاك صحيح أم لا؟ فأجاب : أما ما سألت عنه مما يقع في كتب المفسرين والمعربين من تحسين بعض القراءات واختيارها على بعض لكونها أظهر من جهة الإعراب وأصح في النقل ، وأيسر في اللفظ فلا ينكر ذلك ، كرواية ورش التي اختارها الشيوخ المتقدمون عندنا (أي بالأندلس) فكان الإمام في الجامع لا يقرأ إلا بها لما فيها من تسهيل النبرات وترك تحقيقها في جميع المواضع ، وقد تؤول ذلك فيما روي عن مالك من كراهية النبر في القرآن في الصلاة.

وفي كتاب الصلاة الأول من «العتبية» : سئل مالك عن النبر في القرآن فقال : إني لأكرهه وما يعجبني ذلك ، قال ابن رشد في «البيان» يعني بالنبر هاهنا إظهار الهمزة في كل موضع على الأصل فكره ذلك واستحب فيه التسهيل على رواية ورش لما جاء من أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم تكن لغته الهمز (أي إظهار الهمز في الكلمات المهموزة بل كان ينطق بالهمزة مسهلة إلى أحرف علة من جنس حركتها ، مثل : (يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) [الكهف : ٩٤] بالألف دون الهمز ، ومثل : الذيب في (الذِّئْبُ) [يوسف : ١٣] ومثل : مؤمن في (مُؤْمِنٌ) [البقرة : ٢٢١]. ثم قال : ولهذا المعنى كان العمل جاريا في قرطبة قديما أن لا يقرأ الإمام بالجامع في الصلاة إلا برواية ورش ، وإنما تغير ذلك وتركت المحافظة عليه منذ زمن قريب ا ه.

وهذا خلف بن هشام البزّار راوي حمزة ، قد اختار لنفسه قراءة من بين قراءات الكوفيين ، ومنهم شيخه حمزة بن حبيب وميزها قراءة خاصة فعدت عاشرة القراءات العشر وما هي إلا اختيار من قراءات الكوفيين ، ولم يخرج عن قراءة حمزة والكسائي وأبي بكر عن عاصم إلا في قراءة قوله تعالى : (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ) [الأنبياء : ٩٥] قرأها بالألف بعد الراء مثل حفص والجمهور.

فإن قلت : هل يفضي ترجيح بعض القراءات على بعض إلى أن تكون الراجحة أبلغ من المرجوحة فيفضي إلى أن المرجوحة أضعف في الإعجاز؟

قلت : حد الإعجاز مطابقة الكلام لجميع مقتضى الحال ، وهو لا يقبل التفاوت ، ويجوز مع ذلك أن يكون بعض الكلام المعجز مشتملا على لطائف وخصوصيات تتعلق بوجوه الحسن كالجناس والمبالغة ، أو تتعلق بزيادة الفصاحة ، أو بالتفنن مثل : (أَمْ تَسْأَلُهُمْ

٦١

خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ) [المؤمنون : ٧٢]. على أنه يجوز أن تكون إحدى القراءات نشأت عن ترخيص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للقارئ أن يقرأ بالمرادف تيسيرا على الناس كما يشعر به حديث تنازع عمر مع هشام بن حكيم ، فتروى تلك القراءة للخلف فيكون تمييز غيرها بسبب أن المتميزة هي البالغة البلاغة وأن الأخرى توسعة ورخصة ، ولا يعكر ذلك على كونها أيضا بالغة الطرف الأعلى من البلاغة وهو ما يقرب من حد الإعجاز. وأما الإعجاز فلا يلزم أن يتحقق في كل آية من آي القرآن لأن التحدي إنما وقع بسورة مثل سور القرآن ، وأقصر سورة ثلاث آيات فكل مقدار ينتظم من ثلاث آيات من القرآن يجب أن يكون مجموعه معجزا. تنبيه : أنا أقتصر في هذا التفسير على التعرض لاختلاف القراءات العشر المشهورة خاصة في أشهر روايات الراوين عن أصحابها لأنها متواترة ، وإن كانت القراءات السبع قد امتازت على بقية القراءات بالشهرة بين المسلمين في أقطار الإسلام. وأبني أول التفسير على قراءة نافع برواية عيسى ابن مينا المدني الملقب بقالون لأنها القراءة المدنية إماما وراويا ولأنها التي يقرأ بها معظم أهل تونس. ثم أذكر خلاف بقية القراء العشرة خاصة. والقراءات التي يقرأ بها اليوم في بلاد الإسلام من هذه القراءات العشر ، هي قراءة نافع برواية قالون في بعض القطر التونسي وبعض القطر المصري وفي ليبيا ، وبرواية ورش في بعض القطر التونسي وبعض القطر المصري وفي جميع القطر الجزائري وجميع المغرب الأقصى ، وما يتبعه من البلاد والسودان. وقراءة عاصم برواية حفص عنه في جميع الشرق من العراق والشام وغالب البلاد المصرية والهند وباكستان وتركيا والأفغان. وبلغني أن قراءة أبي عمرو البصري يقرأ بها في السودان المجاور مصر.

٦٢

المقدمة السابعة

قصص القرآن

امتن الله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ) [يوسف : ٣] فعلمنا من قوله (أَحْسَنَ) ، أن القصص القرآنية لم تسق مساق الإحماض (١) وتجديد النشاط ، وما يحصل من استغراب مبلغ تلك الحوادث من خير أو شر ؛ لأن غرض القرآن أسمى وأعلى من هذا ، ولو كان من هذا لساوى كثيرا من قصص الأخبار الحسنة الصادقة فما كان جديرا بالتفضيل على كل جنس القصص.

والقصة : الخبر عن حادثة غائبة عن المخبر بها ، فليس ما في القرآن من ذكر الأحوال الحاضرة في زمن نزوله قصصا مثل ذكر وقائع المسلمين مع عدوهم. وجمع القصة قصص بكسر القاف ، وأما القصص بفتح القاف فاسم للخبر المقصوص ، وهو مصدر سمى به المفعول ، يقال : قص على فلان إذا أخبره بخبر.

وأبصر أهل العلم أن ليس الغرض من سوقها قاصرا على حصول العبرة والموعظة مما تضمنته القصة من عواقب الخير أو الشر ، ولا على حصول التنويه بأصحاب تلك القصص في عناية الله بهم أو التشويه بأصحابها فيما لقوه من غضب الله عليهم كما تقف عنده أفهام القانعين بظواهر الأشياء وأوائلها ، بل الغرض من ذلك أسمى وأجل. إن في تلك القصص لعبرا جمة وفوائد للأمة ؛ ولذلك نرى القرآن يأخذ من كل قصة أشرف مواضيعها ويعرض عما عداه ليكون تعرضه للقصص منزها عن قصد التفكه بها ، من أجل ذلك كله لم تأت القصص في القرآن متتالية متعاقبة في سورة أو سور كما يكون كتاب تاريخ ، بل كانت مفرقة موزعة على مقامات تناسبها ، لأن معظم الفوائد الحاصلة منها لها علاقة بذلك التوزيع ، هو ذكر وموعظة لأهل الدين فهو بالخطابة أشبه. وللقرآن أسلوب

__________________

(١) من أحمض القوم : أفاضوا فيما يؤنسهم.

