تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٣٥

وأما عن الإجماع على أن ما بين الدفتين كلام الله ، فالجواب أنه لا يقتضي إلا أن البسملة قرآن وهذا لا نزاع فيه ، وأما كون المواضع التي رسمت فيها في المصحف مما تجب قراءتها فيها ، فذلك أمر يتبع رواية القراء وأخبار السنة الصحيحة فيعود إلى الأدلة السابقة.

وهذا كله بناء على تسليم أن الصحابة لم يكتبوا أسماء السور وكونها مكية أو مدنية في المصحف وأن ذلك من صنع المتأخرين وهو صريح كلام عبد الحكيم في «حاشية البيضاوي» ، وأما إذا ثبت أن بعض السلف كتبوا ذلك كما هو ظاهر كلام المفسرين والأصوليين والقراء كما في «لطائف الإشارات» للقسطلاني وهو مقتضى كتابة المتأخرين لذلك لأنهم ما كانوا يجرءون على الزيادة على ما فعله السلف فالاحتجاج حينئذ بالكتابة باطل من أصله ودعوى كون أسماء السور كتبت بلون مخالف لحبر القرآن ، يرده أن المشاهد في مصاحف السلف أن حبرها بلون واحد ولم يكن التلوين فاشيا.

وقد احتج بعضهم بما رواه البخاري عن أنس أنه سئل كيف كانت قراءة النبي؟ فقال كانت مدّا ثم قرأ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) يمد (بِسْمِ اللهِ) ويمد بالرحمن ويمد بالرحيم ، ا ه ، ولا حجة في هذا لأن ضمير قرأ وضمير يمد عائدان إلى أنس ، وإنما جاء بالبسملة على وجه التمثيل لكيفية القراءة لشهرة البسملة.

وحجة عبد الله بن المبارك وثاني قولي الشافعي ما رواه مسلم عن أنس قال : «بينا رسول الله بين أظهرنا ذات يوم إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما فقلنا ما أضحكك يا رسول الله؟ قال : أنزلت عليّ سورة آنفا فقرأبسم الله الرحمن الرحيم (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) [الكوثر : ١] السورة ، قالوا وللإجماع على أن ما بين الدفتين كلام الله ولإثبات الصحابة إياها في المصاحف مع حرصهم على أن لا يدخلوا في القرآن ما ليس منه ولذلك لم يكتبوا آمين في الفاتحة.

والجواب عن الحديث أنا نمنع أن يكون قرأ البسملة على أنها من السورة بل افتتح بها عند إرادة القراءة لأنها تغني عن الاستعاذة إذا نوى المبسمل تقدير أستعيذ باسم الله وحذف متعلق الفعل ، ويتعين حمله على نحو هذا لأن راويه أنسا بن مالك جزم في حديثه الآخر أنه لم يسمع رسول الله بسمل في الصلاة. فإن أبوا تأويله بما تأولناه لزم اضطراب أنس في روايته اضطرابا يوجب سقوطها.

والحق البين في أمر البسملة في أوائل السور ، أنها كتبت للفصل بين السور ليكون

١٤١

الفصل مناسبا لابتداء المصحف ، ولئلا يكون بلفظ من غير القرآن ، وقد روى أبو داود في «سننه» والترمذي وصححه عن ابن عباس أنه قال : قلت لعثمان بن عفان : «ما حملكم أن عمدتم إلى براءة وهي من المئين وإلى الأنفال وهي من المثاني فجعلتموهما في السبع الطوال ولم تكتبوا بينهما سطرابسم الله الرحمن الرحيم» ، قال عثمان كان النبي لما تنزل عليه الآيات فيدعو بعض من كان يكتب له ويقول له ضع هذه الآية بالسورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، أو تنزل عليه الآية والآيتان فيقول مثل ذلك ، وكانت الأنفال من أول ما أنزل عليه بالمدينة ، وكانت براءة من آخر ما أنزل من القرآن وكانت قصتها شبيهة بقصتها فقبض رسول الله ولم يبين لنا أنها منها ، فظننت أنها منها ، فمن هناك وضعتها في السبع الطوال ولم أكتب بينهما سطربسم الله الرحمن الرحيم».

وأرى في هذا دلالة بينة على أن البسملة لم تكتب بين السور غير الأنفال وبراءة إلا حين جمع القرآن في مصحف واحد زمن عثمان ، وأنها لم تكن مكتوبة في أوائل السور في الصحف التي جمعها زيد بن ثابت في خلافة أبي بكر إذ كانت لكل سورة صحيفة مفردة كما تقدم في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير.

وعلى أن البسملة مختلف في كونها آية من أول كل سورة غير براءة ، أو آية من أول سورة الفاتحة فقط ، أو ليست بآية من أول شيء من السور ؛ فإن القراء اتفقوا على قراءة البسملة عند الشروع في قراءة سورة من أولها غير براءة. ورووا ذلك عمن تلقّوا ، فأما الذين منهم يروون اجتهادا أو تقليدا أن البسملة آية من أول كل سورة غير براءة ، فأمرهم ظاهر ، وقراءة البسملة في أوائل السور واجبة عندهم لا محالة في الصلاة وغيرها ، وأما الذين لا يروون البسملة آية من أوائل السور كلها أو ما عدا الفاتحة فإن قراءتهم البسملة في أول السورة عند الشروع في قراءة سورة غير مسبوقة بقراءة سورة قبلها تعلّل بالتيمن باقتفاء أثر كتّاب المصحف ، أي قصد التشبه في مجرد ابتداء فعل تشبيها لابتداء القراءة بابتداء الكتابة. فتكون قراءتهم البسملة أمرا مستحبا للتأسي في القراءة بما فعله الصحابة الكاتبون للمصحف ، فقراءة البسملة عند هؤلاء نظير النطق بالاستعاذة ونظير التهليل والتكبير بين بعض السور من آخر المفصّل ، ولا يبسملون في قراءة الصلاة الفريضة ، وهؤلاء إذا قرءوا في صلاة الفريضة تجري قراءتهم على ما انتهى إليه فهمهم من أمر البسملة من اجتهاد أو تقليد. وبهذا تعلم أنه لا ينبغي أن يؤخذ من قراءتهم قول لهم بأن البسملة آية من أول كل سورة كما فعل صاحب «الكشاف» والبيضاوي.

١٤٢

واختلفوا في قراءة البسملة في غير الشروع في قراءة سورة من أولها ، أي في قراءة البسملة بين السورتين.

فورش عن نافع في أشهر الروايات عنه وابن عامر ، وأبو عمرو ، وحمزة ، ويعقوب ، وخلف ، لا يبسملون بين السورتين وذلك يعلل بأن التشبّه بفعل كتّاب المصحف خاص بالابتداء ، وبحملهم رسم البسملة في المصحف على أنه علامة على ابتداء السورة لا على الفصل ، إذ لو كانت البسملة علامة على الفصل بين السورة والتي تليها لما كتبت في أول سورة الفاتحة ، فكان صنيعهم وجيها لأنهم جمعوا بين ما رووه عن سلفهم وبين دليل قصد التيمن ، ودليل رأيهم أن البسملة ليست آية من أول كل سورة.

وقالون عن نافع وابن كثير وعاصم والكسائي وأبو جعفر يبسملون بين السورتين سوى ما بين الأنفال وبراءة ، وعدوه من سنة القراءة ، وليس حظهم في ذلك إلا اتباع سلفهم ، إذ ليس جميعهم من أهل الاجتهاد ، ولعلهم طردوا قصد التيمن بمشابهة كتّاب المصحف في الإشعار بابتداء السورة والإشعار بانتهاء التي قبلها.

