تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٣٥

وزان قولهم : (آمَنَّا) بأن يقال وما آمنوا لأنهم لما أثبتوا الإيمان لأنفسهم كان الإتيان بالماضي أشمل حالا لاقتضائه تحقق الإيمان فيما مضى بالصراحة ودوامه بالالتزام ؛ لأن الأصل ألا يتغير الاعتقاد بلا موجب كيف والدين هو هو ، ولما أريد نفي الإيمان عنهم كان نفيه في الماضي لا يستلزم عدم تحققه في الحال بله الاستقبال فكان قوله : (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) دالا على انتفائه عنهم في الحال ، لأن اسم الفاعل حقيقة في زمن الحال وذلك النفي يستلزم انتفاءه في الماضي بالأولى ، ولأن الجملة الفعلية تدل على الاهتمام بشأن الفعل دون الفاعل فلذلك حكى بها كلامهم لأنهم لما رأوا المسلمين يتطلبون معرفة حصول إيمانهم قالوا (آمَنَّا) ، والجملة الاسمية تدل على الاهتمام بشأن الفاعل أي إن القائلين (آمَنَّا) لم يقع منهم إيمان فالاهتمام بهم في الفعل المنفي تسجيل لكذبهم وهذا من مواطن الفروق بين الجملتين الفعلية والاسمية وهو مصدّق بقاعدة إفادة التقديم الاهتمام مطلقا وإن أهملوا التنبيه على جريان تلك القاعدة عند ما ذكروا الفروق بين الجملة الفعلية والاسمية في كتب المعاني وأشار إليه صاحب «الكشاف» هنا بكلام دقيق الدلالة.

فإن قلت : كان عبد الله بن سعد بن أبي سرح أسلم ثم ارتد وزعم بعد ردته أنه كان يكتب القرآن وأنه كان يملي عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : عزيز حكيم مثلا فيكتبها غفور رحيم مثلا والعكس وهذا من عدم الإيمان فيكون حينئذ من المنافقين الذين آمنوا بعد ، فالجواب أن هذا من نقل المؤرخين وهم لا يعتد بكلامهم في مثل هذا الشأن لا سيما وولاية عبد الله ابن أبي سرح الإمارة من جملة ما نقمه الثوار على عثمان وتحامل المؤرخين فيها معلوم لأنهم تلقوها من الناقمين وأشياعهم ، والأدلة الشرعية تنفي هذا لأنه لو صح للزم عليه دخول الشك في الدين ولو حاول عبد الله هذا لأعلم الله تعالى به رسوله لأنه لا يجوز على الرسول السهو والغفلة فيما يرجع إلى التبليغ على أنه مزيف من حيث العقل إذ لو أراد أن يكيد للدين لكان الأجدر به تحريف غير ذلك ، على أن هذا كلام قاله في وقت ارتداده وقوله حينئذ في الدين غير مصدّق لأنه متهم بقصد ترويج ردته عند المشركين بمكة وقد علمت من المقدمة الثامنة من هذا التفسير أن العمدة في آيات القرآن على حفظ حفّاظه وقراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما كان يأمر بكتابته لقصد المراجعة للمسلمين إذا احتاجوا إليه ، ولم يرو أحد أنه وقع الاحتياج إلى مراجعة ما كتب من القرآن إلا في زمن أبي بكر ، ولم ينقل أن حفاظ القرآن وجدوا خلافا بين محفوظهم وبين الأصول المكتوبة ، على أن عبد الله بن أبي سرح لم يكن منفردا بكتابة الوحي فقد كان يكتب معه آخرون.

٢٦١

ونفي الإيمان عنهم مع قولهم (آمَنَّا) دليل صريح على أن مسمى الإيمان التصديق وأن النطق بما يدل على الإيمان قد يكون كاذبا فلا يكون ذلك النطق إيمانا ، والإيمان في الشرع هو الاعتقاد الجازم بثبوت ما يعلم أنه من الدين علما ضروريا بحيث يكون ثابتا بدليل قطعي عند جميع أئمة الدين ويشتهر كونه من مقومات الاعتقاد الإسلامي اللازم لكل مسلم اشتهارا بين الخاصة من علماء الدين والعامة من المسلمين بحيث لا نزاع فيه فقد نقل الإيمان في الشرع إلى تصديق خاص وقد أفصح عنه الحديث الصحيح عن عمر أن جبريل جاء فسأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الإيمان فقال : «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره».

وقد اختلفت علماء الأمة في ماهية الإيمان ما هو وتطرقوا أيضا إلى حقيقة الإسلام ونحن نجمع متناثر المنقول منهم مع ما للمحققين من تحقيق مذاهبهم في جملة مختصرة.

وقد أرجعنا متفرق أقوالهم في ذلك إلى خمسة أقوال :

القول الأول : قول جمهور المحققين من علماء الأمة قالوا إن الإيمان هو التصديق لا مسمى له غير ذلك وهو مسماه اللغوي فينبغي ألا ينقل من معناه لأن الأصل عدم النقل إلا أنه أطلق على تصديق خاص بأشياء بيّنها الدين وليس استعمال اللفظ العام في بعض أفراده بنقله له عن معناه اللغوي وغلب في لسان الشرعيين على ذلك التصديق واحتجوا بعدة أدلة هي من أخبار الآحاد ولكنها كثيرة كثرة تلحقها بالمستفيض.

من ذلك حديث جبريل المتقدم وحديث سعد أنه قال «يا رسول الله : ما لك عن فلان فإني لأراه مؤمنا فقال : أو مسلما» ، قالوا وأما النطق والأعمال فهي من الإسلام لا من مفهوم الإيمان لأن الإسلام الاستسلام والانقياد بالجسد دون القلب ودليل التفرقة بينهما اللغة وحديث جبريل ، وقوله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) [الحجرات : ١٤] ولما رواه مسلم عن طلحة بن عبيد الله أنه جاء رجل من نجد ثائر الرأس نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول ، فإذا هو يسأل عن الإسلام فبين له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا ، ونسب هذا القول إلى مالك بن أنس أخذا من قوله في «المدونة» : «من اغتسل وقد أجمع على الإسلام بقلبه أجزأه» قال ابن رشد لأن إسلامه بقلبه فلو مات مات مؤمنا ، وهو مأخذ بعيد وستعلم أن قول مالك بخلافه. ونسب هذا أيضا إلى الأشعري قال إمام الحرمين في «الإرشاد» وهو المرضي

٢٦٢

عندنا ، وبه قال الزهري من التابعين.

القول الثاني : إن الإيمان هو الاعتقاد بالقلب والنطق باللسان بالشهادتين للإقرار بذلك الاعتقاد فيكون الإيمان منقولا شرعا لهذا المعنى فلا يعتد بالاعتقاد شرعا إلا إذا انضم إليه النطق ونقل هذا عن أبي حنيفة ونسبه النووي إلى جمهور الفقهاء والمحدّثين والمتكلمين ونسبه الفخر إلى الأشعري وبشر المريسي ، ونسبه الخفاجي إلى محققي الأشاعرة واختاره ابن العربي ، قال النووي وبذلك يكون الإنسان من أهل القبلة.

