تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٣٥

تعالى ، وإذا وصل قوله : (إِلَّا اللهُ) بما بعده كان المعنى أنّ الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه في حال أنّهم يقولون آمنا به.

وكذلك قوله تعالى : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) [الطلاق : ٤] فإنّه لو وقف على قوله : (ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) وابتدأ بقوله : (وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) وقع قوله : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) [الطلاق : ٤] معطوفا على (اللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ) فيصير قوله : (أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) خبرا عن (اللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ) ولكنّه لا يستقيم المعنى إذ كيف يكون للّاء لم يحضن حمل حتى يكون أجلهن أن يضعن حملهنّ.

وعلى جميع التقادير لا تجد في القرآن مكانا يجب الوقف فيه ولا يحرم الوقف فيه كما قال ابن الجزري في «أرجوزته» ، ولكن الوقف ينقسم إلى أكيد حسن ودونه وكل ذلك تقسيم بحسب المعنى. وبعضهم استحسن أن يكون الوقف عند نهاية الكلام وأن يكون ما يتطلب المعنى الوقف عليه قبل تمام المعنى سكتا وهو قطع الصوت حصّة أقل من حصة قطعه عند الوقف ، فإنّ اللغة العربية واضحة وسياق الكلام حارس من الفهم المخطئ ، فنحو قوله تعالى : (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ) [الممتحنة : ١] لو وقف القارئ على قوله : (الرَّسُولَ) لا يخطر ببال العارف باللغة أن قوله : (وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ) تحذير من الإيمان بالله ، وكيف يخطر ذلك وهو موصوف بقوله : (رَبِّكُمْ) فهل يحذر أحد من الإيمان بربّه.

وكذلك قوله تعالى : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها) [النازعات : ٢٧] فإنّ كلمة (بَناها) هي منتهى الآية والوقف عند (أَمِ السَّماءُ) ولكن لو وصل القارئ لم يخطر ببال السامع أن يكون (بَناها) من جملة (أَمِ السَّماءُ) لأنّ معادل همزة الاستفهام لا يكون إلّا مفردا.

على أنّ التعدد في الوقف قد يحصل به ما يحصل بتعدد وجوه القراءات من تعدّد المعنى مع اتحاد الكلمات ، فقوله تعالى : (وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً) [الإنسان : ١٥ ، ١٦] فإذا وقف على (قَوارِيرَا) الأول كان (قَوارِيرَا) الثاني تأكيدا لرفع احتمال المجاز في لفظ (قَوارِيرَا) ، وإذا وقف على (قَوارِيرَا) الثاني كان المعنى الترتيب والتصنيف ، كما يقال : قرأ الكتاب بابا بابا ، وحضروا صفا صفا ، وكان قوله (مِنْ فِضَّةٍ) عائد إلى قوله : (بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ).

٨١

ولما كان القرآن مرادا منه فهم معانيه وإعجاز الجاحدين به وكان قد نزل بين أهل اللسان ، كان فهم معانيه مفروغا من حصوله عند جميعهم ، فأما التحدي بعجز بلغائهم عن معارضته فأمر يرتبط بما فيه من الخصوصيات البلاغية التي لا يستوي في القدرة عليها جميعهم بل خاصّة بلغائهم من خطباء وشعراء ، وكان من جملة طرق الإعجاز ما يرجع إلى محسّنات الكلام من فنّ البديع ، ومن ذلك فواصل الآيات التي هي شبه قوافي الشعر وأسجاع النثر ، وهي مرادة في نظم القرآن لا محالة كما قدّمناه عند الكلام على آيات القرآن فكان عدم الوقف عليها تفريطا في الغرض المقصود منها.

لم يشتدّ اعتناء السلف بتحديد أوقافه لظهور أمرها ، وما ذكر عن ابن النحاس من الاحتجاج لوجوب ضبط أوقاف القرآن بكلام لعبد الله بن عمر ليس واضحا في الغرض المحتج به فانظره في «الإتقان» للسيوطي.

فكان الاعتبار بفواصله التي هي مقاطع آياته عندهم أهمّ لأنّ عجز قادتهم وأولي البلاغة والرأي منهم تقوم به الحجة عليهم وعلى دهمائهم ، فلما كثر الداخلون في الإسلام من دهماء العرب ومن عموم بقية الأمم ، توجه اعتناء أهل القرآن إلى ضبط وقوفه تيسيرا لفهمه على قارئيه ، فظهر الاعتناء بالوقوف وروعي فيها ما يراعى في تفسير الآيات فكان ضبط الوقوف مقدمة لما يفاد من المعاني عند واضع الوقف.

وأشهر من تصدّى لضبط الوقوف أبو محمّد بن الأنباري ، وأبو جعفر بن النحاس ، وللنكزاوي أو النكزوي كتاب في «الوقف» ذكره في «الإتقان» ، واشتهر بالمغرب من المتأخرين محمّد بن أبي جمعة الهبطي المتوفى سنة ٩٣٠.

سور القرآن

السورة قطعة من القرآن معيّنة بمبدإ ونهاية لا يتغيران ، مسماة باسم مخصوص ، تشتمل على ثلاث آيات فأكثر في غرض تام ترتكز عليه معاني آيات تلك السورة ، ناشئ عن أسباب النزول ، أو عن مقتضيات ما تشتمل عليه من المعاني المتناسبة. وكونها تشتمل على ثلاث آيات مأخوذ من استقراء سور القرآن مع حديث عمر فيما رواه أبو داود عن الزبير قال : «جاء الحارث بن خزيمة (هو المسمى في بعض الروايات خزيمة وأبا خزيمة) بالآيتين من آخر سورة براءة فقال : أشهد أني سمعتهما من رسول الله ، فقال عمر وأنا أشهد لقد سمعتهما منه ، ثم قال : لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة» إلخ ،

٨٢

فدل على أن عمر ما قال ذلك إلا عن علم بأن ذلك أقلّ مقدار سوره.

وتسمية القطعة المعينة من عدة آيات القرآن سورة من مصطلحات القرآن ، وشاعت تلك التسمية عند العرب حتى المشركين منهم ، فالتحدي للعرب بقوله تعالى : (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ) [هود : ١٣] وقوله : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣] لا يكون إلا تحديا باسم معلوم المسمّى والمدار عندهم وقت التحدي ، فإن آيات التحدي نزلت بعد السور الأول ، وقد جاء في القرآن تسمية سورة النور باسم سورة في قوله تعالى : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها) [النور : ١] أي هذه سورة ، وقد زادته السنة بيانا. ولم تكن أجزاء التوراة والإنجيل والزبور مسماة سورا عند العرب في الجاهلية ولا في الإسلام.