٦٣

خاص هو الأسلوب المعبر عنه بالتذكير وبالذكر في آيات يأتي تفسيرها ؛ فكان أسلوبه قاضيا للوطرين وكان أجل من أسلوب القصاصين في سوق القصص لمجرد معرفتها لأن سوقها في مناسباتها يكسبها صفتين : صفة البرهان وصفة التبيان ونجد من مميزات قصص القرآن نسج نظمها على أسلوب الإيجاز ليكون شبهها بالتذكير أقوى من شبهها بالقصص ، مثال ذلك قوله تعالى في سورة القلم : (فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ) فقد حكيت مقالته هذه في موقع تذكيره أصحابه بها لأن ذلك ممن حكايتها ولم تحك أثناء قوله : (إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ) [القلم : ١٧] وقوله : (فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ) [القلم : ٢٢].

ومن مميزاتها طي ما يقتضيه الكلام الوارد كقوله تعالى في سورة يوسف (٢٥) : (وَاسْتَبَقَا الْبابَ) فقد طوي ذكر حضور سيّدها وطرقه الباب وإسراعهما إليه لفتحه ، فإسراع يوسف ليقطع عليها ما توسمه فيها من المكر به لتري سيدها أنّه بها سوءا ، وإسراعها هي لضد ذلك لتكون البادئة بالحكاية فتقطع على يوسف ما توسمته فيه من شكاية ، فدلّ على ذلك ما بعده من قوله : (وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً) [يوسف : ٢٥] الآيات.

ومنها أنّ القصص بثت بأسلوب بديع إذ ساقها في مظان الاتعاظ بها مع المحافظة على الغرض الأصلي الذي جاء به القرآن من تشريع وتفريع فتوفرت من ذلك عشر فوائد :

الفائدة الأولى : أن قصارى علم أهل الكتاب في ذلك العصر كان معرفة أخبار الأنبياء وأيامهم وأخبار من جاورهم من الأمم ، فكان اشتمال القرآن على تلك القصص التي لا يعلمها إلا الراسخون في العلم من أهل الكتاب تحديا عظيما لأهل الكتاب ، وتعجيزا لهم بقطع حجتهم على المسلمين ، قال تعالى : (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا) [هود : ٤٩] فكان حملة القرآن بذلك أحقّاء بأن يوصفوا بالعلم الذي وصفت به أحبار اليهود ، وبذلك انقطعت صفة الأمية عن المسلمين في نظر اليهود ، وانقطعت ألسنة المعرّضين بهم بأنهم أمة جاهلية ، وهذه فائدة لم يبينها من سلفنا من المفسرين.

الفائدة الثانية : أن من أدب الشريعة معرفة تاريخ سلفها في التشريع من الأنبياء بشرائعهم فكان اشتمال القرآن على قصص الأنبياء وأقوامهم تكليلا لهامة التشريع الإسلامي

٦٤

بذكر تاريخ المشرعين ، قال تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) [آل عمران : ١٤٦] الآية. وهذه فائدة من فتوحات الله لنا أيضا. وقد رأيت من أسلوب القرآن في هذا الغرض أنه لا يتعرض إلا إلى حال أصحاب القصة في رسوخ الإيمان وضعفه وفيما لذلك من أثر عناية إلهية أو خذلان. وفي هذا الأسلوب لا تجد في ذكر أصحاب هذه القصص بيان أنسابهم أو بلدانهم إذ العبرة فيما وراء ذلك من ضلالهم أو إيمانهم. وكذلك مواضع العبرة في قدرة الله تعالى في قصة أهل الكهف : (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً) إلى قوله : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً) الآيات فلم يذكر أنهم من أي قوم وفي أي عصر. وكذلك قوله فيها : (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ) [الكهف : ١٩] فلم يذكر أين مدينة هي لأن موضع العبرة هو انبعاثهم ووصول رسولهم إلى مدينة إلى قوله : (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) [الكهف : ٢١].

الفائدة الثالثة : ما فيها من فائدة التاريخ من معرفة ترتب المسببات على أسبابها في الخير والشر والتعمير والتخريب لتقتدي الأمة وتحذر ، قال تعالى : (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا) [النمل : ٥٢] وما فيها من فائدة ظهور المثل العليا في الفضيلة وزكاء النفوس أو ضد ذلك.

الفائدة الرابعة : ما فيها من موعظة المشركين بما لحق الأمم التي عاندت رسلها ، وعصت أوامر ربها حتى يرعووا عن غلوائهم ، ويتعظوا بمصارع نظرائهم وآبائهم ، وكيف يورث الأرض أولياءه وعباده الصالحين قال تعالى : (فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الأعراف : ١٧٦] وقال : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) [يوسف : ١١١] وقال :

(وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) [الأنبياء : ١٠٥] وهذا في القصص التي يذكر فيها ما لقيه المكذبون للرسل كقصص قوم نوح وعاد وثمود وأهل الرّسّ وأصحاب الأيكة.

الفائدة الخامسة : أن في حكاية القصص سلوك أسلوب التوصيف والمحاورة وذلك أسلوب لم يكن معهودا للعرب فكان مجيؤه في القرآن ابتكار أسلوب جديد في البلاغة العربية شديد التأثير في نفوس أهل اللسان ، وهو من إعجاز القرآن ؛ إذ لا ينكرون أنه أسلوب بديع ولا يستطيعون الإتيان بمثله إذ لم يعتادوه ، انظر إلى حكاية أحوال الناس في الجنة والنار والأعراف في سورة الأعراف ، وقد تقدم التنبيه عليه في المقدمة الخامسة

٦٥

فكان من مكملات عجز العرب عن المعارضة.

الفائدة السادسة : أن العرب بتوغل الأمية والجهل فيهم أصبحوا لا تهتدي عقولهم إلا بما يقع تحت الحس ، أو ما ينتزع منه ففقدوا فائدة الاتعاظ بأحوال الأمم الماضية وجهلوا معظمها وجهلوا أحوال البعض الذي علموا أسماءه فأعقبهم ذلك إعراضا عن السعي لإصلاح أحوالهم بتطهيرها مما كان سبب هلاك من قبلهم ، فكان في ذكر قصص الأمم توسيع لعلم المسلمين بإحاطتهم بوجود الأمم ومعظم أحوالها ، قال مشيرا إلى غفلتهم قبل الإسلام : (وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ) [إبراهيم : ٤٥].