قلت ولا أحسب أن بين هذا والقول الأول فرقا وإنما نظر كل قيل إلى جانب ، فالأول نظر إلى جانب المفهوم والثاني نظر إلى الاعتداد ولم يعتنوا بضبط عباراتهم حتى يرتفع الخلاف بينهم وإن كان قد وقع الخلاف بينهم في أن الاقتصار على الاعتقاد هل هو منج فيما بين المرء وبين ربه أو لا بد من الإقرار؟ حكاه البيضاوي في «التفسير» ومال إلى الثاني ويؤخذ من كلامهم أنه لو ترك الإقرار لا عن مكابرة كان ناجيا مثل الأخرس والمغفل والمشتغل شغلا اتصل بموته. واحتجوا بإطلاق الإيمان على الإسلام والعكس في مواضع من الكتاب والسنة ، قال تعالى : (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [الذاريات : ٣٥ ، ٣٦] وفي حديث وفد عبد القيس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لهم : «آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع الإيمان بالله أتدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة» إلخ وهذه أخبار آحاد فالاستدلال بها في أصل من الدين إنما هو مجرد تقريب على أن معظمها لا يدل على إطلاق الإيمان على حالة ليس معها حالة إسلام.

القول الثالث : قول جمهور السلف من الصحابة والتابعين أن الإيمان اعتقاد وقول وعمل ذلك أنهم لكمال حالهم ومجيئهم في فاتحة انبثاق أنوار الدين لم يكونوا يفرضون في الإيمان أحوالا تقصر في الامتثال ، ونسب ذلك إلى مالك وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة والأوزاعي وابن جريج والنخعي والحسن وعطاء وطاوس ومجاهد وابن المبارك والبخاري ونسب لابن مسعود وحذيفة وبه قال ابن حزم من الظاهرية وتمسك به أهل الحديث لأخذهم بظاهر ألفاظ الأحاديث ، وبذلك أثبتوا الزيادة والنقص في الإيمان بزيادة الأعمال ونقصها لقوله تعالى : (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) [الفتح : ٤] إلخ. وجاء في الحديث : «الإيمان بضع وسبعون شعبة» فدل ذلك على قبوله للتفاضل. وعلى ذلك حمل قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» أي ليس متصفا حينئذ بكمال الإيمان.

٢٦٣

ونقل عن مالك أنه يزيد ولا ينقص فقيل إنما أمسك مالك عن القول بنقصانه خشية أن يظن به موافقة الخوارج الذين يكفرون بالذنوب. قال ابن بطال وهذا لا يخالف قول مالك بأن الإيمان هو التصديق وهو لا يزيد ولا ينقص لأن التصديق أول منازل الإيمان ويوجب للمصدق الدخول فيه ولا يوجب له استكمال منازله وإنما أراد هؤلاء الأئمة الرد على المرجئة في قولهم إن الإيمان قول بلا عمل ا ه. ولم يتابعهم عليه المتأخرون لأنهم رأوه شرحا للإيمان الكامل وليس فيه النزاع إنما النزاع في أصل مسمى الإيمان وأول درجات النجاة من الخلود ولذلك أنكر أكثر المتكلمين أن يقال الإيمان يزيد وينقص وتأولوا نحو قوله تعالى : (لِيَزْدادُوا إِيماناً) [الفتح : ٤] بأن المراد تعدد الأدلة حتى يدوموا على الإيمان وهو التحقيق.

القول الرابع : قول الخوارج والمعتزلة إن الإيمان اعتقاد ونطق وعمل كما جاء في القول الثالث إلا أنهم أرادوا من قولهم حقيقة ظاهره من تركب الإيمان من مجموع الثلاثة بحيث إذا اختل واحد منها بطل الإيمان ، ولهم في تقرير بطلانه بنقص الأعمال الواجبة مذاهب غير منتظمة ولا معضودة بأدلة سوى التعلق بظواهر بعض الآثار مع الإهمال لما يعارضها من مثلها.

فأما الخوارج فقالوا إن تارك شيء من الأعمال كافر غير مؤمن وهو خالد في النار فالأعمال جزء من الإيمان وأرادوا من الأعمال فعل الواجبات وترك المحرمات ولو صغائر ، إذ جميع الذنوب عندهم كبائر ، وأما غير ذلك من الأعمال كالمندوبات والمستحبات فلا يوجب تركها خلودا ، إذ لا يقول مسلم إن ترك السنن والمندوبات يوجب الكفر والخلود في النار ، وكذلك فعل المكروهات.

وقالت الإباضية من الخوارج إن تارك بعض الواجبات كافر لكن كفره كفر نعمة لا شرك ، نقله إمام الحرمين عنهم وهو الذي سمعناه من طلبتهم.

وأما المعتزلة فقد وافقوا الخوارج في أن للأعمال حظا من الإيمان إلا أنهم خالفوهم في مقاديرها ومذاهب المعتزلة في هذا الموضع غير منضبطة ، فقال قدماؤهم وهو المشهور عنهم إن العاصي مخلد في النار لكنه لا يوصف بالكفر ولا بالإيمان ووصفوه بالفسق وجعلوا استحقاق الخلود لارتكاب الكبيرة خاصة ، وكذلك نسب إليهم ابن حزم في كتاب «الفصل» ، وقال واصل بن عطاء الغزّال إن مرتكب الكبيرة منزلة بين المنزلتين أي لا يوصف بإيمان ولا كفر فيفارق بذلك قول الخوارج وقول المرجئة ووافقه عمرو بن عبيد

