تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٣٥

وأراهم أبدعوا وأعجبوا إذ جعلوا علم ذاته تعالى مشتقا من اسم الجنس المؤذن بمفهوم الألوهية تنبيها على أن ذاته تعالى لا تستحضر عند واضح العلم وهو الناطق الأول بهذا الاسم من أهل اللسان إلا بوصف الألوهية (١) وتنبيها على أنه تعالى أولى من يؤلّه ويعبد لأنه خالق الجميع فحذفوا الهمزة من الإله لكثرة استعمال هذا اللفظ عند الدلالة عليه تعالى كما حذفوا همزة الأناس فقالوا النّاس ؛ ولذلك أظهروها في بعض الكلام. قال البعيث بن حريث (٢).

معاذ الإله أن تكون كظبية

ولا دمية ولا عقيلة ربرب

كما أظهروا همزة الأناس في قول عبيد بن الأبرص الأسدي :

إن المنايا ليطّلع

ن على الأناس الآمنين

ونزّل هذا اللفظ في طوره الثالث منزلة الأعلام الشخصية فتصرفوا فيه هذا التصرف لينتقلوا به إلى طور جديد فيجعلوه مثل علم جديد ، وهذه الطريقة مسلوكة في بعض الأعلام. قال أبو الفتح بن جني في شرح قول تأبط شرا في النشيد الثالث عشر من «الحماسة» :

إني لمهد من ثنائي فقاصد

به لابن عم الصدق شمس بن مالك

__________________

(١) فيكون وصف الألوهية طريقا لاستحضار الذات المقصودة بالعلية ولذلك لا يجعل الاسم العلم وصفا قال السيد في «شرح الكشاف» : الاسم قد يوضع لذات مبهمة باعتبار معنى يقوم بها فيتركب مدلوله من صفة معنى ومن ذات مبهمة فيصح إطلاق الاسم على كل متصف بتلك الصفة وهذا يسمى صفة ولذلك المعنى المعتبر فيه يسمى مصحح الإطلاق كالمعبود مثلا. وقد يوضع لذات معينة من غير ملاحظة شيء من المعاني القائمة بها وهذا يسمى اسما لا يشتبه بالصفة كإبل وفرس ، وقد يوضع لذات معينة ويلاحظ عند الوضع معنى له نوع تعلق بها. وذلك نوعان : الأول أن يكون المعنى خارجا عن الموضوع له ولكنه سبب باعث على تعيين الاسم بإزائه كأحمر إذا جعل علما لمولود فيه حمرة. النوع الثاني أن يكون ذلك المعنى داخلا في مفهومه كأسماء الزمان والمكان وهذان النوعان شديدا الاشتباه بالصفات ، ومعيار الفرق أنهما يوصفان ولا يوصف بهما ا ه يعني والإله من النوع الأول من القسم الثالث.

(٢) وبعد البيت :

ولكنها زادت على الحسن كله

كمالا ومن طيب على كل طيب

وهذا من التنزيه على التشبيه وهذا الشاعر غير مولد كما هو ظاهر كلام المعري الذي نقله الخطيب التبريزي في «شرحه على الحماسة».

١٦١

شمس بضم الشين وأصله شمس بفتحها كما قالوا حجر وسلمى فيكون مما غير عن نظائره لأجل العلمية ا ه. وفي «الكشاف» في تفسير سورة أبي لهب بعد أن ذكر أن من القراء من قرأ (أبي لهب) بسكون الهاء ما نصه وهي من تغيير الأعلام كقولهم شمس بن مالك بالضم ا ه. وقال قبله : «ولفليته بن قاسم أمير مكة ابنان أحدهما عبد الله بالجر ، والآخر عبد الله بالنصب ، وكان بمكة رجل يقال له عبد الله لا يعرف إلا هكذا» ا ه. يعني بكسر دال عبد في جميع أحوال إعرابه ، فهو بهذا الإيماء نوع مخصوص من العلم ، وهو أنه أقوى من العلم بالغلبة لأن له لفظا جديدا بعد اللفظ المغلّب. وهذه الطريقة في العلمية التي عرضت لاسم الجلالة لا نظير لها في الأعلام فكان اسمه تعالى غير مشابه لأسماء الحوادث كما أن مسمى ذلك الاسم غير مماثل لمسميات أسماء الحوادث. وقد دلوا على تناسيهم ما في الألف واللام من التعريف وأنهم جعلوهما جزءا من الكلمة بتجويزهم نداء اسم الجلالة مع إبقاء الألف واللام إذ يقولون يا الله مع أنهم يمنعون نداء مدخول الألف واللام.

وقد احتج صاحب «الكشاف» على كون أصله الإله ببيت البعيث المتقدم ، ولم يقرر ناظروه وجه احتجاجه به ، وهو احتجاج وجيه لأن معاذ من المصادر التي لم ترد في استعمالهم مضافة لغير اسم الجلالة ، مثل سبحان فأجريت مجرى أمثال في لزومها لهاته الإضافة ، إذا تقول معاذ الله فلما قال الشاعر معاذ الإله وهو من فصحاء اللسان علمنا أنهم يعتبرون الإله أصلا للفظ الله ، ولذلك لم يكن هذا التصرف تغييرا إلا أنه تصرف في حروف اللفظ الواحد كاختلاف وجوه الأداء مع كون اللفظ واحدا ، ألا ترى أنهم احتجوا على أن لاه مخفف الله بقول ذي الأصبع العدواني :

لاه ابن عمّك لا أفضلت في حسب

عنّى ولا أنت ديّاني فتخزوني

وبقولهم لاه أبوك لأن هذا مما لزم حالة واحدة ، إذ يقولون لله أبوك ولله ابن عمك ولله أنت.

وقد ذكرت وجوه أخر في أصل اسم الجلالة : منها أن أصله لاه مصدر لاه يليه ليها إذا احتجب سمي به الله تعالى ، ثم أدخلت عليه الألف واللام للمح الأصل كالفضل والمجد اسمين ، وهذا الوجه ذكر الجوهري عن سيبويه أنه جوزه. ومنها أن أصله ولاه بالواو فعال بمعنى مفعول من وله إذا تحيّر ، ثم قلبت الواو همزة لاستثقال الكسرة عليها ، كما قلبت في إعاء وإشاح ، أي وعاء ووشاح ، ثم عرف بالألف واللام وحذفت الهمزة.

١٦٢

ومنها أن أصله (لاها) بالسريانية علم له تعالى فعرب بحذف الألف وإدخال اللام عليه. ومنها أنه علم وضع لاسم الجلالة بالقصد الأوّلي من غير أخذ من أله وتصييره الإله فتكون مقاربته في الصورة لقولنا الإله مقاربة اتفاقية غير مقصودة ، وقد قال بهذا جمع منهم الزجاج ونسب إلى الخليل وسيبويه ، ووجّهه بعض العلماء بأن العرب لم تهمل شيئا حتى وضعت له لفظا فكيف يتأتى منهم إهمال اسم له تعالى لتجري عليه صفاته.

وقد التزم في لفظ الجلالة تفخيم لامه إذا لم ينكسر ما قبل لفظه وحاول بعض الكاتبين توجيه ذلك بما لا يسلم من المنع ، ولذلك أبى صاحب «الكشاف» التعريج عليه فقال : «وعلى ذلك (أي التفخيم) العرب كلهم ، وإطباقهم عليه دليل أنهم ورثوه كابرا عن كابر».

