تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٣٥

عن التعرض إلى لائحات منها ، وقد حيكت بنسج المناسبات والاعتبارات البلاغية من لحمة محكمة في نظم الكلام ، وسدى متين من فصاحة الكلمات.

ومعظم أغراضها ينقسم إلى قسمين : قسم يثبت سموّ هذا الدين على ما سبقه وعلو هديه وأصول تطهيره النفوس ، وقسم يبين شرائع هذا الدّين لأتباعه وإصلاح مجتمعهم. وكان أسلوبها أحسن ما يأتي عليه أسلوب جامع لمحاسن الأساليب الخطابية ، وأساليب الكتب التشريعية ، وأساليب التذكير والموعظة ، يتجدد بمثله نشاط السامعين بتفنن الأفانين ، ويحضر لنا من أغراضها أنها ابتدئت بالرمز إلى تحدي العرب المعاندين تحديا إجماليا بحروف التهجي المفتتح بها رمزا يقتضي استشرافهم لما يرد بعده وانتظارهم لبيان مقصده ، فأعقب بالتنويه بشأن القرآن فتحوّل الرمز إيماء إلى بعض المقصود من ذلك الرمز له أشد وقع على نفوسهم فتبقى في انتظار ما يتعقبه من صريح التعجيز الذي سيأتي بعد قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣]. فعدل بهم إلى ذات جهة التنويه بفائق صدق هذا الكتاب وهديه ، وتخلص إلى تصنيف الناس تجاه تلقيهم هذا الكتاب وانتفاعهم بهديه أصنافا أربعة (وكانوا قبل الهجرة صنفين) بحسب اختلاف أحوالهم في ذلك التلقي. وإذ قد كان أخص الأصناف انتفاعا بهديه هم المؤمنين بالغيب المقيمين الصلاة ـ يعني المسلمين ـ ابتدئ بذكرهم ، ولما كان أشد الأصناف عنادا وحقدا صنفا المشركين الصّرحاء والمنافقين لف الفريقان لفا واحدا فقورعوا بالحجج الدامغة والبراهين الساطعة ، ثم خص بالإطناب صنف أهل النفاق تشويها لنفاقهم وإعلانا لدخائلهم ورد مطاعنهم ، ثم كان خاتمة ما قرعت به أنوفهم صريح التحدي الذي رمز إليه بدءا تحديا يلجئهم إلى الاستكانة ويخرس ألسنتهم عن التطاول والإبانة ، ويلقي في قرارات أنفسهم مذلة الهزيمة وصدق الرسول الذي تحداهم ، فكان ذلك من رد العجز على الصدر فاتسع المجال لدعوة المنصفين إلى عبادة الرب الحق الذي خلقهم وخلق السماوات والأرض ، وأنعم عليهم بما في الأرض جميعا. وتخلص إلى صفة بدء خلق الإنسان فإن في ذلك تذكيرا لهم بالخلق الأول قبل أن توجد أصنامهم التي يزعمونها من صالحي قوم نوح ومن بعدهم ، ومنة على النوع بتفضيل أصلهم على مخلوقات هذا العالم ، وبمزيته بعلم ما لم يعلمه أهل الملأ الأعلى وكيف نشأت عداوة الشيطان له ولنسله ، لتهيئة نفوس السامعين لاتهام شهواتها ولمحاسبتها على دعواتها. فهذه المنة التي شملت كل الأصناف الأربعة المتقدم ذكرها كانت مناسبة للتخلص إلى منة عظمى تخص الفريق الرابع وهم أهل الكتاب الذين هم أشدّ الناس مقاومة لهدي القرآن ، وأنفذ الفرق قولا في عامة العرب لأن أهل

٢٠١

الكتاب يومئذ هم أهل العلم ومظنة اقتداء العامة لهم من قوله : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) [البقرة : ٤٠] الآيات فأطنب في تذكيرهم بنعم الله وأيامه لهم ، ووصف ما لاقوا به نعمه الجمة من الانحراف عن الصراط السوي انحرافا بلغ بهم حد الكفر وذلك جامع لخلاصة تكوين أمة إسرائيل وجامعتهم في عهد موسى ، ثم ما كان من أهم أحداثهم مع الأنبياء الذين قفوا موسى إلى أن تلقوا دعوة الإسلام بالحسد والعداوة حتى على الملك جبريل ، وبيان أخطائهم ، لأن ذلك يلقي في النفوس شكا في تأهلهم للاقتداء بهم. وذكر من ذلك نموذجا من أخلاقهم من تعلق الحياة : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) [البقرة : ٩٦] ، ومحاولة العمل بالسحر (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) إلخ [البقرة : ١٠٢] وأذى النبي بموجّه الكلام (لا تَقُولُوا راعِنا) [البقرة : ١٠٤].

ثم قرن اليهود والنصارى والمشركون في قرن حسدهم المسلمين والسخط على الشريعة الجديدة : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ) إلى قوله : (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة : ١٠٥ ـ ١١٢] ، ثم ما أثير من الخلاف بين اليهود والنصارى وادعاء كل فريق أنه هو المحق : (وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ) إلى (يَخْتَلِفُونَ) [البقرة : ١١٣] ثم خص المشركون بأنهم أظلم هؤلاء الأصناف الثلاثة لأنهم منعوا المسلمين من ذكر الله في المسجد الحرام وسعوا بذلك في خرابه وأنهم تشابهوا في ذلك هم واليهود والنصارى واتحدوا في كراهية الإسلام.

وانتقل بهذه المناسبة إلى فضائل المسجد الحرام ، وبانيه ، ودعوته لذريته بالهدى ، والاحتراز عن إجابتها في الذين كفروا منهم ، وأن الإسلام على أساس ملة إبراهيم وهو التوحيد ، وأن اليهودية والنصرانية ليستا ملة إبراهيم ، وأن من ذلك الرجوع إلى استقبال الكعبة ادخره الله للمسلمين آية على أن الإسلام هو القائم على أساس الحنيفية ، وذكر شعائر الله بمكة ، وإبكات أهل الكتاب في طعنهم على تحويل القبلة ، وأن العناية بتزكية النفوس أجدر من العناية باستقبال الجهات : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) [البقرة : ١٧٧]. وذكروا بنسخ الشرائع لصلاح الأمم وأنه لا بدع في نسخ شريعة التوراة أو الإنجيل بما هو خير منهما.

ثم عاد إلى محاجة المشركين بالاستدلال بآثار صنعة الله : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ) إلخ [البقرة : ١٦٤] ، ومحاجة المشركين في يوم يتبرءون فيه من قادتهم ، وإبطال مزاعم دين الفريقين في محرمات من الأكل : (يا أَيُّهَا

٢٠٢

الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) [البقرة : ١٧٢] ، وقد كمل ذلك بذكر صنف من الناس قليل وهم المشركون الذين لم يظهروا الإسلام ولكنهم أظهروا مودة المسلمين : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) [البقرة : ٢٠٤].

ولما قضى حق ذلك كله بأبدع بيان وأوضح برهان ، انتقل إلى قسم تشريعات الإسلام إجمالا بقوله : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) [البقرة : ١٧٧] ، ثم تفصيلا : القصاص ، الوصية ، الصيام ، الاعتكاف ، الحج ، الجهاد ، ونظام المعاشرة والعائلة ، المعاملات المالية ، والإنفاق في سبيل الله ، والصدقات ، والمسكرات ، واليتامى ، والمواريث ، والبيوع والربا ، والديون ، والإشهاد ، والرهن ، والنكاح ، وأحكام النساء ، والعدة ، والطلاق ، والرضاع ، والنفقات ، والأيمان.