الفائدة السابعة : تعويد المسلمين على معرفة سعة العالم وعظمة الأمم والاعتراف لها بمزاياها حتى تدفع عنهم وصمة الغرور كما وعظهم قوله تعالى عن قوم عاد : (وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً) [فصلت : ١٥] فإذا علمت الأمة جوامع الخيرات وملائمات حياة الناس تطلبت كل ما ينقصها مما يتوقف عليه كمال حياتها وعظمتها.

الفائدة الثامنة : أن ينشئ في المسلمين همة السعي إلى سيادة العالم كما ساده أمم من قبلهم ليخرجوا من الخمول الذي كان عليه العرب إذ رضوا من العزة باغتيال بعضهم بعضا فكان منتهى السيد منهم أن يغنم صريمة ، ومنتهى أمل العامي أن يرعى غنيمة ، وتقاصرت هممهم عن تطلب السيادة حتى آل بهم الحال إلى أن فقدوا عزتهم فأصبحوا كالأتباع للفرس والروم ، فالعراق كله واليمن كله وبلاد البحرين تبع لسيادة الفرس ، والشام ومشارفه تبع لسيادة الروم ، وبقي الحجاز ونجد لا غنية لهم عن الاعتزاز بملوك العجم والروم في رحلاتهم وتجارتهم.

الفائدة التاسعة : معرفة أن قوة الله تعالى فوق كل قوة ، وأن الله ينصر من ينصره ، وأنهم إن أخذوا بوسيلتي البقاء : من الاستعداد والاعتماد ؛ سلموا من تسلط غيرهم عليهم. وذكر العواقب الصالحة لأهل الخير. وكيف ينصرهم الله تعالى كما في قوله : (فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) [الأنبياء : ٨٧ ، ٨٨].

الفائدة العاشرة : أنها يحصل منها بالتبع فوائد في تاريخ التشريع والحضارة وذلك يفتق أذهان المسلمين للإلمام بفوائد المدنية كقوله تعالى : (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [يوسف : ٧٦] في قراءة من قرأ (دين) بكسر

٦٦

الدال ، أي في شرع فرعون يومئذ ، فعلمنا أن شريعة القبط كانت تخول استرقاق السارق. وقوله : (قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ) [يوسف : ٧٩] يدل على أن شريعتهم ما كانت تسوغ أخذ البدل في الاسترقاق ، وأن الحر لا يملك إلا بوجه معتبر. ونعلم من قوله : (وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) [الشعراء : ٣٦] ، (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ) [الشعراء : ٥٣] أن نظام مصر في زمن موسى إرسال المؤذنين والبريح بالإعلام بالأمور المهمة. ونعلم من قوله : (قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ) [يوسف : ١٠] أنهم كانوا يعلمون وجود الأجباب في الطرقات وهي آبار قصيرة يقصدها المسافرون للاستقاء منها. وقول يعقوب : (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) [يوسف : ١٣] أن بادية الشام إلى مصر كانت توجد بها الذئاب المفترسة وقد انقطعت منها اليوم.

وفيما ذكرنا ما يدفع عنكم هاجسا رأيته خطر لكثير من أهل اليقين والمتشككين وهو أن يقال : لما ذا لم يقع الاستغناء بالقصة الواحدة في حصول المقصود منها؟ وما فائدة تكرار القصة في سور كثيرة؟ وربما تطرق هذا الهاجس ببعضهم إلى مناهج الإلحاد في القرآن. والذي يكشف لسائر المتحيرين حيرتهم على اختلاف نواياهم وتفاوت مداركهم أن القرآن ـ كما قلنا ـ هو بالخطب والمواعظ أشبه منه بالتآليف ، وفوائد القصص تجتلبها المناسبات فتذكر القصة كالبرهان على الغرض المسوقة هي معه ، فلا يعد ذكرها مع غرضها تكريرا لها لأن سبق ذكرها إنما كان في مناسبات أخرى. كما لا يقال للخطيب في قوم ، ثم دعته المناسبات إلى أن وقف خطيبا في مثل مقامه الأول فخطب بمعان تضمنتها خطبته السابقة : إنه أعاد الخطبة ، بل إنه أعاد معانيها ولم يعد ألفاظ خطبته. وهذا مقام تظهر فيه مقدرة الخطباء فيحصل من ذكرها هذا المقصد الخطابي. ثم تحصل معه مقاصد أخرى.

أحدها : رسوخها في الأذهان بتكريرها.

الثاني : ظهور البلاغة ، فإن تكرير الكلام في الغرض الواحد من شأنه أن يثقل على البليغ فإذا جاء اللاحق منه إثر السابق مع تفنن في المعاني باختلاف طرق أدائها من مجاز أو استعارات أو كناية. وتفنن الألفاظ وتراكيبها بما تقتضيه الفصاحة وسعة اللغة باستعمال المترادفات مثل : (وَلَئِنْ رُدِدْتُ) [الكهف : ٣٦] ، (وَلَئِنْ رُجِعْتُ) [فصلت : ٥٠]. وتفنن المحسنات البديعية المعنوية واللفظية ونحو ذلك كان من الحدود القصوى في البلاغة ،

٦٧

فذلك وجه من وجوه الإعجاز.

الثالث : أن يسمع اللاحقون من المؤمنين في وقت نزول القرآن ذكر القصة التي كانت فاتتهم مماثلتها قبل إسلامهم أو في مدة مغيبهم ، فإن تلقي القرآن عند نزوله أوقع في النفوس من تطلبه من حافظيه.

الرابع : أن جمع المؤمنين جميع القرآن حفظا كان نادرا بل تجد البعض يحفظ بعض السور فيكون الذي حفظ إحدى السور التي ذكرت فيها قصة معينة عالما بتلك القصة. كعلم من حفظ سورة أخرى ذكرت فيها تلك القصة.

الخامس : أن تلك القصص تختلف حكاية القصة الواحدة منها بأساليب مختلفة ويذكر في بعض حكاية القصة الواحدة ما لم يذكر في بعضها الآخر وذلك لأسباب :

منها تجنب التطويل في الحكاية الواحدة فيقتصر على موضع العبرة منها في موضع ويذكر آخر في موضع آخر فيحصل من متفرق مواضعها في القرآن كمال القصة أو كمال المقصود منها ، وفي بعضها ما هو شرح لبعض.