وإنما لم يقدم المسند المجرور وهو متضمن لاسم الجلالة على المسند إليه فيقال لله الحمد ، لأن المسند إليه حمد على تنزيل القرآن والتشرف بالإسلام وهما منة من الله تعالى فحمده عليهما عند ابتداء تلاوة الكتاب الذي به صلاح الناس في الدارين فكان المقام للاهتمام به اعتبارا لأهمية الحمد العارضة ، وإن كان ذكر الله أهم أصالة فإن الأهمية العارضة تقدم على الأهمية الأصلية لاقتضاء المقام والحال ، والبلاغة هي المطالبة لمقتضى الحال ، على أن الحمد لما تعلق باسم الله تعالى كان في الاهتمام به اهتمام بشئون الله تعالى.

ومن أعجب الآراء ما ذكره صاحب «المنهل الأصفى في شرح الشفاء» التلمساني عن جمع من العلماء القول بأن اسم الجلالة يمسك عن الكلام في معناه تعظيما وإجلالا ولتوقف الكلام فيه على إذن الشارع.

(رَبِّ الْعالَمِينَ).

وصف لاسم الجلالة فإنه بعد أن أسند الحمد لاسم ذاته تعالى تنبيها على الاستحقاق الذاتي ، عقب بالوصف وهو الرب ليكون الحمد متعلقا به أيضا لأن وصف المتعلّق متعلّق أيضا ، فلذلك لم يقل الحمد لرب العالمين كما قال : (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [المطففين : ٦] ليؤذن باستحقاقه الوصفي أيضا للحمد كما استحقه بذاته.

وقد أجرى عليه أربعة أوصاف هي : رب العالمين ، الرحمن ، الرحيم ، ملك يوم الدين ، للإيذان بالاستحقاق الوصفي فإن ذكر هذه الأسماء المشعرة بالصفات يؤذن بقصد

١٦٣

ملاحظة معانيها الأصلية ، وهذا من المستفادات من الكلام بطريق الاستتباع لأنه لما كان في ذكر الوصف غنية عن ذكر الموصوف لا سيما إذا كان الوصف منزلا منزلة الاسم كأوصافه تعالى وكان في ذكر لفظ الموصوف أيضا غنية في التنبيه على استحقاق الحمد المقصود من الجملة علمنا أن المتكلم ما جمع بينهما إلا وهو يشير إلى أن كلا مدلولي الموصوف والصفة جدير بتعلق الحمد له مع ما في ذكر أوصافه المختصة به من التذكير بما يميزه عن الآلهة المزعومة عند الأمم من الأصنام والأوثان والعناصر كما سيأتي عند قوله تعالى : ملك يوم الدين.

والرب إما مصدر وإما صفة مشبهة على وزن فعل من ربّه يربّه بمعنى رباه وهو رب بمعنى مربّ وسائس. والتربية تبليغ الشيء إلى كماله تدريجا ، ويجوز أن يكون من ربه بمعنى ملكه ، فإن كان مصدرا على الوجهين فالوصف به للمبالغة ، وهو ظاهر ، وإن كان صفة مشبهة على الوجهين فهي واردة على القليل في أوزان الصفة المشبهة فإنها لا تكون على فعل من فعل يفعل إلا قليلا ، من ذلك قولهم نمّ الحديث ينمّه فهو نمّ للحديث.

والأظهر أنه مشتق من ربّه بمعنى رباه وساسه ، لا من ربه بمعنى ملكه لأن الأول الأنسب بالمقام هنا إذ المراد أنه مدبر الخلائق وسائس أمورها ومبلغها غاية كمالها ، ولأنه لو حمل على معنى المالك لكان قوله تعالى بعد ذلك ملك يوم الدين كالتأكيد والتأكيد خلاف الأصل ولا داعي إليه هنا ، إلا أن يجاب بأن العالمين لا يشمل إلا عوالم الدنيا ، فيحتاج إلى بيان أنه ملك الآخرة كما أنه ملك الدنيا ، وإن كان الأكثر في كلام العرب ورود الرب بمعنى الملك والسيد وذلك الذي دعا صاحب «الكشاف» إلى الاقتصار على معنى السيد والملك وجوز فيه وجهي المصدرية والصفة ، إلا أن قرينة المقام قد تصرف عن حمل اللفظ على أكثر موارده إلى حمله على ما دونه فإن كلا الاستعمالين شهير حقيقي أو مجازي والتبادر العارض من المقام المخصوص لا يقضي بتبادر استعماله في ذلك المعنى في جميع المواقع كما لا يخفي. والعرب لم تكن تخص لفظ الرب به تعالى لا مطلقا ولا مقيدا لما علمت من وزنه واشتقاقه. قال الحرث بن حلزة :

وهو الرب والشهيد على يو

م الحيارين والبلاء بلاء

يعني عمرو بن هند. وقال النابغة في النعمان بن الحارث :

تخبّ إلى النعمان حتى تناله

فدى لك من ربّ طريفي وتالدي

وقال في النعمان بن المنذر حين مرض :

١٦٤

وربّ عليه الله أحسن صنعه

وكان له على البرية ناصرا

وقال صاحب «الكشاف» ومن تابعه : إنه لم يطلق على غيره تعالى إلا مقيدا أو لم يأتوا على ذلك بسند وقد رأيت أن الاستعمال بخلافه ، أما إطلاقه على كل من آلهتهم فلا مرية فيه كما قال غاوي بن ظالم أو عباس بن مرداس :

أربّ يبول الثّعلبان برأسه

لقد هان من بالت عليه الثعالب

وسموا العزى الرّبة. وجمعه على أرباب أدل دليل على إطلاقه على متعدد فكيف تصح دعوى تخصيص إطلاقه عندهم بالله تعالى؟ وأما إطلاقه مضافا أو متعلقا بخاص فظاهر وروده بكثرة نحو رب الدار ورب الفرس ورب بني فلان.

وقد ورد الإطلاق في الإسلام أيضا حين حكى عن يوسف عليه‌السلام قوله : (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) [يوسف : ٢٣] إذا كان الضمير راجعا إلى العزيز وكذا قوله : (أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ) [يوسف : ٣٩] فهذا إطلاق للرب مضافا وغير مضاف على غير الله تعالى في الإسلام لأن اللفظ عربي أطلق في الإسلام ، وليس يوسف أطلق هذا اللفظ بل أطلق مرادفه فلو لم يصح التعبير بهذا اللفظ عن المعنى الذي عبر به يوسف لكان في غيره من ألفاظ العربية معدل ، إنما ورد في الحديث النهي عن أن يقول أحد لسيده ربي وليقل سيدي ، وهو نهي كراهة للتأديب ولذلك خص النهي بما إذا كان المضاف إليه ممن يعبد عرفا كأسماء الناس لدفع تهمة الإشراك وقطع دابره وجوزوا أن يقول رب الدابة ورب الدار ، وأما بالإطلاق فالكراهة أشد فلا يقل أحد للملك ونحوه هذا رب.

و (العالمين) جمع عالم قالوا ولم يجمع فاعل هذا الجمع إلا في لفظين عالم وياسم ، اسم للزهر المعروف بالياسمين ، قيل جمعوه على ياسمون وياسمين قال الأعشى :

وقابلنا الجلّ والياسم

ون والمسمعات وقصّابها

والعالم الجنس من أجناس الموجودات ، وقد بنته العرب على وزن فاعل بفتح العين مشتقا من العلم أو من العلامة لأن كل جنس له تميز عن غيره فهو له علامة ، أو هو سبب العلم به فلا يختلط بغيره. وهذا البناء مختص بالدلالة على الآلة غالبا كخاتم وقالب وطابع فجعلوا العوالم لكونها كالآلة للعلم بالصانع ، أو العلم بالحقائق. ولقد أبدع العرب في هذه اللطيفة إذ بنوا اسم جنس الحوادث على وزن فاعل لهذه النكتة ، ولقد أبدعوا إذ جمعوه جمع العقلاء مع أن منه ما ليس بعاقل تغليبا للعاقل.