وختمت السورة بالدعاء المتضمن لخصائص الشريعة الإسلامية وذلك من جوامع الكلم فكان هذا الختام تذييلا وفذلكة : (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ) [البقرة : ٢٨٤] الآيات.

وكانت في خلال ذلك كله أغراض شتى سبقت في معرض الاستطراد في متفرق المناسبات تجديدا لنشاط القارئ والسامع ، كما يسفر وجه الشمس إثر نزول الغيوث الهوامع ، وتخرج بوادر الزّهر عقب الرعود القوارع ، من تمجيد الله وصفاته : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [البقرة : ٢٥٥] ورحمته وسماحة الإسلام ، وضرب أمثال : (أَوْ كَصَيِّبٍ) [البقرة : ١٩] واستحضار نظائر : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ) [البقرة : ٧٤] (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) [البقرة : ٢٤٣] وعلم وحكمة ، ومعاني الإيمان والإسلام ، وتثبيت المسلمين : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ) [البقرة : ١٥٣] والكمالات الأصلية ، والمزايا التحسينية ، وأخذ الأعمال والمعاني من حقائقها وفوائدها لا من هيئاتها ، وعدم الاعتداد بالمصطلحات إذا لم ترم إلى غايات : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها) [البقرة : ١٨٩] (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ) [البقرة : ١٧٧] (وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ) [البقرة : ٢١٧] والنظر والاستدلال ، ونظام المحاجة ، وأخبار الأمم الماضية ، والرسل وتفاضلهم ، واختلاف الشرائع.

[١] (الم (١))

تحير المفسرون في محل هاته الحروف الواقعة في أول هاته السور ، وفي فواتح سور

٢٠٣

أخرى عدة جميعها تسع وعشرون سورة ومعظمها في السور المكية ، وكان بعضها في ثاني سورة نزلت وهي (ن وَالْقَلَمِ) [القلم : ١] ، وأخلق بها أن تكون مثار حيرة ومصدر ، أقوال متعددة وأبحاث كثيرة ، ومجموع ما وقع من حروف الهجاء أوائل السور أربعة عشر حرفا وهي نصف حروف الهجاء وأكثر السور التي وقعت فيها هذه الحروف : السور المكية عدا البقرة وآل عمران ، والحروف الواقعة في السور هي : أ، ح ، ر ، س ، ص ، ط ، ع ، ق ، ك ، ل ، م ، ن ، ه ، ي ، بعضها تكرر في سور وبعضها لم يتكرر وهي من القرآن لا محالة ومن المتشابه في تأويلها.

ولا خلاف أن هاته الفواتح حين ينطق بها القارئ أسماء الحروف التهجي التي ينطق في الكلام بمسمياتها وأن مسمياتها الأصوات المكيفة بكيفيات خاصة تحصل في مخارج الحروف ولذلك إنما يقول القارئ : (ألف لام ميم) مثلا ولا يقول (الم). وإنما كتبوها في المصاحف بصور الحروف التي يتهجى بها في الكلام التي يقوم رسم شكلها مقام المنطوق به في الكلام ولم يكتبوها بدوالّ ما يقرءونها به في القرآن لأن المقصود التهجي بها وحروف التهجي تكتب بصورها لا بأسمائها. وقيل لأن رسم المصحف سنة لا يقاس عليه وهذا أولى لأنه أشمل للأقوال المندرجة تحتها ، وإلى هنا خلص أن الأرجح من تلك الأقوال ثلاثة وهي كونها تلك الحروف لتبكت المعاندين وتسجيلا لعجزهم عن المعارضة ، أو كونها أسماء للسور الواقعة هي فيها ، أو كونها أقساما أقسم بها لتشريف قدر الكتابة ، وتنبيه العرب الأميين إلى فوائد الكتابة لإخراجهم من حالة الأمية ، وأرجح هذه الأقوال الثلاثة هو أولها ، فإن الأقوال الثاني والسابع والثامن والثاني عشر والخامس عشر والسادس عشر يبطلها أن هذه الحروف لو كانت مقتضبة من أسماء أو كلمات لكان حق أن ينطق بمسمياتها لا بأسمائها ؛ لأن رسم المصحف سنة لا يقاس عليها ، وهذا أولى لأنه أشمل للأقوال.

وعرفت اسميتها من دليلين : أحدهما اعتوار أحوال الأسماء عليها مثل التعريف حين تقول : الألف ، والباء ، ومثل الجمع حين تقول الجيمات ، وحين الوصف حين تقول ألف ممدودة والثاني ما حكاه سيبويه في «كتابه» : قال الخليل يوما وسأل أصحابه كيف تلفظون بالكاف التي في لك والباء التي في ضرب فقيل نقول كاف ، باء ، فقال إنما جئتم بالاسم ولم تلفظوا بالحرف وقال أقول كه ، وبه (يعني بهاء وقعت في آخر النطق به ليعتمد عليها اللسان عند النطق إذ أبقيت على حرف واحد لا يظهر في النطق به مفردا).

٢٠٤

والذي يستخلص من أقوال العلماء بعد حذف متداخله وتوحيد متشاكله يؤول إلى واحد وعشرين قولا ولشدة خفاء المراد من هذه الحروف لم أر بدا من استقصاء الأقوال على أننا نضبط انتشارها بتنويعها إلى ثلاثة أنواع :

النوع الأول يرجع إلى أنها رموز اقتضبت من كلم أو جمل ، فكانت أسرارا يفتح غلقها مفاتيح أهل المعرفة ويندرج تحت هذا النوع ثمانية أقوال : الأول أنها علم استأثر الله تعالى به ونسب هذا إلى الخلفاء الأربعة في روايات ضعيفة ولعلهم يثبتون اطلاع الله على المقصود منها رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقاله الشعبي وسفيان. والثاني أنها حروف مقتضبة من أسماء وصفات لله تعالى المفتتحة بحروف مماثلة لهذه الحروف المقطعة رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وقاله محمد بن القرظي أو الربيع بن أنس فألم مثلا الألف إشارة إلى أحد أو أول أو أزلي ، واللام إلى لطيف ، والميم إلى ملك أو مجيد ، ونحو ذلك ، وعلى هذا يحتاج في بيانها إلى توقيف وأنى لهم به.

الثالث أنها رموز لأسماء الله تعالى وأسماء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم والملائكة فألم مثلا ، الألف من الله ، واللام من جبريل ، والميم من محمد ، قاله الضحاك ، ولا بد من توقيف في كل فاتحة منها ، ولعلنا سننبه على ذلك في مواضعه.

الرابع جزم الشيخ محي الدين في الباب الثامن والتسعين والمائة في الفصل ٢٧ منه من كتابه «الفتوحات» أن هاته الحروف المقطعة في أوائل السور أسماء للملائكة وأنها إذا تليت كانت كالنداء لملائكتها فتصغي أصحاب تلك الأسماء إلى ما يقوله التالي بعد النطق بها ، فيقولون صدقت إن كان ما بعدها خبر ، ويقولون هذا مؤمن حقا نطق حقا وأخبر بحق فيستغفرون له ، وهذا لم يقله غيره وهو دعوى.

الخامس أنها رموز كلها لأسماء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأوصافه خاصة قاله الشيخ محمد بن صالح المعروف بابن ملوكة التونسي (١) في «رسالة» له قال إن كل حرف من حروف الهجاء في فواتح السور مكنى به عن طائفة من أسمائه الكريمة وأوصافه الخاصة ، فالألف مكنى به عن جملة أسمائه المفتتحة بالألف كأحمد وأبي القاسم ، واللام مكنيّ به عن صفاته مثل لب الوجود ، والميم مكني به عن محمد ونحوه مثل مبشر ومنذر ، فكلها منادى بحرف نداء

__________________

(١) كان من الزهاد والمربين درس علوما كثيرة وخاصة الفرائض والحساب وله شرحان على «الدرة البيضاء» توفى في تونس.