ومنها أن يكون بعض القصة المذكور في موضع مناسبا للحالة المقصودة من سامعيها ، ومن أجل ذلك تجد ذكرا لبعض القصة في موضع وتجد ذكرا لبعض آخر منها في موضع آخر لأن فيما يذكر منها مناسبة للسياق الذي سيقت له ، فإنها تارة تساق إلى المشركين ، وتارة إلى أهل الكتاب ، وتارة تساق إلى المؤمنين ، وتارة إلى كليهما ، وقد تساق للطائفة من هؤلاء في حالة خاصة ، ثم تساق إليها في حالة أخرى. وبذلك تتفاوت بالإطناب والإيجاز على حسب المقامات ، ألا ترى قصة بعث موسى كيف بسطت في سورة طه وسورة الشعراء ، وكيف أوجزت في آيتين في سورة الفرقان [٣٥ ، ٣٦] : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً).

ومنها أنه قد يقصد تارة التنبيه على خطأ المخاطبين فيما ينقلونه من تلك القصة ، وتارة لا يقصد ذلك.

فهذه تحقيقات سمحت بها القريحة ، وربما كانت بعض معانيها في كلام السابقين غير صريحة.

٦٨

المقدمة الثامنة

في اسم القرآن وآياته وسوره وترتيبها وأسمائها

هذا غرض له مزيد اتصال بالقرآن وله اتصال متين بالتفسير ؛ لأن ما يتحقق فيه ينتفع به في مواضع كثيرة من فواتح السور ، ومناسبة بعضها لبعض فيغني المفسر عن إعادته.

معلوم لك أن موضع علم التفسير هو القرآن لتبيان معانيه وما يشتمل عليه من إرشاد وهدي وآداب وإصلاح حال الأمة في جماعتها وفي معاملتها مع الأمم التي تخالطها بفهم دلالته اللغوية والبلاغية ، فالقرآن هو الكلام الذي أوحاه الله تعالى كلاما عربيا إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بواسطة جبريل على أن يبلّغه الرسول إلى الأمة باللفظ الذي أوحى به إليه للعمل به ولقراءة ما يتيسر لهم أن يقرءوه منه في صلواتهم وجعل قراءته عبادة.

وجعله كذلك آية على صدق الرسول في دعواه الرسالة عن الله إلى الخلق كافة بأن تحدّى منكريه والمترددين فيه من العرب وهم المخاطبون به الأولون بأنهم لا يستطيعون معارضته ، ودعاهم إليها فلم يفعلوا. دعاهم أوّل الأمر إلى الإتيان بعشر سور مثله فقال : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) [هود : ١٣ ، ١٤]. ثم استنزلهم إلى أهون من ذلك عليهم فقال : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ) [يونس : ٣٨ ، ٣٩]. ثم جاء بأصرح من ذلك وأنذرهم بأنهم ليسوا بآتين بذلك فقال في سورة البقرة [٢٣ ، ٢٤] : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ) الآية. وقال : (وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) [يونس : ٢٠] (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [العنكبوت : ٥١].

وقد بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك بقوله : «ما من الأنبياء نبيء إلا أوتي من الآيات ما مثله آمن

٦٩

عليه البشر ، وإنّما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إليّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة» وفي هذا الحديث معان جليلة ليس هذا مقام بيانها وقد شرحتها في تعليقي على «صحيح البخاري» المسمى : «النظر الفسيح عند مضايق الأنظار في الجامع الصحيح».

فالقرآن اسم للكلام الموحى به إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو جملة المكتوب في المصاحف المشتمل على مائة وأربع عشرة سورة ، أولاها الفاتحة وأخراها سورة الناس. صار هذا الاسم علما على هذا الوحي. وهو على وزن فعلان وهي زنة وردت في أسماء المصادر مثل غفران ، وشكران وبهتان ، ووردت زيادة النون في أسماء أعلام مثل عثمان وحسان وعدنان. واسم قرآن صالح للاعتبارين لأنه مشتق من القراءة لأن أول ما بدئ به الرسول من الوحي : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق : ١]. وقال تعالى : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) [الإسراء : ١٠٦] فهمزة قرآن أصلية ووزنه فعلان ولذلك اتفق أكثر القراء على قراءة لفظ قرآن مهموزا حيثما وقع في التنزيل ولم يخالفهم إلا ابن كثير قرأه بفتح الراء بعدها ألف على لغة تخفيف المهموز وهي لغة حجازية ، والأصل توافق القراءات في مدلول اللفظ المختلف في قراءته. وقيل هو قران بوزن فعال ، من القرن بين الأشياء أي الجمع بينها لأنه قرنت سوره بعضها ببعض وكذلك آياته وحروفه وسمي كتاب الله قرآنا كما سمي الإنجيل الإنجيل ، وليس مأخوذا من قرأت ، ولهذا يهمز قرأت ولا يهمز القرآن فتكون قراءة ابن كثير جارية على أنه اسم آخر لكتاب الله على هذا الوجه. ومن الناس من زعم أن قران جمع قرينة أي اسم جمع ، إذ لا يجمع مثل قرينة على وزن فعال في التكثير فإن الجموع الواردة على وزن فعال محصورة ليس هذا منها ، والقرينة العلامة ، قالوا لأن آياته يصدّق بعضها بعضا فهي قرائن على الصدق.

فاسم القرآن هو الاسم الذي جعل علما على الوحي المنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يسبق أن أطلق على غيره قبله ، وهو أشهر أسمائه وأكثرها ورودا في آياته وأشهرها دورانا على ألسنة السلف.

وله أسماء أخرى هي في الأصل أوصاف أو أجناس أنهاها في «الإتقان» إلى نيف وعشرين. والذي اشتهر إطلاقه عليه منها ستة : التنزيل ، والكتاب ، والفرقان ، والذّكر ، والوحي ، وكلام الله.

فأما الفرقان فهو في الأصل اسم لما يفرق به بين الحق والباطل وهو مصدر ، وقد

٧٠

وصف يوم بدر بيوم الفرقان وأطلق على القرآن في قوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ) [الفرقان : ١] وقد جعل هذا الاسم علما على القرآن بالغلبة مثل التوراة على الكتاب الذي جاء به موسى والإنجيل على الوحي الذي أنزل على عيسى قال تعالى : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ)(١) إلى قوله : (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) [آل عمران : ٣ ، ٤] فوصفه أولا بالكتاب وهو اسم الجنس العام ثم عبّر عنه باسم الفرقان عقب ذكر التوراة والإنجيل وهما علمان ليعلم أن الفرقان علم على الكتاب الذي أنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ووجه تسميته الفرقان أنه امتاز عن بقية الكتب السماوية بكثرة ما فيه من بيان التفرقة بين الحق والباطل ، فإنّ القرآن يعضد هديه بالدلائل والأمثال ونحوها ، وحسبك ما اشتمل عليه من بيان التوحيد وصفات الله مما لا تجد مثله في التوراة والإنجيل كقوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] وأذكر لك مثالا يكون تبصرة لك في معنى كون القرآن فرقانا وذلك أنه حكى صفة أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم الواردة في التوراة والإنجيل بقوله : (وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) الآيات من سورة الفتح (٢) [٢٩] فلما وصفهم القرآن قال : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) الآية ـ آل عمران [١١٠] فجمع في هاته الجملة جميع أوصاف الكمال.