١٦٥

وقد قال التفتازانيّ في «شرح الكشاف» : «العالم اسم لذوي العلم ولكل جنس يعلم به الخالق ، يقال عالم الملك ، عالم الإنسان ، عالم النبات يريد أنه لا يطلق بالإفراد إلا مضافا لنوع يخصصه يقال عالم الإنس عالم الحيوان ، عالم النبات وليس اسما لمجموع ما سواه تعالى بحيث لا يكون له إجراء فيمتنع جمعه» وهذا هو تحقيق اللغة فإنه لا يوجد في كلام العرب إطلاق عالم على مجموع ما سوى الله تعالى ، وإنما أطلقه على هذا علماء الكلام في قولهم العالم حادث فهو من المصطلحات.

والتعرف فيه للاستغراق بقرينة المقام الخطابي فإنه إذا لم يكن عهد خارجي ولم يكن معنى للحمل على الحقيقة ولا على المعهود الذهني تمحض التعريف للاستغراق لجميع الأفراد دفعا للتحكم فاستغراقه استغراق الأجناس الصادق هو عليها لا محالة وهو معنى قول صاحب «الكشاف» : «ليشمل كل جنس مما سمّي به» إلا أن استغراق الأجناس يستلزم استغراق أفرادها استلزاما واضحا إذ الأجناس لا تقصد لذاتها لا سيما في مقام الحكم بالمربوبية عليها فإنه لا معنى لمربوبية الحقائق.

وإنما جمع العالم ولم يؤت به مفردا لأن الجمع قرينة على استغراق ، لأنه لو أفرد لتوهم أن المراد من التعريف العهد أو الجنس فكان الجمع تنصيصا على الاستغراق ، وهذه سنة الجموع مع (ال) الاستغراقية على التحقيق ، ولما صارت الجمعية قرينة على الاستغراق بطل منها معنى الجماعات فكان استغراق الجموع مساويا لاستغراق المفردات أو أشمل منه. وبطل ما شاع عند متابعي السكاكي من قولهم استغراق المفرد أشمل كما سنبينه عند قوله تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) [البقرة : ٣١].

[٣]. (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

وصفان مشتقان من رحم ، وفي «تفسير القرطبي» عن ابن الأنباري عن المبرد أن الرحمن اسم عبراني نقل إلى العربية قال وأصله بالخاء المعجمة (أي فأبدلت خاؤه حاء مهملة عند أكثر العرب كشأن التغيير في التعريب) وأنشد على ذلك قول جرير يخاطب الأخطل :

أو تتركنّ إلى القسّيس هجرتكم

ومسحكم صلبكم رخمان قربانا

(الرواية بالخاء المعجمة) ولم يأت المبرد بحجة على ما زعمه ، ولم لا يكون الرحمن عربيا كما كان عبرانيا فإن العربية والعبرانية أختان وربما كانت العربية الأصلية

١٦٦

أقدم من العبرانية ولعل الذي جرأه على ادعاء أن الرحمن اسم عبراني ما حكاه القرآن عن المشركين في قوله : (قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ) [الفرقان : ٦٠] ويقتضي أن العرب لم يكونوا يعلمون هذا الاسم لله تعالى كما سيأتي بعض عرب اليمن يقولون رخم رخمة بالمعجمة.

واسم الرحمة موضوع في اللغة العربية لرقة الخاطر وانعطافه نحو حيّ بحيث تحمل من اتصف بها على الرفق بالمرحوم والإحسان إليه ودفع الضر عنه وإعانته على المشاق. فهي من الكيفيات النفسانية لأنها انفعال ، ولتلك الكيفية اندفاع يحمل صاحبها على أفعال وجودية بقدر استطاعته وعلى قدر قوة انفعاله ، فأصل الرحمة من مقولة الانفعال وآثارها من مقولة الفعل ، فإذا وصف موصوف بالرحمة كان معناه حصول الانفعال المذكور في نفسه ، وإذا أخبر عنه بأنه رحم غيره فهو على معنى صدر عنه أثر من آثار الرحمة ، إذ لا تكون تعدية فعل رحم إلى المرحوم إلا على هذا المعنى فليس لماهية الرحمة جزئيات وجودية ولكنها جزئيات من آثارها. فوصف الله تعالى بصفات الرحمة في اللغات ناشئ على مقدار عقائد أهلها فيما يجوز على الله ويستحيل ، وكان أكثر الأمم مجسّمة ثم يجيء ذلك في لسان الشرائع تعبيرا عن المعاني العالية بأقصى ما تسمح به اللغات مع اعتقاد تنزيه الله عن أعراض المخلوقات بالدليل العام على التنزيه وهو مضمون قول القرآن : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] فأهل الإيمان إذا سمعوا أو أطلقوا وصفي الرحمن الرحيم لا يفهمون منه حصول ذلك الانفعال الملحوظ في حقيقة الرحمة في متعارف اللغة العربية لسطوع أدلة تنزيه الله تعالى عن الأعراض ، بل إنه يراد بهذا الوصف في جانب الله تعالى إثبات الغرض الاسمي من حقيقة الرحمة وهو صدور آثار الرحمة من الرفق واللطف والإحسان والإعانة ؛ لأن ما عدا ذلك من القيود الملحوظة في مسمى الرحمة في متعارف الناس لا أهمية له لو لا أنه لا يمكن بدونه حصول آثاره فيهم ألا ترى أن المرء قد يرحم أحدا ولا يملك له نفعا لعجز أو نحوه.

وقد أشار إلى ما قلناه أبو حامد الغزالي في «المقصد الأسنى» بقوله : «الذي يريد قضاء حاجة المحتاج ولا يقضيها فإن كان قادرا على قضائها لم يسمّ رحيما إذ لو تمت الإرادة لوفّى بها وإن كان عاجزا فقد يسمى رحيما باعتبار ما اعتوره من الرحمة والرقة ولكنه ناقص». وبهذا تعلم أن إطلاق نحو هذا الوصف على الله تعالى ليس من المتشابه لتبادر المعنى المراد منه بكثرة استعماله وتحقق تنزه الله عن لوازم المعنى المقصود في الوضع مما لا يليق بجلال الله تعالى كما نطلق العليم على الله مع التيقن بتجرد علمه عن

١٦٧

الحاجة إلى النظر والاستدلال وسبق الجهل ، وكما نطلق الحي عليه تعالى مع اليقين بتجرد حياته عن العادة والتكون ، ونطلق القدرة مع اليقين بتجرد قدرته عن المعالجة والاستعانة. فوصفه تعالى بالرحمن الرحيم من المنقولات الشرعية فقد أثبت القرآن رحمة الله في قوله : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) [الأعراف : ١٥٦] فهي منقولة في لسان الشرع إلى إرادة الله إيصال الإحسان إلى مخلوقاته في الحياة الدنيا وغالب الأسماء الحسنى من هذا القبيل. وأما المتشابه فهو ما كانت دلالته على المعنى المنزه عنه أقوى وأشد وسيأتي في سورة آل عمران [٧] عند قوله تعالى : (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ). والذي ذهب إليه صاحب «الكشاف» وكثير من المحققين أن الرحمن صفة مشبهة كغضبان وبذلك مثله في «الكشاف».

