تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٣٥

مما بينه الله في القرآن.

فقوله : (اسْتَسْقى مُوسى) صريح في أن طالب السقي هو موسى وحده ، سأله من الله تعالى ولم يشاركه قومه في الدعاء لتظهر كرامته وحده ، كذلك كان استسقاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الجمعة على المنبر لما قال له الأعرابي «هلك الزرع والضرع فادع الله أن يسقينا» والحديث في «الصحيحين».

وقوله : (لِقَوْمِهِ) مؤذن بأن موسى لم يصبه العطش وذلك لأنه خرج في تلك الرحلة موقنا أن الله حافظهم ومبلغهم إلى الأرض المقدسة فلذلك وقاه الله أن يصيبه جوع أو عطش وكلل وكذلك شأن الأنبياء فقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في حديث وصال الصوم : «إني لست كهيئتكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني».

قال ابن عرفة في «تفسيره» أخذ المازري من هذه الآية جواز استسقاء المخصب للمجدب لأن موسى عليه‌السلام لم ينله ما نالهم من العطش ورده ابن عرفة بأنه رسولهم وهو معهم ا ه. وهو رد متمكن إذ ليس المراد باستسقاء المخصب للمجدب الأشخاص وإنما المراد استسقاء أهل بلد لم ينلهم الجدب لأهل بلد مجدبين والمسألة التي أشار إليها المازري مختلف فيها عندنا واختار اللخمي جواز استسقاء المخصب للمجدب لأنه من التعاون على البر ولأن دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة وقال المازري فيه نظر لأن السلف لم يفعلوه.

وعصا موسى هي التي ألقاها في مجلس فرعون فتلقفت ثعابين السحرة وهي التي كانت في يد موسى حين كلمه الله في برية سينا قبل دخوله مصر وقد رويت في شأنها أخبار لا يصح منها شيء فقيل إنها كانت من شجر آس الجنة أهبطها آدم معه فورثها موسى ولو كان هذا صحيحا لعده موسى في أوصافها حين قال : (هِيَ عَصايَ) [طه : ١٨] إلخ فإنه أكبر أوصافها.

والعصا بالقصر أبدا ومن قال عصاه بالهاء فقد لحن ، وعن الفراء أن أول لحن ظهر بالعراق قولهم عصاتي.

و (أل) في (الحجر) لتعريف الجنس أي اضرب أي حجر شئت ، أو للعهد مشيرا إلى حجر عرفه موسى بوحي من الله وهو حجر صخر في جبل حوريب الذي كلم الله منه موسى كما ورد في سفر الخروج وقد وردت فيه أخبار ضعيفة.

٥٠١

والفاء في قوله : (فَانْفَجَرَتْ) قالوا هي فاء الفصيحة ومعنى فاء الفصيحة أنها الفاء العاطفة إذ لم يصلح المذكور بعدها لأن يكون معطوفا على المذكور قبلها فيتعين تقدير معطوف آخر بينهما يكون ما بعد الفاء معطوفا عليه وهذه طريقة السكاكي فيها وهي المثلى. وقيل : إنها التي تدل على محذوف قبلها فإن كان شرطا فالفاء فاء الجواب وإن كان مفردا فالفاء عاطفة ويشملها اسم فاء الفصيحة وهذه طريقة الجمهور على الوجهين فتسميتها بالفصيحة لأنها أفصحت عن محذوف ، والتقدير في مثل هذا فضرب فانفجرت وفي مثل قول عباس بن الأحنف :

قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا

ثم القفول فقد جئنا خراسانا

أي إن كان القفول بعد الوصول إلى خراسان فقد جئنا خراسان أي فلنقفل فقد جئنا.

وعندي أن الفاء لا تعد فاء فصيحة إلا إذا لم يستقم عطف ما بعدها على ما قبلها فإذا استقام فهي الفاء العاطفة والحذف إيجاز وتقدير المحذوف لبيان المعنى وذلك لأن الانفجار مترتب على قوله تعالى لموسى : (اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ) لظهور أن موسى ليس ممن يشك في امتثاله بل ولظهور أن كل سائل أمرا إذا قيل له افعل كذا أن يعلم أن ما أمر به هو الذي فيه جوابه كما يقول لك التلميذ ما حكم كذا؟ فتقول افتح كتاب «الرسالة» في باب كذا ، ومنه قوله تعالى الآتي : (اهْبِطُوا مِصْراً) [البقرة : ٦١] وأما تقدير الشرط هنا أي فإن ضربت فقد انفجرت إلخ فغير بيّن ، ومن العجب ذكره في «الكشاف».

وقوله : (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) قال العكبري وأبو حيان : إنه استئناف ، وهما يريدان الاستئناف البياني ولذلك فصل ، كأن سائلا سأل عن سبب انقسام الانفجار إلى اثنتي عشرة عينا فقيل قد علم كل سبط مشربهم ، والأظهر عندي أنه حال جردت عن الواو لأنه خطاب لمن يعقلون القصة فلا معنى لتقدير سؤال. والمراد بالأناس كل ناس سبط من الأسباط.

وقوله : (كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ) مقول قول محذوف. وقد جمع بين الأكل والشرب وإن كان الحديث على السقي لأنه قد تقدمه إنزال المن والسلوى ، وقيل هنالك : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) [البقرة : ٥٧] فلما شفع ذلك بالماء اجتمع المنتان.

وقوله : (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) من جملة ما قيل لهم ووجه النهي عنه أن النعمة قد تنسي العبد حاجته إلى الخالق فيهجر الشريعة فيقع في الفساد قال تعالى : (كَلَّا

٥٠٢

إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) [العلق : ٦ ، ٧].

(وَلا تَعْثَوْا) مضارع عثي كرضي ، وهذه لغة أهل الحجاز وهي الفصحى فقوله : (وَلا تَعْثَوْا) بوزن لا ترضوا ومصدره عند أهل اللغة يقتضي أن يكون بوزن رضي ولم أر من صرح به وذكر له في «اللسان» مصادر العثيّ والعثيّ بضم العين وكسرها مع كسر الثاء فيهما وتشديد الياء فيهما ، والعثيان بفتحتين وفي لغة غير أهل الحجاز عثا يعثو مثل سما يسمو ولم يقرأ أحد من القراء : (وَلا تَعْثَوْا) بضم الثاء.

وهو أشد الفساد وقيل : هو الفساد مطلقا وعلى الوجهين يكون (مُفْسِدِينَ) حالا مؤكدة لعاملها. وفي «الكشاف» جعل معنى (لا تَعْثَوْا) لا تتمادوا في فسادكم فجعل المنهي عنه هو الدوام على الفعل وكأنه يأبى صحة الحال المؤكدة للجملة الفعلية فحاول المغايرة بين (لا تَعْثَوْا) وبين (مُفْسِدِينَ) تجنبا للتأكيد وذلك هو مذهب الجمهور لكن كثيرا من المحققين خالف ذلك ، واختار ابن مالك التفصيل فإن كان معنى الحال هو معنى العامل جعلها شبيهة بالمؤكدة لصاحبها كما هنا وخص المؤكدة لمضمون الجملة الواقعة بعد الاسمية نحو زيد أبوك عطوفا وقول سالم بن دارة اليربوعي :

أنا ابن دارة معروفا بها نسبي

وهل بدارة يا للناس من عار

[٦١] (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٦١))

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) هي معطوفة على الجمل قبلها بأسلوب واحد ، وإسناد القول إلى ضمير المخاطبين جار على ما تقدم في نظائره وما تضمنته الجمل قبلها هو من تعداد النعم عليهم محضة أو مخلوطة بسوء شكرهم وبترتب النعمة على ذلك الصنيع بالعفو ونحوه كما تقدم ، فالظاهر أن يكون مضمون هذه الجملة نعمة أيضا.