٢٠٥

مقدر بدليل ظهور ذلك الحرف في يس. ولم يعز هذا القول إلى أحد ، وعلق على هذه «الرسالة» تلميذه شيخ الإسلام محمد معاوية «تعليقة» أكثر فيها من التعداد ، وليست مما ينثلج لمباحثه الفؤاد (وهي وأصلها موجودة بخزنة جامع الزيتونة بتونس عدد ٥١٤) ويردّ هذا القول التزام حذف حرف النداء وما قاله من ظهروه في يس مبني على قول من قال : إن يس بمعنى يا سيد وهو ضعيف ؛ لأن الياء فيه حرف من حروف الهجاء لأن الشيخ نفسه عد يس بعد ذلك من الحروف الدالة على الأسماء مدلولا لنحو الياء من (كهيعص) [مريم : ١].

القول السادس أنها رموز لمدة دوام هذه الأمة بحساب الجمّل (١) قاله أبو العالية أخذا بقصة رواها ابن إسحاق عن جابر بن عبد الله بن وثاب قال : «جاء أبو ياسر بن أخطب وحيي بن أخطب وكعب بن الأشرف فسألوا رسول الله عن الم وقالوا هذا أجل هذه الأمة من السنين إحدى وسبعون سنة فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال لهم ص والمر فقالوا اشتبه علينا الأمر فلا ندري أبا لقليل نأخذ أم بالكثير؟» ا ه. وليس في جواب رسول الله إياهم بعدة حروف أخرى من هذه الحروف المتقطعة في أوائل السور تقرير لاعتبارها رموزا لأعداد مدة هذه الأمة ، وإنما أراد إبطال ما فهموه بإبطال أن يكون مفيدا لزعمهم على نحو الطريقة المسماة بالنقض في الجدل ومرجعها إلى المنع والمانع لا مذهب له. وأما ضحكه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو تعجب من جهلهم.

القول السابع أنها رموز كل حرف رمز إلى كلمة فنحو : (الم) أنا الله أعلم ، و (المر) أنا الله أرى ، و (المص) أنا الله أعلم وأفصل. رواه أبو الضحى عن ابن عباس ، ويوهنه أنه لا ضابط له لأنه أخذ مرة بمقابلة الحرف بحرف أول الكلمة ، ومرة بمقابلته بحرف وسط الكلمة أو آخرها. ونظروه بأن العرب قد تتكلم بالحروف المقطعة بدلا من كلمات تتألف من تلك الحروف نظما ونثرا ، من ذلك قول زهير :

بالخير خيرات وإن شرّ فا

ولا أريد الشر إلا أن تا

__________________

(١) حساب الجمل بضم الجيم وتشديد الميم المفتوحة هو جعل أعداد لكل حرف من حروف المعجم من آحاد وعشرات ومئات وألف واحد ، فإذا أريد خط رقم حسابي وضع الحرف عوضا عن الرقم وقد كان هذا الاصطلاح قديما ووسمت به عدة أناشيد من كتاب داود واشتهر ترقيم التاريخ به عند الرومان ولعله نقل إلى العرب منهم أو من اليهود.

٢٠٦

أراد وإن شر فشر وأراد إلا أن تشا ، فأتى بحرف من كل جملة. وقال الآخر (قرطبي) :

ناداهم ألا ألجموا ألا تا

قالوا جميعا كلهم ألا فا

أراد بالحرف الأول ألا تركبون ، وبالثاني ألا فاركبوا. وقال الوليد بن المغيرة عامل عثمان يخاطب عدي بن حاتم :

قلت لها قفي لنا قالت قاف

لا تحسبنّي قد نسيت الإيجاف (١)

أراد قالت وقفت. وفي الحديث : «من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة»

قال شقيق :

هو أن يقول اق مكان اقتل. وفي الحديث أيضا : «كفى بالسيف شا» ، أي شاهدا (٢). وفي «كامل المبرد» من قصيدة لعلي بن عيسى القمي وهو مولد :

وليس العجاجة والخافقا

ت تريك المنا برءوس الأسل

أي تريك المنايا. وفي «تلع» من «صحاح الجوهري» قال لبيد :

درس المنا بمتالع فأبان

فتقادمت بالحبس فالسوبان

أراد درس المنازل. وقال علقمة الفحل («خصائص» ص ٨٢) :

كأن إبريقهم ظبي على شرف

مفدم بسبا الكتان ملثوم

أراد بسبائب الكتان. وقال الراجز :

حين ألقت بقباء بركها

واستمر القتل في عبد الأشل

أي عبد الأشهل. وقول أبي فؤاد :

يذرين جندل حائر لجنوبها

فكأنما تذكى سنابكها الحبا

أراد الحباحب. وقال الأخطل :

أمست مناها بأرض ما يبلغها

بصاحب الهم إلا الجسرة الأجد

__________________

(١) يوجد في أكثر الكتب قلت لها قفي فقالت قاف ، وهو مشتمل على زحاف ثقيل. وفي بعض نسخ البيضاوي فقالت لي وهي مصححة ، وفي «الخصائص» لابن جني : قلت لها قفي لنا قالت قاف ، وبعد هذا البيت :

والنشوات من معتق صاف

وعزف قينات علينا عزاف

(٢) هو حديث سعد بن عبادة «كفى بالسيف شاهدا» أخرجه ابن ماجه.

٢٠٧

أراد منازلها. ووقع («طراز المجالس» ـ المجلس) (١) للمتأخرين من هذا كثير مع التورية كقول ابن مكانس :

لم أنس بدرا زارني ليلة

مستوفزا مطلعا للخطر

فلم يقم إلا بمقدار ما

قلت له أهلا وسهلا ومر

أراد بعض كلمة مرحبا وقد أكثرت من شواهده توسعة في مواقع هذا الاستعمال الغريب ولست أريد بذلك تصحيح حمل حروف فواتح السور على ذلك لأنه لا يحسن تخريج القرآن عليه وليس معها ما يشير إليه مع التورية بجعل مرّ من المرور.

القول الثامن أنها إشارات إلى أحوال من تزكية القلب ، وجعلها في «الفتوحات» في الباب الثاني إيماء إلى شعب الإيمان ، وحاصله أن جملة الحروف الواقعة في أوائل سور القرآن على تكرار الحروف ثمانية وسبعون حرفا والثمانية هنا هي حقيقة البضع حصل له ذلك بالكشف فيكون عدد الحروف ثمانية وسبعين وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الإيمان بضع وسبعون شعبة» فهذه الحروف هي شعب الإيمان ، ولا يكمل لأحد أسرار الإيمان حتى يعلم حقائق هذه الحروف في سورها. وكيف يزعم زاعم أنها واردة في معان غير معروفة مع ثبوت تلقي السامعين لها بالتسليم من مؤمن ومعاند ، ولو لا أنهم فهموا منها معنى معروفا دلت عليه القرائن لسأل السائلون وتورك المعاندون.

قال القاضي أبو بكر بن العربي : لو لا أن العرب كانوا يعرفون لها مدلولا متداولا بينهم لكانوا أول من أنكر ذلك على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بل تلا عليهم حم فصلت وص وغيرهما فلم ينكروا ذلك مع تشوفهم إلى عثرة وحرصهم على زلة قلت وقد سألوا عن أوضح من هذا فقالوا (وَمَا الرَّحْمنُ) [الفرقان : ٦٠] ، وأما ما استشهدوا به من بيت زهير وغيره فهو من نوادر كلام العرب ، ومما أخرج مخرج الألغاز والتمليح وذلك لا يناسب مقام الكتاب المجيد.