وفعل رحم وإن كان متعديا والصفة المشبهة إنما تصاغ من فعل لازم إلا أن الفعل المتعدي إذا صار كالسجية لموصوفه ينزل منزلة أفعال الغرائز فيحول من فعل بفتح العين أو كسرها إلى فعل بضم العين للدلالة على أنه صار سجية كما قالوا فقه الرجل وظرف وفهم ، ثم تشتق منه بعد ذلك الصفة المشبهة ، ومثله كثير في الكلام ، وإنما يعرف هذا التحويل بأحد أمرين إما بسماع الفعل المحول مثل فقه وإما بوجود أثره وهو الصفة المشبهة مثل بليغ إذا صارت البلاغة سجية له ، مع عدم أو قلة سماع بلغ. ومن هذا رحمن إذ لم يسمع رحم بالضم. ومن النحاة من منع أن يكون الرحمن صفة مشبهة بناء على أن الفعل المشتق هو منه فعل متعد وإليه مال ابن مالك في «شرح التسهيل» في باب الصفة المشبهة ونظره برب وملك ..

وأما الرحيم فذهب سيبويه إلى أنه من أمثلة المبالغة وهو باق على دلالته على التعدي وصاحب «الكشاف» والجمهور لم يثبتوا في أمثلة المبالغة وزن فعيل فالرحيم عندهم صفة مشبهة أيضا مثل مريض وسقيم ، والمبالغة حاصلة فيه على كلا الاعتبارين. والحق ما ذهب إليه سيبويه.

ولا خلاف بين أهل اللغة في أن الوصفين دالان على المبالغة في صفة الرحمة أي تمكنها وتعلقها بكثير من المرحومين وإنما الخلاف في طريقة استفادة المبالغة منهما وهل هما مترادفان في الوصف بصفة الرحمة أو بينهما فارق؟ والحق أن استفادة المبالغة حاصلة من تتبع الاستعمال وأن الاستعمال جرى على نكتة في مراعاة واضعي اللغة زيادة المبنى لقصد زيادة في معنى المادة قال في «الكشاف» : «ويقولون إن الزيادة في البناء لزيادة المعنى وقال الزجاج في الغضبان هو الممتلئ غضبا ومما طن على أذني من ملح العرب

١٦٨

أنهم يسمون مركبا من مراكبهم بالشّقدف وهو مركب خفيف ليس في ثقل محامل العراق فقلت في طريق الطائف لرجل منهم ما اسم هذا المحمل ـ أردت المحمل العراقي ـ فقال أليس ذاك اسمه الشقندف؟ قلت بلى فقال هذا اسمه الشّقنداف فزاد في بناء الاسم لزيادة المسمى» وهي قاعدة أغلبية لا تتخلف إلا في زيادات معروفة موضوعة لزيادة معنى جديد دون زيادة في أصل معنى المادة مثل زيادة ياء التصغير فقد أفادت معنى زائدا على أصل المادة وليس زيادة في معنى المادة. وأما نحو حذر الذي هو من أمثلة المبالغة وهو أقل حروفا من حاذر فهو من مستثنيات القاعدة لأنها أغلبية.

وبعد كون كل من صفتي الرحمن الرحيم دالة على المبالغة في اتصافه تعالى بالرحمة فقد قال الجمهور إن الرحمن أبلغ من الرحيم بناء على أن زيادة المبنى تؤذن بزيادة المعنى وإلى ذلك ما جمهور المحققين مثل أبي عبيدة وابن جني والزجاج والزمخشري وعلى رعي هذه القاعدة أعني أن زيادة المبنى تؤذن بزيادة المعنى فقد شاع ورود إشكال على وجه إرداف وصفه الرحمن بوصفه بالرحيم مع أن شأن أهل البلاغة إذا أجروا وصفين في معنى واحد على موصوف في مقام الكمال أن يرتقوا من الأعم إلى الأخص ومن القوي إلى الأقوى كقولهم شجاع باسل وجواد فياض ، وعالم نحرير ، وخطيب مصقع ، وشاعر مفلق ، وقد رأيت للمفسرين في توجيه الارتقاء من الرحمن إلى الرحيم أجوبة كثيرة مرجعها إلى اعتبار الرحمن أخص من الرحيم فتعقيب الأول بالثاني تعميم بعد خاص ولذلك كان وصف الرحمن مختصا به تعالى وكان أول إطلاقه مما خصه به القرآن على التحقيق بحيث لم يكن التوصيف به معروفا عند العرب كما سيأتي. ومدلول الرحيم كون الرحمة كثيرة التعلق إذ هو من أمثلة المبالغة ولذلك كان يطلق على غير الله تعالى كما في قوله تعالى في حق رسوله (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) [التوبة : ١٢٨] فليس ذكر إحدى الصفتين بمغن عن الأخرى :

وتقديم الرحمن على الرحيم لأن الصيغة الدالة على الاتصاف الذاتي أولى بالتقديم في التوصيف من الصفة الدالة على كثرة متعلقاتها. وينسب إلى قطرب أن الرحمن والرحيم يدلان على معنى واحد من الصفة المشبهة فهما متساويان وجعل الجمع بينهما في الآية من قبيل التوكيد اللفظي ومال إليه الزجاج وهو وجه ضعيف إذ التوكيد خلاف الأصل والتأسيس خير من التأكيد والمقام هنا بعيد عن مقتضى التوكيد. وقد ذكرت وجوه في الجمع بين الصفتين ليست بمقنعة.

١٦٩

وقد ذكر جمهور الأئمة أن وصف الرحمن لم يطلق في كلام العرب قبل الإسلام وأن القرآن هو الذي جاء به صفة لله تعالى فلذلك اختص به تعالى حتى قيل إنه اسم له وليس بصفة واستدلوا على ذلك بقوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ) [الفرقان : ٦٠] وقال : (وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ) [الرعد : ٣٠] وقد تكرر مثل هاتين الآيتين في القرآن وخاصة في السور المكية مثل سورة الفرقان وسورة الملك وقد ذكر الرحمن في سورة الملك باسمه الظاهر وضميره ثماني مرات مما يفيد الاهتمام بتقرير هذا الاسم لله تعالى في نفوس السامعين فالظاهر أن هذا الوصف تنوسي في كلامهم ، أو أنكروا أن يكون من أسماء الله.

ومن دقائق القرآن أنه آثر اسم الرحمن في قوله : (ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ) في سورة الملك [١٩] ، وقال : (ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ) في سورة النحل [٧٩] إذ كانت آية سورة الملك مكية وآية سورة النحل القدر النازل بالمدينة من تلك السورة ، وأما قول بعض شعراء بني حنيفة في مسيلمة :

سموت بالمجد يا ابن الأكرمين أبا

وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا

فإنما قاله بعد مجىء الإسلام وفي أيام ردة أهل اليمامة ، وقد لقبوا مسيلمة أيامئذ رحمن اليمامة وذلك من غلوهم في الكفر. وإجراء هذين الوصفين العليين على اسم الجلالة بعد وصفه بأنه رب العالمين لمناسبة ظاهرة للبليغ لأنه بعد أن وصف بما هو مقتضى استحقاقه الحمد من كونه رب العالمين أي مدبر شئونهم ومبلغهم إلى كمالهم في الوجودين الجثماني والروحاني ، ناسب أن يتبع ذلك بوصفه بالرحمن أي الذي الرحمة له وصف ذاتي تصدر عنه آثاره بعموم واطراد على ما تقدم ، فلما كان ربا للعالمين وكان المربوبون ضعفاء كان احتياجهم للرحمة واضحا وكان ترقبهم إياها من الموصوف بها بالذات ناجحا.