ووجه تسمية الجزء المعين من القرآن سورة قيل مأخوذة من السّور بضم السين وتسكين الواو وهو الجدار المحيط بالمدينة أو بمحلة قوم ، زادوه هاء تأنيث في آخره مراعاة لمعنى القطعة من الكلام ، كما سموا الكلام الذي يقوله القائل خطبة أو رسالة أو مقامة. وقيل مأخوذة من السؤر بهمزة بعد السين وهو البقية مما يشرب الشارب بمناسبة أن السؤر جزء مما يشرب ، ثم خففوا الهمز بعد الضمة فصارت واوا ، قال ابن عطية : «وترك الهمز في سورة هو لغة قريش ومن جاورها من هذيل وكنانة وهوازن وسعد بن بكر ، وأما الهمز فهو لغة تميم ، وليست إحدى اللغتين بدالة على أن أصل الكلمة من المهموز أو المعتل ، لأن للعرب في تخفيف المهموز وهمز المخفف من حروف العلة طريقتين ، كما قالوا أجوه وإعاء وإشاح ، في وجوه ووعاء ووشاح ، وكما قالوا الذئب بالهمز والذيب بالياء. قال الفراء : ربما خرجت بهم فصاحتهم إلى أن يهمزوا ما ليس مهموزا كما قالوا «رثأت الميت ولبّأت بالحج وحلأت السويق بالهمز».

وجمع سورة سور بتحريك الواو كغرف ، ونقل في «شرح القاموس» عن الكراع (١) أنها تجمع على سور بسكون الواو.

وتسوير القرآن من السنة في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقد كان القرآن يومئذ مقسما إلى مائة وأربع عشرة سورة بأسمائها ، ولم يخالف في ذلك إلا عبد الله بن مسعود فإنه لم يثبت المعوذتين في سور القرآن ، وكان يقول : «إنما هما تعوّذ أمر الله رسوله بأن يقوله وليس هو

__________________

(١) هو علي بن حسن الهنائي ـ بضم الهاء ـ نسبة إلى هناءة ـ بوزن ثمامة ـ اسم جد قبيلة من قبائل الأزد ، والكراع بضم الكاف وتخفيف الراء لقب لعلى هذا ، كان يلقب كراع النمل.

٨٣

من القرآن» ، وأثبت القنوت الذي يقال في صلاة الصبح على أنه سورة من القرآن سماها سورة الخلع والخنع ، وجعل سورة الفيل وسورة قريش سورة واحدة ، وكل ذلك استنادا لما فهمه من نزول القرآن. ولم يحفظ عن جمهور الصحابة حين جمعوا القرآن أنهم ترددوا ولا اختلفوا في عدد سوره ، وأنها مائة وأربع عشرة سورة ، روى أصحاب «السنن» عن ابن عباس أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا نزلت الآية يقول : ضعوها في السورة التي يذكر فيها كذا ، وكانت السور معلومة المقادير منذ زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم محفوظة عنه في قراءة الصلاة وفي عرض القرآن ، فترتيب الآيات في السور هو بتوقيف من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكذلك عزا ابن عطية إلى مكي بن أبي طالب وجزم به السيوطي في «الإتقان» ، وبذلك يكون مجموع السورة من الآيات أيضا توقيفيا ، ولذلك نجد في «الصحيح» أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ في الصلاة سورة كذا وسورة كذا من طوال وقصار ، ومن ذلك حديث صلاة الكسوف ، وفي «الصحيح» أن رجلا سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يزوجه امرأة فقال له النبي : «هل عندك ما تصدقها؟» قال : لا ، فقال : «ما معك من القرآن؟» قال : سورة كذا وسورة كذا لسور سماها ، فقال : «قد زوّجتكها بما معك من القرآن» وسيأتي مزيد شرح لهذا الغرض عند الكلام على أسماء السور.

وفائدة التسوير ما قاله صاحب «الكشاف» في تفسير قوله تعالى : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣] «إن الجنس إذا انطوت تحته أنواع كان أحسن وأنبل من أن يكون ببّانا (١) واحدا ، وإن القارئ إذا ختم سورة أو بابا من الكتاب ثم أخذ في آخر كان أنشط له وأهز لعطفه كالمسافر إذا علم أنه قطع ميلا أو طوى فرسخا».

وأما ترتيب السور بعضها إثر بعض ، فقال أبو بكر الباقلاني : يحتمل أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو الذي أمر بترتيبها كذلك ، ويحتمل أن يكون ذلك من اجتهاد الصحابة ، وقال الداني : كان جبريل يوقف رسول الله على موضع الآية وعلى موضع السورة وفي «المستدرك» عن زيد بن ثابت أنه قال : «كنا عند رسول الله نؤلف القرآن من الرقاع» قال البيهقي : تأويله أنهم كانوا يؤلفون آيات السور. ونقل ابن عطية عن الباقلاني الجزم بأن ترتيب السور بعضها إثر بعض هو من وضع زيد بن ثابت بمشاركة عثمان ، قال ابن عطية : وظاهر الأثر أن السبع الطوال والحواميم والمفصل كانت مرتبة في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان من السور ما

__________________

(١) ببّانا بموحدتين ثانيتهما مشددة ونون. قال السيد : هو الشيء ، وكأن الكلمة يمانية.

٨٤

لم يرتب فذلك هو الذي رتب وقت كتابة المصحف.

أقول : لا شك أنّ طوائف من سور القرآن كانت مرتبة في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ترتيبها في المصحف الذي بأيدينا اليوم الذي هو نسخة من المصحف الإمام الذي جمع وكتب في خلافة أبي بكر الصديق ووزعت على الأمصار نسخ منه في خلافة عثمان ذي النورين فلا شك في أنّ سور المفصل كانت هي آخر القرآن ولذلك كانت سنة قراءة السورة في الصلوات المفروضة أن يكون في بعض الصلوات من طوال المفصل وفي بعضها من وسط المفصل وفي بعضها من قصار المفصل ، وأن طائفة السور الطولى الأوائل في المصحف كانت مرتبة في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أول القرآن ، والاحتمال فيما عدا ذلك.

وأقول : لا شك في أن زيد بن ثابت وعثمان بن عفان وهما من أكبر حفاظ القرآن من الصحابة ، توخّيا ما استطاعا ترتيب قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للسور ، وترتيب قراءة الحفاظ التي لا تخفى على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان زيد بن ثابت من أكبر حفاظ القرآن وقد لازم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مدة حياته بالمدينة ، ولم يتردد في ترتيب سور القرآن على نحو ما كان يقرؤها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين نسخ المصاحف في زمن عثمان. ذلك أن القرآن حين جمع في خلافة أبي بكر لم يجمع في مصحف مرتب وإنما جعلوا لكل سورة صحيفة مفردة ولذلك عبروا عنها بالصحف ، وفي «موطأ ابن وهب» عن مالك أن ابن عمر قال : «جمع أبو بكر القرآن في قراطيس». وكانت تلك الصحف عند أبي بكر ثم عند عمر ثم عند حفصة بنت عمر أمّ المؤمنين ، بسبب أنها كانت وصيّة أبيها على تركته ، فلما أراد عثمان جمع القرآن في مصحف واحد أرسل إلى حفصة فأرسلت بها إليه ولما نسخت في مصحف واحد أرجع الصحف إليها ، قال في «فتح الباري» : «وهذا وقع في رواية عمارة بن غزية أن زيد بن ثابت قال : أمرني أبو بكر فكتبت في قطع الأديم والعسب فلما هلك أبو بكر وكان عمر ، كتبت ذلك في صحيفة واحدة فكانت عنده» والأصح أن القرآن جمع في زمن أبي بكر في مصحف واحد.