٢٦٤

على ذلك. وهذه هي المسألة التي بسببها قال الحسن البصري لواصل وعمرو بن عبيد اعتزل مجلسنا. ودرج على هذا جميعهم ، لكنهم اضطربوا أو اضطرب النقل عنهم في مسمى المنزلة بين المنزلتين ، فقال إمام الحرمين في «الإرشاد» إن جمهور هم قالوا إن الكبيرة تحبط ثواب الطاعات وإن كثرت ، ومعناه لا محالة أنها توجب الخلود في النار وبذلك جزم التفتازانيّ في «شرح الكشاف» وفي «المقاصد» ، وقال إن المنزلة بين المنزلتين هي موجبة للخلود وإنما أثبتوا المنزلة لعدم إطلاق اسم الكفر ولإجراء أحكام المؤمنين على صاحبها في ظاهر الحال في الدنيا بحيث لا يعتبر مرتكب المعصية كالمرتد فيقتل. وقال في «المقاصد» ومثله في «الإرشاد» : المختار عندهم خلاف المشتهر فإن أبا علي وابنه وكثيرا من محققيهم ومتأخريهم قالوا إن الكبائر إنما توجب دخول النار إذا زاد عقابها على ثواب الطاعات فإن أربت الطاعات على السيئات درأت السيئات ، وليس النظر إلى أعداد الطاعات ولا الزلات ، وإنما النظر إلى مقدار الأجور والأوزار فرب كبيرة واحدة يغلب وزرها طاعات كثيرة العدد ، ولا سبيل إلى ضبط هذه المقادير بل أمرها موكول إلى علم الله تعالى ، فإن استوت الحسنات والسيئات فقد اضطربوا في ذلك فهذا محل المنزلة بين المنزلتين. ونقل ابن حزم في «الفصل» عن جماعة منهم ، فيهم بشر المريسي والأصم من استوت حسناته وسيئاته فهو من أهل الأعراف ولهم وقفة لا يدخلون النار مدة ثم يدخلون الجنة ومن رجحت سيئاته فهو مجازى بقدر ما رجح له من الذنوب فمن لفحة واحدة إلى بقاء خمسين ألف سنة في النار ثم يخرجون منها بالشفاعة. وهذا يقتضي أن هؤلاء لا يرون الخلود. وقد نقل البعض عن المعتزلة أن المنزلة بين المنزلتين لا جنة ولا نار إلا أن التفتازانيّ في «المقاصد» غلّط هذا البعض وكذلك قال في «شرح الكشاف». وقد قرر صاحب «الكشاف» حقيقة المنزلة بين المنزلتين بكلام مجمل فقال في تفسير قوله تعالى : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) من سورة البقرة [٢٦] والفاسق في الشريعة الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة وهو النازل بين المنزلتين أي بين منزلتي المؤمن والكافر. وقالوا إن أول من حد له هذا الحد أبو حذيفة واصل بن عطاء وكونه بين بين أن حكمه حكم المؤمن في أنه يناكح ويوارث ويغسّل ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين وهو كالكافر في الذم واللعن والبراءة منه واعتقاد عداوته وأن لا تقبل له شهادة ا ه ، فتراه مع إيضاحه لم يذكر فيه أنه خالد في النار وصرح في قوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها) في سورة النساء [٩٣] بما يعمم خلود أهل الكبائر دون توبة في النار.

٢٦٥

قلت وكان الشأن أن إجراء الأحكام الإسلامية عليه في الدنيا يقتضي أنه غير خالد إذ لا يعقل أن تجري عليه أحكام المسلمين وتنتفي عنه الثمرة التي لأجلها فارق الكفر إذ المسلم إنما أسلم فرارا من الخلود في النار فكيف يكون ارتكاب بعض المعاصي موجبا لانتقاض فائدة الإسلام ، وإذا كان أحد لا يسلم من أن يقارف معصية وكانت التوبة الصادقة قد تتأخر وقد لا تحصل فيلزمهم ويلزم الخوارج أن يعدوا جمهور المسلمين كفارا وبئس منكرا من القول. على أن هذا مما يجرّئ العصاة على نقض عرى الدين إذ ينسلّ عنه المسلمون لانعدام الفائدة التي أسلموا لأجلها بحكم : أنا الغريق فما خوفي من البلل ، ومن العجيب أن يصدر هذا القول من عاقل فضلا عن عالم ، ثم الأعجب منه عكوف أتباعهم عليه تلوكه ألسنتهم ولا تفقهه أفئدتهم وكيف لم يقيض فيهم عالم منصف ينبري لهاته الترهات فيهذبها أو يؤولها كما أراد جمهور علماء السنة من صدر الأمة فمن يليهم.

القول الخامس : قالت الكرامية الإيمان هو الإقرار باللسان إذا لم يخالف الاعتقاد القول فلا يشترط في مسمى الإيمان شيء من المعرفة والتصديق ، فأما إذا كان يعتقد خلاف مقاله بطل إيمانه وهذا يرجع إلى الاعتداد بإيمان من نطق بالشهادتين وإن لم يشغل عقله باعتقاد مدلولهما بل يكتفى منه بأنه لا يضمر خلاف مدلولهما وهذه أحوال نادرة لا ينبغي الخوض فيها. أو أرادوا أنه تجري عليه في الظاهر أحكام المؤمنين مع أن الكرامية لا ينكرون أن من يعتقد خلاف ما نطق به من الشهادتين أنه خالد في النار يوم القيامة ، وفي «تفسير الفخر» أن غيلان الدمشقي وافق الكرامية.

هذه جوامع أقوال الفرق الإسلامية في مسمى الإيمان. وأنا أقول كلمة أربأ بها عن الانحياز إلى نصرة وهي أن اختلاف المسلمين في أول خطوات مسيرهم وأول موقف من مواقف أنظارهم وقد مضت عليه الأيام بعد الأيام وتعاقبت الأقوام بعد الأقوام يعد نقصا علميا لا ينبغي البقاء عليه ، ولا أعرفني بعد هذا اليوم ملتفتا إليه.

لا جرم أن الشريعة أول ما طلبت من الناس الإيمان والإسلام ليخرجوا بذلك من عقائد الشرك ومناوأة هذا الدين فإذا حصل ذلك تهيأت النفوس لقبول الخيرات وأفاضت الشريعة عليها من تلك النيرات فكانت في تلقي ذلك على حسب استعدادها زينة لمعاشها في هذا العالم ومعادها ، فالإيمان والإسلام هما الأصلان اللذان تنبعث عنهما الخيرات ، وهما الحد الفاصل بين أهل الشقاء وأهل الخير حدا لا يقبل تفاوتا

٢٦٦

ولا تشككا ، لأن شأن الحدود أن لا تكون متفاوتة كما قال الله تعالى : (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ) [يونس : ٣٢] ، ولا يدعي أحد أن مفهوم الإيمان هو مفهوم الإسلام ، فيكابر لغة تتلى عليه ، كيف وقد فسره الرسول لذلك الجالس عند ركبتيه. فما الذين ادعوه إلا قوم قد ضاقت عليهم العبارة فأرادوا أن الاعتداد في هذا الذي لا يكون إلا بالأمرين وبذلك يتضح وجه الاكتفاء في كثير من مواد الكتاب والسنة بأحد اللفظين ، في مقام خطاب الذين تحلوا بكلتا الخصلتين ، فانتظم القولان الأول والثاني.

إن موجب اضطراب الأقوال في التمييز بين حقيقة الإيمان وحقيقة الإسلام أمران : أحدهما أن الرسالة المحمدية دعت إلى الاعتقاد بوجود الله ووحدانيته وبصدق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم والإيمان بالغيب ودعت إلى النطق بما يدل على حصول هذا الاعتقاد في نفس المؤمن لأن الاعتقاد لا يعرف إلا بواسطة النطق ولم يقتنع الرسول من أحد بما يحصّل الظن بأنه حصل له هذا الاعتقاد إلا بأن يعترف بذلك بنطقه إذا كان قادرا.

الثاني : أن المؤمنين الذين استجابوا دعوة الرسول لم تكن ظواهرهم مخالفة لعقائدهم إذ لم يكن منهم مسلم يبطن الكفر فكان حصول معنى الإيمان لهم مقارنا لحصول معنى الإسلام وصدق عليهم أنهم مؤمنون ومسلمون ، ثم لما نبع النفاق بعد الهجرة طرأ الاحتياج إلى التفرقة بين حال الذين اتصفوا بالإيمان والإسلام وبين حال الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر تفرقة بالتحذير والتنبيه لا بالتعيين وتمييز الموصوف ، لذا كانت ألفاظ القرآن وكلام النبي تجري في الغالب على مراعاة غالب أحوال المسلمين الجامعين بين المعنيين وربما جرت على مراعاة الأحوال النادرة عند الحاجة إلى التنبيه عليها كما في قوله تعالى : (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات : ١٤] وكما في قول النبي لمن قال له : ما لك عن فلان فو الله إني لأراه مؤمنا قال : «أو مسلما».