فإن قلت إن الربوبية تقتضي الرحمة لأنها إبلاغ الشيء إلى كماله شيئا فشيئا وذلك يجمع النعم كلها ، فلما ذا احتيج إلى ذكر كونه رحمانا؟ قلت لأن الرحمة تتضمن أن ذلك الإبلاغ إلى الكمال لم يكن على وجه الإعنات بل كان برعاية ما يناسب كل نوع وفرد ويلائم طوقه واستعداده ، فكانت الربوبية نعمة ، والنعمة قد تحصل بضرب من الشدة والأذى ، فأتبع ذلك بوصفه بالرحمن تنبيها على أن تلك النعم الجليلة وصلت إلينا بطريق الرفق واليسر ونفي الحرج ، حتى في أحكام التكاليف والمناهي والزواجر فإنها مرفوقة

١٧٠

باليسر بقدر ما لا يبطل المقصود منها ، فمعظم تدبيره تعالى بنا هو رحمات ظاهرة كالتمكين من الأرض وتيسير منافعها ، ومنه ما رحمته بمراعاة اليسر بقدر الإمكان مثل التكاليف الراجعة إلى منافعنا كالطهارة وبث مكارم الأخلاق ، ومنها ما منفعته للجمهور فتتبعها رحمات الجميع لأن في رحمة الجمهور رحمة بالبقية في انتظام الأحوال كالزكاة.

وقد اختلف في أن لفظ رحمن لو لم يقرن بلام التعريف هل يصرف أو يمنع من الصرف؟ قال في «الكافية» : «النون والألف إذا كانا في صفة فشرط منعه من الصرف انتفاء فعلانة ، وقيل وجود فعلى ، ومن ثم اختلف في رحمن ، وبنو أسد يصرفون جميع فعلان لأنهم يقولون في كل مؤنث له فعلانة» واختار الزمخشري والرضى وابن مالك عدم صرفه.

[٤] (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ).

اتباع الأوصاف الثلاثة المتقدمة بهذا ليس لمجرد سرد صفات من صفاته تعالى ، بل هو مما أثارته الأوصاف المتقدمة ، فإنه لما وصف تعالى بأنه رب العالمين الرحمن الرحيم وكان ذلك مفيدا لما قدمناه من التنبيه على كمال رفقه تعالى بالمربوبين في سائر أكوانهم ، ثم التنبيه بأن تصرفه تعالى في الأكوان والأطوار تصرف رحمة عند المعتبر ، وكان من جملة تلك التصرفات تصرفات الأمر والنهي المعبر عنها بالتشريع الراجع إلى حفظ مصالح الناس عامة وخاصة ، وكان معظم تلك التشريعات مشتملا على إخراج المكلف عن داعية الهوى الذي يلائمه اتباعه وفي نزعه عنه إرغام له ومشقة ، خيف أن تكون تلك الأوصاف المتقدمة في فاتحة الكتاب مخففا عن المكلفين عبء العصيان لما أمروا به ومثيرا لأطماعهم في العفو عن استخفافهم بذلك وأن يمتلكهم الطمع فيعتمدوا على ما علموا من الربوبية والرحمة المؤكّدة فلا يخشوا غائلة الإعراض عن التكاليف ، لذلك كان من مقتضى المقام تعقيبه بذكر أنه صاحب الحكم في يوم الجزاء : (الْيَوْمَ) (١) (تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [غافر : ١٧] لأن الجزاء على الفعل سبب في الامتثال والاجتناب لحفظ مصالح العالم ، وأحيط ذلك بالوعد والوعيد ، وجعل مصداق ذلك الجزاء يوم القيامة ، ولذلك اختير هنا وصف ملك أو مالك مضافا إلى يوم الدين. فأما ملك فهو مؤذن بإقامة العدل وعدم الهوادة فيه لأن شأن الملك أن يدبر صلاح الرعية ويذب عنهم ، ولذلك أقام الناس الملوك عليهم. ولو قيل رب يوم الدين لكان فيه مطمع للمفسدين يجدون من شأن الرب

__________________

(١) في المطبوعة : (يوم).

١٧١

رحمة وصفحا ، وأما مالك فمثل تلك في إشعاره بإقامة الجزاء على أوفق كيفياته بالأفعال المجزى عليها.

فإن قلت فإذا كان إجراء الأوصاف السابقة مؤذنا بأن جميع تصرفات الله تعالى فينا رحمة فقد كفى ذلك في الحث على الامتثال والانتهاء إذ المرء لا يخالف ما هو رحمة به فلا جرم أن ينساق إلى الشريعة باختياره. قلت المخاطبون مراتب : منهم من لا يهتدي لفهم ذلك إلا بعد تعقيب تلك الأوصاف بهذا الوصف ، ومنهم من يهتدي لفهم ذلك ولكنه يظن أن في فعل الملائم له رحمة به أيضا فربما آثر الرحمة الملائمة على الرحمة المنافرة وإن كانت مفيدة له ، وربما تأول الرحمة بأنها رحمة للعموم وأنه إنما يناله منها حظ ضعيف فآثر رحمة حظه الخاص به على رحمة حظه التابع للعامة. وربما تأول أن الرحمة في تكاليف الله تعالى أمر أغلبي لا مطرد وأن وصفه تعالى بالرحمن بالنسبة لغير التشريع من تكوين ورزق وإحياء ، وربما ظن أن الرحمة في المآل فآثر عاجل ما يلائمه. وربما علم جميع ما تشتمل عليه التكاليف من المصالح باطراد ولكنه ملكته شهوته وغلبت عليه شقوته. فكل هؤلاء مظنة للإعراض عن التكاليف الشرعية ، ولأمثالهم جاء تعقيب الصفات الماضية بهذه الصفة تذكيرا لهم بما سيحصل من الجزاء يوم الحساب لئلا يفسد المقصود من التشريع حين تتلقفه أفهام كل متأول مضيع. ثم إن في تعقيب قوله : (رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) بقوله : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) إشارة إلى أنه ولي التصرف في الدنيا والآخرة فهو إذن تتميم.

وقوله (ملك) قرأه الجمهور بدون ألف بعد الميم وقرأه عاصم والكسائي ويعقوب وخلف (مالك) بالألف فالأول صفة مشبهة صارت اسما لصاحب الملك (بضم الميم) والثاني اسم فاعل من ملك إذا اتصف بالملك (بكسر الميم) وكلاهما مشتق من ملك ، فأصل مادة ملك في اللغة ترجع تصاريفها إلى معنى الشد والضبط كما قاله ابن عطية ، ثم يتصرف ذلك بالحقيقة والمجاز ، والتحقيق والاعتبار ، وقراءة (ملك) بدون ألف تدل على تمثيل الهيئة في نفوس السامعين لأن الملك ـ بفتح الميم وكسر اللام ـ هو ذو الملك ـ بضم الميم ـ والملك أخص من الملك ، إذ الملك ـ بضم الميم ـ هو التصرف في الموجودات والاستيلاء ويختص بتدبير أمور العقلاء وسياسة جمهورهم وأفرادهم ومواطنهم فلذلك يقال : ملك الناس ولا يقال : ملك الدواب أو الدراهم ، وأما الملك ـ بكسر الميم ـ فهو الاختصاص بالأشياء ومنافعها دون غيره.