وقد يوجد في آي من القرآن ما يقتضي سبق سورة على أخرى مثل قوله في سورة النحل [١١٨] : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ) يشير إلى قوله : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ) الآية من سورة الأنعام [١٤٦] فدلت على أن سورة الأنعام نزلت قبل سورة النحل ، وكذلك هي مرتبة في المصحف ، وقد ثبت أن آخر آية نزلت آية في سورة البقرة أو في سورة النساء أو في براءة ، وثلاثتها في الترتيب مقدمة

٨٥

على سور كثيرة. فالمصاحف الأولى التي كتبها الصحابة لأنفسهم في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت مختلفة في ترتيب وضع السور.

وممن كان له مصحف عبد الله بن مسعود وأبيّ بن كعب ، وروي أن أول من جمع القرآن في مصحف ، سالم مولى أبي حذيفة. قال في «الإتقان» : إن من الصحابة من رتب مصحفه على ترتيب النزول ـ أي بحسب ما بلغ إليه علمه ـ وكذلك كان مصحف عليّ رضي‌الله‌عنه وكان أوله (اقْرَأْ بِاسْمِ) [العلق : ١] ، ثم المدثر ، ثم المزمل ، ثم التكوير ، وهكذا إلى آخر المكي ثم المدني. ومنهم من رتب على حسب الطول والقصر وكذلك كان مصحف أبيّ وابن مسعود فكانا ابتدأ بالبقرة ثم النساء ثم آل عمران ، وعلى هذه الطريقة أمر عثمان رضي‌الله‌عنه بترتيب المصحف المدعو بالإمام.

أخرج الترمذي وأبو داود عن ابن عباس قال : قلت لعثمان بن عفان : ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطربسم الله الرحمن الرحيم ، ووضعتموهما في السبع الطوال ، فقال عثمان : «كان رسول الله ممّا يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السور ذوات العدد فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، وكانت الأنفال من أوائل ما أنزلت بالمدينة وكانت براءة من آخر القرآن ، وكانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت أنها منها فقبض رسول الله ولم يبيّن لنا أنها منها ، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطربسم الله الرحمن الرحيم فوضعتهما في السبع الطوال». وهو صريح في أنهم جعلوا علامة الفصل بين السور كتابة البسملة ولذلك لم يكتبوها بين سورة الأنفال وسورة براءة لأنهم لم يجزموا بأن براءة سورة مستقلة ، ولكنه كان الراجح عندهم فلم يقدموا على الجزم بالفصل بينهما تحريا.

وفي باب تأليف القرآن من «صحيح البخاري» عن عبد الله بن مسعود أنه ذكر النظائر التي كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرؤهن في كل ركعة فسئل علقمة عنها فقال : عشرون سورة من أول المفصل على تأليف ابن مسعود آخرها من الحواميم حم الدخان و (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) [النبأ : ١] ، على أن الجمهور جزموا بأن كثيرا من السور كان مرتبا في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ثم اعلم أن ظاهر حديث عائشة رضي‌الله‌عنها في «صحيح البخاري» في باب تأليف القرآن أنها لا ترى القراءة على ترتيب المصحف أمرا لازما فقد سألها رجل من العراق أن تريه مصحفها ليؤلّف عليه مصحفه فقالت : «وما يضرك أيّة آية قرأت قبل ، إنما نزل أول ما

٨٦

نزل منه سورة فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام» وفي «صحيح مسلم» عن حذيفة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلّى بالبقرة ثم بالنساء ثم بآل عمران في ركعة. قال عياض في «الإكمال» : «هو دليل لكون ترتيب السورة وقع باجتهاد الصحابة حين كتبوا المصحف وهو قول مالك رحمه‌الله وجمهور العلماء» وفي حديث صلاة الكسوف أن النبي قرأ فيها بسورتين طويلتين ولما كانت جهرية فإن قراءته تينك السورتين لا يخفى على أحد ممن صلّى معه ، ولذلك فالظاهر أن تقديم سورة آل عمران على سورة النساء في المصحف الإمام ما كان إلا اتباعا لقراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما قرأها النبي كذلك إما لأن سورة آل عمران سبقت في النزول سورة النساء التي هي من آخر ما أنزل ، أو لرعي المناسبة بين سورة البقرة وسورة آل عمران في الافتتاح بكلمة الم ، أو لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصفهما وصفا واحدا : «ففي حديث أبي أمامة أن النبي قال اقرءوا الزّهراوين البقرة وآل عمران ، وذكر فضلهما يوم القيامة أو لما في «صحيح مسلم» أيضا عن حديث النوّاس بن سمعان أن النبي قال : «يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به تقدمه سورة البقرة وآل عمران ، وضرب لهما ثلاثة أمثال» الحديث.

ووقع في «تفسير شمس الدين محمود الأصفهاني الشافعي» (١) ، في المقدمة الخامسة من أوائله «لا خلاف في أن القرآن يجب أن يكون متواترا في أصله وأجزائه ، وأما في محله ووضعه وترتيبه فعند المحققين من أهل السنة كذلك ؛ إذ الدواعي تتوفر على نقله على وجه التواتر ، وما قيل التواتر شرط في ثبوته بحسب أصله وليس شرطا في محله ووضعه وترتيبه فضعيف لأنه لو لم يشترط التواتر في المحل جاز أن لا يتواتر كثير من المكررات الواقعة في القرآن وما لم يتواتر يجوز سقوطه» وهو يعني بالقرآن ألفاظ آياته ومحلها دون ترتيب السور.

قال ابن بطّال (٢) : «لا نعلم أحدا قال بوجوب القراءة على ترتيب السور في المصحف بل يجوز أن تقرأ الكهف قبل البقرة ، وأما ما جاء عن السلف من النهي عن

__________________

(١) هو محمود بن عبد الرحمن بن أحمد الأصفهاني الشافعي المتوفى سنة تسع وأربعين وسبعمائة جمع في تفسيره «الكشاف» ، و«مفاتيح الغيب» ، وهو مخطوط بالمكتبة الأحمدية بجامع الزيتونة بتونس.

(٢) هو علي بن خلف بن بطال القرطبي ثم البلنسي المالكي المتوفى سنة أربع وأربعين وأربعمائة ، له شرح على «صحيح البخاري».

٨٧

قراءة القرآن منكسا ، فالمراد منه أن يقرأ من آخر السورة إلى أولها». قلت أو يحمل النهي على الكراهة.

واعلم أن معنى الطولى والقصرى في السور مراعى فيه عدد الآيات لا عدد الكلمات والحروف ، وأن الاختلاف ـ بينهم في تعيين المكي والمدني من سور القرآن خلاف ليس بكثير ، وأن ترتيب المصحف تخللت فيه السور المكية والمدنية. وأما ترتيب نزول السور المكية ونزول السور المدنية ففيه ثلاث روايات ، إحداها رواية مجاهد عن ابن عباس ، والثانية رواية عطاء الخراساني عن ابن عباس ، والثالثة لجابر بن زيد ولا يكون إلا عن ابن عباس ، وهي التي اعتمدها الجعبري في منظومته التي سماها «تقريب المأمول في ترتيب النزول» وذكرها السيوطي في «الإتقان» وهي التي جرينا عليها في تفسيرنا هذا.