٥٠٣

وللمفسرين حيرة في الإشارة إليها فيؤخذ من كلام الفخر أن قوله تعالى : (اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) هو كالإجابة لما طلبوه يعني والإجابة إنعام ولو كان معلقا على دخول قرية من القرى ، ولا يخفى أنه بعيد جدا لأن إعطاءهم ما سألوه لم يثبت وقوعه. ويؤخذ من كلام المفسرين الذي صدر الفخر بنقله ووجهه عبد الحكيم أن سؤالهم تعويض المن والسلوى بالبقل ونحوه معصية لما فيه من كراهة النعمة التي أنعم الله بها عليهم إذ عبروا عن تناولها بالصبر ـ والصبر هو حمل النفس على الأمر المكروه ـ ويدل لذلك أنه أنكر عليهم بقوله : (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى) فيكون محل النعمة هو الصفح عن هذا الذنب والتنازع معهم إلى الإجابة بقوله : (اهْبِطُوا) ولا يخفى أن هذا بعيد إذ ليس في قوله (اهْبِطُوا) إنعام عليهم ولا في سؤالهم ما يدل على أنهم عصوا لأن طلب الانتقال من نعمة لغيرها لغرض معروف لا يعد معصية كما بينه الفخر.

فالذي عندي في تفسير الآية أنها انتقال من تعداد النعم المعقبة بنعم أخرى إلى بيان سوى اختيارهم في شهواتهم والاختيار دليل عقل اللبيب ، وإن كان يختار مباحا ، مع ما في صيغة طلبهم من الجفاء وقلة الأدب مع الرسول ومع المنعم إذ قالوا : (لَنْ نَصْبِرَ) فعبروا عن تناول المن والسلوى بالصبر المستلزم الكراهية وأتوا بما دل عليه (لن) في حكاية كلامهم من أنهم لا يتناولون المن والسلوى من الآن فإن (لن) تدل على استغراق النفي لأزمنة فعل (نَصْبِرَ) من أولها إلى آخرها وهو معنى التأبيد وفي ذلك إلجاء لموسى أن يبادر بالسؤال يظنون أنهم أيأسوه من قبول المن والسلوى بعد ذلك الحين فكان جواب الله لهم في هذه الطلبة أن قطع عنايته بهم وأهملهم ووكلهم إلى نفوسهم ولم يرهم ما عودهم من إنزال الطعام وتفجير العيون بعد فلق البحر وتظليل الغمام بل قال لهم : (اهْبِطُوا مِصْراً) فأمرهم بالسعي لأنفسهم وكفى بذلك تأديبا وتوبيخا.

قال الشيخ ابن عطاء الله رحمه‌الله : من جهل المريد أن يسيء الأدب فتؤخر العقوبة عنه فيقول لو كان في هذا إساءة لعوقبت فقد يقطع المدد عنه من حيث لا يشعر ولو لم يكن إلا منع المزيد ، وقد يقام مقام البعد من حيث لا يدري ، ولو لم يكن إلا أن يخليك وما تريد ، والمقصد من هذا أن ينتقل من تعداد النعم إلى بيان تلقيهم لها بالاستخفاف لينتقل من ذلك إلى ذكر انقلاب أحوالهم وأسباب خذلانهم وليس شيء من ذلك بمقتضى كون السؤال معصية فإن العقوبات الدنيوية وحرمان الفضائل ليست من آثار خطاب التكليف ولكنها من أشباه خطاب الوضع ترجع إلى ترتب المسببات على أسبابها وذلك من نواميس

٥٠٤

نظام العالم وإنما الذي يدل على كون المجزي عليه معصية هو العقاب الأخروي وبهذا زالت الحيرة واندفع كل إشكال وانتظم سلك الكلام.

وقد أشارت الآية إلى قصة ذكرتها التوراة مجملة منتثرة وهي أنهم لما ارتحلوا من برية سينا من «حوريب» ونزلوا في برية «فاران» في آخر الشهر الثاني من السنة الثانية من الخروج سائرين إلى جهات «حبرون» فقالوا : تذكرنا السمك الذي كنا نأكله في مصر مجانا (أي يصطادونه بأنفسهم) والقثاء والبطيخ والكراث والبصل والثوم وقد يبست نفوسنا فلا ترى إلا هذا المن فبكوا فغضب الله عليهم وسأله موسى العفو فعفا عنهم وأرسل عليهم السلوى فادخروا منها طعام شهر كامل.

والتعبير بلن المفيدة لتأبيد النفي في اللغة العربية لأداء معنى كلامهم المحكي هنا في شدة الضجر وبلوغ الكراهية منهم حدها الذي لا طاقة عنده ، فإن التأبيد يفيد استغراق النفي في جميع أجزاء الأبد أولها وآخرها فلن في نفي الأفعال مثل لا التبرئة (١) في نفي النكرات.

ووصفوا الطعام بواحد وإن كان هو شيئين المن والسلوى لأن المراد أنه متكرر كل يوم.

وجملة (يُخْرِجْ لَنا) إلى آخرها هي مضمون ما طلبوا منه أن يدعو به فهي في معنى مقول قول محذوف كأنه قيل قل لربك يخرج لنا ومقتضى الظاهر أن يقال أن يخرج لنا فعدل عن ذلك إلى الإتيان بفعل مجزوم في صورة جواب طلبهم إيماء إلى أنهم واثقون بأنه إن دعا ربه أجابه حتى كأنّ إخراج ما تنبت الأرض يحصل بمجرد دعاء موسى ربه ، وهذا أسلوب تكرر في القرآن مثل قوله : (قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ) [إبراهيم : ٣١]. و (قُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [الإسراء : ٥٣] وهو كثير فهو بمنزلة شرط وجزاء كأن قيل إن تدع ربك بأن يخرج لنا يخرج لنا ، وهذا بتنزيل سبب السبب منزلة السبب فجزم الفعل المطلوب في جواب الأمر بطلبه لله للدلالة على تحقق وقوعه لثقتهم بإجابة الله تعالى دعوة موسى ، وفيه تحريض على إيجاد ما علق عليه الجواب كأنه أمر في مكنته فإذا لم يفعل فقد شح عليهم بما فيه نفعهم.

والإخراج : الإبراز من الأرض ، و (من) الأولى تبعيضية والثانية بيانية أو الثانية أيضا

__________________

(١) هي النافية للجنس ، المفيدة لاستغراق النفي جميع أفراد الجنس.

٥٠٥

تبعيضية لأنهم لا يطلبون جميع البقل بل بعضه ، وفيه تسهيل على المسئول ويكون قوله : (مِنْ بَقْلِها) حالا من (ما) أو هو بدل من (ما تنبت) بإعادة حرف الجر ، وعن الحسن : كانوا قوما فلّاحة فنزعوا إلى عكرهم (١).