١٧٢

وقرأ الجمهور (ملك) بفتح الميم وكسر اللام دون ألف ورويت هذه القراءة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصاحبيه أبي بكر وعمر في «كتاب الترمذي». قال ابن عطية : حكى أبو على عن بعض القراء أن أول من قرأ (ملك يوم الدين) مروان بن الحكم فرده أبو بكر بن السراج بأن الأخبار الواردة تبطل ذلك فلعل قائل ذلك أراد أنه أول من قرأ بها في بلد مخصوص. وأما قراءة (مالك) بألف بعد الميم بوزن اسم الفاعل فهي قراءة عاصم والكسائي ويعقوب وخلف ، ورويت عن عثمان وعلي وابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وطلحة والزبير ، ورواها الترمذي في «كتابه» أنها قرأ بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصاحباه أيضا. وكلتاهما صحيحة ثابتة كما هو شأن القراءات المتواترة كما تقدم في المقدمة السادسة. وقد تصدى المفسرون والمحتجون للقراءات لبيان ما في كل من قراءة (ملك) ـ بدون ألف ـ وقراءة (مالك) ـ بالألف ـ من خصوصيات بحسب قصر النظر على مفهوم كلمة ملك ومفهوم كلمة (مالك) ، وغفلوا عن إضافة الكلمة إلى يوم الدين ، فأما والكلمة مضافة إلى يوم الدين فقد استويا في إفادة أنه المتصرف في شئون ذلك اليوم دون شبهة مشارك. ولا محيص عن اعتبار التوسع في إضافة (ملك) أو (مالك) إلى (يوم) بتأويل شئون يوم الدين. على أن (مالك) لغة في (ملك) ففي «القاموس» : «وكأمير وكتف وصاحب ذو الملك».

ويوم الدين يوم القيامة ، ومبدأ الدار الآخرة ، فالدين فيه بمعنى الجزاء ، قال الفند الزماني (١) :

فلما صرّح الشرّ

فأمسى وهو عريان

ولم يبق سوى العدوا

ن دنّاهم كما دانوا

أي جازيناهم على صنعهم كما صنعوا مشاكلة ، أو كما جازوا من قبل إذا كان اعتداؤهم ناشئا عن ثأر أيضا ، وهذا هو المعنى المتعين هنا وإن كان للدين إطلاقات كثيرة في كلام العرب.

__________________

(١) الفند لقبه ، وأصل الفند بكسر الفاء الجبل ، واسمه شهل بن شيبان بشين معجمة وليس في أسماء العرب شهل بالشين المعجمة غيره ، وهو من شعراء حرب البسوس ، وإنما لقب الفند لأنه لما جاء لينصر بني بكر بن وائل قالوا ما يغني عنا هذا الهم ـ بكسر الهاء ـ أي الشيخ ، فقال لهم أما ترضون أن أكون لكم فندا تأوون إليه؟ أي معقلا ومرجعا في الرأي والحرب. والزماني ـ بكسر الزاي وتشديد الميم ـ نسبة لقبيلة هم أبناء عم بني حنيفة.

١٧٣

واعلم أن وصفه تعالى بملك يوم الدين تكملة لإجراء مجامع صفات العظمة والكمال على اسمه تعالى ، فإنه بعد أن وصف بأنه رب العالمين وذلك معنى الإلهية الحقة إذ يفوق ما كانوا ينعتون به آلهتهم من قولهم إله بني فلان فقد كانت الأمم تتخذ آلهة خاصة لها كما حكى الله عن بعضهم : (فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى) [طه : ٨٨] وقال : (قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف : ١٣٨] وكانت لبعض قبائل العرب آلهة خاصة ، فقد عبدت ثقيف اللات قال الشاعر :

ووقرت ثقيف إلى لاتها (١)

وفي حديث عائشة في «الموطأ» : «كان الأنصار قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلّل» الحديث (٢).

فوصف الله تعالى بأنه رب العالمين كلهم ، ثم عقب بوصفي الرحمن الرحيم لإفادة عظم رحمته ، ثم وصف بأنه ملك يوم الدين وهو وصف بما هو أعظم مما قبله لأنه ينبئ عن عموم التصرف في المخلوقات في يوم الجزاء الذي هو أول أيام الخلود ، فملك ذلك الزمان هو صاحب الملك الذي لا يشذ شيء عن الدخول تحت ملكه ، وهو الذي لا ينتهي ملكه ولا ينقضي ، فأين هذا الوصف من أوصاف المبالغة التي يفيضها الناس على أعظم الملوك مثل ملك الملوك (شاهان شاه) وملك الزمان وملك الدنيا (شاه جهان) وما شابه ذلك. مع ما في تعريف ذلك اليوم بإضافته إلى الدين أي الجزاء من إدماج التنبيه على عدم حكم الله لأن إيثار لفظ الدين (أي الجزاء) للإشعار بأنه معاملة العامل بما يعادل أعماله المجزيّ عليها في الخير والشر ، وذلك العدل الخاص قال تعالى : (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) [غافر : ١٧] فلذلك لم يقل ملك يوم الحساب فوصفه بأنه ملك يوم العدل الصّرف وصف له بأشرف معنى الملك فإن الملوك تتخلد محامدهم بمقدار تفاضلهم في إقامة العدل وقد عرف العرب المدحة بذلك. قال النابغة يمدح الملك

__________________

(١) تمامه :

بمنقلب الخائب الخاسر

كذا في «تاريخ العرب» في باب أديان العرب من كتابنا «تاريخ العرب قبل الإسلام» مخطوط.

(٢) في «الصحيحين» واللفظ للبخاري (ومناة) اسم صنم يعبده المشركون من العرب وهو صخرة كانوا يذبحون عندها. والمشلل ـ بضم الميم وفتح الشين المعجمة ولام مشددة مفتوحة ولام أخرى ـ اسم ثنية مشرفة على قديد بين مكة والمدينة.

١٧٤

عمرو بن الحارث الغساني ملك الشام :

وكم جزانا بأيد غير ظالمة

عرفا بعرف وإنكارا بإنكار

وقال الحارث بن حلزة يمدح الملك عمرو بن هند اللخمي ملك الحيرة :

ملك مقسط وأفضل من يم

شي ومن دون ما لديه القضاء

وإجراء هذه الأوصاف الجليلة على اسمه تعالى إيماء بأن موصوفها حقيق بالحمد الكامل الذي أعربت عنه جملة (الْحَمْدُ لِلَّهِ) ، لأن تقييد مفاد الكلام بأوصاف متعلّق ذلك المفاد يشعر بمناسبة بين تلك الأوصاف وبين مفاد الكلام مناسبة تفهم من المقام مثل التعليل في مقام هذه الآية.

[٥] (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).

إذا أتم الحامد حمد ربه يأخذ في التوجه إليه بإظهار الإخلاص له انتقالا من الإفصاح عن حق الرب إلى إظهار مراعة ما يقتضيه حقه تعالى على عبده من إفراده بالعبادة والاستعانة. فهذا الكلام استئناف ابتدائي.

ومفاتحة العظماء بالتمجيد عند التوجه إليهم قبل أن يخاطبوا طريقة عربية. روى أبو الفرج الأصفهاني عن حسان بن ثابت قال : كنت عند النعمان فنادمته وأكلت معه فبينا أنا على ذلك معه في قبّة إذا رجل يرتجز حولها :

أصمّ أم يسمع ربّ القبة

يا أوهب النّاس لعيس صلبه

ضرّابة بالمشفر الأذيّه

ذات هباب في يديها خلبه

في لاحب كأنّه الأطبّه (١)

فقال النعمان : أليس بأبي أمامة؟ (كنية النابغة) قالوا : بلى ، قال : فأذنوا له فدخل.

والانتقال من أسلوب الحديث بطريق الغائب المبتدإ من قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) إلى

__________________

(١) الهمزة في قوله : أصم للاستفهام المستعمل في التنبيه. والمشغر : آلة الشغار أي الطرد وهو يعني ذنب البعير. والأذبة ـ بكسر الذال المعجمة ـ جمع ذبابة. والخلبة ـ بضم الخاء المعجمة وسكون اللام حلقة من ليف. واللاحب : الطريق وهو متعلق بقوله هباب. والأطبة ـ جمع طباب ـ وهو الشراك يجمع بين الأديمين.