وأما أسماء السور فقد جعلت لها من عهد نزول الوحي ، والمقصود من تسميتها تيسير المراجعة والمذاكرة. وقد دل حديث ابن عباس الذي ذكر آنفا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقول إذا نزلت الآية : «ضعوها في السورة التي يذكر فيها كذا» ، فسورة البقرة مثلا كانت تلقب بالسورة التي تذكر فيها البقرة. وفائدة التسمية أن تكون بما يميز السورة عن غيرها. وأصل أسماء السور أن تكون بالوصف كقولهم السورة التي يذكر فيها كذا ، ثم شاع فحذفوا الموصول وعوضوا عنه الإضافة فقالوا سورة ذكر البقرة مثلا ، ثم حذفوا المضاف وأقاموا المضاف إليه مقامه فقالوا سورة البقرة. أو أنهم لم يقدروا مضافا وأضافوا السورة لما يذكر فيها لأدنى ملابسة. وقد ثبت في «صحيح البخاري» قول عائشة رضي‌الله‌عنها : «لما نزلت الآيات من آخر البقرة» الحديث وفيه عن ابن مسعود قال قرأ رسول الله النجم وعن ابن عباس أن رسول الله سجد بالنجم. وما روي من حديث عن أنس مرفوعا : «لا تقولوا سورة البقرة ولا سورة آل عمران ولا سورة النساء وكذلك القرآن كله ولكن قولوا السورة التي يذكر فيها آل عمران ـ وكذا القرآن كله» ، فقال أحمد بن حنبل هو حديث منكر ، وذكره ابن الجوزي في «الموضوعات» ، ولكن ابن حجر أثبت صحته. ويذكر عن ابن عمر أنه كان يقول مثل ذلك ولا يرفعه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ذكره البيهقي في «شعب الإيمان» ، وكان الحجاج بن يوسف يمنع من يقول سورة كذا ويقول قل السورة التي يذكر فيها كذا ، والذين صححوا حديث أنس تأوّلوه وتأوّلوا قول ابن عمر بأن ذلك كان في مكة حين كان المسلمون إذا قالوا : سورة الفيل وسورة العنكبوت مثلا هزأ بهم المشركون ، وقد روي أن هذا سبب نزول قوله تعالى : (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) [الحجر : ٩٥] فلما هاجر

٨٨

المسلمون إلى المدينة زال سبب النهي فنسخ ، وقد علم الناس كلهم معنى التسمية. ولم يشتهر عن السلف هذا المنع ولهذا ترجم البخاري في كتاب فضائل القرآن بقوله : «باب من لم ير بأسا أن يقول سورة البقرة وسورة كذا وسورة كذا» وأخرج فيه أحاديث تدل على أنهم قالوا سورة البقرة ، سورة الفتح ، سورة النساء ، سورة الفرقان ، سورة براءة ، وبعضها من لفظ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وعليه فللقائل أن يقول سورة البقرة أو التي يذكر فيها البقرة ، وأن يقول سورة والنجم وسورة النجم ، وقرأت النجم وقرأت والنجم ، كما جاءت هذه الإطلاقات في حديث السجود في سورة النجم عن ابن عباس.

والظاهر أن الصحابة سموا بما حفظوه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو أخذوا لها أشهر الأسماء التي كان الناس يعرفونها بها ولو كانت التسمية غير مأثورة ، فقد سمى ابن مسعود القنوت سورة الخلع والخنع كما مر ، فتعيّن أن تكون التسمية من وضعه ، وقد اشتهرت تسمية بعض السور في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسمعها وأقرها وذلك يكفي في تصحيح التسمية.

واعلم أن أسماء السور إما أن تكون بأوصافها مثل الفاتحة وسورة الحمد ، وإما أن تكون بالإضافة لشيء اختصت بذكره نحو سورة لقمان وسورة يوسف وسورة البقرة ، وإما بالإضافة لما كان ذكره فيها أوفى نحو سورة هود وسورة إبراهيم ، وإما بالإضافة لكلمات تقع في السورة نحو سورة براءة ، وسورة حم عسق ، وسورة حم السجدة كما سماها بعض السلف ، وسورة فاطر. وقد سموا مجموع السور المفتتحة بكلمة حم «آل حم» ، وربما سموا السورتين بوصف واحد فقد سموا سورة الكافرون وسورة الإخلاص المقشقشتين.

واعلم أن الصحابة لم يثبتوا في المصحف أسماء السور بل اكتفوا بإثبات البسملة في مبدأ كل سورة علامة على الفصل بين السورتين ، وإنما فعلوا ذلك كراهة أن يكتبوا في أثناء القرآن ما ليس بآية قرآنية ، فاختاروا البسملة لأنها مناسبة للافتتاح مع كونها آية من القرآن وفي «الإتقان» أن سورة البينة سمّيت في مصحف أبيّ سورة أهل الكتاب ، وهذا يؤذن بأنه كان يسمي السور في مصحفه. وكتبت أسماء السور في المصاحف باطراد في عصر التابعين ولم ينكر عليهم ذلك. قال المازري في «شرح البرهان» عن القاضي أبي بكر الباقلاني : إن أسماء السور لما كتبت المصاحف كتبت بخط آخر لتتميز عن القرآن ، وإن البسملة كانت مكتوبة في أوائل السور بخط لا يتميز عن الخط الذي كتب به القرآن.

وأما ترتيب آيات السورة فإن التنجيم في النزول من المعلوم كما تقدم آنفا ، وذلك في آياته وسوره فربما نزلت السورة جميعا دفعة واحدة كما نزلت سورة الفاتحة وسورة

٨٩

المرسلات من السور القصيرة ، وربما نزلت نزولا متتابعا كسورة الأنعام ، وفي «صحيح البخاري» عن البراء بن عازب قال آخر سورة نزلت كاملة براءة ، وربما نزلت السورة ونزلت السورتان مفرقتان في أوقات متداخلة ، روى الترمذي عن ابن عباس عن عثمان بن عفان قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السور ذوات العدد ـ أي في أوقات متقاربة ـ فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من يكتب الوحي فيقول ضعوا هؤلاء الآيات في السورة كذا». ولذلك فقد تكون السورة بعضها مكيا وبعضها مدنيا. وكذلك تنهية كل سورة كان بتوقيف من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكانت نهايات السور معلومة ، كما يشير إليه حديث «من قرأ الآيات الخواتم من سورة آل عمران» وقول زيد بن ثابت «فقدت آخر سورة براءة». وقد توفي رسول الله والقرآن مسوّر سورا معينة ، كما دل عليه حديث اختلاف عمر بن الخطاب مع هشام بن حكيم بن حزام في آيات من سورة الفرقان في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما تقدم في المقدمة الخامسة. وقال عبد الله بن مسعود في سور بني إسرائيل ، والكهف ، ومريم ، وطه ، والأنبياء «هن من العتاق الأول وهنّ من تلادي».