وقد اختلف في الفوم فقيل : هو الثوم بالمثلثة وإبدال الثاء فاء شائع في كلام العرب كما قالوا : جدث وجدف وثلغ وفلغ ، وهذا هو الأظهر والموافق لما عد معه ولما في التوراة. وقيل الفوم الحنطة وأنشد الزجاج لأحيحة بن الجلاح :

قد كنت أغنى الناس شخصا واحدا

ورد المدينة من مزارع فوم

(يريد مزارع الحنطة) وقيل الفوم الحمّص بلغة أهل الشام.

وقوله : (قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) هو من كلام موسى وقيل من كلام الله وهو توبيخ شديد لأنه جرده عن المقنعات وعن الزجر ، واقتصر على الاستفهام المقصود منه التعجب فالتوبيخ. وفي الاستبدال للخير بالأدنى النداء بنهاية حماقتهم وسوء اختيارهم.

وقوله : (أَتَسْتَبْدِلُونَ) السين والتاء فيه لتأكيد الحدث وليس للطلب فهو كقوله : (وَاسْتَغْنَى اللهُ) [التغابن : ٦] وقولهم استجاب بمعنى أجاب ، واستكبر بمعنى تكبر ، ومنه قوله تعالى : (كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) في سورة الإنسان [٧]. وفعل استبدل مشتق من البدل بالتحريك مثل شبه ، ويقال بكسر الباء وسكون الدال مثل شبه ويقال بديل مثل شبيه وقد سمع في مشتقاته استبدل وأبدل وبدّل وتبدّل وكلها أفعال مزيدة ولم يسمع منه فعل مجرد وكأنهم استغنوا بهذه المزيدة عن المجرد ، وظاهر كلام صاحب «الكشاف» في سورة النساء [٢] عند قوله تعالى : (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) أن استبدل هو أصلها وأكثرها وأن تبدل محمول عليه «لقوله والتفعل بمعنى الاستفعال غزير ومنه التعجل بمعنى الاستعجال والتأخر بمعنى الاستئخار».

وجميع أفعال مادة البدل تدل على جعل شيء مكان شيء آخر من الذوات أو الصفات أو عن تعويض شيء بشيء آخر من الذوات أو الصفات.

ولما كان هذا معنى الحدث المصوغ منه الفعل اقتضت هذه الأفعال تعدية إلى

__________________

(١) العكر ـ بكسر العين وسكون الكاف ـ الأصل.

٥٠٦

متعلقين إما على وجه المفعولية فيهما معا مثل تعلق فعل الجعل ، وإما على وجه المفعولية في أحدهما والجر للآخر مثل متعلقي أفعال التعويض كاشترى وهذا هو الاستعمال الكثير ، فإذا تعدى الفعل إلى مفعولين نحو (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) [إبراهيم : ٤٨] كان المفعول الأول هو المزال والثاني هو الذي يخلفه نحو قوله تعالى : (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) [الفرقان : ٧٠] (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) وقولهم أبدلت الحلقة خاتما ، وإذ تعدت إلى مفعول واحد وتعدت إلى الآخر بالباء وهو الأكثر فالمنصوب هو المأخوذ والمجرور هو المبذول نحو قوله هنا : (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) وقوله (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) [البقرة : ١٠٨] وقوله في سورة النساء (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) ، وقد يجر المعمول الثاني بمن التي هي بمعنى باء البدلية كقول أبي الشيص :

بدّلت من مرد الشباب ملاءة

خلقا وبئس مثوبة المقتاض

وقد يعدل عن تعدية الفعل إلى الشيء المعوض ويعدى إلى آخذ العوض فيصير من باب أعطى فينصب مفعولين وينبه على المتروك بما يدل على ذلك من نحو من كذا ، وبعد كذا ، كقوله تعالى : (وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً) [النور : ٥٥] التقدير ليبدلن خوفهم أمنا هذا تحرير طريق استعمال هذه الأفعال.

ووقع في «الكشاف» عند قوله تعالى : (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) ما يقتضي أن فعل بدل له استعمال غير استعمال فعل استبدل وتبدل بأنه إذا عدي إلى المعمول الثاني بالباء كان مدخول الباء هو المأخوذ وكان المنصوب هو المتروك والمعطى فقرره القطب في «شرحه» بما ظاهره أن بدّل لا يكون في معنى تعديته إلا مخالفا لتبدل واستبدل ، وقرره التفتازانيّ بأن فيه استعمالين إذا تعدى إلى المعمول الثاني بالباء أحدهما يوافق استعمال تبدل والآخر بعكسه ، والأظهر عندي أن لا فرق بين بدل وتبدل واستبدل وأن كلام «الكشاف» مشكل وحسبك أنه لا يوجد في كلام أئمة اللغة ولا في كلامه نفسه في كتاب «الأساس».

فالأمر في قوله : (اهْبِطُوا) للإباحة المشوبة بالتوبيخ أي إن كان هذا همكم فاهبطوا بقرينة قوله : (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) فالمعنى اهبطوا مصرا من الأمصار يعني وفيه إعراض عن طلبهم إذ ليس حولهم يومئذ بلد قريب يستطيعون وصوله. وقيل : أراد اهبطوا مصر أي بلد مصر بلد القبط أي ارجعوا إلى مصر التي خرجتم منها

٥٠٧

والأمر لمجرد التوبيخ إذ لا يمكنهم الرجوع إلى مصر. واعلم أن مصر على هذا المعنى يجوز منعه من الصرف على تأويله بالبقعة فيكون فيه العلمية والتأنيث ، ويجوز صرفه على تأويله بالمكان أو لأنه مؤنث ثلاثي ساكن الوسط مثل هند فهو في قراءة ابن مسعود بدون تنوين وأنه في مصحف أبيّ بن كعب بدون ألف وأنه ثبت بدون ألف في بعض مصاحف عثمان قاله ابن عطية ، وذكر أن أشهب قال قال لي مالك : هي عندي مصر قريتك مسكن فرعون ا ه. ويكون قول موسى لهم : (اهْبِطُوا مِصْراً) أمرا قصد منه التهديد على تذكّرهم أيام ذلهم وعنائهم وتمنيهم الرجوع لتلك المعيشة ، كأنه يقول لهم ارجعوا إلى ما كنتم فيه إذ لم تقدروا قدر الفضائل النفسية ونعمة الحرية والاستقلال. وربما كان قوله : (اهْبِطُوا) دون لنهبط مؤذنا بذلك لأنه لا يريد إدخال نفسه في هذا الأمر وهذا يذكر بقول أبي الطيب :

فإن كان أعجبكم عامكم

فعودوا إلى حمص في القابل

وقوله : (فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) الظاهر أن الفاء للتعقيب عطفت جملة (فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) على جملة (اهْبِطُوا) للدلالة على حصول سؤلهم بمجرد هبوطهم مصر أو ليست مفيدة للتعليل إذ ليس الأمر بالهبوط بمحتاج إلى التعليل بمثل مضمون هذه الجملة لظهور المقصود من قوله : (اهْبِطُوا مِصْراً) ولأنه ليس بمقام ترغيب في هذا الهبوط حتى يشجع المأمور بتعليل الأمر والظاهر أن عدم إرادة التعليل هو الداعي إلى ذكر فاء التعقيب لأنه لو أريد التعليل لكانت إن مغنية غناء الفاء على ما صرح به الشيخ عبد القاهر في «دلائل الإعجاز» في الفصل الخامس والفصل الحادي عشر من فصول شتى في النظم إذ يقول : واعلم أن من شأن إن إذا جاءت على هذا الوجه أي الذي في قول بشار :