النوع الثاني يجمع الأقوال الراجعة إلى أن هاته الحروف وضعت بتلك الهيئات أسماء أو أفعالا وفيه من الأقوال أربعة.

التاسع في عداد الأقوال في أولها لجماعة من العلماء والمتكلمين واختاره الفخر

__________________

(١) نسبه إليه المبرد في «الكامل» ص ٢٤٥. وسيبويه في «كتابه» ص ٥٧ جزء ٢ وتبعهما المفسرون.

٢٠٨

أنها أسماء للسور التي وقعت فيها ، قاله زيد بن أسلم ونسب لسيبويه في «كتابه» باب أسماء السور من أبواب ما لا ينصرف أو للخليل ونسبه صاحب «الكشاف» للأكثر ويعضده وقوع هاته الحروف في أوائل السور فتكون هاته الحروف قد جعلت أسماء بالعلامة على تلك السور ، وسميت بها كما نقول الكراسة ب والرزمة ج ونظره القفال بما سمت العرب بأسماء الحروف كما سموا لام الطائي والد حارثة ، وسموا الذهب عين ، والسحاب غين ، والحوت نون ، والجبل قاف ، وأقوال ، وحاء قبيلة من مذحج ، وقال شريح بن أوفى العنسي أو العبسي :

يذكرني حاميم والرمح شاجر

فهلّا تلا حاميم قبل التقدم (١)

يريد (حم عسق) [الشورى : ١ ، ٢] التي فيها : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) [الشورى : ٢٣]. ويبعد هذا القول بعدا ما إن الشأن أن يكون الاسم غير داخل في المسمى وقد وجدنا هذه الحروف مقروءة مع السور بإجماع المسلمين ، على أنه يرده اتحاد هذه الحروف في عدة سور مثل الم والر وحم. وأنه لم توضع أسماء السور الأخرى في أوائلها.

القول العاشر وقال جماعة إنها أسماء للقرآن اصطلح عليها قاله الكلبي والسدي وقتادة ويبطله أنه قد وقع بعد بعضها ما لا يناسبها لو كانت أسماء للقرآن ، نحو (الم غُلِبَتِ الرُّومُ) [الروم : ١ ، ٢] ، و (الم أَحَسِبَ النَّاسُ) [العنكبوت : ١ ، ٢].

القول الحادي عشر أن كل حروف مركبة منها هي اسم من أسماء الله رووا عن علي أنه كان يقول يا كهيعص يا حم عسق وسكت عن الحروف المفردة فيرجع بها إلى ما يناسبها أن تندرج تحته من الأقوال ويبطله عدم الارتباط بين بعضها وبين ما بعده لأن يكون خبرا أو نحوه عن اسم الله مثل (الم ذلِكَ الْكِتابُ) [البقرة : ١ ، ٢] و (المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ) [الأعراف : ١ ، ٢].

الثاني عشر قال الماوردي : هي أفعال فإن حروف المص كتاب فعل ألمّ بمعنى نزل فالمراد (الم ذلِكَ الْكِتابُ) أي نزل عليكم ، ويبطل كلامه أنها لا تقرأ بصيغ الأفعال على

__________________

(١) الضمير في يذكرني راجع لمحمد بن طلحة السجاد بن عبيد الله القرشي من بني مرة بن كعب ، وأراد بحم سورة الشورى لأن فيها : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) [الشورى : ٢٣] فكانت دالة على قرابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقريش الذين منهم محمد السجاد.

٢٠٩

أن هذا لا يتأتى في جميعها نحو كهيعص والمص والر ولو لا غرابة هذا القول لكان حريا بالإعراض عنه.

النوع الثالث تندرج فيه الأقوال الراجعة إلى أن هاته الحروف حروف هجاء مقصودة بأسمائها لأغراض داعية لذلك وفيه من الأقوال :

القول الثالث عشر : أن هاته الحروف أقسم الله تعالى بها كما أقسم بالقلم تنويها بها لأن مسمياتها تألفت منها أسماء الله تعالى وأصول التخاطب والعلوم قاله الأخفش ، وقد وهن هذا القول بأنها لو كانت مقسما بها لذكر حرف القسم إذ لا يحذف إلا مع اسم الجلالة عند البصريين وبأنها قد ورد بعدها في بعض المواضع قسم نحو : (ن وَالْقَلَمِ) [القلم : ١] و (حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ) [الزخرف : ١] ، قال صاحب الكشاف : وقد استكرهوا الجمع بين قسمين على مقسم واحد حتى قال الخليل في قوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) [الليل : ١ ، ٢] أن الواو الثانية هي التي تضم الأسماء للأسماء أي واو العطف ، والجواب عن هذا أن اختصاص الحذف باسم الجلالة مختلف فيه وأن كراهية جمع قسمين تنفع بجعل الواو التالية لهاته الفواتح واو العطف على أنهم قد جمعوا بين قسمين ، قال النابغة :

والله والله لنعم الفتى ال

حارث لا النكس ولا الخامل

القول الرابع عشر : أنها سيقت مساق التهجي مسرودة على نمط التعديد في التهجية تبكيتا للمشركين وإيقاظا لنظرهم في أن هذا الكتاب المتلو عليهم وقد تحدوا بالإتيان بسورة مثله هو كلام مؤلف من عين حروف كلامهم كأنه يغريهم بمحاولة المعارضة ويستأنس لأنفسهم بالشروع في ذلك بتهجي الحروف ومعالجة النطق تعريضا بهم بمعاملتهم معاملة من لم يعرف تقاطيع اللغة ، فيلقنها كتهجي الصبيان في أول تعلمهم بالكتّاب حتى يكون عجزهم عن المعارضة بعد هذه المحاولة عجزا لا معذرة لهم فيه ، وقد ذهب إلى هذا القول المبرد وقطرب والفراء ، قال في «الكشاف» وهذا القول من القوة والخلافة بالقبول بمنزلة ، وقلت وهو الذي نختاره وتظهر المناسبة لوقوعها في فواتح السور أن كل سورة مقصودة بالإعجاز لأن الله تعالى يقول : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣] فناسب افتتاح ما به الإعجاز بالتمهيد لمحاولته ويؤيد هذا القول أن التهجي ظاهر في هذا المقصد فلذلك لم يسألوا عنه لظهور أمره وأن التهجي معروف عندهم للتعليم فإذا ذكرت حروف الهجاء على تلك الكيفية المعهودة في التعليم في مقام غير صالح للتعليم عرف السامعون

٢١٠

أنهم عوملوا معاملة المتعلم لأن حالهم كحاله في العجز عن الإتيان بكلام بليغ ، ويعضد هذا الوجه تعقيب هاته الحروف في غالب المواقع بذكر القرآن وتنزيله أو كتابيته إلا في (كهيعص) [مريم : ١] و (الم أَحَسِبَ النَّاسُ) [العنكبوت : ١ ، ٢] و (الم غُلِبَتِ الرُّومُ) [الروم : ١ ، ٢] ووجه تخصيص بعض تلك الحروف بالتهجي دون بعض ، وتكرير بعضها لأمر لا نعلمه ولعله لمراعاة فصاحة الكلام ، ويؤيده أن معظم مواقع هذه الحروف في أوائل السور المكية عدا البقرة على قول من جعلوها كلها مدنية وآل عمران ، ولعل ذلك لأنهما نزلتا بقرب عهد الهجرة من مكة وأن قصد التحدي في القرآن النازل بمكة قصد أولي ، ويؤيده أيضا الحروف التي أسماؤها مختومة بألف ممدودة مثل الياء والهاء والراء والطاء والحاء قرئت فواتح السور مقصودة على الطريقة التي يتهجى بها للصبيان في الكتّاب طلبا للخفة كما سيأتي قريبا في آخر هذا المبحث من تفسير (الم).