وقد جمع من الصحابة القرآن كله في حياة رسول الله زيد بن ثابت ، ومعاذ بن جبل ، وأبو زيد ، وأبيّ بن كعب ، وأبو الدرداء ، وعبد الله بن عمر ، وعبادة بن الصامت وأبو أيوب ، وسعد بن عبيد ، ومجمّع بن جارية ، وأبو موسى الأشعري ، وحفظ كثير من الصحابة أكثر القرآن على تفاوت بينهم.

وفي حديث غزوة حنين لما انكشف المسلمون قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للعباس : «اصرخ يا معشر الأنصار ، يا أصحاب السّمرة ، يا أصحاب سورة البقرة» فلعل الأنصار كانوا قد عكفوا على حفظ ما نزل من سورة البقرة لأنها أول السور النازلة بالمدينة ، وفي «أحكام القرآن» لابن العربي عن ابن وهب عن مالك كان شعارهم يوم حنين يا أصحاب سورة البقرة.

وقد ذكر النحويون في الوقف على تاء التأنيث هاء أن رجلا نادى : يا أهل سورة البقرة بإثبات التاء في الوقف وهي لغة ، فأجابه مجيب : «ما أحفظ منها ولا آيت» محاكاة للغته.

٩٠

المقدمة التاسعة

في أن المعاني التي تتحمّلها جمل القرآن تعتبر مرادة بها

إن العرب أمة جبلت على ذكاء القرائح وفطنة الأفهام ، فعلى دعامة فطنتهم وذكائهم أقيمت أساليب كلامهم ، وبخاصة كلام بلغائهم ، ولذلك كان الإيجاز عمود بلاغتهم لاعتماد المتكلمين على أفهام السامعين كما يقال : لمحة دالّة ، لأجل ذلك كثر في كلامهم المجاز ، والاستعارة ، والتمثيل ، والكناية ، والتعريض ، والاشتراك والتسامح في الاستعمال كالمبالغة ، والاستطراد ومستتبعات التراكيب ، والأمثال ، والتلميح ، والتمليح ، واستعمال الجملة الخبرية في غير إفادة النسبة الخبرية ، واستعمال الاستفهام في التقرير أو الإنكار ، ونحو ذلك. وملاك ذلك كله توفير المعاني ، وأداء ما في نفس المتكلم بأوضح عبارة وأخصرها ليسهل اعتلاقها بالأذهان ؛ وإذ قد كان القرآن وحيا من العلّام سبحانه وقد أراد أن يجعله آية على صدق رسوله وتحدّى بلغاء العرب بمعارضة أقصر سورة منه كما سيأتي في المقدمة العاشرة ، فقد نسج نظمه نسجا بالغا منتهى ما تسمح به اللغة العربية من الدقائق واللطائف لفظا ومعنى بما يفي بأقصى ما يراد بلاغة إلى المرسل إليهم. فجاء القرآن على أسلوب أبدع مما كانوا يعهدون وأعجب ، فأعجز بلغاء المعاندين عن معارضته ولم يسعهم إلا الإذعان ، سواء في ذلك من آمن منهم مثل لبيد بن ربيعة وكعب بن زهير والنابغة الجعدي ، ومن استمر على كفره عنادا مثل الوليد بن المغيرة. فالقرآن من جانب إعجازه يكون أكثر معاني من المعاني المعتادة التي يودعها البلغاء في كلامهم. وهو لكونه كتاب تشريع وتأديب وتعليم كان حقيقا بأن يودع فيه من المعاني والمقاصد أكثر ما تحتمله الألفاظ ، في أقلّ ما يمكن من المقدار ، بحسب ما تسمح به اللغة الوارد هو بها التي هي أسمح اللغات بهذه الاعتبارات ، ليحصل تمام المقصود من الإرشاد الذي جاء لأجله في جميع نواحي الهدى ، فمعتاد البلغاء إيداع المتكلم معنى يدعوه إليه غرض كلامه وترك غيره والقرآن ينبغي أن يودع من المعاني كل ما يحتاج السامعون إلى علمه وكل ما له حظ في البلاغة سواء كانت متساوية أم متفاوتة في البلاغة إذا كان المعنى الأعلى مقصودا وكان ما هو أدنى منه مرادا معه لا مرادا دونه سواء كانت دلالة التركيب عليها متساوية في الاحتمال

٩١

والظهور أم كانت متفاوتة بعضها أظهر من بعض ولو أن تبلغ حد التأويل وهو حمل اللفظ على المعنى المحتمل المرجوح. أما إذا تساوى المعنيان فالأمر أظهر ، مثل قوله تعالى : (وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً) [النساء : ١٥٧] أي ما تيقنوا قتله ولكن توهموه ، أو ما أيقن النصارى الذين اختلفوا في قتل عيسى علم ذلك يقينا بل فهموه خطأ ، ومثل قوله : (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) [يوسف : ٤٢] ففي كل من كلمة ذكر وربه معنيان ، ومثل قوله : (قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) [يوسف : ٢٣] ففي لفظ رب معنيان. وقد تكثر المعاني بإنزال لفظ الآية على وجهين أو أكثر تكثيرا للمعاني مع إيجاز اللفظ وهذا من وجوه الإعجاز. ومثاله قوله تعالى : (إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ) [التوبة : ١١٤] بالمثناة التحتية وقرأ الحسن البصري (أباه) بالباء الموحدة ، فنشأ احتمال فيمن هو الوعد. ولما كان القرآن نازلا من المحيط علمه بكل شيء ، كان ما تسمح تراكيبه الجارية على فصيح استعمال الكلام البليغ باحتماله من المعاني المألوفة للعرب في أمثال تلك التراكيب ، مظنونا بأنه مراد لمنزله ، ما لم يمنع من ذلك مانع صريح أو غالب من دلالة شرعية أو لغوية أو توقيفية. وقد جعل الله القرآن كتاب الأمة كلها وفيه هديها ، ودعاهم إلى تدبره وبذل الجهد في استخراج معانيه في غير ما آية كقوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [التغابن : ١٦] وقوله : (وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء : ٨٣] وقوله : (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) [العنكبوت : ٤٩] وغير ذلك. على أن القرآن هو الحجة العامة بين علماء الإسلام لا يختلفون في كونه حجّة شريعتهم وإن اختلفوا في حجية ما عداه من الأخبار المروية عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لشدة الخلاف في شروط تصحيح الخبر ، ولتفاوتهم في مقدار ما يبلغهم من الأخبار مع تفرق العصور والأقطار ، فلا مرجع لهم عند الاختلاف يرجعون إليه أقوى من القرآن ودلالته.