بكرا صاحبيّ قبل الهجير

إن ذاك النجاح في التبكير

أن تغني غناء الفاء العاطفة مثلا وأن تفيد من ربط الجملة بما قبلها أمرا عجيبا فأنت ترى الكلام بها مستأنفا غير مستأنف مقطوعا موصولا معا ـ وقال ـ إنك ترى الجملة إذا دخلت إن ترتبط بما قبلها وتأتلف معه حتى كأن الكلامين أفرغا إفراغا واحدا حتى إذا أسقطت إن رأيت الثاني منهما قد نبا عن الأول وتجافى معناه عن معناه حتى تجيء بالفاء فتقول مثلا :

بكرا صاحبيّ قبل الهجير

إن ذاك النجاح في التبكير

ثم لا ترى الفاء تعيد الجملتين إلى ما كانتا عليه من الألفة وهذا الضرب كثير في

٥٠٨

التنزيل جدا من ذلك قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) [الحج : ١] وقوله : (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ) إلى قوله : (إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [لقمان : ١٧] وقال : (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) [التوبة : ١٠٣] إلخ. فظاهر كلام الشيخ أن وجود إن في الجملة المقصود منها التعليل والربط مغن عن الإتيان بالفاء ، وأن الإتيان بالفاء حينئذ لا يناسب الكلام البليغ إذ هو كالجمع بين العوض والمعوض عنه فإذا وجدنا الفاء مع إن علمنا أن الفاء لمجرد العطف وإن لإرادة التعليل والربط بين الجملتين المتعاطفتين بأكثر من معنى التعقيب. ويستخلص من ذلك أن مواقع التعليل هي التي يكون فيها معناه بين مضمون الجملتين كالأمثلة التي ذكرها.

وجعل أبو حيان في «البحر المحيط» جملة (فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) جوابا للأمر زعم أن الأمر كما يجاب بالفعل يجاب بالجملة الاسمية ولا يخفى أن كلا المعنيين ضعيف هاهنا لعدم قصد الترغيب في هذا الهبوط حتى يعلل أو يعلق ، وإنما هو كلام غضب كما تقدم. واقتران الجملة بإن المؤكدة لتنزيلهم منزلة من يشك لبعد عهدهم بما سألوه حتى يشكون هل يجدونه من شدة شوقهم ، والمحب بسوء الظن مغرى.

(وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ).

عطف على الجمل المتقدمة بالواو وبدون إعادة إذ ، فأما عطفه فلأن هاته الجملة لها مزيد الارتباط بالجمل قبلها إذ كانت في معنى النتيجة والأثر لمدلول الجمل قبلها من قوله : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) [البقرة : ٤٩] فإن مضمون تلك الجمل ذكر ما منّ الله تعالى به عليهم من نعمة تحريرهم من استعباد القبط إياهم وسوقهم إلى الأرض التي وعدهم فتضمن ذلك نعمتي التحرير والتمكين في الأرض وهو جعل الشجاعة طوع يدهم لو فعلوا فلم يقدروا قدر ذلك وتمنوا العود إلى المعيشة في مصر إذ قالوا (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) كما فصلناه لكم هنالك مما حكته التوراة وتقاعسوا عن دخول القرية وجبنوا عن لقاء العدو كما أشارت له الآية الماضية وفصلته آية المائدة فلا جرم إذ لم يشكروا النعمة ولم يقدروها أن تنتزع منهم ويسلبوها ويعوضوا عنها بضدها وهو الذلة المقابلة للشجاعة إذ لم يثقوا بنصر الله إياهم والمسكنة وهي العبودية فتكون الآية مسوقة مساق المجازاة للكلام السابق فهذا وجه العطف.

وأما كونه بالواو دون الفاء فليكون خبرا مقصودا بذاته وليس متفرعا على قول موسى لهم : (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) لأنهم لم يشكروا النعمة فإن شكر النعمة

٥٠٩

هو إظهار آثارها المقصودة منها كإظهار النصر للحق بنعمة الشجاعة وإغاثة الملهوفين بنعمة الكرم وتثقيف الأذهان بنعمة العلم فكل من لم يشكر النعمة فهو جدير بأن تسلب عنه ويعوض بضدها قال تعالى : (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ) [سبأ : ١٦] الآية ، ولو عطف بغير الواو لكان ذكره تبعا لذكر سببه فلم يكن له من الاستقلال ما ينبه البال.

فالضمير في قوله : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ) ... (وَباؤُ) إلخ عائدة إلى جميع بني إسرائيل لا إلى خصوص الذين أبوا دخول القرية والذين قالوا : (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) بدليل قوله (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ) فإن الذين قتلوا النبيئين هم أبناء الذين أبوا دخول القرية وقالوا : (لَنْ نَصْبِرَ) فالإتيان بضمير الغيبة هنا جار على مقتضى الظاهر لأنهم غير المخاطبين فليس هو من الالتفات إذ ليس قوله : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) إلخ من بقية جواب موسى إياهم لما علمت من شموله للمتحدث عنهم الآبين دخول القرية ولغيرهم ممن أتى بعدهم فقد جاء ضمير الغيبة على أصله ، أما شموله للمخاطبين فإنما هو بطريقة التعريض وهو لزوم توارث الأبناء أخلاق الآباء وشمائلهم كما قررناه في وجه الخطابات الماضية من قوله : (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ) [البقرة : ٥٠] الآيات ويؤيده التعليل الآتي بقوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ) المشعر بأن كل من اتصف بذلك فهو جدير بأن يثبت له من الحكم مثل ما ثبت للآخر.

والضرب في كلام العرب يرجع إلى معنى التقاء ظاهر جسم بظاهر جسم آخر بشدة ، يقال ضرب بعصا وبيده وبالسيف وضرب بيده الأرض إذا ألصقها بها ، وتفرعت عن هذا معان مجازية ترجع إلى شدة اللصوق. فمنه ضرب في الأرض : سار طويلا ، وضرب قبة وبيتا في موضع كذا بمعنى شدها ووثقها من الأرض. قال عبدة بن الطبيب :

إن التي ضربت بيتا مهاجرة

وقال زياد الأعجم :

في قبة ضربت على ابن الحشرج

وضرب الطين على الحائط ألصقه ، وقد تقدم ما لجميع هذه المعاني عند قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) [البقرة : ٢٦].

فقوله : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) استعارة مكنية إذ شبهت الذلة والمسكنة

٥١٠

في الإحاطة بهم واللزوم بالبيت أو القبة يضربها الساكن ليلزمها وذكر الضرب تخييل لأنه ليس له شبيه في علائق المشبه. ويجوز أن يكون ضربت استعارة تبعية وليس ثمة مكنية بأن شبه لزوم الذلة لهم ولصوقها بلصوق الطين بالحائط ، ومعنى التبعية أن المنظور إليه في التشبيه هو الحدث والوصف لا الذات بمعنى أن جريان الاستعارة في الفعل ليس بعنوان كونه تابعا لفاعل كما في التخييلية بل بعنوان كونه حدثا وهو معنى قولهم أجريت في الفعل تبعا لجريانها في المصدر وبه يظهر الفرق بين جعل ضربت تخييلا وجعله تبعية وهي طريقة في الآية سلكها الطيبي في شرح الكشاف وخالفه التفتازانيّ وجعل الضرب استعارة تبعية بمعنى الإحاطة والشمول سواء كان المشبه به القبة أو الطين ، وهما احتمالان مقصودان في هذا المقام يشعر بهما البلغاء.