فحاصل معنى الإيمان حصول الاعتقاد بما يجب اعتقاده ، وحاصل معنى الإسلام إظهار المرء أنه أسلم نفسه لاتّباع الدين ودعوة الرسول ، قال تعالى : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) [الأحزاب : ٣٥] الآية.

وهل يخامركم شك في أن الشريعة ما طلبت من الناس الإيمان والإسلام لمجرد تعمير العالم الأخروي من جنة ونار لأن الله تعالى قادر على أن يخلق لهذين الموضعين خلقا يعمرونهما إن شاء خلقهما ، ولكن الله أراد تعمير العالمين الدنيوي والأخروي ،

٢٦٧

وجعل الدنيا مصقلة النفوس البشرية تهيئها للتأهل إلى تعمير العالم الأخروي لتلتحق بالملائكة ، فجعل الله الشرائع لكف الناس عن سيئ الأفعال التي تصدر عنهم بدواعي شهواتهم المفسدة لفطرتهم ، وأراد الله حفظ نظام هذا العالم أيضا ليبقى صالحا للوفاء بمراد الله إلى أمد أراده ، فشرع للناس شرعا ودعا الناس إلى اتباعه والدخول إلى حظيرته ذلك الدخول المسمى بالإيمان وبالإسلام لاشتراط حصولهما في قوام حقيقة الانضواء تحت هذا الشرع ، ثم يستتبع ذلك إظهار تمكين أنفسهم من قبول ما يرسم لهم من السلوك عن طيب نفس ، وثقة بمآلي نزاهة أو رجس. وذلك هو الأعمال ائتمارا وانتهاء وفعلا وانكفافا. وهذه الغاية هي التي تتفاوت فيها المراتب إلّا أن تفاوت أهلها فيها لا ينقص الأصل الذي به دخلوا فإن الآتي بالبعض من الخير قد أتى بما كان أحسن من حاله قبل الإيمان ، والآتي بمعظم الخير قد فاق الذي دونه ، والآتي بالجميع بقدر الطاقة هو الفائز ، بحيث إن الشريعة لا تعدم منفعة تحصل من أفراد هؤلاء الذين تسموا بالمؤمنين والمسلمين ومن تلك المراتب حماية الحوزة والدفاع عن البيضة ، فهل يشك أحد في أن عمرو بن معديكرب أيام كان لا يرى الانتهاء عن شرب الخمر ويقول إن الله تعالى قال : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [المائدة : ٩١] فقلنا لا إنه قد دلّ جهاده يوم القادسية على إيمانه وعلى تحقيق شيء كثير من أجزاء إسلامه فهل يعد سواء والكافرين في كونه يخلد في النار؟

فالأعمال إذن لها المرتبة الثانية بعد الإيمان والإسلام لأنها مكملة المقصد لا ينازع في هذين ـ أعني كونها في الدرجة الثانية وكونها مقصودة ـ إلا مكابر. ومما يؤيد هذا أكمل تأييد ما ورد في «الصحاح» في حديث معاذ بن جبل أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان بعثه إلى اليمن فقال له : «إنّك ستأتي قوما من أهل الكتاب فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله (أي ينطقوا بذلك نطقا مطابقا لاعتقادهم) فإن هم أطاعوا لك بذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة» إلخ فلو لا أن للإيمان وللإسلام الحظ الأول لما قدمه ، ولو لا أن الأعمال لا دخل لها في مسمى الإسلام لما فرّق بينهما ، لأن الدعوة للحق يجب أن تكون دفعة وإلا لكان الرضا ببقائه على جزء من الكفر ولو لحظة مع توقع إجابته للدين رضى بالكفر وهو من الكفر فكيف يأمر بسلوكه المعصوم عن أن يقرّ أحدا على باطل ، فانتظم القول الثالث للقولين.

٢٦٨

ومما لا شبهة فيه أن استحقاق الثواب والعقاب على قدر الأعمال القلبية والجوارحية فالأمر الذي لا يحصل شيء من المطلوب دونه لا ينجي من العذاب إلا جميعه فوجب أن يكون من لم يؤمن ولم يسلم مخلّدا في النار لأنه لا يحصل منه شيء من المقصود بدون الإيمان والإسلام ، وأما الأمور التي يقرب فاعلها من الغاية بمقدار ما يخطو في طرقها فثوابها على قدر ارتكابها والعقوبة على قدر تركها ، ولا ينبغي أن ينازع في هذا غير مكابر ، إذ كيف يستوي عند الله العليم الحكيم رجلان أحدهما لم يؤمن ولم يسلم والآخر آمن وأسلم وامتثل وانتهى ، إلا أنه اتبع الأمّارة بالسوء في خصلة أو زلة فيحكم بأن كلا الرجلين في عذاب وخلود؟ وهل تبقى فائدة لكل مرتكب معصية في البقاء على الإسلام إذا كان الذي فر من أجله للإسلام حاصلا على كل تقدير وهو الخلود في النار حتى إذا أراد أن يتوب آمن يومئذ؟ وهل ينكر أحد أن جل الأمة لا يخلون من التلبس بالمعصية والمعصيتين إذ العصمة مفقودة فإذا كان ذلك قبل التوبة كفرا فهل يقول هذا العاقل إن الأمة في تلك الحالة متصفة بالكفر ولا إخال عاقلا يلتزمها بعد أن يسمعها ، أفهل يموه أحد بعد هذا أن يأخذ من نحو قوله تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [البقرة : ١٤٣] يعني الصلاة ، إن الله سمّي الصلاة إيمانا ولو لا أن العمل من الإيمان لما سميت كذلك بعد أن بينّا أن الأعمال هي الغاية من الإيمان والإسلام فانتظم القول الرابع والخامس لثلاثة الأقوال لمن اقتدى في الإنصاف بأهل الكمال.

ثم على العالم المتشبع بالاطلاع على مقاصد الشريعة وتصاريفها أن يفرق بين مقامات خطابها فإن منها مقام موعظة وترغيب وترهيب وتبشير وتحذير ، ومنها مقام تعليم وتحقيق فيرد كل وارد من نصوص الشريعة إلى مورده اللائق ولا تتجاذبه المتعارضات مجاذبة المماذق فلا يحتج أحد بما ورد في أثبت أوصاف الموصوف ، وأثبت أحد تلك الأوصاف تارة في سياق الثناء عليه إذ هو متصف بها جميعا ، فإذا وصف تارة بجميعها لم يكن وصفه تارة أخرى بواحد منها دالا على مساواة ذلك الواحد لبقيتها ، فإذا عرضت لنا أخبار شرعية جمعت بين الإيمان والأعمال في سياق التحذير أو التحريض لم تكن دليلا على كون حقيقة أحدهما مركبة ومقومة من مجموعهما فإنما يحتج محتج بسياق التفرقة والنفي أو بسياق التعليم والتبيين فلا ينبغي لمنتسب أن يجازف بقولة سخيفة ناشئة عن قلة تأمل وإحاطة بموارد الشريعة وإغضاء عن غرضها ويؤول إلى تكفير جمهور المسلمين وانتقاض الجامعة الإسلامية بل إنما ينظر إلى موارد الشريعة نظرة محيطة حتى لا يكون ممن غابت عنه أشياء وحضره

٢٦٩

شيء ، بل يكون حكمه في المسألة كحكم فتاة الحي.