واتفق المسلمون على ترك البسملة في أول سورة براءة وقد تبين وجه ذلك آنفا ، ووجّهه الأئمة بوجوه أخر تأتي في أول سورة براءة ، وذكر الجاحظ في «البيان والتبيين» (١) أن مؤرّجا السّدوسي البصري سمع رجلا يقول : «أمير المؤمنين يردّ على المظلوم» فرجع مؤرج إلى مصحفه فردّ على براءةبسم الله الرحمن الرحيم ، ويحمل هذا الذي صنعه مؤرج ـ إن صح عنه ـ إنما هو على التمليح والهزل وليس على الجد.

وفي هذا ما يدل على أن اختلاف مذاهب القراء في قراءة البسملة في مواضع من القرآن ابتداء ووصلا كما تقدم لا أثر له في الاختلاف في حكم قراءتها في الصلاة ، فإن قراءتها في الصلاة تجري على أحكام النظر في الأدلة ، وليس مذاهب القراء بمعدودة من أدلة الفقه ، وإنما قراءاتهم روايات وسنة متبعة في قراءة القرآن دون استناد إلى اعتبار أحكام رواية القرآن من تواتر ودونه ، ولا إلى وجوب واستحباب وتخيير ، فالقارئ يقرأ كما روى عن معلميه ولا ينظر في حكم ما يقرؤه من لزوم كونه كما قرأ أو عدم اللزوم ، فالقراء تجري أعمالهم في صلاتهم على نزعاتهم في الفقه من اجتهاد وتقليد ، ويوضح غلط من ظن أن خلاف الفقهاء في إثبات البسملة وعدمه مبني على خلاف القراء ، كما يوضح

__________________

(١) صفحة ١٣٠ جزء ٢ طبع الرحمانية ـ القاهرة.

١٤٣

تسامح صاحب «الكشاف» في عده مذاهب القراء في نسق مذاهب الفقهاء. وإنما اختلف المجتهدون لأجل الأدلة التي تقدم بيانها ، وأما الموافقة بينهم وبين قراء أمصارهم غالبا في هاته المسألة فسببه شيوع القول بين أهل ذلك العصر بما قال به فقهاؤه في المسائل ، أو شيوع الأدلة التي تلقاها المجتهدون من مشايخهم بين أهل ذلك العصر ولو من قبل ظهور المجتهد مثل سبق نافع بن أبي نعيم إلى عدم ذكر البسملة قبل أن يقول مالك بعدم جزئيتها ؛ لأن مالكا تلقى أدلة نفي الجزئية عن علماء المدينة وعنهم أو عن شيوخهم تلقى نافع بن أبي نعيم ، وإذ قد كنا قد تقلدنا مذهب مالك واطمأننا لمداركه في انتفاء كون البسملة آية من أول سورة البقرة كان حقا علينا أن لا نتعرض لتفسيرها هنا وأن نرجئه إلى الكلام على قوله تعالى في سورة النمل [٣٠] : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) غير أننا لما وجدنا من سلفنا من المفسرين كلهم لم يهملوا الكلام على البسملة في هذا الموضع اقتفينا أثرهم إذ صار ذلك مصطلح المفسرين.

واعلم أن متعلق المجرور في (بِسْمِ اللهِ) محذوف تقديره هنا أقرأ ، وسبب حذف متعلق المجرور أن البسملة سنة عند ابتداء الأعمال الصالحة فحذف متعلق المجرور فيها حذفا ملتزما إيجازا اعتمادا على القرينة ، وقد حكى القرآن قول سحرة فرعون عند شروعهم في السحر بقوله : (فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ) [الشعراء : ٤٤] وذكر صاحب «الكشاف» أن أهل الجاهلية كانوا يقولون في ابتداء أعمالهم : «باسم اللات باسم العزّى» فالمجرور ظرف لغو معمول للفعل المحذوف ومتعلق به وليس ظرفا مستقرا مثل الظروف التي تقع أخبارا ، ودليل المتعلق ينبئ عنه العمل الذي شرع فيه فتعين أن يكون فعلا خاصا من النوع الدال على معنى العمل المشروع فيه دون المتعلّق العام مثل أبتدئ لأن القرينة الدالة على المتعلق هي الفعل المشروع فيه المبدوء بالبسملة فتعين أن يكون المقدر اللفظ الدال على ذلك الفعل ، ولا يجري (١) في هذا الخلاف الواقع بين النحاة في كون متعلق الظروف هل يقدر اسما نحو كائن أو مستقر أم فعلا نحو كان أو استقر لأن ذلك الخلاف في الظروف الواقعة أخبارا أو أحوالا بناء على تعارض مقتضى تقدير الاسم وهو كونه الأصل في الأخبار والحالية ، ومقتضى تقدير الفعل وهو كونه الأصل في العمل لأن ما هنا ظرف لغو ، والأصل فيه أن يعدى الأفعال ويتعلق بها ، ولأن مقصد المبتدئ بالبسملة أن يكون جميع عمله ذلك مقارنا لبركة اسم الله تعالى فلذلك ناسب أن يقدر

__________________

(١) هذا رد على ابن عطية وبعض المفسرين إذا فرضوا خلاف النحاة معتبرا هنا.

١٤٤

متعلق الجار لفظا دالا على الفعل المشروع فيه. وهو أنسب لتعميم التيمن لإجزاء الفعل ، فالابتداء من هذه الجهة أقل عموما ، فتقدير الفعل العام يخصص وتقدير الفعل الخاص يعمم وهذا يشبه أن يلغز به. وهذا التقدير من المقدرات التي دلت عليها القرائن كقول الداعي للمعرّس «بالرفاء والبنين» (١) وقول المسافر عند حلوله وترحاله «باسم الله والبركات» وقول نساء العرب عند ما يزففن العروس «باليمن والبركة وعلى الطائر الميمون» ولذلك كان تقدير الفعل هاهنا واضحا. وقد أسعف هذا الحذف بفائدة وهي صلوحية البسملة ليبتدئ بها كلّ شارع في فعل فلا يلجأ إلى مخالفة لفظ القرآن عند اقتباسه ، والحذف من قبيل الإيجاز لأنه حذف ما قد يصرح به في الكلام ، بخلاف متعلقات الظروف المستقرة نحو عندك خير ، فإنهم لا يظهرون المتعلق فلا يقولون خير كائن عندك ولذلك عدوا نحو قوله :

فإنك كالليل الذي هو مدركي

من المساواة دون الإيجاز يعني مع ما فيه من حذف المتعلق. وإذ قد كان المتعلق محذوفا تعين أن يقدر في موضعه متقدّما على المتعلّق به كما هو أصل الكلام ؛ إذ لا قصد هنا لإفادة البسملة الحصر ، ودعوى صاحب «الكشاف» تقديره مؤخرا تعمق غير مقبول ، لا سيما عند حالة الحذف ، فالأنسب أن يقدر على حسب الأصل.

والباء باء الملابسة والملابسة ، هي المصاحبة ، وهي الإلصاق أيضا فهذه مترادفات في الدلالة على هذا المعنى وهي كما في قوله تعالى : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) [المؤمنون : ٢٠] وقولهم : «بالرفاء والبنين» وهذا المعنى هو أكثر معاني الباء وأشهرها ، قال سيبويه : الإلصاق لا يفارق الباء وإليه ترجع تصاريف معانيها ولذلك قال صاحب «الكشاف» : «وهذا الوجه (أي الملابسة) أعرب وأحسن» أي أحسن من جعل الباء للآلة أي أدخل في العربية وأحسن لما فيه من زيادة التبرك بملابسة جميع أجزاء الفعل لاسمه تعالى.

والاسم لفظ جعل دالا على ذات حسية أو معنوية بشخصها أو نوعها ، وجعله أئمة البصرة مشتقا من السمو وهو الرفعة لأنها تتحقق في إطلاقات الاسم ولو بتأويل فإن أصل الاسم في كلام العرب هو العلم ولا توضع الأعلام إلا لشيء مهتم به ، وهذا اعتداد بالأصل والغالب ، وإلا فقد توضع الأعلام لغير ما يهتم به كما قالوا فجار علم للفجرة.