ثم إن قوله تعالى : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) ليس هو من باب قول زياد الأعجم :

إن السماحة والمروءة والندى

في قبة ضربت على ابن الحشرج (١)

لأن القبة في الآية مشبه بها وليست بموجودة والقبة في البيت يمكن أن تكون حقيقة فالآية استعارة وتصريح والبيت حقيقة وكناية كما نبه عليه الطيبي وجعل التفتازانيّ الآية على الاحتمالين في الاستعارة كناية عن كون اليهود أذلاء متصاغرين وهي نكت لا تتزاحم.

والذلة الصغار وهي بكسر الذال لا غير وهي ضد العزة ولذلك قابل بينهما السموأل أو الحارثي في قوله :

وما ضرّنا أنا قليل وجارنا

عزيز وجار الأكثرين ذليل

والمسكنة الفقر مشتقة من السكون لأن الفقر يقلل حركة صاحبه. وتطلق على الضعف ومنه المسكين للفقير. ومعنى لزوم الذلة والمسكنة لليهود أنهم فقدوا البأس والشجاعة وبدا عليهم سيما الفقر والحاجة مع وفرة ما أنعم الله عليهم فإنهم لما سئموها صارت لديهم كالعدم ولذلك صار الحرص لهم سجية باقية في أعقابهم.

والبوء الرجوع وهو هنا مستعار لانقلاب الحالة مما يرضى الله إلى غضبه.

__________________

(١) البيت لزياد الأعجم من قصيدة في عبد الله بن الحشرج القيسي أمير نيسابور لبني أمية وكان عبد الله جوادا سيدا ، وقول زياد في قبة كناية عن نسبة الكرم إلى عبد الله وإن لم تكن لعبد الله قبة لكن مع جواز أن تكون له قبة على قاعدة الكناية. أما الآية فمبنية على تشبيه الذلة بالقبة فالقبة ممتنعة الحصول لأن المشبه به لا يكون واقعا.

٥١١

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ).

استئناف بياني أثاره ما شنع به حالهم من لزوم الذلة والمسكنة لهم والإشارة إلى ما تقدم من قوله : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ). وأفرد اسم الإشارة لتأويل المشار إليه بالمذكور وهو أولى بجواز الإفراد من إفراد الضمير في قول رؤبة :

فيها خطوط من سواد وبلق

كأنّه في الجلد توليع البهق

قال أبو عبيدة لرؤبة : إن أردت الخطوط فقل كأنها وإن أردت السواد والبياض فقل كأنهما فقال رؤبة : «أردت كأن ذلك ويلك» وإنما كان ما في الآية أولى بالإفراد لأن الذلة والمسكنة والغضب مما لا يشاهد فلا يشار إلى ذاتها ولكن يشار إلى مضمون الكلام وهو شيء واحد أي مذكور ومقول ومن هذا قوله تعالى : (ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) [آل عمران : ٥٨] أي ذلك القصص السابق. ومنه قوله تعالى : (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) [البقرة : ٦٨] وسيأتي.

وقال صاحب «الكشاف» (١) «والذي حسن ذلك أن أسماء الإشارة ليست تثنيتها وجمعها وتأنيثها على الحقيقة وكذلك الموصولات ولذلك جاء الذي بمعنى الجمع» ا ه قيل أراد به أن جمع أسماء الإشارة وتثنيتها لم يكن بزيادة علامات بل كان بألفاظ خاصة بتلك الأحوال فلذلك كان استعمال بعضها في معنى بعض أسهل إذا كان على تأويل ، وهو قليل الجدوى لأن المدار على التأويل والمجاز سواء كان في استعمال لفظ في معنى آخر أو في استعمال صيغة في معنى أخرى فلا حسن يخص هذه الألفاظ فيما يظهر فلعله أراد أن ذا موضوع لجنس ما يشار إليه. والذي موضوع لجنس ما عرف بصلة فهو صالح للإطلاق على الواحد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث وإن ما يقع من أسماء الإشارة والموصولات للمثنى نحو ذان وللجمع نحو أولئك ، إنما هو اسم بمعنى المثنى والمجموع لا أنه تثنية مفرد ، وجمع مفرد ، فذا يشار به للمثنى والمجموع ولا عكس فلذلك حسن استعمال المفرد منها للدلالة على المتعدد.

والباء في قوله : (بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ) سببية أي إن كفرهم وما معه كان سببا لعقابهم في الدنيا بالذلة والمسكنة وفي الآخرة بغضب الله وفيه تحذير من الوقوع في مثل

__________________

(١) في تفسير قوله تعالى : عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ [البقرة : ٦٨].

٥١٢

ما وقعوا فيه.

وقوله : (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ) خاص بأجيال اليهود الذين اجترموا هذه الجريمة العظيمة سواء في ذلك من باشر القتل وأمر به ومن سكت عنه ولم ينصر الأنبياء. وقد قتل اليهود من الأنبياء أشعياء بن أموص الذي كان حيا في منتصف القرن الثامن قبل المسيح ، قتله الملك منسى ملك اليهود سنة ٧٠٠ قبل المسيح نشر نشرا على جذع شجرة. وأرمياء النبي الذي كان حيا في أواسط القرن السابع قبل المسيح وذلك لأنه أكثر التوبيخات والنصائح لليهود فرجموه بالحجارة حتى قتلوه وفي ذلك خلاف. وزكرياء الأخير أبا يحيى قتله هيرودس العبراني ملك اليهود من قبل الرومان لأن زكرياء حاول تخليص ابنه يحيى من القتل وذلك في مدة نبوءة عيسى ، ويحيى بن زكرياء قتله هيرودس لغضب ابنة أخت هيرودس على يحيى.

وقوله : (بِغَيْرِ الْحَقِ) أي بدون وجه معتبر في شريعتهم فإن فيها : (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) [المائدة : ٣٢] فهذا القيد من الاحتجاج على اليهود بأصول دينهم لتخليد مذمتهم ، وإلا فإن قتل الأنبياء لا يكون بحق في حال من الأحوال ، وإنما قال (الأنبياء) لأن الرسل لا تسلط عليهم أعداؤهم لأنه مناف لحكمة الرسالة التي هي التبليغ قال تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا) [غافر : ٥١] وقال : (وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة : ٦٧] ومن ثم كان ادعاء النصارى أن عيسى قتله اليهود ادعاء منافيا لحكمة الإرسال ولكن الله أنهى مدة رسالته بحصول المقصد مما أرسل إليه.

وقوله : (ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) يحتمل أن تكون الإشارة فيه إلى نفس المشار إليه بذلك الأولى فيكون تكريرا للإشارة لزيادة تمييز المشار إليه حرصا على معرفته ، ويكون العصيان والاعتداء سببين آخرين لضرب الذلة والمسكنة ولغضب الله تعالى عليهم ، والآية حينئذ من قبيل التكرير وهو مغن عن العطف مثل قوله تعالى : (أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) [الأعراف : ١٧٩].

ويجوز أن يكون المشار إليه بذلك الثاني هو الكفر بآيات الله وقتلهم النبيئين فيكون (ذلك) إشارة إلى سبب ضرب الذلة إلخ فما بعد كلمة (ذلك) هو سبب السبب تنبيها على أن إدمان العاصي يفضي إلى التغلغل فيها والتنقل من أصغرها إلى أكبرها.