أما مسألة العفو عن العصاة فهي مسألة تتعلق بغرضنا وليست منه ، والأشاعرة قد توسعوا فيها وغيرهم ضيقها وأمرها موكول إلى علم الله إلا أن الذي بلغنا من الشرع هو اعتبار الوعد والوعيد وإلا لكان الزواجر كضرب في بارد الحديد وإذا علمتم أن منشأ الخلاف فيها هو النظر لدليل الوجوب أو الجواز علمتم خروج الخلاف فيها من الحقيقة إلى المجاز ولا عجب أعجب من مرور الأزمان على مثل قولة الخوارج والإباضية والمعتزلة ولا ينبري من حذاق علمائهم من يهذب المراد أو يؤول قول قدمائه ذلك التأويل المعتاد ، وكأني بوميض فطنة نبهائهم أخذ يلوح من خلل الرماد.

[٩] (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩))

جملة : (يُخادِعُونَ) بدل اشتمال من جملة : (يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) [البقرة : ٨] وما معها لأن قولهم ذلك يشتمل على المخادعة. والخداع مصدر خادع الدال على معنى مفاعلة الخدع ، والخدع هو فعل أو قول معه ما يوهم أن فاعله يريد بمدلوله نفع غيره وهو إنما يريد خلاف ذلك ويتكلف ترويجه على غيره ليغيره عن حالة هو فيها أو يصرفه عن أمر يوشك أن يفعله ، تقول العرب : خدع الضب إذا أوهم حارشه أنه يحاول الخروج من الجهة التي أدخل فيها الحارش يده حتى لا يرقبه الحارش لعلمه أنه آخذه لا محالة ثم يخرج الضب من النافقاء.

والخداع فعل مذموم إلا في الحرب والانخداع تمشي حيلة المخادع على المخدوع وهو مذموم أيضا لأنه من البله وأما إظهار الانخداع مع التفطن للحيلة إذا كانت غير مضرة فذلك من الكرم والحلم قال الفرزدق :

استمطروا من قريش كل منخدع

إن الكريم إذا خادعته انخدعا

وفي حديث «المؤمن غر كريم» أي من صفاته الصفح والتغاضي حتى يظن أنه غر ولذلك عقبه بكريم لدفع الغرية المؤذنة بالبله فإن الإيمان يزيد الفطنة لأن أصول اعتقاده مبنية على نبذ كل ما من شأنه تضليل الرأي وطمس البصيرة ألا ترى إلى قوله : «والسعيد من وعظ بغيره» مع قوله : «لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين» ، وكلها تنادي على أن المؤمن لا يليق به البله وأما معنى «المؤمن غر كريم» فهو أن المؤمن لما زكت نفسه عن ضمائر

٢٧٠

الشر وخطورها بباله وحمل أحوال الناس على مثل حاله فعرضت له حالة استئمان تشبه الغرية قال ذو الرمة :

تلك الفتاة التي علقتها عرضا

إنّ الحليم وذا الإسلام يختلب

فاعتذر عن سرعة تعلقه بها واختلابها عقله بكرم عقله وصحة إسلامه فإن كل ذلك من أسباب جودة الرأي ورقة القلب فلا عجب أن يكون سريع التأثر منها.

ومعنى صدور الخداع من جانبهم للمؤمنين ظاهر ، وأما مخادعتهم الله تعالى المقتضية أن المنافقين قصدوا التمويه على الله تعالى مع أن ذلك لا يقصده عاقل يعلم أن الله مطلع على الضمائر والمقتضية أن الله يعاملهم بخداع ، وكذلك صدور الخداع من جانب المؤمنين للمنافقين كما هو مقتضى صيغة المفاعلة مع أن ذلك من مذموم الفعل لا يليق بالمؤمنين فعله فلا يستقيم إسناده إلى الله ولا قصد المنافقين تعلقه بمعاملتهم لله كل ذلك يوجب تأويلا في معنى المفاعلة الدال عليه صيغة (يُخادِعُونَ) أو في فاعله المقدر من الجانب الآخر وهو المفعول المصرح به.

فأما التأويل في (يُخادِعُونَ) فعلى وجوه :

أحدها : أن مفعول خادع لا يلزم أن يكون مقصودا للمخادع ـ بالكسر ـ إذ قد يقصد خداع أحد فيصادف غيره كما يخادع أحد وكيل أحد في مال فيقال له أنت تخادع فلانا وفلانا تعني الوكيل وموكّله ، فهم قصدوا خداع المؤمنين لأنهم يكذّبون أن يكون الإسلام من عند الله فلما كانت مخادعتهم المؤمنين لأجل الدّين كان خداعهم راجعا لشارع ذلك الدين ، وأمّا تأويل معنى خداع الله تعالى والمؤمنين إياهم فهو إغضاء المؤمنين عن بوادرهم وفلتات ألسنهم وكبوات أفعالهم وهفواتهم الدال جميعها على نفاقهم حتى لم يزالوا يعاملونهم معاملة المؤمنين فإن ذلك لما كان من المؤمنين بإذن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى لقد نهى من استأذنه في أن يقتل عبد الله بن أبي ابن سلول ، كان ذلك الصنيع بإذن الله فكان مرجعه إلى الله ، ونظيره قوله تعالى : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) في سورة النساء [١٤٢] ، كما رجع إليه خداعهم للمؤمنين ، وهذا تأويل في المخادعة من جانبيها ، كل بما يلائمه.

الثاني : ما ذكره صاحب «الكشاف» أن (يُخادِعُونَ) استعارة تمثيلية تشبيها للهيئة الحاصلة من معاملتهم للمؤمنين ولدين الله ، ومن معاملة الله إياهم في الإملاء لهم والإبقاء

٢٧١

عليهم ، ومعاملة المؤمنين إياهم في إجراء أحكام المسلمين عليهم ، بهيئة فعل المتخادعين.

الثالث : أن يكون خادع بمعنى خدع أي غير مقصود به حصول الفعل من الجانبين بل قصد المبالغة. قال ابن عطية عن الخليل : يقال خادع من واحد لأن في المخادعة مهلة كما يقال عالجت المريض لمكان المهلة ، قال ابن عطية كأنه يرد فاعل إلى اثنين ولا بدّ من حيث إن فيه مهلة ومدافعة ومماطلة فكأنه يقاوم في المعنى الذي يجيء فيه فاعل ا ه. وهذا يرجع إلى جعل صيغة المفاعلة مستعارة لمعنى المبالغة بتشبيه الفعل القوي بالفعل الحاصل من فاعلين على وجه التبعية ، ويؤيد هذا التأويل قراءة ابن عامر ومن معه : (يخدعون الله). وهذا إنما يدفع الإشكال عن إسناد صدور الخداع من الله والمؤمنين مع تنزيه الله والمؤمنين عنه ، ولا يدفع إشكال صدور الخداع من المنافقين لله.