__________________

(١) انظر : حديث بناء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالسيدة عائشة رضي‌الله‌عنها.

١٤٥

فأصل صيغته عند البصريين من الناقص الواوي فهو إما سمو بوزن حمل ، أو سمو بوزن قفل فحذفت اللام حذفا لمجرد التخفيف أو لكثرة الاستعمال ولذلك جرى الإعراب على الحرف الباقي ، لأنه لو حذفت لامه لعلة صرفية لكان الإعراب مقدرا على الحرف المحذوف كما في نحو قاض وجوار ، فلما جرى الإعراب على الحرف الباقي الذي كان ساكنا نقلوا سكونه للمتحرك وهو أول الكلمة وجلبوا همزة الوصل للنطق بالساكن ؛ إذ العرب لا تستحسن الابتداء بحرف ساكن لابتناء لغتهم على التخفيف ، وقد قضوا باجتلاب الهمزة وطرا ثانيا من التخفيف وهو عود الكلمة إلى الثلاثي لأن الأسماء التي تبقى بالحذف على حرفين كيد ودم لا تخلو من ثقل ، وفي هذا دليل على أن الهمزة لم تجتلب لتعويض الحرف المحذوف وإلا لاجتلبوها في يد ودم وغد.

وقد احتجوا على أن أصله كذلك بجمعه على أسماء بوزن أفعال ، فظهرت في آخره همزة وهي منقلبة عن الواو المتطرفة إثر ألف الجمع ، وبأنه جمع على أساميّ وهو جمع الجمع بوزن أفاعيل بإدغام ياء الجمع في لام الكلمة ويجوز تخفيفها كما في أثافي وأماني ، وبأنه صغّر على سمي. وأن الفعل منه سمّيت ، وهي حجج بينة على أن أصله من الناقص الواوي. وبأنه يقال سمى كهدى ؛ لأنهم صاغوه على فعل كرطب فتنقلب الواو المتحركة ألفا إثر الفتحة وأنشدوا على ذلك قول أبي خالد القناني الراجز (١) :

والله أسماك سمّى مباركا

آثرك الله به إيثاركا

وقال ابن يعيش : لا حجة فيه لاحتمال كونه لغة من قال سم والنصب فيه نصب إعراب لا نصب الإعلال ، ورده عبد الحكيم بأن كتابته بالإمالة تدل على خلاف ذلك. وعندي فيه أن الكتابة لا تتعلق بها الرواية فلعل الذين كتبوه بالياء هم الذين ظنوه مقصورا ، على أن قياسها الكتابة بالألف مطلقا لأنه واوي إلا إذا أريد عدم التباس الألف بألف النصب. ورأي البصريين أرجح من ناحية تصاريف هذا اللفظ. وذهب الكوفيون إلى أن أصله وسم بكسر الواو لأنه من السمة وهي العلامة ، فحذفت الواو وعوضت عنها همزة الوصل ليبقى على ثلاثة أحرف ثم يتوسل بذلك إلى تخفيفه في الوصل ، وكأنهم رأوا أن لا

__________________

(١) القناني ـ بفتح القاف والنون مخففا ـ نسبة إلى قنان بن سلمة من مذحج قاله شارح «القاموس» وشارح «الشواهد الكبرى» ، ولم يذكر ابن الأثير ولا غيره القنان هذا في بطون مذحج فلعله قد دخل بنوه في قبيلة أخرى ، ولم يوجد سلمة هذا وإنما الموجود مسلية ـ بالياء ـ بوزن مسلمة ، وهم بطن من مذحج دخلوا في بني الحارث بن كعب.

١٤٦

وجه لاشتقاقه من السمو لأنه قد يستعمل لأشياء غير سامية وقد علمت وجه الجواب ، ورأي الكوفيين أرجح من جانب الاشتقاق دون التصريف ، على أن همزة الوصل لم يعهد دخولها على ما حذف صدره وردوا استدلال البصريين بتصاريفه بأنها يحتمل أن تكون تلك التصاريف من القلب المكاني بأن يكون أصل اسم وسم ، ثم نقلب الواو التي هي فاء الكلمة فجعلت لاما ليتوسل بذلك إلى حذفها ورد في تصرفاته في الموضع الذي حذف منه لأنه تنوسي أصله ، وأجيب عن ذلك بأن هذا بعيد لأنه خلاف الأصل وبأن القلب لا يلزم الكلمة في سائر تصاريفها وإلا لما عرف أصل تلك الكلمة. وقد اتفق علماء اللغة على أن التصاريف هي التي يعرف بها الزائد من الأصلي والمنقلب من غيره. وزعم ابن حزم في كتاب «الملل والنحل» أن كلا قولي البصريين والكوفيين فاسد افتعله النحاة ولم يصح عن العرب وأن لفظ الاسم غير مشتق بل هو جامد وتطاول ببذاءته عليهم وهي جرأة عجيبة ، وقد قال تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النحل : ٤٣].

وإنما أقحم لفظ اسم مضافا إلى علم الجلالة إذ قيل (بسم الله) ولم يقل بالله لأن المقصود أن يكون الفعل المشروع فيه من شئون أهل التوحيد الموسومة باسم الإله الواحد فلذلك تقحم كلمة اسم في كل ما كان على هذا المقصد كالتسمية على النسك قال تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) [الأنعام : ١١٨] وقال : (وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) [الأنعام : ١١٩] وكالأفعال التي يقصد بها التيمن والتبرك وحصول المعونة مثل : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق : ١] فاسم الله هو الذي تمكن مقارنته للأفعال لا ذاته ، ففي مثل هذا لا يحسن أن يقال بالله لأنه حينئذ يكون المعنى أنه يستمد من الله تيسيرا وتصرفا من تصرفات قدرته وليس ذلك هو المقصود بالشروع ، فقوله تعالى : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) [الواقعة : ٧٤] أمر بأن يقول سبحان الله ، وقوله : (وَسَبِّحْهُ) [الإنسان : ٢٦] أمر بتنزيه ذاته وصفاته عن النقائص ، فاستعمال لفظ الاسم في هذا بمنزلة استعمال سمات الإبل عند القبائل ، وبمنزلة استعمال القبائل شعار تعارفهم (١) ، واستعمال الجيوش شعارهم المصطلح عليه. والخلاصة (٢) أن كل مقام يقصد فيه التيمن والانتساب إلى الرب الواحد الواجب الوجود يعدى فيه الفعل إلى لفظ اسم الله كقوله : (وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها)

__________________

(١) قال النابغة :

مستشعرين قد ألفوا في ديارهم

دعاء سوع ودعميّ وأيوب

(٢) وفي الخبر «كان شعار المسلمين يوم بدر أحد أحد».

١٤٧

[هود : ٤١] وفي الحديث في دعاء الاضطجاع : «باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه» وكذلك المقام الذي يقصد فيه ذكر اسم الله تعالى كقوله تعالى : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) أي قل سبحان الله : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى : ١] وكل مقام يقصد فيه طلب التيسير والعون من الله تعالى يعدى الفعل المسئول إلى علم الذات باعتبار ما له من صفات الخلق والتكوين كما في قوله تعالى : (فَاسْجُدْ لَهُ) [الإنسان : ٢٦] وقوله في الحديث : «اللهم بك نصبح وبك نمسي» أي بقدرتك ومشيئتك وكذلك المقام الذي يقصد فيه توجه الفعل إلى الله تعالى كقوله تعالى : (فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ) أي نزه ذاته وحقيقته عن النقائص. فمعنى (بسم الله الرحمن الرحيم) أقرأ قراءة ملابسة لبركة هذا الاسم المبارك.