١٧٥

قوله : ملك يوم الدين ، إلى أسلوب طريق الخطاب ابتداء من قوله (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) إلى آخر السورة ، فن بديع من فنون نظم الكلام البليغ عند العرب ، وهو المسمى في علم الأدب العربي والبلاغة التفاتا. وفي ضابط أسلوب الالتفات رأيان لأئمة علم البلاغة : أحدهما رأي من عدا السكاكي من أئمة البلاغة وهو أن المتكلم بعد أن يعبّر عن ذات بأحد طريق ثلاثة من تكلم أو غيبة أو خطاب ينتقل في كلامه ذلك فيعبر عن تلك الذات بطريق آخر من تلك الثلاثة ، وخالفهم السكاكي فجعل مسمى الالتفات أن يعبّر عن ذات بطريق من طرق التكلم أو الخطاب أو الغيبة عادلا عن أحدهما الذي هو الحقيق بالتعبير في ذلك الكلام إلى طريق آخر منها.

ويظهر أثر الخلاف بين الجمهور والسكاكي في المحسّن الذي يسمى بالتجريد في علم البديع مثل قول علقمة بن عبده في طالع قصيدته :

طحا بك قلب في الحسان طروب

مخاطبا نفسه على طريقة التجريد ، فهذا ليس بالتفات عند الجمهور وهو معدود من الالتفات عند السكاكي ، فتسمية الالتفات التفاتا على رأي الجمهور باعتبار أن عدول المتكلم عن الطريق الذي سلكه إلى طريق آخر يشبه حالة الناظر إلى شيء ثم يلتفت عنه ، وأما تسميته التفاتا على رأي السكاكي فتجري على اعتبار الغالب من صور الالتفات دون صورة التجريد ، ولعل السكاكي التزم هذه التسمية لأنها تقررت من قبله فتابع هو الجمهور في هذا الاسم. ومما يجب التنبه له أن الاسم الظاهر معتبر من قبيل الغائب على كلا الرأيين ، ولذلك كان قوله تعالى : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) التفاتا على كلا الرأيين لأن ما سبق من أول السورة إلى قوله (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) تعبير بالاسم الظاهر وهو اسم الجلالة وصفاته.

ولأهل البلاغة عناية بالالتفات لأن فيه تجديد أسلوب التعبير عن المعنى بعينه تحاشيا من تكرر الأسلوب الواحد عدة مرار فيحصل بتجديد الأسلوب تجديد نشاط السامع كيلا يمل من إعادة أسلوب بعينه. قال السكاكي في «المفتاح» بعد أن ذكر أن العرب يستكثرون من الالتفات : «أفتراهم يحسنون قرى الأشباح فيخالفون بين لون ولون وطعم وطعم ولا يحسنون قرى الأرواح فيخالفون بين أسلوب وأسلوب». فهذه فائدة مطردة في الالتفات. ثم إن البلغاء لا يقتصرون عليها غالبا بل يراعون للالتفات لطائف ومناسبات ولم يزل أهل النقد والأدب يستخرجون ذلك من مغاصه.

وما هنا التفات بديع فإن الحامد لما حمد الله تعالى ووصفه بعظيم الصفات بلغت به

١٧٦

الفكرة منتهاها فتخيل نفسه في حضرة الربوبية فخاطب ربه بالإقبال ، كعكس هذا الالتفات في قول محمد بن بشير الخارجي (نسبة إلى بني خارجة قبيلة) :

ذممت ولم تحمد وأدركت حاجة

تولّى سواكم أجرها واصطناعها

أبى لك كسب الحمد رأي مقصّر

ونفس أضاق الله بالخير باعها

إذا هي حثته على الخير مرة

عصاها وإن همّت بشرّ أطاعها

فخاطبه ابتداء ثم ذكر قصور رأيه وعدم انطباع نفسه على الخير فالتفت من خطابه إلى التعبير عنه بضمير الغيبة فقال : إذا هي حثته فكأنه تخيله قد تضاءل حتى غاب عنه ، وبعكس ذلك قوله تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) [العنكبوت : ٢٣] لاعتبار تشنيع كفر المتحدّث عنهم بأنهم كفروا بآيات صاحب ذلك الاسم الجليل ، وبعد تقرر ذلك انتقل إلى أسلوب ضمير المتكلم إذ هو الأصل في التعبير عن الأشياء المضافة إلى ذات المتكلم. ومما يزيد الالتفات وقعا في الآية أنه تخلص من الثناء إلى الدعاء ولا شك أن الدعاء يقتضي الخطاب فكان قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) تخلصا يجىء بعده : (اهْدِنَا الصِّراطَ) ونظيره في ذلك قول النابغة في رثاء النعمان الغساني :

أبى غفلتي أني إذا ما ذكرته

تحرك داء في فؤادي داخل

وأن تلادي إن نظرت وشكّتي

ومهري وما ضمّت إليّ الأنامل

حباؤك والعيس العتاق كأنها

هجان المهى تزجى عليها الرحائل

وأبو الفتح ابن جني يسمى الالتفات «شجاعة العربية» كأنه عنى أنه دليل على حدة ذهن البليغ وتمكنه من تصريف أساليب كلامه كيف شاء كما يتصرف الشجاع في مجال الوغي بالكر والفر.

و (إياك) ضمير خطاب في حالة النصب. والأظهر أن كلمة ايا جعلت ليعتمد عليها الضمير عند انفصاله ولذلك لزمتها الضمائر نحو : إياي تعني ، وإيّاك أعني ، وإيّاهم أرجو. ومن هنا لك التزم في التحذير لأن الضمير انفصل عند التزام حذف العامل. ومن النحاة من جعل (إيّا) ضميرا منفصلا ملازما حالة واحدة وجعل الضمائر التي معه أضيفت إليه للتأكيد. ومنهم من جعل (إيّا) هو الضمير وجعل ما بعده حروفا لبيان الضمير. ومنهم من جعل (إيّا) اعتمادا للضمير كما كانت أيّ اعتمادا للمنادى الذي فيه ال. ومنهم من جعل (إيّا) اسما ظاهرا مضافا للمضمرات.

١٧٧

والعبادة فعل يدل على الخضوع أو التعظيم الزائدين على المتعارف بين الناس. وأما إطلاقها على الطاعة فهو مجاز. والعبادة في الشرع أخص فتعرّف بأنها فعل ما يرضي الرب من خضوع وامتثال واجتناب ، أو هي فعل المكلف على خلاف هوى نفسه تعظيما لربه ، وقال الرازي في تفسير قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] «العبادة تعظيم أمر الله والشفقة على الخلق ، وهذا المعنى هو الذي اتفقت عليه الشرائع وإن اختلفوا في الوضع والهيئة والقلة والكثرة» ا ه فهي بهذا التفسير تشمل الامتثال لأحكام الشريعة كلها.

وقد فسر الصوفية العبادة بأنها فعل ما يرضي الرب ، والعبودية بالرضا بما يفعل الرب. فهي أقوى. وقال بعضهم : العبودية الوفاء بالعهود ، وحفظ الحدود ، والرضا بالموجود. والصبر على المفقود. وهذه اصطلاحات لا مشاحة فيها.