والباء على الوجهين سببية على أصل معناها. ولا حاجة إلى جعل إحدى الباءين بمعنى مع على تقدير جعل اسم الإشارة الثاني تكريرا للأول أخذا من كلام «الكشاف»

٥١٣

الذي احتفل به الطيبي فأطال في تقريره وتفنين توجيهه فإن فيه من التكلف ما ينبو عنه نظم القرآن. وكان الذي دعا إلى فرض هذا الوجه هو خلو الكلام عن عاطف يعطف (بِما عَصَوْا) على (بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ) إذا كانت الإشارة لمجرد التكرير. ولقد نبهناك آنفا إلى دفع هذا بأن التكرير يغني غناء العطف.

[٦٢] (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢))

توسطت هاته الآية بين آيات ذكر بني إسرائيل بما أنعم الله عليهم وبما قابلوا به تلك النعم من الكفران وقلة الاكتراث فجاءت معترضة بينها لمناسبة يدركها كل بليغ وهي أن ما تقدم من حكاية سوء مقابلتهم لنعم الله تعالى قد جرت عليهم ضرب الذلة والمسكنة ورجوعهم بغضب من الله تعالى عليهم ، ولما كان الإنحاء عليهم بذلك من شأنه أن يفزعهم إلى طلب الخلاص من غضب الله تعالى لم يترك الله تعالى عادته مع خلقه من الرحمة بهم وإرادته صلاح حالهم فبين لهم في هاته الآية أن باب الله مفتوح لهم وأن اللجأ إليه أمر هين عليهم وذلك بأن يؤمنوا ويعملوا الصالحات ، ومن بديع البلاغة أن قرن معهم في ذلك ذكر بقية من الأمم ليكون ذلك تأنيسا لوحشة اليهود من القوارع السابقة في الآيات الماضية وإنصافا للصالحين منهم ، واعترافا بفضلهم ، وتبشيرا لصالحي الأمم من اليهود وغيرهم الذين مضوا مثل الذين مثل كانوا قبل عيسى وامتثلوا لأنبيائهم ، ومثل الحواريين ، والموجودين في زمن نزول الآية مثل عبد الله بن سلام وصهيب ، فقد وفّت الآية حق الفريقين من الترغيب والبشارة ، وراعت المناسبتين للآيات المتقدمة مناسبة اقتران الترغيب بالترهيب ، ومناسبة ذكر الضد بعد الكلام على ضده.

فمجيء (إنّ) هنا لمجرد الاهتمام بالخبر وتحقيقه لدفع توهم أن ما سبق من المذمات شامل لجميع اليهود ، فإن كثيرا من الناس يتوهم أن سلف الأمم التي ضلّت كانوا مثلهم في الضلال ، ولقد عجب بعض الأصحاب لما ذكرت لهم أني حين حللت في رومة تبركت بزيارة قبر القديس بطرس توهما منهم بكون قبره في كنيسة رومة فبيّنت لهم أنه أحد الحواريين أصحاب المسيح عيسى عليه‌السلام.

وابتدئ بذكر المؤمنين للاهتمام بشأنهم ليكونوا في مقدمة ذكر الفاضلين فلا يذكر أهل الخير إلا ويذكرون معهم ، ومن مراعاة هذا المقصد قوله تعالى في سورة النساء

٥١٤

[١٦٢] (لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ) ـ أي الذين هادوا ـ (وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) الآية ، ولأنهم القدوة لغيرهم كما قال تعالى : (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا) [البقرة : ١٣٧] فالمراد من الذين آمنوا في هذه الآية هم المسلمون الذين صدقوا بالنبيء محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهذا لقب للأمة الإسلامية في عرف القرآن.

و (الَّذِينَ هادُوا) هم بنو إسرائيل وقد مضى الكلام عليهم وإنما نذكر هنا وجه وصفهم بالذين هادوا ، ومعنى (هادوا) كانوا يهودا أو دانوا بدين اليهود. وأصل اسم يهود منقول في العربية من العبرانية وهو في العبرانية بذال معجمة في آخره وهو علم أحد أسباط إسرائيل ، وهذا الاسم أطلق على بني إسرائيل بعد موت سليمان سنة ٩٧٥ قبل المسيح فإن مملكة إسرائيل انقسمت بعد موته إلى مملكتين مملكة رحبعام بن سليمان ولم يتبعه إلا سبط يهوذا وسبط بنيامين وتلقب بمملكة يهوذا لأن معظم أتباعه من سبط يهوذا وجعل مقر مملكته هو مقر أبيه (أورشليم) ، ومملكة ملكها يوربعام بن بناط غلام سليمان وكان شجاعا نجيبا فملّكته بقية الأسباط العشرة عليهم وجعل مقر مملكته السامرة وتلقب بملك إسرائيل إلا أنه وقومه أفسدوا الديانة الموسوية وعبدوا الأوثان فلأجل ذلك انفصلوا عن الجامعة الإسرائيلية ولم يدم ملكهم في السامرة إلا مائتين ونيفا وخمسين سنة ثم انقرض على يد ملوك الآشوريين فاستأصلوا الإسرائيليين الذين بالسامرة وخربوها ونقلوا بني إسرائيل إلى بلاد آشور عبيدا لهم وأسكنوا بلاد السامرة فريقا من الآشوريين فمن يومئذ لم يبق لبني إسرائيل ملك إلا ملك يهوذا بأورشليم يتداوله أبناء سليمان عليه‌السلام فمنذ ذلك غلب على بني إسرائيل اسم يهود أي يهوذا ودام ملكهم هذا إلى حد سنة ١٢٠ قبل المسيح مسيحية في زمن الأمبراطور أدريان الروماني الذي أجلى اليهود الجلاء الأخير فتفرقوا في الأقطار باسم اليهود هم ومن التحق بهم من فلول بقية الأسباط. ولعل هذا وجه اختيار لفظ (الَّذِينَ هادُوا) في الآية دون اليهود للإشارة إلى أنهم الذين انتسبوا إلى اليهود ولو لم يكونوا من سبط يهوذا. ثم صار اسم اليهود مطلقا على المتدينين بدين التوراة قال تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ) [البقرة : ١١٣] الآية ويقال تهوّد إذا اتبع شريعة التوراة وفي الحديث : «يولد الولد على الفطرة ثم يكون أبواه هما اللذان يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه». ويقال هاد إذا دان باليهودية قال تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) [الأنعام : ١٤٦]. وأما ما في سورة الأعراف [١٥٦] من قول موسى : (إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ) فذلك بمعنى المتاب.

٥١٥

وأما النصارى فهو اسم جمع نصرى (فتح فسكون) أو ناصري نسبة إلى الناصرة وهي قرية نشأت منها مريم أم المسيح عليهما‌السلام وقد خرجت مريم من الناصرة قاصدة بيت المقدس فولدت المسيح في بيت لحم ولذلك كان بنو إسرائيل يدعونه يشوع الناصري أو النّصرى فهذا وجه تسمية أتباعه بالنصارى.