وأما إن افتقدت ناحية آيات أحكامه فإنك تجدها مبرّأة من اللّبس وبعيدة عن تطرق الشبهة ، وحسبك قوله : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا) [النساء : ٣] فإنك لا تجد في التوراة جملة تفيد هذا المعنى بله ما في الإنجيل. وهذا من مقتضيات كون القرآن مهيمنا على الكتب السالفة في قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) [المائدة : ٤٨] وسيأتي بيان هذا في أول آل عمران.

وأما التنزيل فهو مصدر نزّل ، أطلق على المنزّل باعتبار أن ألفاظ القرآن أنزلت من السماء قال تعالى : (تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [فصلت : ٢ ، ٣] وقال: (تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) [السجدة : ٢].

__________________

(١) في المطبوعة : هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ [آل عمران : ٧] وهو سبق قلم من المصنف.

(٢) في المطبوعة : (محمد).

٧١

وأما الكتاب فأصله اسم جنس مطلق ومعهود. وباعتبار عهده أطلق على القرآن كثيرا قال تعالى : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) [البقرة : ٢] ، وقال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) [الكهف : ١] وإنما سمي كتابا لأن الله جعله جامعا للشريعة فأشبه التوراة لأنها كانت مكتوبة في زمن الرسول المرسل بها ، وأشبه الإنجيل الذي لم يكتب في زمن الرسول الذي أرسل به ولكنه كتبه بعض أصحابه وأصحابهم ، وأن الله أمر رسوله أن يكتب كلّ ما أنزل عليه منه ليكون حجة على الذين يدخلون في الإسلام ولم يتلقوه بحفظ قلوبهم. وفي هذه التسمية معجزة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن ما أوحى إليه سيكتب في المصاحف قال تعالى : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) [الأنعام : ٩٢] ، وقال : (وَهذا ذِكْرٌ)(١)(مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) [الأنبياء : ٥٠] وغير ذلك ، ولذلك اتخذ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أصحابه كتابا يكتبون ما أنزل إليه ومن أول ما ابتدئ نزوله ، ومن أولهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وزيد بن ثابت ، ومعاوية بن أبي سفيان. وقد وجد جميع ما حفظه المسلمون في قلوبهم على قدر ما وجدوه مكتوبا يوم أمر أبو بكر بكتابة المصحف.

وأما الذكر فقال تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل : ٤٤] أي لتبينه للناس ، وذلك أنه تذكير بما يجب على الناس اعتقاده والعمل به.

وأما الوحي فقال تعالى : (قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) [الأنبياء : ٤٥] ووجه هذه التسمية أنه ألقي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بواسطة الملك وذلك الإلقاء يسمى وحيا لأنه يترجم عن مراد الله تعالى فهو كالكلام المترجم عن مراد الإنسان ، ولأنه لم يكن تأليف تراكيبه من فعل البشر.

وأما كلام الله فقال تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) [التوبة : ٦].

واعلم أن أبا بكر رضي‌الله‌عنه لما أمر بجمع القرآن وكتابته كتبوه على الورق فقال للصحابة : التمسوا اسما ، فقال بعضهم سمّوه إنجيلا فكرهوا ذلك من أجل النصارى ، وقال بعضهم سمّوه السّفر فكرهوه من أجل أن اليهود يسمون التوراة السّفر ، فقال عبد الله بن مسعود : رأيت بالحبشة كتابا يدعونه المصحف فسمّوه مصحفا (يعني أنه رأى كتابا غير الإنجيل).

__________________

(١) في المطبوعة (كتاب).

٧٢

آيات القرآن

الآية : هي مقدار من القرآن مركب ولو تقديرا أو إلحاقا ، فقولي ولو تقديرا لإدخال قوله تعالى : (مُدْهامَّتانِ) [الرحمن : ٦٤] إذ التقدير هما مدهامتان ، ونحو : (وَالْفَجْرِ) [الفجر : ١] إذ التقدير أقسم بالفجر. وقولي أو إلحاقا : لإدخال بعض فواتح السور من الحروف المقطعة فقد عد أكثرها في المصاحف آيات ما عدا : الر ، والمر ، وطس ، وذلك أمر توقيفي وسنة متبعة ولا يظهر فرق بينها وبين غيرها.

وتسمية هذه الأجزاء آيات هو من مبتكرات القرآن ، قال تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) [آل عمران : ٧] وقال : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) [هود : ١]. وإنما سميت آية لأنها دليل على أنها موحى بها من عند الله إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنها تشتمل على ما هو من الحد الأعلى في بلاغة نظم الكلام ، ولأنها لوقوعها مع غيرها من الآيات جعلت دليلا على أن القرآن منزل من عند الله وليس من تأليف البشر إذ قد تحدّى النبي به أهل الفصاحة والبلاغة من أهل اللسان العربي فعجزوا عن تأليف مثل سورة من سوره. فلذا لا يحق لجمل التوراة والإنجيل أن تسمى آيات إذ ليست فيها هذه الخصوصية في اللغة العبرانية والآرامية ، وأما ما ورد في حديث رجم اليهوديّين اللذين زنيا من قول الراوي : «فوضع الذي نشر التوراة يده على آية الرجم» فذلك تعبير غلب على لسان الراوي على وجه المشاكلة التقديرية تشبيها بجمل القرآن ، إذ لم يجد لها اسما يعبّر به عنها.

وتحديد مقادير الآيات مروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد تختلف الرواية في بعض الآيات وهو محمول على التخيير في حد تلك الآيات التي تختلف فيها الرواية في تعيين منتهاها ومبتدإ ما بعدها ، فكان أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على علم من تحديد الآيات. قلت وفي الحديث الصحيح أن فاتحة الكتاب السبع المثاني أي السبع الآيات. وفي الحديث : «من قرأ العشر الخواتم من آخر آل عمران» ، وهي الآيات التي أولها : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ) [آل عمران : ١٩] إلى آخر السورة.

وكان المسلمون في عصر النبوءة وما بعده يقدّرون تارة بعض الأوقات بمقدار ما يقرأ القارئ عددا من الآيات كما ورد في حديث سحور النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه كان بينه وبين طلوع الفجر مقدار ما يقرأ القارئ خمسين آية.

