تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٣٥

مطلق الوعد وقد شاع استعمالها أيضا في خصوص التواعد بالملاقاة كما وقع في حديث الهجرة «وواعداه غار ثور». وقول الشاعر :

فواعديه سرحتي مالك

أو الرّبا بينهما أسهلا

واستعملت هنا لأن المناجاة والتكلم يقتضي القرب فهو بمنزلة اللقاء على سبيل الاستعارة ولذلك استغني عن ذكر الموعود به لظهوره من صيغة المواعدة.

وقيل المفاعلة على بابها بتقدير أن الله وعد موسى أن يعطيه الشريعة وأمره بالحضور للمناجاة فوعد موسى ربه أن يمتثل لذلك ، فكان الوعد حاصلا من الطرفين وذلك كاف في تصحيح المفاعلة بقطع النظر عن اختلاف الموعود به ، وذلك لا ينافي المفاعلة لأن مبنى صيغة المفاعلة حصول فعل متماثل من جانبين لا سيما إذا لم يذكر المتعلق في اللفظ كما هنا لقصد الإيجاز البديع لقصد إعظام المتعلق من الجانبين ، ولك أن تقول سوغ حذفه علم المخاطبين به فإن هذا الكلام مسوق للتذكير لا للإخبار والتذكير يكتفى فيه بأقل إشارة فاستوى الحذف والذكر فرجح الإيجاز وإن كان الغالب اتحاده.

وقرأ أبو عمرو وأبو جعفر ويعقوب وعدنا بدون ألف عقب الواو على الحقيقة.

وموسى هو رسول الله إلى بني إسرائيل وصاحب شريعة التوراة ، وهو موسى بن عمران ولم يذكر اسم جده ولكن الذي جاء في التوراة أنه هو وأخوه هارون من سبط لاوى بن يعقوب. ولد بمصر في حدود سنة ألف وخمسمائة قبل ميلاد عيسى ولما ولدته أمه خافت عليه أن يأخذه القبط فيقتلوه لأنه في أيام ولادته كان القبط قد ساموا بني إسرائيل سوء العذاب لأسباب غير مشروعة كما تقدم عند قوله تعالى : (يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) [البقرة : ٤٩] فأمر ملك مصر بقتل كل ذكر يولد في إسرائيل.

وأمه تسمى «يوحانذ» وهي أيضا من سبط لاوى وكان زوجها قد توفي حين ولدت موسى فتحيلت لإخفائه عن القبط مدة ثلاثة أشهر ثم ألهمها الله فأرضعته رضعة ووضعته في سفط منسوج من خوص البردي وطلته بالمغفرة والقار لئلا يدخله الماء ووضعت فيه الولد وألقته في النيل بمقربة من مساكن فرعون على شاطئ النيل ووكلت أختا له اسمها مريم بأن ترقب الجهة التي يلقيه النيل فيها وما ذا يصنع به ، وكان ملك مصر في ذلك الوقت تقريبا هو فرعون رعمسيس الثاني ، ولما حمله النهر كانت ابنة فرعون المسماة ثرموت مع جوار لها يمشين على حافة النهر لقصد السباحة والتبرد في مائه قيل كانوا في

٤٨١

مدينة عين شمس فلما بصرت بالسفط أرسلت أمة لها لتنظر السفط فلما فتحنه وجدن الصبي فأخذته ابنة فرعون إلى أمها وأظهرت مريم أخت موسى نفسها لابنة فرعون فلما رأت رقة ابنة فرعون على الصبي قالت : إن فينا مرضعا أفأذهب فأدعوها لترضعه؟ فقالت : نعم فذهبت وأتت بأم موسى. وأخذت امرأة فرعون الولد وتبنته وسمته موشى قيل : إنه مركب من كلمة «مو» بمعنى الماء وكلمة «شى» بمعنى المنقذ وقد صارت في العربية موسى والأظهر أن هذا الاسم مركب من اللغة العبرية لا من القبطية فلعله كان له اسم آخر في قصر فرعون وأنه غير اسمه بعد ذلك.

ونشأ موسى في بيت فرعون كولد له ولما كبر علم أنه ليس بابن لفرعون وأنه إسرائيلي ولعل أمه أعلمته بذلك وجعلت له أمارات يوقن بها وأنشأه الله على حب العدل ونصر الضعيف وكان موسى شديدا قوي البنية ولما بلغ أشده في حدود نيف وثلاثين من عمره حدث له حادث قتل فيه قبطيا انتصارا لإسرائيلي ولعل ذلك كان بعد مفارقته لقصر فرعون أي بعد موت مربيه فخاف موسى أن يقتص منه وهاجر من مصر ومر في مهاجرته بمدين وتزوج ابنة شعيب ثم خرج من مدين بعد عشر سنين وعمره يومئذ نيف وأربعون سنة. وأوحى الله إليه في طريقه أن يخرج بني إسرائيل من مصر وينقذهم من ظلم فرعون فدخل مصر ولقي أخاه هارون في جملة قومه في مصر وسعى في إخراج بني إسرائيل من مصر بما قصه الله في كتابه وكان خروجه ببني إسرائيل من مصر في حدود سنة ١٤٦٠ ستين وأربعمائة وألف قبل المسيح في زمن منفطاح الثاني وتوفي موسى عليه‌السلام قرب أريحا على جبل نيبو سنة ١٣٨٠ ثمانين وثلاثمائة وألف قبل ميلاد عيسى ودفن هنالك وقبره غير معروف لأحد كما هو نص التوراة.