هذا وقد ورد في استعمال العرب توسعات في إطلاق لفظ الاسم مرة يعنون به ما يرادف المسمى كقول النابغة :

نبئت زرعة والسفاهة كاسمها

يهدى إليّ غرائب الأشعار

يعني أن السفاهة هي هي لا تعرّف للناس بأكثر من اسمها وهو قريب من استعمال اسم الإشارة في قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) [البقرة : ١٤٣]. أي مثل ذلك الجعل الواضح الشهير ويطلقون الاسم مقحما زائدا كما في قول لبيد :

إلى الحول ثم اسم السلام عليكما

يعني ثم السلام عليكما وليس هذا خاصا بلفظ الاسم بل يجىء فيما يرادفه مثل الكلمة في قوله تعالى : (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) [الفتح : ٢٦] وكذلك «لفظ» في قول بشار هاجيا :

وكذاك ، كان أبوك يؤثر بالهني

ويظل في لفظ النّدى يتردّد

وقد يطلق الاسم وما في معناه كناية عن وجود المسمى ، ومنه قوله تعالى : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ) [الرعد : ٣٣] والأمر للتعجيز أي أثبتوا وجودهم ووضع أسماء لهم. فهذه إطلاقات أخرى ليس ذكر اسم الله في البسملة من قبيلها ، وإنما نبهنا عليها لأن بعض المفسرين خلط بها في تفسير البسملة ، ذكرتها هنا توضيحا ليكون نظركم فيها فسيحا فشدوا بها يدا ولا تتبعوا طرائق قددا.

وقد تكلموا على ملحظ تطويل الباء في رسم البسملة بكلام كله غير مقنع ، والذي يظهر لي أن الصحابة لما كتبوا المصحف طولوها في سورة النمل للإشارة إلى أنها مبدأ

١٤٨

كتاب سليمان فهي من المحكي ، فلما جعلوها علامة على فواتح السور نقلوها برسمها ، وتطويل الباء فيها صالح لاتخاذه قدوة في ابتداء الغرض الجديد من الكلام بحرف غليظ أو ملون.

والكلام على اسم الجلالة ووصفه يأتي في تفسير قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) [الفاتحة : ٢ ، ٣].

ومناسبة الجمع في البسملة بين علم الجلالة وبين صفتي الرحمن الرحيم ، قال البيضاوي إن المسمّي إذا قصد الاستعانة بالمعبود الحق الموصوف بأنه مولي النعم كلها جليلها ودقيقها يذكر علم الذات إشارة إلى استحقاقه أن يستعان به بالذات ، ثم يذكر وصف الرحمن إشارة إلى أن الاستعانة على الأعمال الصالحة وهي نعم ، وذكر الرحيم للوجوه التي سنذكرها في عطف صفة الرحيم على صفة الرحمن.

وقال الأستاذ الإمام محمد عبده : إن النصارى كانوا يبتدئون أدعيتهم ونحوها باسم الأب والابن والروح القدس إشارة إلى الأقانيم الثلاثة عندهم ، فجاءت فاتحة كتاب الإسلام بالرد عليهم موقظة لهم بأن الإله الواحد وإن تعددت أسماؤه فإنما هو تعدد الأوصاف دون تعدد المسميات ، يعني فهو رد عليهم بتغليظ وتبليد. وإذا صح أن فواتح النصارى وأدعيتهم كانت تشتمل على ذلك ـ إذ الناقل أمين ـ فهي نكتة لطيفة.

وعندي أن البسملة كان ما يرادفها قد جرى على ألسنة الأنبياء من عهد إبراهيم عليه‌السلام فهي من كلام الحنيفية ، فقد حكى الله عن إبراهيم أنه قال لأبيه : (يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ) [مريم : ٤٥] ، وقال : (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا) [مريم : ٤٧] ومعنى الحفي قريب من معنى الرحيم. وحكي عنه قوله : (وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة : ١٢٨]. وورد ذكر مرادفها في كتاب سليمان إلى ملكة سبأ : (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) [النمل : ٣٠ ، ٣١]. والمظنون أن سليمان اقتدى في افتتاح كتابه بالبسملة بسنة موروثة من عهد إبراهيم جعلها إبراهيم كلمة باقية في وارثي نبوته ، وأن الله أحياء هذه السنة في الإسلام في جملة ما أوحى له من الحنيفية كما قال تعالى : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) [الحج : ٧٨].

[٢] (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

١٤٩

(الْحَمْدُ لِلَّهِ).

الشأن في الخطاب بأمر مهم لم يسبق للمخاطب به خطاب من نوعه أن يستأنس له قبل إلقاء المقصود وأن يهيّأ لتلقيه ، وأن يشوق إلى سماع ذلك وتراض نفسه على الاهتمام بالعمل به ليستعد للتلقي بالتخلي عن كل ما شأنه أن يكون عائقا عن الانتفاع بالهدى من عناد ومكابرة أو امتلاء العقل بالأوهام الضالة ، فإن النفس لا تكاد تنتفع بالعظات والنذر ، ولا تشرق فيها الحكمة وصحة النظر ما بقي يخالجها العناد والبهتان ، وتخامر رشدها نزغات الشيطان ، فلما أراد الله أن تكون هذه السورة أولى سور الكتاب المجيد بتوقيف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما تقدم آنفا نبه الله تعالى قراء كتابه وفاتحي مصحفه إلى أصول هذه التزكية النفسية بما لقنهم أن يبتدءوا بالمناجاة التي تضمنتها سورة الفاتحة من قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) إلى آخر السورة ، فإنها تضمنت أصولا عظيمة : أولها التخلية عن التعطيل والشرك بما تضمنه (إِيَّاكَ نَعْبُدُ). الثاني التخلي عن خواطر الاستغناء عنه بالتبري من الحول والقوة تجاه عظمته بما تضمنه (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ). الثالث الرغبة في التحلي بالرشد والاهتداء بما تضمنه (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ). الرابع الرغبة في التحلي بالأسوة الحسنة بما تضمنه (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ). الخامس التهمم بالسلامة من الضلال الصريح بما تضمنه (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ). السادس التهمم بسلامة تفكيرهم من الاختلاط بشبهات الباطل المموّه بصورة الحق وهو المسمى بالضلال لأن الضلال خطأ الطريق المقصود بما تضمنه (وَلَا الضَّالِّينَ).

وأنت إذا افتقدت أصول نجاح المرشد في إرشاده والمسترشد في تلقيه على كثرتها وتفاريعها وجدتها عاكفة حول هذه الأركان الستة فكن في استقصائها لبيبا. وعسى أن أزيدك من تفصيلها قريبا. وإن الذي لقن أهل القرآن ما فيه جماع طرائق الرشد بوجه لا يحيط به غير علام الغيوب لم يهمل إرشادهم إلى التحلي بزينة الفضائل وهي أن يقدروا النعمة حق قدرها بشكر المنعم بها فأراهم كيف يتوّجون مناجاتهم بحمد واهب العقل ومانح التوفيق ، ولذلك كان افتتاح كل كلام مهم بالتحميد سنة الكتاب المجيد. فسورة الفاتحة بما تقرر منزّلة من القرآن منزلة الديباجة للكتاب أو المقدمة للخطبة ، وهذا الأسلوب له شأن عظيم في صناعة الأدب العربي وهو أعون للفهم وأدعى للوعي.

وقد رسم أسلوب الفاتحة للمنشئين ثلاث قواعد للمقدمة : القاعدة الأولى إيجاز المقدمة لئلا تمل نفوس السامعين بطول انتظار المقصود وهو ظاهر في الفاتحة ، وليكون

١٥٠

سنة للخطباء فلا يطيلوا المقدمة كيلا ينسبوا إلى العي فإنه بمقدار ما تطال المقدمة يقصر الغرض ، ومن هذا يظهر وجه وضعها قبل السور الطوال مع أنها سورة قصيرة. الثانية أن تشير إلى الغرض المقصود وهو ما يسمى براعة الاستهلال لأن ذلك يهيئ السامعين لسماع تفصيل ما سيرد عليهم فيتأهبوا لتلقيه إن كانوا من أهل التلقي فحسب ، أو لنقده وإكماله إن كانوا في تلك الدرجة ، ولأن ذلك يدل على تمكن الخطيب من الغرض وثقته بسداد رأيه فيه بحيث ينبه السامعين لوعيه ، وفيه سنة للخطباء ليحيطوا بأغراض كلامهم. وقد تقدم بيان اشتمال الفاتحة على هذا عند الكلام على وجه تسميتها أم القرآن. الثالثة أن تكون المقدمة من جوامع الكلم وقد بين ذلك علماء البيان عند ذكرهم المواضع التي ينبغي للمتكلم أن يتأنق فيها. الرابع أن تفتتح بحمد الله.