قال أبو بكر ابن العربي : «وتحديد الآية من معضلات القرآن ، فمن آياته طويل

٧٣

وقصير ، ومنه ما ينقطع ومنه ما ينتهي إلى تمام الكلام» ، وقال الزمخشري : «الآيات علم توقيفي».

وأنا أقول : لا يبعد أن يكون تعيين مقدار الآية تبعا لانتهاء نزولها ، وأمارته وقوع الفاصلة.

والذي استحصلته أنّ الفواصل هي الكلمات التي تتماثل في أواخر حروفها أو تتقارب ، مع تماثل أو تقارب صيغ النطق بها وتكرّر في السورة تكررا يؤذن بأنّ تماثلها أو تقاربها مقصود من النظم في آياته كثيرة متماثلة ، تكثر وتقل ، وأكثرها قريب من الأسجاع في الكلام المسجوع. والعبرة فيها بتماثل صيغ الكلمات من حركات وسكون وهي أكثر شبها بالتزام ما لا يلزم في القوافي. وأكثرها جار على أسلوب الأسجاع.

والذي استخلصته أيضا أنّ تلك الفواصل كلّها منتهى آيات ولو كان الكلام الذي تقع فيه لم يتمّ فيه الغرض المسوق إليه ، وأنّه إذا انتهى الغرض المقصود من الكلام ولم تقع عند انتهائه فاصلة لا يكون منتهى الكلام نهاية آية إلّا نادرا كقوله تعالى : (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) [ص : ١] ، فهذا المقدار عد آية وهو لم ينته بفاصلة ، ومثله نادر ، فإنّ فواصل تلك الآيات الواقعة في أول السورة أقيمت على حرف مفتوح بعد ألف مدّ بعدها حرف ، مثل : شقاق ، مناص ، كذّاب ، عجاب.

وفواصل بنيت على حرف مضموم مشبع بواو ، أو على حرف مكسور مشبع بياء ساكنة ، وبعد ذلك حرف ، مثل : (أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) [ص : ٦٨] (إِذْ يَسْتَمِعُونَ) [الإسراء : ٤٧] ، (نَذِيرٌ مُبِينٌ) [الأعراف : ١٨٤] ، (مِنْ طِينٍ) [الأنعام : ٢].

فلو انتهى الغرض الذي سيق له الكلام ، وكانت فاصلة تأتي بعد انتهاء الكلام تكون الآية غير منتهية ولو طالت ، كقوله تعالى : (قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ) إلى قوله : (وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ) [ص : ٢٤] ، فهذه الجمل كلّها عدّت آية واحدة.

واعلم أن هذه الفواصل من جملة المقصود من الإعجاز لأنّها ترجع إلى محسنات الكلام وهي من جانب فصاحة الكلام ، فمن الغرض البلاغي الوقوف عند الفواصل لتقع في الأسماع فتتأثّر نفوس السامعين بمحاسن ذلك التماثل ، كما تتأثر بالقوافي في الشعر وبالأسجاع في الكلام المسجوع. فإنّ قوله تعالى : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) بالقوافي (وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ) [غافر : ٧١] (فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) [غافر : ٧٢] (ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ

٧٤

أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ) [غافر : ٧٣] (مِنْ دُونِ اللهِ) إلى آخر الآيات. فقوله : (فِي الْحَمِيمِ) متصل بقوله : (يُسْحَبُونَ) وقوله : (مِنْ دُونِ اللهِ) متّصل بقوله (تُشْرِكُونَ). وينبغي الوقف عند نهاية كلّ آية منها.

وقوله تعالى : (وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) آية. وقوله : (مِنْ دُونِهِ) ابتداء الآية بعدها في سورة هود [٥٤].

ألا ترى أن من الإضاعة لدقائق الشعر أن يلقيه ملقيه على مسامع الناس دون وقف عند قوافيه فإنّ ذلك إضاعة لجهود الشعراء ، وتغطية على محاسن الشعر ، وإلحاق للشعر بالنثر. وإنّ الفاء السجع دون وقوف عند أسجاعه هو كذلك لا محالة. ومن السذاجة أن ينصرف ملقي الكلام عن محافظة هذه الدقائق فيكون مضيعا لأمر نفيس أجهد فيه قائله نفسه وعنايته. والعلّة بأنّه يريد أن يبين للسامعين معاني الكلام ، فضول ، فإن البيان وظيفة ملقي درس لا وظيفة منشد الشعر ، ولو كان هو الشاعر نفسه.

وفي «الإتقان» عن أبي عمرو قال بعضهم : الوقف على رءوس الآي سنة. وفيه عن البيهقي في «شعب الإيمان» : الأفضل الوقف على رءوس الآيات وإن تعلّقت بما بعدها اتّباعا لهدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسنته ، وفي «سنن أبي داود» عن أم سلمة أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا قرأ قطّع قراءته آية آية يقول : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ). ثم يقف : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ). ثم يقف : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) [الفاتحة : ١ ـ ٣] ثم يقف.

على أن وراء هذا وجوب اتّباع المأثور من تحديد الآي كما قال ابن العربي والزمخشري ولكن ذلك لا يصدنا عن محاولة ضوابط تنفع الناظر وإن شذّ عنها ما شذّ. ألا ترى أنّ بعض الحروف المقطعة التي افتتحت بها بعض السور قد عدّ بعضها آيات مثل : الم ، المص ، كهيعص ، عسق ، طسم ، يس ، حم ، طه. ولم تعد : الر ، المر ، طس ، ص ، ق ، ن ، آيات.

وآيات القرآن متفاوتة في مقادير كلماتها فبعضها أطول من بعض ولذلك فتقدير الزمان بها في قولهم مقدار ما يقرأ القارئ خمسين آية مثلا ، تقدير تقريبي ، وتفاوت الآيات في الطول تابع لما يقتضيه مقام البلاغة من مواقع كلمات الفواصل على حسب ما قبلها من الكلام.

وأطول آية قوله تعالى : (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) إلى قوله :

٧٥

(وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) في سورة الفتح [٢٥] ، وقوله : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) إلى قوله : (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) في سورة البقرة [١٠٢].

ودونهما قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) إلى قوله : (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) في سورة النساء [٢٣].

وأقصر آية في عدد الكلمات قوله تعالى : (مُدْهامَّتانِ) في سورة الرحمن [٦٤] وفي عدد الحروف المقطعة قوله : (طه) [طه : ١].