القول الخامس عشر : أنها تعليم للحروف المقطعة حتى إذا وردت عليهم بعد ذلك مؤلفة كانوا قد علموها كما يتعلم الصبيان الحروف المقطعة ، ثم يتعلمونها مركبة قاله عبد العزيز بن يحيى ، يعني إذ لم يكن فيهم من يحسن الكتابة إلا بعض المدن كأهل الحيرة وبعض طيئ وبعض قريش وكنانة من أهل مكة ، ولقد تقلبت أحوال العرب في القراءة والكتابة تقلبات متنوعة في العصور المختلفة ، فكانوا بادئ الأمر أهل كتابة لأنهم نزحوا إلى البلاد العربية من العراق بعد تبلبل الألسن ، والعراق مهد القراءة والكتابة وقد أثبت التاريخ أن ضخم بن إرم أول من علم العرب الكتابة ووضع حروف المعجم التسعة والعشرين ، ثم إن العرب لما بادوا (أي سكنوا البادية) تناست القبائل البادية بطول الزمان القراءة والكتابة ، وشغلهم حالهم عن تلقي مبادئ العلوم ، فبقيت الكتابة في الحواضر كحواضر اليمن والحجاز ، ثم لما تفرقوا بعد سيل العرم نقلوا الكتابة إلى المواطن التي نزلوها فكانت طيئ بنجد يعرفون القراءة والكتابة ، وهم الفرقة الوحيدة من القحطانيين ببلاد نجد ولذلك يقول أهل الحجاز ونجد إن الذين وضعوا الكتابة ثلاثة نفر من بني بولان من طيئ يريدون من الوضع أنهم علموها للعدنانيين بنجد ، وكان أهل الحيرة يعلمون الكتابة فالعرب بالحجاز تزعم أن الخط تعلموه عن أهل الأنبار والحيرة ، وقصة المتلمس في كتب الأدب تذكرنا بذلك إذ كان الذي قرأ له الصحيفة غلام من أغيلمة الحيرة. ولقد كان الأوس والخزرج مع أنهم من نازحة القحطانيين ، قد تناسوا الكتابة إذ كانوا أهل زرع وفروسية وحروب ، فقد ورد في السير أنه لم يكن أحد من الأنصار يحسن الكتابة بالمدينة وكان في أسرى المشركين يوم بدر من يحسن ذلك فكان من لا مال له من الأسرى يفتدي

٢١١

بأن يعلم عشرة من غلمان أهل المدينة الكتابة فتعلم زيد بن ثابت في جماعة ، وكانت الشفاء بنت عبد الله القرشية تحسن الكتابة وهي علمتها لحفصة أم المؤمنين. ويوجد في أساطير العرب ما يقتضي أن أهل الحجاز تعلموا الكتابة من أهل مدين في جوارهم فقد ذكروا قصة وهي أن المحض بن جندل من أهل مدين وكان ملكا كان له ستة أبناء وهم : أبجد ، وهوز ، وحطي ، وكلمن ، وسعفص ، وقرشت ، فجعل أبناءه ملوكا على بلاد مدين وما حولها فجعل أبجد بمكة وجعل هوزا وحطيا بالطائف ونجد ، وجعل الثلاثة الباقين بمدين ، وأن كلمنا كان في زمن شعيب وهو من الذين أخذهم عذاب يوم الظلة (١) قالوا فكانت حروف الهجاء أسماء هؤلاء الملوك ثم ألحقوا بها ثخذ وضغط فهذا يقتضي أن القصة مصنوعة لتلقين الأطفال حروف المعجم بطريقة سهلة تناسب عقولهم وتقتضي أن حروف ثخذ وضغظ لم تكن في معجم أهل مدين فألحقها أهل الحجاز ، وحقا إنها من الحروف غير الكثيرة الاستعمال ولا الموجودة في كل اللغات إلا أن هذا القول يبعده عدم وجود جميع الحروف في فواتح السور بل الموجود نصفها كما سيأتي بيانه من كلام «الكشاف».

القول السادس عشر : أنها حروف قصد منها تنبيه السامع مثل النداء المقصود به التنبيه في قولك يافتى لإيقاظ ذهن السامع قاله ثعلب والأخفش وأبو عبيدة ، قال ابن عطية كما يقول في إنشاد أشهر القصائد لا وبل لا ، قال الفخر في تفسير سورة العنكبوت : إن الحكيم إذا خاطب من يكون محل الغفلة أو مشغول البال يقدّم على الكلام المقصود شيئا ليلفت المخاطب إليه بسبب ذلك المقدم ثم يشرع في المقصود فقد يكون ذلك المقدم كلاما مثل النداء وحروف الاستفتاح ، وقد يكون المقدم صوتا كمن يصفق ليقبل عليه السامع فاختار الحكيم للتنبيه حروفا من حروف التهجي لتكون دلالتها على قصد التنبيه متعينة إذ ليس لها مفهوم فتمحضت للتنبيه على غرض مهم.

القول السابع عشر : أنها إعجاز بالفعل وهو أن النبي الأمي الذي لم يقرأ قد نطق

__________________

(١) الظلة : السحابة وقد أصابتهم صواعق فذكروا أن حارثة ابنة كلمن قالت ترثي أباها :

كلمن هدم ركني

هلكه وسط المحلة

سيد القوم أتاه ال

حتف نارا وسط ظله

كونت نارا وأضحت

دار قومي مضمحلة

ومسحة التوليد ظاهرة على هاته الأبيات.

٢١٢

بأصول القراءة كما ينطق بها مهرة الكتبة فيكون النطق بها معجزة وهذا بيّن البطلان لأن الأمي لا يعسر عليه النطق بالحروف.

القول الثامن عشر : أن الكفار كانوا يعرضون عن سماع القرآن فقالوا : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ) [فصلت : ٢٦] فأوردت لهم هذه الحروف ليقبلوا على طلب فهم المراد منها فيقع إليهم ما يتلوها بلا قصد ، قاله قطرب وهو قريب من القول السادس عشر.

القول التاسع عشر : أنها علامة لأهل الكتاب وعدوا بها من قبل أنبيائهم أن القرآن يفتتح بحروف مقطعة.

القول العشرون : قال التبريزي : علم الله أن قوما سيقولون بقدم القرآن فأراهم أنه مؤلف من حروف كحروف الكلام ، وهذا وهم لأن تأليف الكلام من أصوات الكلمات أشد دلالة على حدوثه من دلالة الحروف المقطعة لقلة أصواتها.

القول الحادي والعشرون : روي عن ابن عباس أنها ثناء أثنى الله به على نفسه وهو يرجع إلى القول الأول أو الثاني.

هذا جماع الأقوال ، ولا شك أن قراءة كافة المسلمين إياها بأسماء حروف الهجاء مثل ألف. لام. ميم دون أن يقرءوا الم وأن رسمها في الخط بصورة الحروف يزيف جميع أقوال النوع الأول ويعين الاقتصار على النوعين الثاني والثالث في الجملة ، على أن ما يندرج تحت ذينك النوعين متفاوت في درجات القبول ، فإن الأقوال الثاني ، والسابع ، والثامن ، والثاني عشر ، والخامس عشر ، والسادس عشر ، يبطلها أن هذه الحروف لو كانت مقتضبة من أسماء أو كلمات لكان الحق أن ينطق بمسمياتها لا بأسمائها. فإذا تعين هذان النوعان وأسقطنا ما كان من الأقوال المندرجة تحتمها واهيا ، خلص أن الأرجح من تلك الأقوال ثلاثة : وهي كون تلك الحروف لتبكيت المعاندين وتسجيلا لعجزهم عن المعارضة ، أو كونها أسماء للسور الواقعة هي فيها ، أو كونها أقساما أقسم بها لتشريف قدر الكتابة وتنبيه العرب الأميين إلى فوائد الكتابة لإخراجهم من حالة الأمية وأرجح هذه الأقوال الثلاثة هو أولها.