إن القرآن هدى للناس وتبيانا للأحكام التي بها إصلاح الناس في عاجلهم وآجلهم ومعاشهم ومعادهم ولما لم يكن لنفوس الأمة اعتياد بذلك لزم أن يهيّأ المخاطبون بها إلى تلقيها ويعرف تهيؤهم بإظهارهم استعداد النفوس بالتخلي عن كل ما من شأنه أن يعوق عن الانتفاع بهاته التعاليم النافعة وذلك بأن يجردوا نفوسهم عن العناد والمكابرة وعن خلط معارفهم بالأغلاط الفاقرة ، فلا مناص لها قبل استقبال تلك الحكمة والنظر من الاتسام بميسم الفضيلة والتخلية عن السفاسف الرذيلة.

فالفاتحة تضمنت مناجاة للخالق جامعة التنزه عن التعطيل والإلحاد والدهرية بما تضمنه قوله : ملك يوم الدين ، وعن الإشراك بما تضمنه (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ، وعن المكابرة والعناد بما تضمنه (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) فإن طلب الهداية اعتراف بالاحتياج إلى العلم ، ووصف الصراط بالمستقيم اعتراف بأن من العلم ما هو حق ومنه ما هو مشوب بشبه وغلط ، ومن اعترف بهذين الأمرين فقد أعد نفسه لاتباع أحسنهما ، وعن الضلالات التي تعتري العلوم الصحيحة والشرائع الحقة فتذهب بفائدتها وتنزل صاحبها إلى دركة أقل مما وقف عنده الجاهل البسيط ، وذلك بما تضمنه قوله : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) كما أجملناه قريبا ، ولأجل هذا سميت هاته السورة أم القرآن كما تقدم.

ولما لقّن المؤمنون هاته المناجاة البديعة التي لا يهتدي إلى الإحاطة بها في كلامه غير علام الغيوب سبحانه قدم الحمد عليها ليضعه المناجون كذلك في مناجاتهم جريا على طريقة بلغاء العرب عند مخاطبة العظماء أن يفتتحوا خطابهم إياهم وطلبتهم بالثناء والذكر

١٥١

الجميل. قال أمية ابن أبي الصلت يمدح عبد الله بن جدعان :

أأذكر حاجتي أم قد كفاني

حياؤك إنّ شيمتك الحياء

إذا أثنى عليك المرء يوما

كفاه عن تعرّضه الثّناء

فكان افتتاح الكلام بالتحميد سنة الكتاب المجيد لكل بليغ مجيد ، فلم يزل المسلمون من يومئذ يلقّبون كل كلام نفيس لم يشتمل في طالعه على الحمد بالأبتر أخذا من حديث أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كلّ أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله أو بالحمد فهو أقطع» (١). وقد لقبت خطبة زياد ابن أبي سفيان التي خطبها بالبصرة بالبتراء لأنه لم يفتتحها بالحمد ، وكانت سورة الفاتحة لذلك منزّلة من القرآن منزلة الديباجة للكتاب أو المقدمة للخطبة ، ولذلك شأن مهم في صناعة الإنشاء فإن تقديم المقدمة بين يدي المقصود أعود للأفهام وأدعى لوعيها.

و (الحمد) هو الثناء على الجميل أي الوصف الجميل الاختياري فعلا كان كالكرم وإغاثة الملهوف أم غيره كالشجاعة. وقد جعلوا الثناء جنسا للحمد فهو أعم منه ولا يكون ضده. فالثناء الذكر بخير مطلقا وشذ من قال يستعمل الثناء في الذكر مطلقا ولو بشرّ ، ونسبا إلى ابن القطاع (٢) وغرّه في ذلك ما ورد في الحديث وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار» وإنما هو مجاز دعت إليه المشاكلة اللفظية والتعريض بأن من كان متكلما في مسلم فليتكلم بثناء أو ليدع ، فسمّى ذكرهم بالشر ثناء تنبيها على ذلك. وأما الذي يستعمل في الخير والشر فهو النثاء بتقديم النون وهو في الشر أكثر كما قيل.

وأما المدح فقد اختلف فيه فذهب الجمهور إلى أن المدح أعم من الحمد فإنه يكون على الوصف الاختياري وغيره. وقال صاحب «الكشاف» الحمد والمدح أخوان فقيل أراد أخوان في الاشتقاق الكبير نحو جبذ وجذب ، وإن ذلك اصطلاح له في «الكشاف» في معنى أخوة اللفظين لئلا يلزم من ظاهر كلامه أن المدح يطلق على الثناء على الجميل الاختياري ، لكن هذا فهم غير مستقيم والذي عليه المحققون من شراح «الكشاف» أنه أراد

__________________

(١) رواه البيهقي في «سننه» باللفظ الأول ، ورواه أبو داود في «سننه» باللفظ الثاني وهو حديث حسن.

(٢) هو علي بن جعفر السعدي بن سعد بن مالك من بني تميم الصقلي ، ولد بصقلية سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة ، ورحل إلى القاهرة وتوفي بها سنة خمس عشرة وقيل أربع عشرة وخمسمائة.

١٥٢

من الأخوة هنا الترادف لأنه ظاهر كلامه ؛ ولأنه صريح قوله في «الفائق» : «الحمد هو المدح والوصف بالجميل» ولأنه ذكر الذم نقيضا للحمد إذ قال في «الكشاف» : «والحمد نقيضه الذم» مع شيوع كون الذم نقيضا للمدح ، وعرف علماء اللغة أن يريدوا من النقيض المقابل لا ما يساوي النقيض حتى يجاب بأنه أراد من النقيض ما لا يجامع المعنى والذم لا يجامع الحمد وإن لم يكن معناه رفع معنى الحمد بل رفع معنى المدح إلا أن نفي الأعم وهو المدح يستلزم نفي الأخص وهو الحمد لأن هذا لا يقصده علماء اللغة ، يعني وإن اغتفر مثله في استعمال العرب كقول زهير :

ومن يجعل المعروف في غير أهله

يكن حمده ذمّا عليه ويندم

لأن كلام العلماء مبني على الضبط والتدقيق.

ثم اختلف في مراد صاحب «الكشاف» من ترادفهما هل هما مترادفان في تقييدهما بالثناء على الجميل الاختياري؟ أو مترادفان في عدم التقييد بالاختياري ، وعلى الأول حمله السيد الشريف وهو ظاهر كلام سعد الدين. واستدل السيد بأنه صرح بذلك في قوله تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ) [الحجرات : ٧] إذ قال : «فإن قلت فإن العرب تمدح بالجمال وحسن الوجوه وهو مدح مقبول عند الناس ، قلت الذي سوغ ذلك أنهم رأوا حسن الرواء ووسامة المنظر في الغالب يسفر عن مخبر مرض وأخلاق محمودة على أن من محققة الثقات وعلماء المعاني من دفع صحة ذلك وخطأ المادح به وقصر المدح على النعت بأمهات الخير وهي كالفصاحة والشجاعة والعدل والعفة وما يتشعب عنها» ا ه.

وعلى المحمل الثاني وهو أن يكون قصد من الترادف إلغاء قيد الاختياري في كليهما حمله المحقق عبد الحكيم السلكوتي في «حواشي التفسير» فرضا أو نقلا لا ترجيحا بناء على أنه ظاهر كلامه في «الكشاف» و«الفائق» إذ ألغى قيد الاختياري في تفسير المدح بالثناء على الجميل وجعلهما مع ذلك مترادفين.