ويدل لتأصيلنا هذا ما وقع إلينا من تفسيرات مروية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لآيات ، فنرى منها ما نوقن بأنه ليس هو المعنى الأسبق من التركيب ؛ ولكنا بالتأمل نعلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام ما أراد بتفسيره إلا إيقاظ الأذهان إلى أخذ أقصى المعاني من ألفاظ القرآن ، مثال ذلك ما رواه أبو سعيد بن المعلّى قال : دعاني رسول الله وأنا في الصلاة فلم أجبه فلما فرغت أقبلت إليه فقال : «ما منعك أن تجيبني؟ فقلت : يا رسول الله كنت أصلي ، فقال : ألم يقل الله تعالى (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ) [الأنفال : ٢٤]؟» ، فلا شك أن المعنى المسوقة فيه الآية هو الاستجابة بمعنى الامتثال ، كقوله تعالى : (الَّذِينَ

٩٢

اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) [آل عمران : ١٧٢] ، وأن المراد من الدعوة الهداية كقوله : (يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) [آل عمران : ١٠٤] ، وقد تعلق فعل (دَعاكُمْ) بقوله (لِما يُحْيِيكُمْ) أي لما فيه صلاحكم ، غير أن لفظ الاستجابة لما كان صالحا للحمل على المعنى الحقيقي أيضا وهو إجابة النداء حمل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الآية على ذلك في المقام الصالح له ، بقطع النظر عن المتعلّق وهو قوله : (لِما يُحْيِيكُمْ) وكذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلا ، (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) [الأنبياء : ١٠٤] إنما هو تشبيه الخلق الثاني بالخلق الأول لدفع استبعاد البعث ، كقوله تعالى : (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) [ق : ١٥] وقوله : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : ٢٧] ، فذلك مورد التشبيه ، غير أن التشبيه لما كان صالحا للحمل على تمام المشابهة أعلمنا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ذلك مراد منه ، بأن يكون التشبيه بالخلق الأول شاملا للتجرد من الثياب والنعال.

وكذلك قوله تعالى : (إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) [التوبة : ٨٠] فقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعمر بن الخطاب لما قال له لا تصلّ على عبد الله ابن أبيّ بن سلول فإنه منافق وقد نهاك الله عن أن تستغفر للمنافقين ، فقال النبي : «خيّرني ربي وسأزيد على السبعين» فحمل قوله تعالى : (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) [التوبة : ٨٠] على التخيير مع أن ظاهره أنه مستعمل في التسوية ، وحمل اسم العدد على دلالته الصريحة دون كونه كناية عن الكثرة كما هو قرينة السياق لمّا كان الأمر واسم العدد صالحين لما حملهما عليه فكان الحمل تأويلا ناشئا عن الاحتياط. ومن هذا قول النبي لأن كلثوم بنت عقبة بن معيط حين جاءت مسلمة مهاجرة إلى المدينة وأبت أن ترجع إلى المشركين فقرأ النبي قوله تعالى : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) [الأنعام : ٩٥] فاستعمله في معنى مجازي هو غير المعنى الحقيقي الذي سيق إليه ، وما أرى سجود النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في مواضع سجود التلاوة من القرآن إلا راجعا إلى هذا الأصل فإن كان فهما منه رجع إلى ما شرحنا تأصيله ، وإن كان وحيا كان أقوى حجة في إرادة الله من ألفاظ كتابه ما تحتمله ألفاظه مما لا ينافي أغراضه.

وكذلك لما ورد عن أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن بعدهم من الأئمة مثل ما روي أن عمرو بن العاص أصبح جنبا في غزوة في يوم بارد فتيمم وقال : الله تعالى يقول : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً) [النساء : ٢٩] مع أن مورد الآية أصله في النهي عن أن يقتل الناس بعضهم بعضا.

٩٣

ومن ذلك أن عمر لما فتحت العراق وسأله جيش الفتح قسمة أرض السواد بينهم قال : «إن قسمتها بينكم لم يجد المسلمون الذين يأتون بعدكم من البلاد المفتوحة مثل ما وجدتم فأرى أن أجعلها خراجا على أهل الأرض يقسم على المسلمين كلّ موسم فإن الله يقول : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) [الحشر : ١٠] وهذه الآية نزلت في فيء قريظة والنضير ، والمراد بالذين جاءوا من بعد المذكورين هم المسلمون الذين أسلموا بعد الفتح المذكور.

وكذلك استنباط عمر ابتداء التاريخ بيوم الهجرة ، من قوله تعالى : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) [التوبة : ١٠٨] فإن المعنى الأصلي أنه أسّس من أول أيام تأسيسه ، واللفظ صالح لأن يحمل على أنه أسس من أول يوم من الأيام أي أحق الأيام أن يكون أول أيام الإسلام فتكون الأولية نسبية.

وقد استدل فقهاؤنا على مشروعية الجعالة ومشروعية الكفالة في الإسلام بقوله تعالى في قصة يوسف : (وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) [يوسف : ٧٢] كما تقدم في المقدمة الثالثة ، مع أنه حكاية قصة مضت في أمة خلت ليست في سياق تقرير ولا إنكار ، ولا هي من شريعة سماوية ، إلا أن القرآن ذكرها ولم يعقبها بإنكار.

ومن هذا القبيل استدلال الشافعي على حجّيّة الإجماع وتحريم خرقه بقوله تعالى : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) [النساء : ١١٥] مع أن سياق الآية في أحوال المشركين ، فالمراد من الآية مشاقة خاصة واتّباع غير سبيل خاصّ ولكن الشافعي جعل حجية الإجماع من كمال الآية.

وإن القراءات المتواترة إذا اختلفت في قراءة ألفاظ القرآن اختلافا يفضي إلى اختلاف المعاني لممّا يرجع إلى هذا الأصل.

ثم إن معاني التركيب المحتمل معنيين فصاعدا قد يكون بينهما العموم والخصوص فهذا النوع لا تردد في حمل التركيب على جميع ما يحتمله ، ما لم يكن عن بعض تلك المحامل صارف لفظي أو معنوي ، مثل حمل الجهاد في قوله تعالى : (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) في سورة العنكبوت [٦] على معنيي مجاهدة النفس في إقامة شرائع الإسلام ، ومقاتلة الأعداء في الذب عن حوزة الإسلام. وقد يكون بينها التغاير ، بحيث يكون تعيين التركيب للبعض منافيا لتعيينه للآخر بحسب إرادة المتكلم عرفا ، ولكن صلوحية التركيب لها على البدليّة مع عدم ما يعيّن إرادة أحدها تحمل السامع على الأخذ بالجميع

٩٤

إيفاء بما عسى أن يكون مراد المتكلم ، فالحمل على الجميع نظير ما قاله أهل الأصول في حمل المشترك على معانيه احتياطا. وقد يكون ثاني المعنيين متولدا من المعنى الأول ، وهذا لا شبهة في الحمل عليه لأنه من مستتبعات التراكيب ، مثل الكناية والتعريض والتهكم مع معانيها الصريحة ، ومن هذا القبيل ما في «صحيح البخاري» عن ابن عباس قال : كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر فكأنّ بعضهم وجد في نفسه فقال : لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله ، فقال عمر : إنه من حيث علمتم فدعاه ذات يوم فأدخله معهم قال : فما رئيت أنه دعاني إلا ليريهم ، قال : ما تقولون في قول الله تعالى : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) [النصر : ١] فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا وسكت بعضهم فلم يقل شيئا ، فقال لي : أكذلك تقول يا ابن عباس؟ فقلت : لا ، فقال : فما تقول؟ قلت : هو أجل رسول الله أعلمه له ، قال (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) وذلك علامة أجلك (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) [النصر : ٣] فقال عمر : ما أعلم منها إلا ما تقول.