قال في «الكشاف» : ما ورد في هذه الفواتح من أسماء الحروف هو نصف أسامي حروف المعجم إذ هي أربعة عشر وهي : الألف ، واللام ، والميم ، والصاد ، والراء ،

٢١٣

والكاف ، والهاء ، والياء ، والعين ، والطاء ، والسين ، والحاء ، والقاف ، والنون ، في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم ، وهذه الأربعة عشر مشتملة على أنصاف أجناس صفات الحروف ففيها من المهموسة نصفها : الصاد ، والكاف ، والهاء ، والسين ، والحاء ، ومن المجهورة نصفها : الألف ، واللام ، والميم ، والراء ، والعين ، والطاء ، والقاف ، والياء ، والنون ، ومن الشديدة نصفها : الألف ، والكاف ، والطاء ، والقاف ، ومن الرخوة نصفها : اللام ، والميم ، والراء ، والصاد ، والهاء ، والعين ، والسين ، والحاء ، والياء ، والنون. ومن المطبقة نصفها : الصاد ، والطاء. ومن المنفتحة نصفها : الألف ، واللام ، والميم ، والراء ، والكاف ، والهاء ، والعين ، والسين ، والقاف ، والياء ، والنون. ومن المستعلية نصفها القاف ، والصاد ، والطاء. ومن المستفلة نصفها : الألف ، واللام ، والميم ، والراء والكاف ، والهاء ، والياء ، والعين ، والسين ، والحاء ، والنون. ومن حروف القلقلة نصفها : القاف ، والطاء. ثم إن الحروف التي ألغى ذكرها مكثورة بالمذكورة ، فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته ا ه وزاد البيضاوي على ذلك أصنافا أخرى من صفات الحروف لا نطيل بها فمن شاء فليراجعها. ومحصول كلامهما أنه قد قضى بذكر ما ذكر من الحروف وإهمال ذكر ما أهمل منها حقّ التمثيل لأنواع الصفات بذكر النصف ، وترك النصف من باب «وليقس ما لم يقل» لحصول الغرض وهو الإشارة إلى العناية بالكتابة ، وحقّ الإيجاز في الكلام. فيكون ذكر مجموع هذه الفواتح في سور القرآن من المعجزات العلمية وهي المذكورة في الوجه الثالث من وجوه الإعجاز التي تقدمت في المقدمة العاشرة من مقدمات هذا التفسير.

وكيفية النطق أن ينطق بها موقوفة دون علامات إعراب على حكم الأسماء المسرودة إذ لم تكن معمولة لعوامل فحالها كحال الأعداد المسرودة حين تقول ثلاثة أربعة خمسه. وكحال أسماء الأشياء التي تملى على الجارد لها ، إذ تقول مثلا : ثوب ، بساط ، سيف ، دون إعراب ، ومن إعرابها كان مخطئا. ولذلك نطق القراء بها ساكنة سكون الموقوف عليه فما كان منها صحيح الآخر نطق به ساكنا نحو ألف ، لام ، ميم. وما كان من أسماء الحروف ممدود الآخر نطق به في أوائل السور ألفا مقصورا لأنها مسوقة مساق المتهجّى بها وهي في حالة التهجي مقصورة طلبا للخفة لأن التهجّي إنما يكون غالبا لتعليم المبتدئ ، واستعمالها في التهجي أكثر فوقعت في فواتح السور مقصورة لأنها على نمط التعديد أو مأخوذة منه.

٢١٤

ولكن الناس قد يجعلون فاتحة إحدى السور كالاسم لها فيقولون قرأت : (كهيعص) كما يجعلون أول كلمة من القصيدة اسما للقصيدة فيقولون قرأت : «قفا نبك» و«بانت سعاد» فحينئذ قد تعامل جملة الحروف الواقعة في تلك الفاتحة معاملة كلمة واحدة فيجري عليها من الإعراب ما هو لنظائر تلك الصيغة من الأسماء فلا يصرف حاميم كما قال شريح بن أوفى العنسي المتقدم آنفا :

يذكّرني حاميم والرّمح شاجر

فهلّا تلا حاميم قبل التّقدّم

وكما قال الكميت :

قرأنا لكم في آل حاميم آية

تأوّلها منّا فقيه ومعرب

ولا يعرب (كهيعص) [مريم : ١] إذ لا نظير له في الأسماء إفرادا ولا تركيبا. وأما طسم فيعرب إعراب المركب المزجى نحو حضرموت ودارابجرد (١) وقال سيبويه : إنك إذا جعلت (هود) اسم السورة لم تصرفها فتقول قرأت هود للعلميّة والتأنيث قال لأنها تصير بمنزلة امرأة سميتها بعمرو. ولك في الجميع أن تأتي به في الإعراب على حاله من الحكاية وموقع هاته الفواتح مع ما يليها من حيث الإعراب ، فإن جعلتها حروفا للتهجي تعريضا بالمشركين وتبكيتا لهم فظاهر أنها حينئذ محكية ولا تقبل إعرابا ، لأنها حينئذ بمنزلة أسماء الأصوات لا يقصد إلا صدورها فدلالتها تشبه الدلالة العقلية فهي تدل على أن الناطق بها يهيّئ السامع إلى ما يرد بعدها مثل سرد الأعداد الحسابية على من يراد منه أن يجمع حاصلها ، أو يطرح ، أو يقسم ، فلا إعراب لها مع ما يليها ، ولا معنى للتقدير بالمؤلف من هذه الحروف إذ ليس ذلك الإعلام بمقصود لظهوره وإنما المقصود ما يحصل عند تعدادها من التعريض لأن الذي يتهجّى الحروف لمن ينافي حاله أن يقصد تعليمه يتعين من المقام أنه يقصد التعريض. وإذا قدّرتها أسماء للسور أو للقرآن أو لله تعالى مقسما بها فقيل إن لها أحكاما مع ما يليها من الإعراب بعضها محتاج للتقدير الكثير ، فدع عنك الإطالة بها فإن الزمان قصير.

وهاته الفواتح قرآن لا محالة ولكن اختلف في أنها آيات مستقلة والأظهر أنها ليست بآيات مستقلة بل هي أجزاء من الآيات الموالية لها على المختار من مذاهب جمهور

__________________

(١) دارابجرد اسم بلدة بفارس مركبة من دارا اسم ملك. وآب اسم الماء وجرد بمعنى بلد فهي بفتحات ثم جيم مكسورة.