وبهذا يندفع الإشكال عن حمدنا الله تعالى على صفاته الذاتية كالعلم والقدرة دون صفات الأفعال وإن كان اندفاعه على اختيار الجمهور أيضا ظاهرا ؛ فإن ما ورد عليهم من أن مذهبهم يستلزم أن لا يحمد الله تعالى على صفاته لأنها ذاتية فلا توصف بالاختيار إذ الاختيار يستلزم إمكان الاتصاف ، وقد أجابوا عنه إما بأن تلك الصفات العلية نزلت منزلة الاختيارية لاستقلال موصوفها ، وإما بأن ترتب الآثار الاختيارية عليها يجعلها كالاختيارية ، وإما بأن المراد بالاختيارية أن يكون المحمود فاعلا بالاختيار وإن لم يكن المحمود عليه

١٥٣

اختياريا.

وعندي أن الجواب أن نقول إن شرط الاختياري في حقيقة الحمد عند مثبته لإخراج الصفات غير الاختيارية لأن غير الاختياري فينا ليس من صفات الكمال إذ لا تترتب عليها الآثار الموجبة للحمد ، فكان شرط الاختيار في حمدنا زيادة في تحقق كمال المحمود ، أما عدم الاختيار المختص بالصفات الذاتية الإلهية فإنه ليس عبارة عن نقص في صفاته ولكنه كمال نشأ من وجوب الصفة للذات لقدم الصفة فعدم الاختيار في صفات الله تعالى زيادة في الكمال لأن أمثال تلك الصفات فينا لا تكون واجبة للذات ملازمة لها فكان عدم الاختيار في صفات الله تعالى دليلا على زيادة الكمال وفينا دليلا على النقص ، وما كان نقصا فينا باعتبار ما قد يكون كمالا لله تعالى باعتبار آخر مثل عدم الولد ، فلا حاجة إلى الأجوبة المبنية على التنزيل إما باعتبار الصفة أو باعتبار الموصوف ، على أن توجيه الثناء إلى الله تعالى بمادة (حمد) هو أقصى ما تسمى به اللغة الموضوعة لأداء المعاني المتعارفة لدى أهل تلك اللغة ، فلما طرأت عليهم المدارك المتعلقة بالحقائق العالية عبر لهم عنها بأقصى ما يقربها من كلامهم.

(الحمد) مرفوع بالابتداء في جميع القراءات المروية وقوله (لله) خبره فلام (لله) متعلق بالكون والاستقرار العام كسائر المجرورات المخبر بها وهو هنا من المصادر التي أتت بدلا عن أفعالها في معنى الإخبار ، فأصله النصب على المفعولية المطلقة على أنه بدل من فعله وتقدير الكلام نحمد حمدا لله ، فلذلك التزموا حذف أفعالها معها. قال سيبويه هذا باب ما ينصب من المصادر على إضمار الفعل غير المستعمل إظهاره وذلك قولك سقيا ورعيا وخيبة وبؤسا ، والحذر بدلا عن احذر فلا يحتاج إلى متعلق وأما قولهم سقيا لك نحو :

سقيا ورعيا لذاك العاتب الزّاري

فإنما هو ليبينوا المعنيّ بالدعاء. ثم قال بعد أبواب : هذا باب ما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره من المصادر في غير الدعاء ، من ذلك قولك حمدا وشكرا لا كفرا وعجبا ، فإنما ينتصب هذا على إضمار الفعل كأنك قلت أحمد الله حمدا وإنما اختزل الفعل هاهنا لأنهم جعلوا هذا بدلا من اللفظ بالفعل كما فعلوا ذلك في باب الدعاء وقد جاء بعض هذا رفعا يبتدأ به ثم يبنى عليه (أي يخبر عنه) ثم قال بعد باب آخر : هذا باب يختار فيه أن تكون المصادر مبتدأة مبنيا عليها ما بعدها ، وذلك قولك (الْحَمْدُ لِلَّهِ) ،

١٥٤

والعجب لك ، والويل له ، وإنما استحبوا الرفع فيه لأنه صار معرفة وهو خبر (أي غير إنشاء) فقوي في الابتداء (أي إنه لما كان خبرا لا دعاء وكان معرفة بال تهيأت فيه أسباب الابتداء لأن كونه في معنى الإخبار يهيّئ جانب المعنى للخبرية وكونه معرفة يصحح أن يكون مبتدأ) بمنزلة عبد الله ، والرجل ، والذي تعلم (من المعارف) لأن الابتداء إنما هو خبر وأحسنه إذا اجتمع معرفة ونكرة أن تبدأ بالأعرف وهو أصل الكلام. وليس كل حرف (أي تركيب) يصنع به ذاك ، كما أنه ليس كل حرف (أي كلمة من هذه المصادر) يدخل فيه الألف واللام ، فلو قلت السقي لك والرعي لك لم يجز (يعني يقتصر فيه على السماع). واعلم أن (الْحَمْدُ لِلَّهِ) وإن ابتدأته ففيه معنى المنصوب وهو بدل من اللفظ بقولك أحمد الله. وسمعنا ناسا من العرب كثيرا يقولون : التراب لك والعجب لك ، فتفسير نصب هذا كتفسيره حيث كان نكرة ، كأنك قلت حمدا وعجبا ، ثم جئت بلك لتبين من تعني ولم تجعله مبنيا عليه فتبتدئه». انتهى كلام سيبويه باختصار. وإنما جلبناه هنا لأنه أفصح كلام عن أطوار هذا المصدر في كلام العرب واستعمالهم ، وهو الذي أشار له صاحب «الكشاف» بقوله : «وأصله النصب بإضمار فعله على أنه من المصادر التي ينصبها العرب بأفعال مضمرة في معنى الإخبار كقولهم شكرا ، وكفرا ، وعجبا ، ينزلونها منزلة أفعالها ويسدون بها مسدها ، ولذلك لا يستعملونها معها والعدول بها عن النصب إلى الرفع على الابتداء للدلالة على ثبات المعنى» إلخ.

ومن شأن بلغاء العرب أنهم لا يعدلون عن الأصل إلا وهم يرمون إلى غرض عدلوا لأجله ، والعدول عن النصب هنا إلى الرفع ليتأتى لهم الدلالة على الدوام والثبات بمصير الجملة اسمية ؛ والدلالة على العموم المستفاد في المقام من أل الجنسية ، والدلالة على الاهتمام المستفاد من التقديم. وليس واحد من هذه الثلاثة بممكن الاستفادة لو بقي المصدر منصوبا إذ النصب يدل على الفعل المقدر والمقدر كالملفوظ فلا تكون الجملة اسمية إذ الاسم فيها نائب عن الفعل فهو ينادي على تقدير الفعل فلا يحصل الدوام. ولأنه لا يصح معه اعتبار التقديم فلا يحصل الاهتمام. ولأنه وإن صح اجتماع الألف واللام مع النصب كما قرئ بذلك وهي لغة تميم كما قال سيبويه فالتعريف حينئذ لا يكون دالا على عموم المحامد لأنه إن قدر الفعل أحمد بهمزة المتكلم فلا يعم إلا تحميدات المتكلم دون تحميدات جميع الناس ، وإن قدر الفعل نحمد وأريد بالنون جميع المؤمنين بقرينة (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) وبقرينة (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) فإنما يعم محامد المؤمنين أو محامد الموحدين كلهم ، كيف وقد حمد أهل الكتاب الله تعالى وحمده العرب في الجاهلية. قال أمية بن

١٥٥

أبي الصلت :

الحمد لله حمدا لا انقطاع له

فليس إحسانه عنا بمقطوع

أما إذا صار الحمد غير جار على فعل فإنه يصير الإخبار عن جنس الحمد بأنه ثابت لله فيعم كل حمد كما سيأتي. فهذا معنى ما نقل عن سيبويه أنه قال : إن الذي يرفع الحمد يخبر أنّ الحمد منه ومن جميع الخلق والذي ينصب يخبر أن الحمد منه وحده لله تعالى.