وأما التأويل في فاعل (يُخادِعُونَ) المقدّر وهو المفعول أيضا فبأن يجعل المراد أنهم يخادعون رسول الله فالإسناد إلى الله تعالى إما على طريقة المجاز العقلي لأجل الملابسة بين الرسول ومرسله وإما مجاز بالحذف للمضاف ، فلا يكون مرادهم خداع الله حقيقة ، ويبقى أن يكون رسول الله مخدوعا منهم ومخادعا لهم ، وأما تجويز مخادعة الرسول والمؤمنين للمنافقين لأنها جزاء لهم على خداعهم فذلك غير لائق.

وقوله : (يُخادِعُونَ اللهَ) قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وخلف (يخادعون) بألف بعد الخاء وقرأه ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي وأبو جعفر ويعقوب (يَخْدَعُونَ) بفتح التحتية وسكون الخاء.

وجملة وما يخادعون إلا أنفسهم حال من الضمير في يخادعون الأول أي يخادعون في حال كونهم لا يخادعون إلا أنفسهم أي خداعهم مقصور عن ذواتهم لا يرجع شيء منه إلى الله والذين آمنوا ، فيتعين أن الخداع في قوله وما يخادعون عين الخداع المتقدم في قوله : يخادعون الله فيرد إشكال صحة قصر الخداع على أنفسهم مع إثبات مخادعتهم الله تعالى والمؤمنين. وقد أجاب صاحب «الكشاف» بما حاصله أن المخادعة الثانية مستعملة في لازم معنى المخادعة الأولى وهو الضّر فإنها قد استعملت أولا في مطلق المعاملة الشبيهة بالخداع وهي معاملة الماكر المستخف فأطلق عليها لفظ المخادعة استعارة ثم أطلقت ثانيا وأريد منها لازم معنى الاستعارة وهو الضر لأن الذي يعامل بالمكر والاستخفاف يتصدى للانتقام من معامله فقد يجد قدرة من نفسه أو غرّة من صاحبه

٢٧٢

فيضره ضرا فصار حصول الضر للمعامل أمرا عرفيا لازما لمعامله ، وبذلك صح استعمال يخادع في هذا المعنى مجازا أو كناية وهو من بناء المجاز على المجاز لأن المخادعة أطلقت أولا استعارة ثم نزلت منزلة الحقيقة فاستعملت مجازا في لازم المعنى المستعار له ، فالمعنى وما يضرون إلا أنفسهم فيجري فيه الوجوه المتعلقة بإطلاق مادة الخداع على فعلهم ، ويجىء تأويل معنى جعل أنفسهم شقا ثانيا للمخادعة مع أن الأنفس هي عينهم فيكون الخداع استعارة للمعاملة الشبيهة بفعل الجانبين المتخادعين بناء على ما شاع في وجدان الناس من الإحساس بأن الخواطر التي تدعو إلى ارتكاب ما تسوء عواقبه أنها فعل نفس هي مغايرة للعقل وهي التي تسول للإنسان الخير مرة والشر أخرى وهو تخيّل بني على خطابة أخلاقية لإحداث العداوة بين المرء وبين خواطره الشريرة بجعلها واردة عليه من جهة غير ذاته بل من النّفس حتى يتأهب لمقارعتها وعصيان أمرها ولو انتسبت إليه لما رأى من سبيل إلى مدافعتها ، قال عمرو بن معديكرب :

فجاشت عليّ أوّل مرة

فردّت على مكروهها فاستقرت

وذكر ابن عطية أن أبا عليّ الفارسي أنشد لبعض الأعراب :

لم تدر ما (لا) ولست قائلها

عمرك ما عشت آخر الأبد

ولم تؤامر نفسيك ممتريا

فيها وفي أختها ولم تكد

يريد بأختها كلمة (نعم) وهي أخت (لا) والمراد أنها أخت في اللسان. وقلت ومنه قول عروة بن أذينة :

وإذا وجدت لها وساوس سلوة

شفع الفؤاد إلى الضمير فسلّها

فكأنهم لما عصوا نفوسهم التي تدعوهم للإيمان عند سماع الآيات والنذر إذ لا تخلو النفس من أوبة إلى الحق جعل معاملتهم لها في الإعراض عن نصحها وإعراضها عنهم في قلة تجديد النصح لهم وتركهم في غيهم كالمخادعة من هذين الجانبين.

واعلم أن قوله : وما يخادعون إلا أنفسهم أجمعت القراءات العشر على قراءته بضم التحتية وفتح الخاء بعدها ألف. والنفس في لسان العرب الذات والقوة الباطنية المعبر عنها بالروح وخاطر العقل.

وقوله : (وَما يَشْعُرُونَ) عطف على جملة وما يخادعون والشعور يطلق على العلم بالأشياء الخفية ، ومنه سمي الشاعر شاعرا لعلمه بالمعاني التي لا يهتدي إليها كل

٢٧٣

أحد وقدرته على الوزن والتقفية بسهولة ، ولا يحسن لذلك كل أحد ، وقولهم ليت شعري في التحير في علم أمر خفي ، ولو لا الخفاء لما تمنى علمه بل لعلمه بلا تمن ، فقولهم هو لا يشعر وصف بعدم الفطنة لا بعدم الإحساس وهو أبلغ في الذم لأن الذم بالوصف الممكن الحصول أنكى من الذم بما يتحقق عدمه فإن إحساسهم أمر معلوم لهم وللناس فلا يغيضهم أن يوصفوا بعدمه وإنما الذي يغيضهم أن يوصفوا بالبلادة. على أن خفاء مخادعتهم أنفسهم مما لا يمتري فيه واختير مثله في نظيره في الخفاء وهو (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) [البقرة : ١٢] لأن كليهما أثبت فيه ما هو المآل والغاية وهي مما يخفي واختير في قوله (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ) [البقرة : ١٣] نفي العلم دون نفي الشعور لأن السفه قد يبدو لصاحبه بأقل التفاتة إلى أحواله وتصرفاته لأن السفه أقرب لادعاء الظهور من مخادعة النفس عند إرادة مخادعة الغير ومن حصول الإفساد عند إرادة الإصلاح وعلى الإطلاق الثاني درج صاحب «الكشاف» قال : فهم لتمادي غفلتهم كالذي لا حس له.