٢١٥

القراء. وروى عن قراء الكوفة أن بعضها عدّوه آيات مستقلة وبعضها لم يعدوه وجعلوه جزء آية مع ما يليه ، ولم يظهر وجه التفصيل حتى قال صاحب «الكشاف» إن هذا لا دخل للقياس فيه. والصحيح عن الكوفيين أن جميعها آيات وهو اللائق بأصحاب هذا القول إذ التفصيل تحكم ؛ لأن الدليل مفقود. والوجه عندي أنها آيات لأن لها دلالة تعريضية كنائية إذ المقصود إظهار عجزهم أو نحو ذلك فهي تطابق مقتضى الحال مع ما يعقبها من الكلام ولا يشترط في دلالة الكلام على معنى كنائي أن يكون له معنى صريح بل تعتبر دلالة المطابقة في هذه الحروف تقديرية إن قلنا باشتراط ملازمة دلالة المطابقة لدلالة الالتزام. ويدل لإجراء السلف حكم أجزاء الآيات عليها أنهم يقرءونها إذا قرءوا الآية المتصلة بها ، ففي «جامع الترمذي» في كتاب التفسير في ذكر سبب نزول سورة الروم فنزلت : (الم غُلِبَتِ الرُّومُ) [الروم : ١ ، ٢] ، وفيه أيضا : «فخرج أبو بكر الصديق يصيح في نواحي مكة (الم غُلِبَتِ الرُّومُ) وفي «سيرة ابن إسحاق» من رواية ابن هشام عنه : «فقرأ رسول الله على عتبة بن ربيعة : (حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) حتى بلغ قوله : (فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ) [فصلت : ١ ـ ١٣] الحديث.

وعلى هذا الخلاف اختلف في إجزاء قراءتها في الصلاة عند الذين يكتفون في قراءة السورة مع الفاتحة بآية واحدة مثل أصحاب أبي حنيفة.

[٢] (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢))

(ذلِكَ الْكِتابُ).

مبدأ كلام لا اتصال له في الإعراب بحروف (الم) [البقرة : ١] كما علمت مما تقدم على جميع الاحتمالات كما هو الأظهر. وقد جوز صاحب «الكشاف» على احتمال أن تكون حروف (الم) مسوقة مساق التهجي لإظهار عجز المشركين عن الإتيان بمثل بعض القرآن ، أن يكون اسم الإشارة مشارا به إلى (الم) باعتباره حرفا مقصودا للتعجيز ، أي ذلك المعنى الحاصل من التهجي أي ذلك الحروف باعتبارها من جنس حروفكم هي الكتاب أي منها تراكيبه فما أعجزكم عن معارضته ، فيكون (الم) جملة مستقلة مسوقة للتعريض.

واسم الإشارة مبتدأ و (الكتاب) خبرا. وعلى الأظهر تكون الإشارة إلى القرآن المعروف لديهم يومئذ واسم الإشارة مبتدأ و (الكتاب) بدل وخبره ما بعده ، فالإشارة إلى

٢١٦

(الكتاب) النازل بالفعل وهي السور المتقدمة على سورة البقرة ؛ لأن كل ما نزل من القرآن فهو المعبر عنه بأنه القرآن وينضم إليه ما يلحق به ، فيكون (الكتاب) على هذا الوجه أطلق حقيقة على ما كتب بالفعل ، ويكون قوله (الكتاب) على هذا الوجه خبرا عن اسم الإشارة ، ويجوز أن تكون الإشارة إلى جميع القرآن ما نزل منه وما سينزل لأن نزوله مترقّب فهو حاضر في الأذهان فشبه بالحاضر في العيان ، فالتعريف فيه للعهد التقديري والإشارة إليه للحضور التقديري فيكون قوله (الكتاب) حينئذ بدلا أو بيانا من (ذلِكَ) والخبر هو (لا رَيْبَ فِيهِ).

ويجوز الإتيان في مثل هذا باسم الإشارة الموضوع للقريب والموضوع للبعيد ، قال الرضي (١) «وضع اسم الإشارة للحضور والقرب لأنه للمشار إليه حسّا ثم يصح أن يشار به إلى الغائب فيصح الإتيان بلفظ البعد لأن المحكي عنه غائب ، ويقل أن يذكر بلفظ الحاضر القريب فتقول جاءني رجل فقلت لذلك الرجل وقلت لهذا الرجل ، وكذا يجوز لك في الكلام المسموع عن قريب أن تشير إليه بلفظ الغيبة والبعد كما تقول : «والله وذلك قسم عظيم» لأن اللفظ زال سماعه فصار كالغائب ولكن الأغلب في هذا الإشارة بلفظ الحضور فتقول وهذا قسم عظيم» ا ه ، أي الأكثر في مثله الإتيان باسم إشارة البعيد ويقل ذكره بلفظ الحاضر ، وعكس ذلك في الإشارة للقول.

وابن مالك في «التسهيل» سوّى بين الإتيان بالقريب والبعيد في الإشارة لكلام متقدم إذ قال : وقد يتعاقبان (أي اسم القريب والبعيد) مشارا بهما إلى ما ولياه أي من الكلام ، ومثّله شارحه بقوله تعالى بعد قصة عيسى : (ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) [آل عمران : ٥٨] ثم قال : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ) [آل عمران : ٦٢] فأشار مرة بالبعيد ومرة بالقريب والمشار إليه واحد ، وكلام ابن مالك أوفق بالاستعمال إذ لا يكاد يحصر ما ورد من الاستعمالين فدعوى الرضي قلة أن يذكر بلفظ الحاضر دعوى عريضة. وإذا كان كذلك كان حكم الإشارة إلى غائب غير كلام مثل الإشارة إلى الكلام في جواز الوجهين لكثرة كليهما أيضا ، ففي القرآن : (فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) [القصص : ١٥] فإذا كان الوجهان سواء كان ذلك الاستعمال مجالا لتسابق البلغاء ومراعاة مقتضيات الأحوال ، ونحن قد رأيناهم يتخيرون في مواقع الإتيان باسم الإشارة ما هو أشد

__________________

(١) «شرح كافية ابن الحاجب» صفحة ٣٢ جزء ٢ طبع الآستانة.

٢١٧

مناسبة لذلك المقام فدلنا على أنهم يعرّفون مخاطبيهم بأغراض لا قبل لتعرفها إلا إذا كان الاستعمال سواء في أصل اللغة ليكون الترجيح لأحد الاستعمالين لا على معنى ، مثل زيادة التنبيه في اسم الإشارة البعيد كما هنا ، وكما قال خفاف بن ندبة (١) :

أقول له والرمح يأطر متنه

تأمل خفافا إنني أنا ذلك (٢)

وقد يؤتى بالقريب لإظهار قلة الاكتراث كقول قيس بن الخطيم في «الحماسة» :

متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة

لنفسي إلا قد قضيت قضاءها

فلا جرم أن كانت الإشارة في الآية باستعمال اسم الإشارة للبعيد لإظهار رفعة شأن هذا القرآن لجعله بعيد المنزلة. وقد شاع في الكلام البليغ تمثيل الأمر الشريف بالشيء المرفوع في عزة المنال لأن الشيء النفيس عزيز على أهله فمن العادة أن يجعلوه في المرتفعات صونا له عن الدروس وتناول كثرة الأيدي والابتذال ، فالكتاب هنا لما ذكر في مقام التحدي بمعارضته بما دلت عليه حروف التهجي في (الم) [البقرة : ١] كان كالشيء العزيز المنال بالنسبة إلى تناولهم إياه بالمعارضة أو لأنه لصدق معانيه ونفع إرشاده بعيد عمن يتناوله بهجر القول كقولهم : (افْتَراهُ) [يونس : ٣٨] وقولهم : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [الأنعام : ٢٥]. ولا يرد على هذا قوله : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ) [الأنعام : ٩٢] فذلك للإشارة إلى كتاب بين يدي أهله لترغيبهم في العكوف عليه والاتعاظ بأوامره ونواهيه. ولعل صاحب «الكشاف» بنى على مثل ما بنى عليه الرضي فلم يعدّ : (ذلِكَ الْكِتابُ) تنبيها على التعظيم أو الاعتبار ، فلله در صاحب «المفتاح» إذ لم يغفل ذلك فقال في مقتضيات تعريف المسند إليه بالإشارة : أو أن يقصد ببعده تعظيمه كما تقول في مقام التعظيم ذلك الفاضل وأولئك الفحول وكقوله عزّ وعلا : (الم ذلِكَ الْكِتابُ) ذهابا إلى بعده درجة.