وأما وقوف القرآن فقد لا تساير نهايات الآيات ، ولا ارتباط لها بنهايات الآيات فقد يكون في آية واحدة عدة وقوف كما في قوله تعالى : (إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ) (وقف) (وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) (وقف) (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ) (وقف ، ومنتهى الآية) في سورة فصلت [٤٧]. وسيأتي الكلام على الوقوف في آخر هذا المبحث.

فأما اختلف السلف فيه من عدد آيات القرآن بناء على الاختلاف في نهاية بعضها ، فقد يكون بعض ذلك عن اختلاف في الرواية كما قدمنا آنفا ، وقد يكون بعضه عن اختلاف الاجتهاد.

قال أبو عمرو الداني في كتاب «العدد» : أجمعوا على أن عدد آيات القرآن يبلغ ستة آلاف آية ، واختلفوا فيما زاد على ذلك ، فمنهم من لم يزد ، ومنهم من قال ومائتين وأربع آيات ، وقيل : وأربع عشرة ، وقيل وتسع عشرة ، وقيل : وخمسا وعشرين ، وقيل : وستا وثلاثين ، وقيل : وستمائة وستة عشرة.

قال المازري في «شرح البرهان» : قال مكّيّ بن أبي طالب : قد أجمع أهل العدد من أهل الكوفة والبصرة والمدينة والشام على ترك عد البسملة آية في أول كل سورة ، وإنما اختلفوا في عدها وتركها في سورة الحمد لا غير ، فعدّها آية الكوفيّ والمكيّ ولم يعدّها آية البصري ولا الشاميّ ولا المدنيّ. وفي «الإتقان» كلام في الضابط الأول من الضوابط غير محرر وهو آيل إلى ما قاله المازري ، ورأيت في عد بعض السور أن المصحف المدني عدّ آيها أكثر مما في الكوفي ، ولو عنوا عد البسملة لكان الكوفي أكثر.

وكان لأهل المدينة عددان ، يعرف أحدهما بالأول ويعرف الآخر بالأخير ، ومعنى ذلك أن الذين تصدوا لعد الآي بالمدينة من أئمة القراء هم : أبو جعفر يزيد بن القعقاع ،

٧٦

وأبو نصاح شيبة بن نصاح ، وأبو عبد الرحمن عبد الله بن حبيب السّلمي ، وإسماعيل بن جعفر بن كثير الأنصاري ، وقد اتفق هؤلاء الأربعة على عدد وهو المسمى بالعدد الأول ، ثم خالفهم إسماعيل بن جعفر بعدد انفرد به وهو الذي يقال له العدد الثاني ، وقد رأيت هذا ينسب إلى أيوب بن المتوكل البصري المتوفى سنة ٢٠٠.

ولأهل مكة عدد واحد ، وربما اتفقوا في عدد آي السورة المعينة ، وربما اختلفوا ، وقد يوجد اختلاف تارة في مصاحف الكوفة والبصرة والشام ، كما نجد في «تفسير المهدوي» وفي كتب علوم القرآن ، ولذلك تجد المفسرين يقولون في بعض السور عدد آياتها في المصحف الفلاني كذا. وقد كان عدد آي السور معروفا في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وروى محمد بن السائب عن ابن عباس أنه لما نزلت آخر آية وهي قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) [البقرة : ٢٨١] الآية قال جبريل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ضعها في رأس ثمانين ومائتين من سورة البقرة ، واستمر العمل بعدّ الآي في عصر الصحابة ، ففي «صحيح البخاري» عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة من سورة الأنعام [١٤٠] : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ) الآية.

ترتيب الآي

وأما ترتيب الآي بعضها عقب بعض فهو بتوقيف من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حسب نزول الوحي ، ومن المعلوم أن القرآن نزل منجّما آيات فربما نزلت عدة آيات متتابعة أو سورة كاملة ، كما سيأتي قريبا ، وذلك الترتيب مما يدخل في وجوه إعجازه من بداعة أسلوبه كما سيأتي في المقدمة العاشرة ، فلذلك كان ترتيب آيات السورة الواحدة على ما بلغتنا عليه متعينا بحيث لو غيّر عنه إلى ترتيب آخر لنزل عن حد الإعجاز الذي امتاز به ، فلم تختلف قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ترتيب آي السور على نحو ما هو في المصحف الذي بأيدي المسلمين اليوم ، وهو ما استقرت عليه رواية الحافظ من الصحابة عن العرضات الأخيرة التي كان يقرأ بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أواخر سني حياته الشريفة ، وحسبك أن زيد بن ثابت حين كتب المصحف لأبي بكر لم يخالف في ترتيب آي القرآن.

وعلى ترتيب قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصلوات الجهرية وفي عديد المناسبات حفظ القرآن كلّ من حفظه كلا أو بعضا ، وليس لهم معتمد في ذلك إلا ما عرفوا به من قوة الحوافظ ، ولم يكونوا يعتمدون على الكتابة ، وإنما كان كتّاب الوحي يكتبون ما أنزل من

٧٧

القرآن بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك بتوفيق إلهي. ولعل حكمة الأمر بالكتابة أن يرجع إليها المسلمون عند ما يحدث لهم شك أو نسيان ولكن ذلك لم يقع.

ولما جمع القرآن في عهد أبي بكر لم يؤثر عنهم أنهم ترددوا في ترتيب آيات من إحدى السور ولا أثر عنهم إنكار أو اختلاف فيما جمع من القرآن فكان موافقا لما حفظته حوافظهم ، قال ابن وهب : سمعت مالكا يقول : إنما ألّف القرآن على ما كانوا يسمعونه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقال ابن الأنباري كانت الآية تنزل جوابا لمستخبر يسأل ويوقف جبريل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على موضع الآية.

واتساق الحروف واتساق الآيات واتساق السور كله عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فلهذا كان الأصل في آي القرآن أن يكون بين الآية ولاحقتها تناسب في الغرض أو في الانتقال منه أو نحو ذلك من أساليب الكلام المنتظم المتصل ، ومما يدل عليه وجود حروف العطف المفيدة الاتصال مثل الفاء ولكن وبل (١) ومثل أدوات الاستثناء ، على أن وجود ذلك لا يعيّن اتصال ما بعده بما قبله في النزول ، فإنه قد اتّفق على أن قوله تعالى : (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) نزل بعد نزول ما قبله وما بعده من قوله : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ) إلى قوله : (وَأَنْفُسِهِمْ) [النساء : ٩٥] قال بدر الدين الزركشي : «قال بعض مشايخنا المحققين قد وهم من قال لا تطلب للآي الكريمة مناسبة والذي ينبغي في كل آية أن يبحث أول شيء عن كونها مكمّلة لما قبلها أو مستقلة ، ثم المستقلة ما وجه مناسبتها لما قبلها ففي ذلك علم جم».