وأما قوله : (وَالصَّابِئِينَ) فقرأه الجمهور بهمزة بعد الموحدة على صيغة جمع صابئ بهمزة في آخره ، وقرأه نافع وحده بياء ساكنة بعد الموحدة المكسورة على أنه جمع صاب منقوصا فأما على قراءة الجمهور فالصابئون لعله جمع صابئ وصابئ لعله اسم فاعل صبأ مهموزا أي ظهر وطلع ، يقال صبأ النجم أي طلع وليس هو من صبا يصبو إذا مال لأن قراءة الهمز تدل على أن ترك تخفيف الهمز في غيرها تخفيف لأن الأصل توافق القراءات في المعنى. وزعم بعض علماء الأفرنج (١) أنهم سموا صابئة لأن دينهم أتى به قوم من سبأ. وأما على قراءة نافع فجعلوها جمع صاب مثل رام على أنه اسم فاعل من صبا يصبو إذا مال قالوا : لأن أهل هذا الدين مالوا عن كل دين إلى دين عبادة النجوم (ولو قيل لأنهم مالوا عن أديان كثيرة إذ اتخذوا منها دينهم كما ستعرفه لكان أحسن). وقيل إنما خفّف نافع همزة (الصابين) فجعلها ياء مثل قراءته (سَأَلَ سائِلٌ) [المعارج : ١] ، ومثل هذا التخفيف سماعي لأنه لا موجب لتخفيف الهمز المتحرك بعد حرف متحرك.

والأظهر عندي أن أصل كلمة الصابي أو الصابئة أو ما تفرع منها هو لفظ قديم من لغة عربية أو سامية قديمة هي لغة عرب ما بين النهرين من العراق وفي «دائرة المعارف الإسلامية» (٢) أن اسم الصابئة مأخوذ من أصل عبري هو (ص ب ع) أي غطس عرفت به طائفة (المنديا) وهي طائفة يهودية نصرانية في العراق يقومون بالتعميد كالنصارى.

ويقال الصابئون بصيغة جمع صابئ والصابئة على أنه وصف لمقدر أي الأمة الصابئة وهم المتدينون بدين الصابئة ولا يعرف لهذا الدّين إلا اسم الصابئة على تقدير مضاف أي دين الصابئة إضافة إلى وصف أتباعه ويقال دين الصابئة. وهذا الدين دين قديم ظهر في بلاد الكلدان في العراق وانتشر معظم أتباعه فيما بين الخابور ودجلة وفيما بين الخابور والفرات فكانوا في البطائح وكسكر في سواد واسط وفي حرّان من بلاد الجزيرة.

__________________

(١) انظر جديد لاروس باللغة الفرنسية.

(٢) في فصل حرره المستشرق (كارارفو).

٥١٦

وكان أهل هذا الدين نبطا في بلاد العراق فلما ظهر الفرس على إقليم العراق أزالوا مملكة الصابئين ومنعوهم من عبادة الأصنام فلم يجسروا بعد على عبادة أوثانهم. وكذلك منع الروم أهل الشام والجزيرة من الصابئين فلما تنصر قسطنطين حملهم بالسيف على التنصر فبطلت عبادة الأوثان منهم من ذلك الوقت وتظاهروا بالنصرانية فلما ظهر الإسلام على بلادهم اعتبروا في جملة النصارى وقد كانت صابئة بلاد كسكر والبطائح معتبرين صنفا من النصارى ينتمون إلى النبي يحيى بن زكرياء ومع ذلك لهم كتب يزعمون أن الله أنزلها على شيث بن آدم ويسمونه (أغاثاديمون) ، والنصارى يسمونهم يوحنّاسية (نسبة إلى يوحنا وهو يحيى).

وجامع أصل هذا الدين هو عبادة الكواكب السيارة والقمر وبعض النجوم مثل نجم القطب الشمالي وهم يؤمنون بخالق العالم وأنه واحد حكيم مقدس عن سمات الحوادث غير أنهم قالوا : إن البشر عاجزون عن الوصول إلى جلال الخالق فلزم التقرب إليه بواسطة مخلوقات مقربين لديه وهي الأرواح المجردات الطاهرة المقدسة وزعموا أن هذه الأرواح ساكنة في الكواكب وأنها تنزل إلى النفوس الإنسانية وتتصل بها بمقدار ما تقترب نفوس البشر من طبيعة الروحانيات فعبدوا الكواكب بقصد التجاه إلى روحانياتها ولأجل نزول تلك الروحانيات على النفوس البشرية يتعين تزكية النفس بتطهيرها من آثار القوى الشهوانية والغضبية بقدر الإمكان والإقبال على العبادة بالتضرع إلى الأرواح وبتطهير الجسم والصيام والصدقة والطيب وألزموا أنفسهم فضائل النفس الأربع الأصلية (وهي العفة والعدالة والحكمة والشجاعة) والأخذ بالفضائل الجزئية (المتشعبة عن الفضائل الأربع وهي الأعمال الصالحة) وتجنب الرذائل الجزئية (وهي أضداد الفضائل وهي الأعمال السيئة).

ومن العلماء من يقول إنهم يقولون بعدم الحاجة إلى بعثة الرسل وأنهم يعللون ذلك بأن مدعي الرسالة من البشر فلا يمكن لهم أن يكونوا واسطة بين الناس والخالق. ومن العلماء من ينقل عنهم أنهم يدعون أنهم على دين نوح. وهم يقولون إن المعلّمين الأولين لدين الصابئة هما أغاثاديمون وهرمس وهما شيث بن آدم وإدريس ، وهم يأخذون من كلام الحكماء ما فيه عون على الكمال فلذلك يكثر في كلامهم المماثلة لأقوال حكماء اليونان وخاصة سولون وأفلاطون وأرسطاطاليس ، ولا يبعد عندي أن يكون أولئك الحكماء اقتبسوا بعض الآراء من قدماء الصابئة في العراق فإن ثمة تشابها بينهم في عبادة الكواكب وجعلها آلهة وفي إثبات إله الآلهة.

٥١٧

وقد بنوا هياكل للكواكب لتكون مهابط لأرواح الكواكب وحرصوا على تطهيرها وتطييبها لكي تألفها الروحانيات وقد يجعلون للكواكب تماثيل من الصور يتوخون فيها محاكاة صور الروحانيات بحسب ظنهم.

ومن دينهم صلوات ثلاث في كل يوم ، وقبلتهم نحو مهب ريح الشمال ويتطهرون قبل الصلاة وقراءاتهم ودعواتهم تسمى الزمزمة بزايين كما ورد في ترجمة أبي إسحاق الصابئ. ولهم صيام ثلاثين يوما في السنة ، موزعة على ثلاثة مواقيت من العام. ويجب غسل الجنابة وغسل المرأة الحائض. وتحرم العزوبة ، ويجوز للرجل تزوج ما شاء من النساء ولا يتزوج إلا امرأة صابئة على دينه فإذا تزوج غير صابئة أو تزوجت الصابئة غير صابئ خرجا من الدين ولا تقبل منهما توبة. ويغسلون موتاهم ويكفنونهم ويدفنونهم في الأرض. ولهم رئيس للدين يسمونه الكمر ـ بكاف وميم وراء ـ.

وقد اشتهر هذا الدين في حران من بلاد الجزيرة ، ولذلك تعرف الصابئة في كتب العقائد الإسلامية بالحرنانية (بنونين نسبة إلى حرّان على غير قياس كما في «القاموس»). قال ابن حزم في كتاب «الفصل» : كان الذي ينتحله الصابئون أقدم الأديان على وجه الدهر والغالب على الدنيا إلى أن أحدثوا فيه الحوادث فبعث الله إبراهيم عليه‌السلام بالحنيفية ا ه.