[١٠] (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠))

استئناف محض لعدّ مساويهم ويجوز أن يكون بيانيا لجواب سؤال متعجب ناشئ عن سماع الأحوال التي وصفوا بها قبل في قوله تعالى : (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) [البقرة : ٩] فإن من يسمع أن طائفة تخادع الله تعالى وتخادع قوما عديدين وتطمع أن خداعها يتمشى عليهم ثم لا تشعر بأن ضرر الخداع لا حق بها لطائفة جديرة بأن يتعجب من أمرها المتعجب ويتساءل كيف خطر هذا بخواطرها فكان قوله : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) بيانا وهو أن في قلوبهم خللا تزايد إلى أن بلغ حد الأفن. ولهذا قدم الظرف وهو (فِي قُلُوبِهِمْ) للاهتمام لأن القلوب هي محل الفكرة في الخداع فلما كان المسئول عنه هو متعلقها وأثرها كان هو المهتم به في الجواب. وتنوين (مَرَضٌ) للتعظيم. وأطلق القلوب هنا على محل التفكير كما تقدم عند قوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) [البقرة : ٧].

والمرض حقيقة في عارض للمزاج يخرجه عن الاعتدال الخاص بنوع ذلك الجسم خروجا غير تام وبمقدار الخروج يشتد الألم فإن تم الخروج فهو الموت ، وهو مجاز في الأعراض النفسانية العارضة للأخلاق البشرية عروضا يخرجها عن كمالها ، وإطلاق

٢٧٤

المرض على هذا شائع مشهور في كلام العرب ، وتدبير المزاج لإزالة هذا العارض والرجوع به إلى اعتداله هو الطب الحقيقي ومجازي كذلك قال علقمة بن عبدة الملقب بالفحل :

فإن تسألوني بالنساء فإنني

خبير بأدواء النساء طبيب

فذكر الأدواء والطب لفساد الأخلاق وإصلاحها.

والمراد بالمرض في هاته الآية هو معناه المجازي لا محالة لأنه هو الذي اتصف به المنافقون وهو المقصود من مذمتهم وبيان منشأ مساوي أعمالهم.

ومعنى (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) أن تلك الأخلاق الذميمة الناشئة عن النفاق والملازمة له كانت تتزايد فيهم بتزايد الأيام لأن من شأن الأخلاق إذا تمكنت أن تتزايد بتزايد الأيام حتى تصير ملكات كما قال المعلوط القريعي :

ورجّ الفتى للخير ما إن رأيته

على السّنّ خيرا لا يزال يزيد

وكذلك القول في الشر ولذلك قيل : من لم يتحلم في الصغر لا يتحلم في الكبر ، وقال النابغة يهجو عامر بن الطفيل :

فإنك سوف تحلم أو تناهى

إذا ما شبت أو شاب الغراب

وإنما كان النفاق موجبا لازدياد ما يقارنه من سيئ الأخلاق لأن النفاق يستر الأخلاق الذميمة فتكون محجوبة عن الناصحين والمربين والمرشدين وبذلك تتأصل وتتوالد إلى غير حد فالنفاق في كتمه مساوئ الأخلاق بمنزلة كتم المريض داءه عن الطبيب ، وإليك بيان ما ينشأ عن النفاق من الأمراض الأخلاقية في الجدول المذكور هنا وأشرنا إلى ما يشير إلى كل خلق منها في الآيات الواردة هنا أو في آيات أخرى في هذا الجدول :

٢٧٥

٢٧٦

اعلم أن هذه طباع تنشأ عن النفاق أو تقارنه من حيث هو ولا سيما النفاق في الدين فقد نبهنا الله تعالى لمذام ذلك تعليما وتربية فإن النفاق يعتمد على ثلاث خصال وهي : الكذب القولي ، والكذب الفعلي وهو الخداع ، ويقارن ذلك الخوف لأن الكذب والخداع إنما يصدران ممن يتوقى إظهار حقيقة أمره وذلك لا يكون إلا لخوف ضر أو لخوف إخفاق سعي وكلاهما مؤذن بقلة الشجاعة والثبات والثقة بالنفس وبحسن السلوك ، ثم إن كل خصلة من هاته الخصال الثلاث الذميمة توكّد هنوات أخرى ، فالكذب ينشأ عن شيء من البله لأن الكاذب يعتقد أن كذبه يتمشى عند الناس وهذا من قلة الذكاء لأن النبيه يعلم أن في الناس مثله وخيرا منه ، ثم البله يؤدي إلى الجهل بالحقائق وبمراتب العقول ، ولأن الكذب يعود فكر صاحبه بالحقائق المحرّفة وتشتبه عليه مع طول الاسترسال في ذلك حتى إنه ربما اعتقد ما اختلقه واقعا ، وينشأ عن الأمرين السفه وهو خلل في الرأي وأفن في العقل ، وقد أصبح علماء الأخلاق والطب يعدون الكذب من أمراض الدماغ.

وأما نشأة العجب والغرور والكفر وفساد الرأي عن الغباوة والجهل والسفه فظاهرة ، وكذلك نشأة العزلة والجبن والتستر عن الخوف ، وأما نشأة عداوة الناس عن الخداع فلأن عداوة الأضداد تبدأ من شعورهم بخداعه ، وتعقبها عداوة الأصحاب لأنهم إذا رأوا تفنن ذلك الصاحب في النفاق والخداع داخلهم الشك أن يكون إخلاصه الذي يظهره لهم هو من المخادعة فإذا حصلت عداوة الفريقين تصدى الناس كلهم للتوقي منه والنكاية به ، وتصدى هو للمكر بهم والفساد ليصل إلى مرامه ، فرمته الناس عن قوس واحدة واجتنى من ذلك أن يصير هزأة للناس أجمعين.

وقد رأيتم أن الناشئ عن مرض النفاق والزائد فيه هو زيادة ذلك الناشئ أي تأصله وتمكنه وتولد مذمات أخرى عنه ، ولعل تنكير (مرض) في الموضعين أشعر بهذا فإن تنكير الأول للإشارة إلى تنويع أو تكثير ، وتنكير الثاني ليشير إلى أن المزيد مرض آخر على قاعدة إعادة النكرة نكرة.

وإنما أسندت زيادة مرض قلوبهم إلى الله تعالى مع أن زيادة هاته الأمراض القلبية من ذاتها لأن الله تعالى لما خلق هذا التولّد وأسبابه وكان أمرا خفيا نبه الناس على خطر الاسترسال في النوايا الخبيثة والأعمال المنكرة ، وأنه من شأنه أن يزيد تلك النوايا تمكنا من القلب فيعسر أو يتعذر الإقلاع عنها بعد تمكنها ، وأسندت تلك الزيادة إلى اسمه تعالى لأن الله تعالى غضب عليهم فأهملهم وشأنهم ولم يتداركهم بلطفه الذي يوقظهم من

٢٧٧

غفلاتهم لينبه المسلمين إلى خطر أمرها وأنها مما يعسر إقلاع أصحابها عنها ليكون حذرهم من معاملتهم أشد ما يمكن.

فجملة : (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) خبرية معطوفة على قوله : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) واقعة موقع الاستئناف للبيان ، داخلة في دفع التعجب ، أي إن سبب توغلهم في الفساد ومحاولتهم ما لا ينال لأن في قلوبهم مرضا ولأنه مرض يتزايد مع الأيام تزايدا مجعولا من الله فلا طمع في زواله. وقال بعض المفسرين : هي دعاء عليهم كقول جبير بن الأضبط :

تباعد عني فطحل إذ دعوته

أمين فزاد الله ما بيننا بعدا

وهو تفسير غير حسن لأنه خلاف الأصل في العطف بالفاء ولأن تصدي القرآن لشتمهم بذلك ليس من دأبه ، ولأن الدعاء عليهم بالزيادة تنافي ما عهد من الدعاء للضالين بالهداية في نحو : «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون».

وقوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) معطوف على قوله : (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً) إكمالا للفائدة فكمل بهذا العطف بيان ما جره النفاق إليهم من فساد الحال في الدنيا والعذاب في الآخرة. وتقديم الجار والمجرور وهو (لَهُمْ) للتنبيه على أنه خبر لا نعت حتى يستقر بمجرد سماع المبتدأ العلم بأن ذلك من صفاتهم فلا تلهو النفس عن تلقيه.

والأليم فعيل بمعنى مفعول لأن الأكثر في هذه الصيغة أن الرباعي بمعنى مفعل وأصله عذاب مؤلم بصيغة اسم المفعول أي مؤلم من يعذّب به على طريقة المجاز العقلي لأن المؤلم هو المعذب دون العذاب كما قالوا جدّ جدّه ، أو هو فعيل بمعنى فاعل من ألم بمعنى صار ذا ألم ، وإما أن يكون فعيل بمعنى مفعل أي مؤلم بكسر اللام ، فقيل لم يثبت عن العرب في هذه المادة وثبت في نظيرها نحو الحكيم والسميع بمعنى المسمع كقول عمرو بن معديكرب :

وخيل قد دلفت لها بخيل

تحية بينهم ضرب وجيع

أي موجع ، واختلف في جواز القياس عليه والحق أنه كثير في الكلام البليغ وأن منع القياس عليه للمولدين قصد منه التباعد عن مخالفة القياس بدون داع لئلا يلتبس حال الجاهل بحال البليغ فلا مانع من تخريج الكلام الفصيح عليه.

٢٧٨

وقوله : (بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) الباء للسببية. وقرأ الجمهور (يكذّبون) بضم أوله وتشديد الذال. وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وخلف بفتح أوله وتخفيف الذال أي بسبب تكذيبهم الرسول وإخباره بأنه مرسل من الله وأن القرآن وحي الله إلى الرسول ، فمادة التفعيل للنسبة إلى الكذب مثل التعديل والتجريح ، وأما قراءة التخفيف فعلى كذبهم الخاص في قولهم : (آمَنَّا بِاللهِ) [البقرة : ٨] وعلى كذبهم العام في قولهم : (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) [البقرة : ١١] فالمقصود كذبهم في إظهار الإيمان وفي جعل أنفسهم المصلحين دون المؤمنين.

والكذب ضد الصدق ، وسيأتي عند قوله تعالى : (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) في سورة المائدة [١٠٣]. و (ما) المجرورة بالباء مصدرية ، والمصدر هو المنسبك من كان أي الكون.

[١١] (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١))

يظهر لي أن جملة (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) عطف على جملة (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) [البقرة : ١٠] ؛ لأن قوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) إخبار عن بعض عجيب أحوالهم ، ومن تلك الأحوال أنهم قالوا (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) في حين أنهم مفسدون فيكون معطوفا على أقرب الجمل الملظة (١) لأحوالهم وإن كان ذلك آئلا في المعنى إلى كونه معطوفا على الصلة في قوله : (مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ) [البقرة : ٨].

و (إذا) هنا لمجرد الظرفية وليست متضمنة معنى الشرط كما أنها هنا للماضي وليست للمستقبل وذلك كثير فيها كقوله تعالى : (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) [آل عمران : ١٥٢] الآية. ومن نكت القرآن المغفول عنها تقييد هذا الفعل بالظرف فإن الذي يتبادر إلى الذهن أن محل المذمة هو أنهم يقولون (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) مع كونهم مفسدين ، ولكن عند التأمل يظهر أن هذا القول يكون قائلوه أجدر بالمذمة حين يقولونه في جواب من يقول لهم (لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) فإن هذا الجواب الصادر من المفسدين لا ينشأ إلا عن مرض القلب وأفن الرأي ، لأن شأن الفساد أن لا يخفى ولئن خفي فالتصميم عليه واعتقاد أنه صلاح بعد الإيقاظ إليه والموعظة إفراط في الغباوة أو المكابرة وجهل فوق جهل.

__________________

(١) الملظة : الملازمة.

٢٧٩

وعندي أن هذا هو المقتضى لتقديم الظرف على جملة (قالُوا ...) ، لأنه أهم إذ هو محل التعجيب من حالهم ، ونكت الإعجاز لا تتناهى.

والقائل لهم (لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) بعض من وقف على حالهم من المؤمنين الذين لهم اطلاع على شئونهم لقرابة أو صحبة ، فيخلصون لهم النصيحة والموعظة رجاء إيمانهم ويسترون عليهم خشية عليهم من العقوبة وعلما بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يغضي عن زلاتهم كما أشار إليه ابن عطية. وفي جوابهم بقولهم : (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) ما يفيد أن الذين قالوا لهم (لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) كانوا جازمين بأنهم مفسدون لأن ذلك مقتضى حرف إنما كما سيأتي ويدل لذلك عندي بناء فعل قيل للمجهول بحسب ما يأتي في قوله تعالى : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا) [البقرة : ٨] ولا يصح أن يكون القائل لهم الله ـ والرسول ـ إذ لو نزل الوحي وبلغ إلى معينين منهم لعلم كفرهم ولو نزل مجملا كما تنزل مواعظ القرآن لم يستقم جوابهم بقولهم : (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ).

وقد عنّ لي في بيان إيقاعهم الفساد أنه مراتب :

أولها : إفسادهم أنفسهم بالإصرار على تلك الأدواء القلبية التي أشرنا إليها فيما مضى وما يترتب عليها من المذام ويتولد من المفاسد.

الثانية : إفسادهم الناس ببث تلك الصفات والدعوة إليها ، وإفسادهم أبناءهم وعيالهم في اقتدائهم بهم في مساويهم كما قال نوح عليه‌السلام : (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً) [نوح : ٢٧].

الثالث : إفسادهم بالأفعال التي ينشأ عنها فساد المجتمع ، كإلقاء النميمة والعداوة وتسعير الفتن وتأليب الأحزاب على المسلمين وإحداث العقبات في طريق المصلحين.

والإفساد فعل ما به الفساد ، والهمزة فيه للجعل أي جعل الأشياء فاسدة في الأرض. والفساد أصله استحالة منفعة الشيء النافع إلى مضرة به أو بغيره ، وقد يطلق على وجود الشيء مشتملا على مضرة ، وإن لم يكن فيه نفع من قبل يقال فسد الشيء بعد أن كان صالحا ويقال فاسد إذا وجد فاسدا من أول وهلة ، وكذلك يقال أفسد إذا عمد إلى شيء صالح فأزال صلاحه ، ويقال أفسد إذا أوجد فسادا من أول الأمر. والأظهر أن الفساد موضوع للقدر المشترك من المعنيين وليس من الوضع المشترك ، فليس إطلاقه عليهما كما هنا من قبيل استعمال المشترك في معنييه. فالإفساد في الأرض منه تصيير

٢٨٠