وإنّك لتمرّ بالآية الواحدة فتتأمّلها وتتدبّرها فتنهال عليك معان كثيرة يسمح بها التركيب على اختلاف الاعتبارات في أساليب الاستعمال العربي ، وقد تتكاثر عليك فلا تلك من كثرتها في حصر ولا تجعل الحمل على بعضها منافيا للحمل على البعض الآخر إن كان التركيب سمحا بذلك.

فمختلف المحامل التي تسمح بها كلمات القرآن وتراكيبه وإعرابه ودلالته ، من اشتراك وحقيقة ومجاز ، وصريح وكناية ، وبديع ، ووصل ، ووقف ، إذا لم تفض إلى خلاف المقصود من السياق ، يجب حمل الكلام على جميعها كالوصل والوقف في قوله تعالى : (لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢] إذا وقف على (لا رَيْبَ) أو على (فِيهِ). وقوله تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) [آل عمران : ١٤٦] باختلاف المعنى إذا وقف على قوله (قاتَلَ) ، أو على قوله معه (رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ). وكقوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ) [آل عمران : ٧] باختلاف المعنى عند الوقف على اسم الجلالة أو على قوله (فِي الْعِلْمِ) ، وكقوله تعالى : (قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ) [مريم : ٤٦] باختلاف ارتباط النداء من قوله : (يا إِبْراهِيمُ) بالتوبيخ بقوله : (أَراغِبٌ أَنْتَ) ، أو بالوعيد في قوله : (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ).

وقد أراد الله تعالى أن يكون القرآن كتابا مخاطبا به كل الأمم في جميع العصور ، لذلك جعله بلغة هي أفصح كلام بين لغات البشر وهي اللغة العربية ، لأسباب يلوح لي

٩٥

منها ، أنّ تلك اللغة أوفر اللغات مادة ، وأقلها حروفا ، وأفصحها لهجة ، وأكثرها تصرفا في الدلالة على أغراض المتكلم ، وأوفرها ألفاظا ، وجعله جامعا لأكثر ما يمكن أن تتحمله اللغة العربية في نظم تراكيبها من المعاني ، في أقلّ ما يسمح به نظم تلك اللغة ، فكان قوام أساليبه جاريا على أسلوب الإيجاز ؛ فلذلك كثر فيه ما لم يكثر مثله في كلام بلغاء العرب.

ومن أدق ذلك وأجدره بأن ننبه عليه في هذه المقدمة استعمال اللفظ المشترك في معنييه أو معانيه دفعة. واستعمال اللفظ في معناه الحقيقي ومعناه المجازي معا. بله إرادة المعاني المكنّى عنها مع المعاني المصرح بها ، وإرادة المعاني المستتبعات (بفتح الباء) من التراكيب المستتبعة (بكسر الباء).

وهذا الأخير قد نبه عليه علماء العربية الذين اشتغلوا بعلم المعاني والبيان. وبقي المبحثان الأولان وهما استعمال المشترك في معنييه أو معانيه ، واستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ، محلّ تردد بين المتصدين لاستخراج معاني القرآن تفسيرا وتشريعا ، سببه أنه غير وارد في كلام العرب قبل القرآن أو واقع بندرة ، فلقد تجد بعض العلماء يدفع محملا من محامل بعض آيات بأنه محمل يفضي إلى استعمال المشترك في معنييه أو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ، ويعدون ذلك خطبا عظيما.

من أجل ذلك اختلف علماء العربية وعلماء أصول الفقه في جواز استعمال المشترك في أكثر من معنى من مدلوله اختلافا ينبئ عن ترددهم في صحة حمل ألفاظ القرآن على هذا الاستعمال. وقد أشار كلام بعض الأئمة إلى أن مثار اختلافهم هو عدم العهد بمثله عند العرب قبل نزول القرآن ، إذ قال الغزالي وأبو الحسين البصري (١) يصح أن يراد بالمشترك عدة معان لكن بإرادة المتكلم وليس بدلالة اللغة. وظني بهما أنهما يريدان تصيير تلك الإرادة إلى أنها دلالة من مستتبعات التراكيب لأنها دلالة عقلية لا تحتاج إلى علاقة وقرينة ، كدلالة المجاز والاستعارة.

والحق أن المشترك يصح إطلاقه على عدة من معانيه جميعا أو بعضا إطلاقا لغويا ، فقال قوم هو من قبيل الحقيقة ونسب إلى الشافعي وأبي بكر الباقلاني وجمهور المعتزلة.

__________________

(١) محمد بن علي البصري الشافعي المعتزلي المتوفى سنة ٤٣٩ ه‍ له كتاب «المعتمد في أصول الفقه».

٩٦

وقال قوم هو المجاز وجزم ابن الحاجب مراد الباقلاني من قوله في كتاب «التقريب والإرشاد» إن المشترك لا يحمل على أكثر من معنى إلا بقرينة ، ففهم ابن الحاجب أن القرينة من علامات المجاز وهذا لا يستقيم لأن القرينة التي هي من علامات المجاز هي القرينة المانعة من إرادة المعنى الحقيقي وهي لا تتصور في موضوعنا ؛ إذ معاني المشترك كلها من قبيل الحقيقة وإلا لاقتضت حقيقة المشترك فارتفع الموضوع من أصله. وإنما سها أصحاب هذا الرأي عن الفرق بين قرينة إطلاق اللفظ على معناه المجازي وقرينة إطلاق المشترك على عدة من معانيه ، فإن قرينة المجاز مانعة من إرادة المعنى الحقيقي وقرينة المشترك معينة للمعاني المرادة كلا أو بعضا.

وثمة قول آخر لا ينبغي الالتفات إليه وإنما نذكره استيعابا لآراء الناظرين في هذه المسألة ، وهو صحة إطلاق المشترك على معانيه في النفي وعدم صحة ذلك في الإيجاب ، ونسب هذا القول إلى برهان ، عليّ المرغيناني الفقيه الحنفي صاحب كتاب «الهداية» في الفقه ، ومثاره ـ في ما أحسب ـ اشتباه دلالة اللفظ المشترك على معانيه بدلالة النكرة الكلية على أفرادها حيث تفيد العموم إذا وقعت في سياق النفي ولا تفيده في سياق الإثبات.

والذي يجب اعتماده أن يحمل المشترك في القرآن على ما يحتمله من المعاني ، سواء في ذلك اللفظ المفرد المشترك ، والتركيب المشترك بين مختلف الاستعمالات ، سواء كانت المعاني حقيقية أو مجازية ، محضة أو مختلفة. مثال استعمال اللفظ المفرد في حقيقته ومجازه قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) [الحج : ١٨] فالسجود له معنى حقيقي وهو وضع الجبهة على الأرض ومعنى مجازي وهو التعظيم ، وقد استعمل فعل (يَسْجُدُ) هنا في معنييه المذكورين لا محالة. وقوله تعالى : (وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) [الممتحنة : ٢] فبسط الأيدي حقيقة في مدّها للضرب والسلب ، وبسط الألسنة مجاز في عدم إمساكها عن القول البذيء ، وقد استعمل هنا في كلا معنييه. ومثال استعمال المركّب المشترك في معنييه قوله تعالى : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) [المطففين : ١] فمركب ويل له يستعمل خبرا ويستعمل دعاء ، وقد حمله المفسرون هنا على كلا المعنيين.