على أنه يندر أن يكون موقع الآية عقب التي قبلها لأجل نزولها عقب التي قبلها من سورة هي بصدد النزول فيؤمر النبي بأن يقرأها عقب التي قبلها ، وهذا كقوله تعالى : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) [مريم : ٦٤] عقب قوله : (تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا) في سورة مريم [٦٣] ، فقد روي أن جبريل لبث أياما لم ينزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوحي ، فلما نزل بالآيات السابقة عاتبه النبي ، فأمر الله جبريل أن يقول : (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) فكانت وحيا نزل به جبريل ، فقرئ مع الآية التي نزل بأثرها ، وكذلك آية : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) [البقرة : ٢٦] عقب قوله تعالى : (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ) إلى قوله : (وَهُمْ فِيها خالِدُونَ)

__________________

(١) دون الواو لأنها تعطف الجمل والقصص ، وكذلك ثم لأنها قد تعطف الجمل.

٧٨

في سورة البقرة [٢٥] ، إذ كان ردّا على المشركين في قولهم : أما يستحي محمد أن يمثل بالذباب وبالعنكبوت؟ فلما ضرب لهم الأمثال بقوله : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) [البقرة : ١٧] تخلص إلى الرد عليهم فيما أنكروه من الأمثال. على أنه لا يعدم مناسبة ما ، وقد لا تكون له مناسبة ولكنه اقتضاه سبب في ذلك المكان كقوله تعالى : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) فهذه الآيات نزلت في سورة القيامة [١٦ ـ ١٩] في خلال توبيخ المشركين على إنكارهم البعث ووصف يوم الحشر وأهواله ، وليست لها مناسبة بذلك ولكن سبب نزولها حصل في خلال ذلك. روى البخاري عن ابن عباس قال : «كان رسول الله إذا نزل جبريل بالوحي كان مما يحرك به لسانه وشفتيه يريد أن يحفظه فأنزل الله الآية التي في : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) [القيامة : ١] ا ه ، فذلك يفيد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرك شفتيه بالآيات التي نزلت في أول السورة.

على أنه قد لا يكون في موقع الآية من التي قبلها ظهور مناسبة فلا يوجب ذلك حيرة للمفسر ؛ لأنه قد يكون سبب وضعها في موضعها أنها قد نزلت على سبب وكان حدوث سبب نزولها في مدة نزول السورة التي وضعت فيها فقرئت تلك الآية عقب آخر آية انتهى إليها النزول ، وهذا كقوله تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ) إلى قوله : (ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٢٣٨ ، ٢٣٩] بين تشريعات أحكام كثيرة في شئون الأزواج والأمهات ، وقد ذكرنا ذلك عند هذه الآية في التفسير.

وقد تكون الآية ألحقت بالسورة بعد تمام نزولها بأن أمر الرسول بوضعها عقب آية معينة كما تقدم آنفا عن ابن عباس في آية : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) [البقرة : ٢٨١] وكذلك ما روي في «صحيح مسلم» عن ابن مسعود أن أول سورة الحديد نزل بمكة ، ولم يختلف المفسرون في أن قوله تعالى : (وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) [الحديد : ١٠] إلى آخر السورة نزل بالمدينة فلا يكون ذلك إلا لمناسبة بينها وبين آي تلك السورة والتشابه في أسلوب النظم ، وإنما تأخر نزول تلك الآية عن نزول أخواتها من سورتها لحكمة اقتضت تأخرها ترجع غالبا إلى حدوث سبب النزول كما سيأتي قريبا.

ولما كان تعيين الآيات التي أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بوضعها في موضع معين غير مروي إلا في عدد قليل ، كان حقا على المفسر أن يتطلب مناسبات لمواقع الآيات ما وجد إلى ذلك سبيلا موصلا وإلا فليعرض عنه ولا يكن من المتكلفين.

٧٩

إن الغرض الأكبر للقرآن هو إصلاح الأمة بأسرها ، فإصلاح كفارها بدعوتهم إلى الإيمان ونبذ العبادة الضالة واتباع الإيمان والإسلام ، وإصلاح المؤمنين بتقويم أخلاقهم وتثبيتهم على هداهم وإرشادهم إلى طرق النجاح وتزكية نفوسهم ولذلك كانت أغراضه مرتبطة بأحوال المجتمع في مدة الدعوة ، فكانت آيات القرآن مستقلا بعضها عن بعض ، لأن كل آية منه ترجع إلى غرض الإصلاح والاستدلال عليه ، وتكميله وتخليصه من تسرب الضلالات إليه فلم يلزم أن تكون آياته متسلسلة ، ولكن حال القرآن كحال الخطيب يتطرق إلى معالجة الأحوال الحاضرة على اختلافها وينتقل من حال إلى حال بالمناسبة ولذلك تكثر في القرآن الجمل المعترضة لأسباب اقتضت نزولها أو بدون ذلك ؛ فإن كل جملة تشتمل على حكمة وإرشاد أو تقويم معوج ، كقوله : (وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ) ـ إلى قوله ـ (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) [آل عمران : ٧٢ ، ٧٣] فقوله : (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) جملة معترضة.

وقوف القرآن

الوقف هو قطع الصوت عن الكلمة حصة يتنفس في مثلها المتنفس عادة ، والوقف عند انتهاء جملة من جمل القرآن قد يكون أصلا لمعنى الكلام فقد يختلف المعنى باختلاف الوقف مثل قوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) [آل عمران : ١٤٦] فإذا وقف عند كلمة (قاتَلَ) كان المعنى أن أنبياء كثيرين قتلهم قومهم وأعداؤهم ، ومع الأنبياء أصحابهم فما تزلزلوا لقتل أنبيائهم فكان المقصود تأييس المشركين من وهن المسلمين على فرض قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في غزوته على نحو قوله تعالى في خطاب المسلمين : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) [آل عمران : ١٤٤] الآية ، وإذا وصل قوله : (قاتَلَ) عند قوله (كَثِيرٌ) كان المعنى أنّ أنبياء كثيرين قتل معهم رجال من أهل التقوى فما وهن من بقي بعدهم من المؤمنين وذلك بمعنى قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً) إلى قوله : (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [آل عمران : ١٦٩ ، ١٧٠].

وكذلك قوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) [آل عمران : ٧] الآية ، فإذا وقف عند قوله : (إِلَّا اللهُ) كان المعنى أن المتشابه الكلام الذي لا يصل فهم الناس إلى تأويله وأن علمه ممّا اختصّ الله به مثل اختصاصه بعلم الساعة وسائر الأمور الخمسة وكان ما بعده ابتداء كلام يفيد أنّ الراسخين يفوضون فهمه إلى الله

٨٠