ودين الصابئة كان معروفا للعرب في الجاهلية ، بسبب جوار بلاد الصابئة في العراق والشام لمنازل بعض قبائل العرب مثل ديار بكر وبلاد الأنباط المجاورة لبلاد تغلب وقضاعة. ألا ترى أنه لما بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفه المشركون بالصابئ ، وربما دعوه بابن أبي كبشة الذي هو أحد أجداد آمنة الزهرية أمّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان أظهر عبادة الكواكب في قومه فزعموا أن النبي ورث ذلك منه وكذبوا. وفي حديث عمران بن حصين أنهم كانوا في سفر مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونفد دماؤهم فابتغوا الماء فلقوا امرأة بين مزادتين على بعير فقالوا لها : انطلقي إلى رسول الله فقالت : الذي يقال له الصابئ قالوا : هو الذين تعنين. وساق حديث تكثير الماء.

وكانوا يسمّون المسلمين الصّباة كما ورد في خبر سعد بن معاذ أنه كان صديقا لأمية بن خلف وكان سعد إذا مر بمكة نزل على أمية فلما هاجر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة انطلق سعد ذات يوم معتمرا فنزل على أمية بمكة وقال لأمية : انظر لي ساعة خلوة لعلي أطوف بالبيت فخرج به فلقيهما أبو جهل فقال لأمية يا أبا صفوان من هذا معك قال :

٥١٨

سعد ، فقال له أبو جهل : ألا أراك تطوف بمكة آمنا وقد أويتم الصّباة.

وفي حديث غزوة خالد بن الوليد إلى جذيمة أنه عرض عليهم الإسلام أو السيف فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا فقالوا : صبأنا ، الحديث.

وقد قيل إن قوما من تميم عبدوا نجم الدّبران ، وأن قوما من لخم وخزاعة عبدوا الشّعرى العبور ، وهو من كواكب برج الجوزاء في دائرة السرطان ، وأن قوما من كنانة عبدوا القمر فظن البعض أن هؤلاء كانوا صابئة وأحسب أنهم تلقفوا عبادة هذه الكواكب عن سوء تحقيق في حقائق دين الصابئة ولم يجزم الزمخشري بأن في العرب صابئة فإنه قال في «الكشاف» في تفسير سورة [٣٧] فصلت في قوله تعالى : (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ) قال : لعل ناسا منهم كانوا يسجدون للشمس والقمر كالصابئين فنهوا عن ذلك.

وقد اختلف علماء الإسلام في إجراء الأحكام على الصابئة ، فعن مجاهد والحسن أنهم طائفة بين اليهود والمجوس ، وقال البيضاوي : هم قوم بين النصارى والمجوس فمن العلماء من ألحقهم بأهل الكتاب ، ومن العلماء من ألحقهم بالمجوس ، وسبب هذا الاضطراب هو اشتباه أحوالهم وتكتمهم في دينهم ، وما دخل عليه من التخليط بسبب قهر الأمم التي تغلبت على بلادهم ، فالقسم الذي تغلّب عليهم الفرس اختلط دينهم بالمجوسية ، والذين غلب عليهم الروم اختل دينهم بالنصرانية.

قال ابن شاس في كتاب «الجواهر الثمينة» : قال الشيخ أبو الطاهر (يعني ابن بشير التنوخي القيرواني) منعوا ذبائح الصابئة لأنهم بين النصرانية والمجوسية (ولا شك أنه يعني صابئة العراق ، الذين كانوا قبل ظهور الإسلام على بلادهم على دين المجوسية).

وفي «التوضيح على مختصر ابن الحاجب الفرعي» في باب الذبائح «قال الطرطوشي : لا تؤكل ذبيحة الصابئ وليست بحرام كذبيحة المجوسي» وفيه في باب الصيد «قال مالك لا يؤكل صيد الصابئ ولا ذبيحته».

وفي «شرح عبد الباقي على خليل» : «إنّ أخذ الصابئ بالنصرانية ليس بقوي كما ذكره أبو إسحاق التونسي ، وعن مالك لا يتزوج المسلم المرأة الصائبة».

قال الجصاص في تفسير سورة العقود وسورة براءة : روي عن أبي حنيفة أن الصابئة أهل كتاب ، وقال أبو يوسف ومحمد ليسوا أهل كتاب. وكان أبو الحسن الكرخي يقول الصابئة الذين هم بناحية حرّان يعبدون الكواكب ، فليسوا أهل كتاب عندهم جميعا. قال

٥١٩

الجصاص : الصابئة الذين يعرفون بهذا الاسم في هذا الوقت ليس فيهم أهل كتاب وانتحالهم في الأصل واحد أعني الذين هم بناحية حران ، والذين هم بناحية البطائح وكسكر في سواد واسط ، وإنما الخلاف بين الذين بناحية حران والذين بناحية البطائح في شيء من شرائعهم وليس فيهم أهل كتاب فالذي يغلب على ظني في قول أبي حنيفة أنه شاهد قوما منهم يظهرون أنهم نصارى تقية ، وهم الذين كانوا بناحية البطائح وكسكر ويسميهم النصارى يوحنّاسيّة وهم ينتمون إلى يحيى بن زكرياء ، وينتحلون كتبا يزعمون أنها التي أنزلها الله على شيث ويحيى. ومن كان اعتقاده من الصابئين على ما وصفنا وهم الحرانيون الذين بناحية حران وهم عبدة أوثان لا ينتمون إلى أحد من الأنبياء ولا ينتحلون شيئا من كتب الله فلا خلاف بين الفقهاء في أنهم ليسوا أهل كتاب ، وأنه لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم وأبو يوسف ومحمد قالا : إن الصابئين ليسوا أهل كتاب ولم يفصلوا بين الفريقين وكذا قول الأوزاعي ومالك بن أنس ا ه. كلامه.

ووجه الاقتصار في الآية على ذكر هذه الأديان الثلاثة مع الإسلام دون غيرها من نحو المجوسية والدهريين والزنادقة أن هذا مقام دعوتهم للدخول في الإسلام والمتاب عن أديانهم التي أبطلت لأنهم أرجى لقبول الإسلام من المجوس والدهريين لأنهم يثبتون الإله المتفرد بخلق العالم ويتبعون الفضائل على تفاوت بينهم في ذلك ، فلذلك اقتصر عليهم تقريبا لهم من الدخول في الإسلام. ألا ترى أنه ذكر المجوس معهم في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الحج : ١٧] لأن ذلك مقام تثبيت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين.

وقوله تعالى : (مَنْ آمَنَ) يجوز أن تكون (من) شرطا في موضع المبتدأ ويكون فلهم أجرهم جواب الشرط ، والشرط مع الجواب خبر (إِنَ) ، فيكون المعنى إن الذين آمنوا من يؤمن بالله منهم فله أجره وحذف الرابط بين الجملة وبين اسم (إن) لأن (من) الشرطية عامة فكان الرابط العموم الذي شمل المبتدأ أعني اسم (إن) ويكون معنى الكلام على الاستقبال لوقوع الفعل الماضي في حيز الشرط أي من يؤمن منهم بالله ويعمل صالحا فله أجره ويكون المقصود منه فتح باب الإنابة لهم بعد أن قرّعوا بالقوارع السالفة وذكر معهم من الأمم من لم يذكر عنهم كفر لمناسبة ما اقتضته العلة في قوله : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ) [البقرة : ٦١] وتذكيرا لليهود بأنهم لا مزية لهم على غيرهم من الأمم حتى لا يتكلوا على الأوهام أنهم أحباء الله وأن ذنوبهم مغفورة. وفي ذلك أيضا إشارة إلى أن المؤمنين

٥٢٠