وعلى هذا القانون يكون طريق الجمع بين المعاني التي يذكرها المفسرون ، أو ترجيح بعضها على بعض ، وقد كان المفسرون غافلين عن تأصيل هذا الأصل فلذلك كان الذي يرجّح معنى من المعاني التي يحتملها لفظ آية من القرآن ، يجعل غير ذلك المعنى

٩٧

ملغى. ونحن لا نتابعهم على ذلك بل نرى المعاني المتعددة التي يحتملها اللفظ بدون خروج عن مهيع الكلام العربي البليغ ، معاني في تفسير الآية ، فنحن في تفسيرنا هذا إذا ذكرنا معنيين فصاعدا فذلك على هذا القانون ، وإذا تركنا معنى مما حمل بعض المفسرين عليه في آيات من القرآن فليس تركنا إياه دالا على إبطاله ، ولكن قد يكون ذلك لترجّح غيره ، وقد يكون اكتفاء بذكره في تفاسير أخرى تجنبا للإطالة ، فإن التفاسير اليوم موجودة بين يدي أهل العلم لا يعوزهم استقراءها ولا تمييز محاملها متى جروا على هذا القانون.

٩٨

المقدمة العاشرة

في إعجاز القرآن

لم أر غرضا تناضلت له سهام الأفهام ، ولا غاية تسابقت إليها جياد الهمم فرجعت دونها حسرى ، واقتنعت بما بلغته من صبابة نزرا ، مثل الخوض في وجوه إعجاز القرآن ، فإنه لم يزل شغل أهل البلاغة الشاغل ، وموردها للمعلول والناهل ، ومغلى سبائها للنديم والواغل ، ولقد سبق أن ألّف علم البلاغة مشتملا على نماذج من وجوه إعجازه ، والتفرقة بين حقيقته ومجازه ،. إلا أنه باحث عن كل خصائص الكلام العربي البليغ ليكون معيارا للنقد أو آلة للصّنع ، ثم ليظهر من جراء ذلك كيف تفوّق القرآن على كل كلام بليغ بما توفر فيه من الخصائص التي لا تجتمع في كلام آخر للبلغاء حتى عجز السابقون واللّاحقون منهم عن الإتيان بمثله.

قال أبو يعقوب السكاكي في كتاب «المفتاح» «واعلم أني مهدت لك في هذا العلم قواعد متى بنيت عليها أعجب كلّ شاهد بناؤها واعترف لك بكمال الحذق في البلاغة أبناؤها ، إلى أن قال : ثم إذا كنت ممن ملك الذّوق وتصفحت كلام رب العزة أطلعتك على ما يوردك موارد العزة وكشفت عن وجه إعجازه القناع» ا ه.

فأما أنا فأردت في هذه المقدمة أن ألمّ بك أيها المتأمل إلمامة ليست كخطرة طيف ولا هي كإقامة المنتجع في المربع حتى يظله الصّيف ، وإنما هي لمحة ترى منها كيف كان القرآن معجزا وتتبصر منها نواحي إعجازه وما أنا بمستقص دلائل الإعجاز في آحاد الآيات والسور ؛ فذلك له مصنفاته وكل صغير وكبير مستطر. ثم ترى منها بلاغة القرآن ولطائف أدبه التي هي فتح لفنون رائعة من أدب لغة العرب حتى ترى كيف كان هذا القرآن فتح بصائر ، وفتح عقول ، وفتح ممالك ، وفتح أدب غض ارتقى به الأدب العربي مرتقى لم يبلغه أدب أمّة من قبل. وكنت أرى الباحثين ممن تقدّمني يخلطون هذين الغرضين خلطا ، وربما أهملوا معظم الفن الثاني ، وربما ألمّوا به إلماما وخلطوه بقسم الإعجاز وهو الذي يحق أن يكون البحث فيه من مقدمات علم التفسير ، ولعلك تجد في هذه المقدمة أصولا

٩٩

ونكتا أغفلها من تقدموا ممن تكلموا في إعجاز القرآن مثل الباقلاني ، والرّمّاني ، وعبد القاهر ، والخطّابي ، وعياض ، والسكاكي ، فكونوا منها بالمرصاد ، وافلوا عنها كما يفلي عن النار الرماد ، وإن علاقة هذه المقدمة بالتفسير هي أن مفسر القرآن لا يعد تفسيره لمعاني القرآن بالغا حد الكمال في غرضه ما لم يكن مشتملا على بيان دقائق من وجوه البلاغة في آية المفسّرة بمقدار ما تسمو إليه الهمة من تطويل واختصار ، فالمفسر بحاجة إلى بيان ما في آي القرآن من طرق الاستعمال العربي وخصائص بلاغته وما فاقت به آي القرآن في ذلك حسبما أشرنا إليه في المقدمة الثانية لئلا يكون المفسّر حين يعرض عن ذلك بمنزلة المترجم لا بمنزلة المفسّر.

فمن أعجب ما نراه خلوّ معظم التفاسير عن الاهتمام بالوصول إلى هذا الغرض الاسمى إلا عيون التفاسير ، فمن مقل مثل «معاني القرآن» لأبي إسحاق الزجاج و«المحرّر الوجيز» للشيخ عبد الحق بن عطية الأندلسي ، ومن مكثر مثل «الكشاف». ولا يعذر في الخلو عن ذلك إلا التفاسير التي نحت ناحية خاصة من معاني القرآن مثل أحكام القرآن ، على أن بعض أهل الهمم العلية من أصحاب هذه التفاسير لم يهمل هذا العلق النفيس كما يصف بعض العلماء كتاب «أحكام القرآن» لإسماعيل بن إسحاق بن حمّاد المالكي البغدادي ، وكما نراه في مواضع من «أحكام القرآن» لأبي بكر ابن العربي.

ثم إن العناية بما نحن بصدده من بيان وجوه إعجاز القرآن إنما نبعت من مختزن أصل كبير من أصول الإسلام وهو كونه المعجزة الكبرى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكونه المعجزة الباقية ، وهو المعجزة التي تحدى بها الرسول معانديه تحدّيا صريحا. قال تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) [العنكبوت : ٥٠ ، ٥١] ولقد تصدى للاستدلال على هذا أبو بكر الباقلاني في كتاب له سماه أو سمّي «إعجاز القرآن» وأطال ، وخلاصة القول فيه أن رسالة نبينا عليه الصلاة والسلام بنيت على معجزة القرآن وإن كان قد أيّد بعد ذلك بمعجزات كثيرة إلا أن تلك المعجزات قامت في أوقات وأحوال ومع ناس خاصة ونقل بعضها متواترا وبعضها نقل نقلا خاصا ، فأما القرآن فهو معجزة عامة ، ولزوم الحجة به باق من أول ورودها إلى يوم القيامة ، وإن كان يعلم وجه إعجازه من عجز أهل العصر الأوّل عن الإتيان بمثله فيغني ذلك عن نظر مجدّد ، فكذلك عجز أهل كل عصر من العصور التالية عن النظر في حال عجز أهل العصر الأول ، ودليل ذلك متواتر من نص

١٠٠