واعلم أن قراءة النصب وإن كانت شاذة إلا أنها مجدية هنا لأنها دلت على اعتبار عربي في تطور هذا التركيب المشهور ، وأن بعض العرب نطقوا به في حال التعريف ولم ينسوا أصل المفعولية المطلقة. فقد بان أن قوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أبلغ من (الْحَمْدُ لِلَّهِ) بالنصب ، وأنّ (الْحَمْدُ لِلَّهِ) بالنصب والتعريف أبلغ من حمدا لله بالتنكير. وإنما كان (الْحَمْدُ لِلَّهِ) بالرفع أبلغ لأنه دال على الدوام والثبات. قال في «الكشاف» : «إن العدول عن النصب إلى الرفع للدلالة على ثبات المعنى واستقراره ومنه قوله تعالى : (قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ) [الذاريات : ٢٥] رفع السلام الثاني للدلالة على أن إبراهيم عليه‌السلام حيّاهم بتحيّة أحسن من تحيّتهم» ا ه.

فإن قلت وقع الاهتمام بالحمد مع أن ذكر اسم الله تعالى أهم فكان الشأن تقديم اسم الله تعالى وإبقاء الحمد غير مهتم به حتى لا يلجأ إلى تغييره عن النصب إلى الرفع لأجل هذا الاهتمام ، قلت قدم الحمد لأن المقام هنا مقام الحمد إذ هو ابتداء أولى النعم بالحمد وهي نعمة تنزيل القرآن الذي فيه نجاح الدارين ، فتلك المنة من أكبر ما يحمد الله عليه من جلائل صفات الكمال لا سيما وقد اشتمل القرآن على كمال المعنى واللفظ والغاية فكان خطوره عند ابتداء سماع إنزاله وابتداء تلاوته مذكرا بما لمنزّله تعالى من الصفات الجميلة ، وذلك يذكّر بوجوب حمده وأن لا يغفل عنه فكان المقام مقام الحمد لا محالة ، فلذلك قدم وأزيل عنه ما يؤذن بتأخره لمنافاته الاهتمام ، ثم إن ذلك الاهتمام تأتّى به اعتبار الاهتمام بتقديمه أيضا على ذكر الله تعالى اعتدادا بأهمية الحمد العارضة في المقام وإن ذكر الله أهمّ في نفسه لأن الأهمية العارضة تقدم على الأهمية الأصلية لأنها أمر يقتضيه المقام والحال والآخر يقتضيه الواقع ، والبلاغة هي المطابقة لمقتضى الحال والمقام ، ولأن ما كان الاهتمام به لعارض هو المحتاج للتنبيه على عارضه إذ قد يخفى ، بخلاف الأمر المعروف المقرر فلا فائدة في التنبيه عليه بل ولا يفيته التنبيه على غيره.

فإن قلت كيف يصح كون تقديم الحمد وهو مبتدأ مؤذنا بالاهتمام مع أنه الأصل ،

١٥٦

وشأن التقديم المفيد للاهتمام هو تقديم ما حقه التأخير؟

قلت لو سلم ذلك فإن معنى تقديمه هو قصد المتكلم للإتيان به مقدما مع إمكان الإتيان به مؤخرا ؛ لأن للبلغاء صيغتين متعارفتين في حمد الله تعالى إحداهما (الْحَمْدُ لِلَّهِ) كما في الفاتحة والأخرى (فَلِلَّهِ) كما في سورة الجاثية [٣٦].

وأما قصد العموم فسيتضح عند بيان معنى التعريف فيه.

والتعريف فيه بالألف واللام تعريف الجنس لأن المصدر هنا في الأصل عوض عن الفعل فلا جرم أن يكون الدال على الفعل والساد مسده دالا على الجنس فإذا دخل عليه اللام فهو لتعريف مدلوله لأن اللام تدل على التعريف للمسمى فإذا كان المسمى جنسا فاللام تدل على تعريفه. ومعنى تعريف الجنس أن هذا الجنس هو معروف عند السامع فإذا قلت الحمد لله أو العجب لك فكأنك تريد أن هذا الجنس معروف لديك ولدي مخاطبك لا يلتبس بغيره كما أنك إذا قلت الرجل وأردت معينا في تعريف العهد النحوي فإنك تريد أن هذا الواحد من الناس معروف بينك وبين مخاطبك فهو في المعنى كالنكرة من حيث إن تعريف الجنس ليس معه كبير معنى إذ تعين الجنس من بين بقية الأجناس حاصل بذكر لفظه الدال عليه لغة وهو كاف في عدم الدلالة على غيره ، إذ ليس غيره من الأجناس بمشارك له في اللفظ ولا متوهم دخوله معه في ذهن المخاطب بخلاف تعريف العهد الخارجي فإنه يدل على واحد معين بينك وبين مخاطبك من بين بقية أفراد الجنس التي يشملها اللفظ ، فلا يفيد هذا التعريف أعني تعريف الجنس إلا توكيد اللفظ وتقريره وإيضاحه للسامع ؛ لأنك لما جعلته معهودا فقد دللت على أنه واضح ظاهر ، وهذا يقتضي الاعتناء بالجنس وتقريبه من المعروف المشهور ، وهذا معنى قول صاحب «الكشاف» : «وهو نحو التعريف في أرسلها العراك (١) ومعناه الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من أن الحمد ما هو والعراك ما هو من بين أجناس الأفعال» وهو مأخوذ من كلام سيبويه.

وليست لام التعريف هنا للاستغراق لما علمت أنها لام الجنس ولذلك قال صاحب

__________________

(١) إشارة إلى بيت لبيد :

فأرسلها العراك ولم يذدها

ولم يشفق على نغص الدّخال

يصف حمار وحش. والضمير المؤنث للأتن ، أي أطلقها الحمار أمامه إلى الماء فانطلقت متزاحمة. والنغص : الكمد. والدخال : دخول الدابة بين الدواب لتشرب.

١٥٧

«الكشاف» : «والاستغراق الذي توهمه كثير من الناس وهم منهم» غير أن معنى الاستغراق حاصل هنا بالمثال لأن الحكم باختصاص جنس الحمد به تعالى لوجود لام تعريف الجنس في قوله : (الْحَمْدُ) ولام الاختصاص في قوله : (لِلَّهِ) يستلزم انحصار أفراد الحمد في التعلق باسم الله تعالى لأنه إذا اختص الجنس اختصت الأفراد ؛ إذ لو تحقق فرد من أفراد الحمد لغير الله تعالى لتحقق الجنس في ضمنه فلا يتم معنى اختصاص الجنس المستفاد من لام الاختصاص الداخلة على اسم الجلالة ، ثم هذا الاختصاص اختصاص ادعائي فهو بمنزلة القصر الادعائي للمبالغة.

واللام في قوله تعالى : (لِلَّهِ) يجوز أن يكون للاختصاص على أنه اختصاص ادعائي كما مر ، ويجوز أن يكون لام التقوية قوت تعلق العامل بالمفعول لضعف العامل بالفرعية وزاده التعريف باللام ضعفا لأنه أبعد شبهه بالأفعال ، ولا يفوت معنى الاختصاص لأنه قد استفيد من تعريف الجزأين.

هذا وقد اختلف في أن جملة (الحمد) هل هي خبر أو إنشاء؟ فإن لذلك مزيد تعلق بالتفسير لرجوعه إلى المعنى بقول القائل (الحمد لله).