__________________

(١) خفاف بضم الخاء وتخفيف الفاء هو خفاف بن عمير وأمه ندبة أمة سوداء. وهي بفتح النون. وخفاف أحد فرسان العرب وشعرائهم ممن لقب بالغراب ، وأغربة العرب سودانهم وهم خمسة جاهليون ، وثمانية مسلمون ، فأما الجاهليون فهم : عنترة ، وخفاف ، وأبو عمير بن الحباب ، وسليك بن السّلكة ، وهشام بن عقبة بن أبي معيط ، فخفاف وهشام أدركا الإسلام وعدّا في الصحابة وشهد خفاف فتح مكة وأبلى البلاء الحسن. وأما الأغربة المسلمون فهم : تأبّط شرّا ، والشّنفرى ـ عمرو بن برّاقة ـ وعبد الله بن حازم ، وعمير بن أبي عمير ، وهمام بن مطرف ، ومنتشر بن وهب ، ومطر بن أبي أوفى ، وحاجز بحاء ثم جيم ثم زاي معجمة غير منسوب.

(٢) يأطر مضارع أطر كنصر وضرب ، بمعنى أحنى وكسر قال طرفة : «وأطر قسيّ فوق صلب مؤيّد».

٢١٨

وقوله : (الْكِتابُ) يجوز أن يكون بدلا من اسم الإشارة لقصد بيان المشار إليه لعدم مشاهدته ، فالتعريف فيه إذن للعهد ، ويكون الخبر هو جملة (لا رَيْبَ فِيهِ) ، ويجوز أن يكون (الكتاب) خبرا عن اسم الإشارة ويكون التعريف تعريف الجنس فتفيد الجملة قصر حقيقة الكتاب على القرآن بسبب تعريف الجزءين فهو إذن قصر ادّعائي ومعناه ذلك هو الكتاب الجامع لصفات الكمال في جنس الكتب بناء على أن غيره من الكتب إذا نسبت إليه كانت كالمفقود منها وصف الكتاب لعدم استكمالها جميع كمالات الكتب ، وهذا التعريف قد يعبر عنه النحاة في تعداد معاني لام التعريف بمعنى الدلالة على الكمال فلا يرد أنه كيف يحصر الكتاب في أنه الم أو في السورة أو نحو ذلك إذ ليس المقام مقام الحصر وإنما هو مقام التعريف لا غير ، ففائدة التعريف والإشارة ظاهرية وليس شيء من ذلك لغوا بحال وإن سبق لبعض الأوهام على بعض احتمال.

و (الكتاب) فعال بمعنى المكتوب إما مصدر كاتب المصوغ للمبالغة في الكتابة ، فإن المصدر يجىء بمعنى المفعول كالخلق ، وإما فعال بمعنى مفعول كلباس بمعنى ملبوس وعماد بمعنى معمود به. واشتقاقه من كتب بمعنى جمع وضم لأن الكتاب تجمع أوراقه وحروفه ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بكتابة كل ما ينزل من الوحي وجعل للوحي كتابا ، وتسمية القرآن كتابا إشارة إلى وجوب كتابته لحفظه. وكتابة القرآن فرض كفاية على المسلمين.

(لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ).

حال من الكتاب أو خبر أول أو ثان على ما مر قريبا. والريب الشك وأصل الريب القلق واضطراب النفس ، وريب الزمان وريب المنون نوائب ذلك ، قال الله تعالى : (نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) [الطور : ٣٠] ولما كان الشك يلزمه اضطراب النفس وقلقها غلب عليه الريب فصار حقيقة عرفية يقال رابه الشيء إذا شككه أي بجعل ما أوجب الشك في حاله فهو متعد ، ويقال أرابه كذلك إذ الهمزة لم تكسبه تعدية زائدة فهو مثل لحق وألحق ، وزلقه وأزلقه وقد قيل إن أراب أضعف من راب أراب بمعنى قرّبه من أن يشك قاله أبو زيد ، وعلى التفرقة بينهما قال بشار :

أخوك الذي إن ربته قال إنما

أربت وإن عاتبته لان جانبه (١)

__________________

(١) أي إن فعلت معه ما يوجب شكه في مودتك راجع نفسه. وقال : إنما قربني من الشك ولم أشك فيه. أي التمس لك العذر.

٢١٩

وفي الحديث : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» أي دع الفعل الذي يقربك من الشك في التحريم إلى فعل آخر لا يدخل عليك في فعله شك في أنه مباح.

ولم يختلف متواتر القراء في فتح (لا رَيْبَ) نفيا للجنس على سبيل التنصيص وهو أبلغه لأنه لو رفع لاحتمل نفي الفرد دون الجنس فإن كان الإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى الحروف المجتمعة في (الم) على إرادة التعريض بالمتحدّين وكان قوله : (الْكِتابُ) خبرا لاسم الإشارة على ما تقدم كان قوله : (لا رَيْبَ) نفيا لريب خاص وهو الريب الذي يعرض في كون هذا الكتاب مؤلفا من حروف كلامهم فكيف عجزوا عن مثله ، وكان نفي الجنس فيه حقيقة وليس بادعاء ، فتكون جملة (لا رَيْبَ) منزّلة منزلة التأكيد لمفاد الإشارة في قوله : (ذلِكَ الْكِتابُ) وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون المجرور وهو قوله : (فِيهِ) متعلقا بريب على أنه ظرف لغو فيكون الوقف على قوله : (فِيهِ) ، وهو مختار الجمهور على نحو قوله تعالى : (وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ) [الشورى : ٧] وقوله : (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) [آل عمران : ٩] ويجوز أن يكون قوله : (فِيهِ) ظرفا مستقرا خبرا لقوله بعده : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) ومعنى «في» هو الظرفية المجازية العرفية تشبيها لدلالة اللفظ باحتواء الظرف فيكون تخطئة للذين أعرضوا عن استماع القرآن فقالوا : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ) [فصلت : ٢٦] استنزالا لطائر نفورهم كأنه قيل هذا الكتاب مشتمل على شيء من الهدى فاسمعوا إليه ولذلك نكر الهدى أي فيه شيء من هدى على حد قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي ذر : «إنك امرؤ فيك جاهلية» ويكون خبر (لا) محذوفا لظهوره أي لا ريب موجود ، وحذف الخبر مستعمل كثيرا في أمثاله نحو : (قالُوا لا ضَيْرَ) [الشعراء : ٥٠] وقول العرب لا بأس ، وقول سعد بن مالك :

من صد عن نيرانها

فأنا ابن قيس لا براح

أي لا بقاء في ذلك ، وهو استعمال مجازي فيكون الوقف على قوله : (لا رَيْبَ) وفي «الكشاف» أن نافعا وعاصما وقفا على قوله : (رَيْبَ).

وإن كانت الإشارة بقوله : (ذلِكَ) إلى (الْكِتابُ) باعتبار كونه كالحاضر المشاهد وكان قوله (الْكِتابُ) بدلا من اسم الإشارة لبيانه فالمجرور من قوله : (فِيهِ) ظرف لغو متعلق بريب وخبر لا محذوف على الطريقة الكثيرة في مثله ، والوقف على قوله (فِيهِ) ، فيه معنى نفي وقوع الريب في الكتاب على هذا الوجه نفي الشك في أنه منزل من الله تعالى لأن المقصود خطاب المرتابين في صدق نسبته إلى الله تعالى وسيجيء خطابهم

٢٢٠