قال الفخر : «مراتب العبادة ثلاث : الأولى أن يعبد الله طمعا في الثواب وخوفا من العقاب وهي العبادة ، وهي درجة نازلة ساقطة لأنه جعل الحق وسيلة لنيل المطلوب. الثانية أن يعبد الله لأجل أن يتشرف بعبادته والانتساب إليه بقبول تكاليفه وهي أعلى من الأولى إلا أنها ليست كاملة لأن المقصود بالذات غير الله. الثالثة أن يعبد الله لكونه إلها خالقا مستحقا للعبادة وكونه هو عبدا له ، وهذه أعلى المقامات وهو المسمى بالعبودية» ا ه.

قلت ولم يسم الإمام المرتبة الثالثة باسم والظاهر أنها ملحقة في الاسم بالمرتبة الثالثة أعني العبودية لأن الشيخ ابن سينا قال في «الإشارات» : «العارف يريد الحق لا لشيء غيره ولا يؤثر شيئا على عرفانه وتعبّده له فقط ولأنه مستحق للعبادة ولأنها نسبة شريفة إليه لا لرغبة أو رهبة» ا ه فجعلهما حالة واحدة.

وما ادعاه الفخر في سقوط الدرجة الأولى ونزول مرتبتها قد غلب عليه فيه اصطلاح غلاة الصوفية وإلا فإن العبادة للطمع والخوف هي التي دعا إليها الإسلام في سائر إرشاده ، وهي التي عليها جمهور المؤمنين وهي غاية التكليف ، كيف وقد قال تعالى : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) [فاطر : ٢٨] فإن بلغ المكلف إلى المرتبتين الأخريين فذلك فضل عظيم وقليل ما هم ، على أنه لا يخلو من ملاحظة الخوف والطمع في أحوال كثيرة ، نعم إن أفاضل الأمة متفاوتون في الاحتياج إلى التخويف والإطماع بمقدار تفاوتهم في العلم بأسرار التكليف ومصالحه وتفاوتهم في التمكن من مغالبة نفوسهم ، ومع ذلك لا

١٧٨

محيص لهم عن الرجوع إلى الخوف في أحوال كثيرة والطمع في أحوال أكثر. وأعظم دليل على ما قلنا أن الله تعالى مدح في كتابه المتقين في مواضع جمة ودعا إلى التقوى ، وهل التقوى إلا كاسمهما بمعنى الخوف والاتقاء من غضب الله قال تعالى : (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) [الإسراء : ٥٧]. والمرتبة الثالثة هي التي أشار لها قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لمن قال له كيف تجهد نفسك في العبادة وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال : ـ «أفلا أكون عبدا شكورا» لأن من الظاهر أن الشكر هنا على نعمة قد حصلت فليس فيه حظ للنفس بالطمع في المزيد لأن الغفران العام قد حصل له فصار الشكر لأجل المشكور لا غير وتمحض أنه لا لخوف ولا طمع (١).

واعلم أن من أهم المباحث البحث عن سر العبادة وتأثيرها وسر مشروعيتها لنا وذلك أن الله تعالى خلق هذا العالم ليكون مظهرا لكمال صفاته تعالى : الوجود ، والعلم ، والقدرة. وجعل قبول الإنسان للكمالات التي بمقياسها يعلم نسبة مبلغ علمه وقدرته من علم الله تعالى وقدرته ، وأودع فيه الروح والعقل اللذين بهما يزداد التدرج في الكمال ليكون غير قانع بما بلغه من المراتب في أوج الكمال والمعرفة ، وأرشده وهداه إلى ما يستعين به على مرامه ليحصل له بالارتقاء العاجل رقيّ آجل لا يضمحل ، وجعل استعداده لقبول الخيرات كلها عاجلها وآجلها متوقفا على التلقين من السّفرة الموحى إليهم بأصول الفضائل. ولما توقف ذلك على مراقبة النفس في نفراتها وشرداتها وكانت تلك المراقبة تحتاج إلى تذكر المجازي بالخير وضده ، شرعت العبادة لتذكّر ذلك المجازي لأن عدم حضور ذاته واحتجابه بسبحات الجلال يسرّب نسيانه إلى النفوس ، كما أنه جعل نظامه في هذا العالم متصل الارتباط بين أفراده فأمرهم بلزوم آداب المعاشرة والمعاملة لئلا يفسد النظام ، ولمراقبة الدوام على ذلك أيضا شرعت العبادة لتذكّر به ، على أن في ذلك التذكر دوام الفكر في الخالق وشئونه وفي ذلك تخلق بالكمالات تدريجا فظهر أن العبادة هي

__________________

(١) كأنهم اصطلحوا على أن العبودية أبلغ من العبادة لما فيها من النسب لأن الأوصاف التي تلحقها ياء النسب يقصد منها المبالغة في الوصفية وذلك للجمع بين طريقي توصيف فإن صيغة الوصف تفيد التوصيف وصيغة النسب كذلك ولهذا كان قولهم أسحمي أبلغ من أسحم ، ولحياني أبلغ من لحيان فالعبودية مصدر من هذا النوع. واعلم أن كون الشكر يشتمل على حظ للمشكور قد تقرر في بحث الْحَمْدُ إذ بينا أن الحمد والشكر تزيين للعرض المحمود والمشكور لقول النابغة :

شكرت لك النعمى

البيت.

١٧٩

طريق الكمال الذاتي والاجتماعي مبدأ ونهاية ، وبه يتضح معنى قوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] فالعبادة على الجملة لا تخرج عن كونها محقّقة للمقصد من الخلق ، ولما كان سرّ الخلق والغاية منه خفية الإدراك عرّفنا الله تعالى إياها بمظهرها وما يحققها جمعا لعظيم المعاني في جملة واحدة وهي جملة : (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ، وقريب من هذا التقرير الذي نحوناه وأقل منه قول الشيخ ابن سينا في «الإشارات» : «لما لم يكن الإنسان بحيث يستقل وحده بأمر نفسه إلا بمشاركة آخر من بني جنسه وبمعاوضة ومعارضة تجريان بينهما يفرغ كل واحد منهما لصاحبه عن مهم لو تولاه بنفسه لازدحم على الواحد كثير وكان مما يتعسر إن أمكن ، وجب أن يكون بين الناس معاملة وعدل يحفظه شرع يفرضه شارع متميز باستحقاق الطاعة ووجب أن يكون للمحسن والمسيء جزاء من عند القدير الخبير ، فوجب معرفة المجازي والشارع وأن يكون مع المعرفة سبب حافظ للمعرفة ففرضت عليهم العبادة المذكّرة للمعبود ، وكررت عليهم ليستحفظ التذكير بالتكرير» ا ه.

لا شك أن داعي العبادة التعظيم والإجلال وهو إما عن محبة أو عن خوف مجرد ، وأهمه ما كان عن محبة لأنه يرضي نفس فاعله قال :

أهابك إجلالا وما بك قدرة

عليّ ولكن ملء عين حبيبها

وهي تستلزم الخوف من غضب المحبوب قال محمود الوراق أو منصور الفقيه :

تعصي الإله وأنت تظهر حبّه

هذا لعمري في القياس بديع

لو كان حبك صادقا لأطعته

إن المحبّ لمن يحب مطيع

ولذلك قال تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) [آل عمران : ٣١] فذلك يشعر بأن اتباع الشريعة يوجب محبة الله وأن المحب يود أن يحبه حبيبه كما قال المتنبي :

أنت الحبيب ولكني أعوذ به

من أن أكون محبا غير محبوب

وإلى هذا النوع ترجع عبادة أكثر الأمم ، ومنها العبادة المشروعة في جميع الشرائع لأنها مبنية على حب الله تعالى ، وكذلك عبادة المشركين أصنامهم قال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ) [البقرة : ١٦٥]. ومن الأمم من عبدت عن خوف دون محبة وإنما هو لاتقاء شر كما عبدت بعض الأمم الشياطين وعبدت

١٨٠