وجماع القول في ذلك أن الإنشاء قد يحصل بنقل المركب من الخبرية إلى الإنشاء وذلك كصيغ العقود مثل بعت واشتريت ، وكذلك أفعال المدح والذم والرجاء كعسى ونعم وبئس وهذا الأخير قسمان منه ما استعمل في الإنشاء مع بقاء استعماله في الخبر ومنه ما خص بالإنشاء فالأول كصيغ العقود فإنها تستعمل أخبارا تقول بعت الدار لزيد التي أخبرتك بأنه ساومني إياها فهذا خبر ، وتقول بعت الدار لزيد أو بعتك الدار بكذا فهذا إنشاء بقرينة أنه جاء للإشهاد أو بقرينة إسناد الخبر للمخاطب مع أن المخبر عنه حال من أحواله ، والثاني كنعم وعسى.

فإذا تقرر هذا فقد اختلف العلماء في أن جملة (الْحَمْدُ لِلَّهِ) هل هي إخبار عن ثبوت (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أو هي إنشاء ثناء عليه إلى مذهبين ، فذهب فريق إلى أنها خبر ، وهؤلاء فريقان منهم من زعم أنها خبر باق على الخبرية ولا إشعار فيه بالإنشائية ، وأورد عليه أن المتكلم بها لا يكون حامدا لله تعالى مع أن القصد أنه يثني ويحمد الله تعالى ، وأجيب بأن الخبر بثبوت الحمد له تعالى اعتراف بأنه موصوف بالجميل إذ الحمد هو عين الوصف بالجميل ، ويكفي أن يحصل هذا الوصف من الناس وينقله المتكلم. ويمكن أن يجاب أيضا بأن المخبر داخل في عموم خبره عند الجمهور من أهل أصول الفقه. وأجيب أيضا

١٥٨

بأن كون المتكلم حامدا قد يحصل بالالتزام من الخبر يريدون أنه لازم عرفي لأن شأن الأمر الذي تضافر عليه الناس قديما أن يقتدي بهم فيه غيرهم من كل من علمه ، فإخبار المتكلم بأنه علم ذلك يدل عرفا على أنه مقتد بهم في ذلك هذا وجه اللزوم ، وقد خفي على كثير أي فيكون مثل حصول لازم الفائدة من الخبر المقررة في علم المعاني ، مثل قولك سهرت الليلة وأنت تريد أنك علمت بسهره ، فلا يلزم أن يكون ذلك إنشاء لأن التقدير على هذا القول أن المتكلم يخبر عن كونه حامدا كما يخبر عن كون جميع الناس حامدين فهي خبر لا إنشاء والمستفاد منها بطريق اللزوم معنى إخباري أيضا. ويرد على هذا التقرير أيضا أن حمد المتكلم يصير غير مقصود لذاته بل حاصلا بالتبع مع أن المقام مقام حمد المتكلم لا حمد غيره من الناس ، وأجيب بأن المعنى المطابقي قد يؤتى به لأجل المعنى الالتزامي لأنه وسيلة له ، ونظيره قولهم طويل النجاد والمراد طول القامة فإن طول النجاد أتى به ليدل على معنى طول القامة.

وذهب فريق ثان إلى أن جملة (الْحَمْدُ لِلَّهِ) هي خبر لا محالة إلا أنه أريد منه الإنشاء مع اعتبار الخبرية كما يراد من الخبر إنشاء التحسر والتحزن في نحو : (إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) [آل عمران : ٣٦] وقول جعفر بن علبة الحارثي :

هواي مع الركب اليمانين مصعد

فيكون المقصد الأصلي هو الإنشاء ولكن العدول إلى الإخبار لما يتأتى بواسطة الإخبار من الدلالة على استغراق والاختصاص والدوام والثبات ووجه التلازم بين الإخبار عن حمد الناس وبين إنشاء الحمد واضح مما علمته في وجه التلازم على التقرير الأول ، بل هو هنا أظهر لأن المخبر عن حمد الناس لله تعالى لا جرم أنه منشئ ثناء عليه بذلك ، وكون المعنى الالتزامي في الكناية هو المقصود دون المعنى المطابقي أظهر منه في اعتبار الخبرية المحضة لما عهد في الكناية من أنها لفظ أريد به لازم معناه مع جواز إرادة الأصل معه ، فدل على أن المعنى الأصلي إما غير مراد أو مراد تبعا لأن مع تدخل على المتبوع.

المذهب الثاني أن جملة (الْحَمْدُ لِلَّهِ) إنشاء محض لا إشعار له بالخبرية ، على أنها من الصيغ التي نقلتها العرب من الإخبار إلى إنشاء الثناء كما نقلت صيغ العقود وأفعال المدح والذم أي نقلا مع عدم إماتة المعنى الخبري في الاستعمال ، فإنك قد تقول الحمد لله جوابا لمن قال لمن الحمد أو من أحمد ولكنّ تعهد المعنى الأصلي ضعيف فيحتاج إلى القرينة. والحق الذي لا محيد عنه أن الحمد لله خبر مستعمل في الإنشاء فالقصد هو

١٥٩

الإنشائية لا محالة ، وعدل إلى الخبرية لتحمل جملة الحمد من الخصوصيات ما يناسب جلالة المحمود بها من الدلالة على الدوام والثبات والاستغراق والاختصاص والاهتمام ، وشيء من ذلك لا يمكن حصوله بصيغة إنشاء نحو حمدا لله أو أحمد لله حمدا ومما يدل على اعتبار العرب إياها إنشاء لا خبرا قول ذي الرمة :

ولما جرت في الجزل جريا كأنّه

سنا الفجر أحدثنا لخالقها شكرا (١)

فعبر عن ذكر لفظ الحمد أو الشكر بالإحداث ، والإحداث يرادف الإنشاء لغة فقوله أحدثنا خبر حكى به ما عبر عنه بالإحداث وهو حمده الواقع حين التهابها في الحطب.

والله هو اسم الذات الواجب الوجود المستحق لجميع المحامد. وأصل هذا الاسم الإله بالتعريف وهو تعريف إله الذي هو اسم جنس للمعبود مشتق من أله بفتح اللام بمعنى عبد ، أو من أله بكسر اللام بمعنى تحير أو سكن أو فزع أو ولع مما يرجع إلى معنى هو ملزوم للخضوع والتعظيم فهو فعال بكسر الفاء بمعنى مفعول مثل كتاب ، أطلقه العرب على كل معبود من أصنامهم لأنهم يرونها حقيقة بالعبادة ولذلك جمعوه على آلهة بوزن أفعلة مع تخفيف الهمزة الثانية مدّة ، وأحسب أن اسمه تعالى تقرر في لغة العرب قبل دخول الإشراك فيهم فكان أصل وضعه دالا على انفراده بالألوهية إذ لا إله غيره فلذلك صار علما عليه ، وليس ذلك من قبيل العلم بالغلبة بل من قبيل العلم بالانحصار مثل الشمس والقمر فلا بدع في اجتماع كونه اسم جنس وكونه علما ، ولذلك أرادوا به المعبود بحق ردا على أهل الشرك قبل دخول الشرك في العرب وإننا لم نقف على أن العرب أطلقوا الإله معرّفا باللام مفردا على أحد أصنامهم وإنما يضيفون فيقولون إله بني فلان والأكثر أن يقولوا رب بني فلان أو يجمعون كما قالوا لعبد المطلب أرض الآلهة ، وفي حديث فتح مكة : «وجد رسول الله البيت فيه الآلهة». فلما اختص الإله بالإله الواحد واجب الوجود اشتقوا له من اسم الجنس علما زيادة في الدلالة على أنه الحقيق بهذا الاسم ليصير الاسم خاصا به غير جائز الإطلاق على غيره سنن الأعلام الشخصية ،

__________________

(١) هو من قصيدة له ذكر فيها صفات النار بطريقة لغزية. وقبله :

فلما بدت كفنتها وهي طفلة

بطلساء لم تكمل ذراعا ولا شبرا

وقلت له ارفعها إليك فأحيها

بروحك واقتته لها قيتة قدرا

وظاهر لها من يابس الشخت واستعن

عليها الصفا واجعل يديك لها سترا

١٦٠