وقوله : (أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) انتصب على أنه ظرف لمتعلق (واعَدْنا) وهو اللقاء الموعود به ناب هذا الظرف عن المتعلق أي مناجاة وغيرها في أربعين ليلة إن جعل (واعَدْنا) مسلوب المفاعلة وإن أبقي على ظاهره قدرنا متعلقين وعلى كلا التقديرين فانتصاب (أربعين) على الظرفية لذلك المحذوف على أن إطلاق اسم الزمان على ما يقع فيه مجاز شائع في كلام البلغاء ومنه (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ) [البقرة : ٤٨] كما تقدم والأمور التي اشتملت عليها الأربعون ليلة معلومة للمخاطبين يتذكرونها بمجرد الإلماع إليها.

وبما حررناه في قوله : (وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) تستغني عن تطويلات واحتمالات جرت في كلام الكاتبين هنا من وجوه ذكرها التفتازانيّ وعبد الحكيم وقد جمع

٤٨٢

الوجه الذي أبديناه محاسنها. وجعل الميقات ليالي لأن حسابهم كان بالأشهر القمرية.

وعطفت جملة (اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ) بحرف (ثُمَ) الذي هو في عطف الجمل للتراخي الترتيبي للإشارة إلى ترتيب في درجات عظم هذه الأحوال وعطف (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أيضا لتراخي مرتبة العفو العظيم عن عظيم جرمهم فروعي في هذا التراخي أن ما تضمنته هذه الجمل عظائم أمور في الخير وضده تنبيها على عظم سعة رحمة الله بهم قبل المعصية ، وبعدها وحذف المفعول الثاني لاتخذتم لظهوره وعلمهم به ولشناعة ذكره وتقديره معبودا أو إلها وبه تظهر فائدة ذكر (مِنْ بَعْدِهِ) لزيادة التشنيع بأنهم كانوا جديرين بانتظارهم الشريعة التي تزيدهم كمالا لا بالنكوص على أعقابهم عما كانوا عليه من التوحيد والانغماس في نعم الله تعالى وبأنهم كانوا جديرين بالوفاء لموسى فلا يحدثوا ما أحدثوا في مغيبه بعد أن رأوا معجزاته وبعد أن نهاهم عن هاته العبادة لما قالوا له : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [الأعراف : ١٣٨] الآية.

وفائدة ذكر (من) للإشارة إلى أن الاتخاذ ابتدأ من أول أزمان بعدية مغيب موسى عليه‌السلام وهذه أيضا حالة غريبة لأن شأن التغير عن العهد أن يكون بعد طول المغيب على أنه ضعف في العهد كما قال الحرث بن كلدة :

فما أدري أغيّرهم تناء

وطول العهد أم مال أصابوا

ففي قوله : (مِنْ بَعْدِهِ) تعريض بقلة وفائهم في حفظ عهد موسى.

وقوله : (مِنْ بَعْدِهِ) أي بعد مغيبه وتقدير المضاف مع بعد المضاف إلى اسم المتحدث عنه شائع في كلام العرب لظهوره بحسب المقام وإذا لم يكن ما يعنيه من المقام فالأكثر أنه يراد به بعد الموت كما في قوله تعالى : (قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً) [غافر : ٣٤] وقوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) [البقرة : ٢٤٦].

وإنما اتخذوا العجل تشبها بالكنعانيين الذين دخلوا إلى أرضهم وهم الفنيقيون سكان سواحل بلاد الشام فإنهم كانوا عبدة أوثان وكان العجل مقدسا عندهم وكانوا يمثلون أعظم الآلهة عندهم بصورة إنسان من نحاس له رأس عجل جالس على كرسي مادا ذراعيه كمتناول شيء يحتضنه وكانوا يحمونه بالنار من حفرة تحت كرسيه لا يتفطن لها الناس فكانوا يقربون إليه القرابين وربما قربوا له أطفالهم صغارا فإذا وضع الطفل على ذراعيه اشتوى فظنوا ذلك أمارة قبول القربان فتبا لجهلهم وما يصنعون. وكان يسمى عندهم

٤٨٣

«بعلا» وربما سموه «مولوك» وهم أمة سامية لغتها وعوائدها تشبه في الغالب لغة وعوائد العرب فلما مر بهم بنو إسرائيل قالوا لموسى (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف : ١٣٨] فانتهرهم موسى وكانوا يخشونه فلما ذهب للمناجاة واستخلف عليهم هارون استضعفوه وظنوا أن موسى هلك فاتخذوا العجل الذي صنعوه من ذهب وفضة من حليهم وعبدوه.

وقوله : (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) حال مقيدة لاتخذتم ليكون الاتخاذ مقترنا بالظلم من مبدئه إلى منتهاه وفائدة الحال الإشعار بانقطاع عذرهم فيما صنعوا وأن لا تأويل لهم في عبادة العجل أو لأنهم كانوا مدة إقامتهم بمصر ملازمين للتوحيد محافظين على وصية إبراهيم ويعقوب لذريتهما بملازمة التوحيد فكان انتقالهم إلى الشرك بعد أن جاءهم رسول انتقالا عجيبا. فلذلك كانوا ظالمين في هذا الصنع ظلما مضاعفا فالظاهر أن ليس المراد بالظلم في هاته الآية الشرك والكفر وإن كان من معاني الظلم في اصطلاح القرآن لظهور أن اتخاذ العجل ظلم فلا يكون للحال معه موقع. وقد اطلعت بعد هذا على «تفسير الشيخ محمد بن عرفة التونسي» فوجدته قال : (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) أي لا شبهة لكم في اتخاذه.

وقوله : (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) هو محل المنة ، وعطفه بثم لتراخي رتبة هذا العفو في أنه أعظم من جميع تلك النعم التي سبق عدها ففيه زيادة المنة فالمقصود من الكلام هو المعطوف بثم وأما ما سبق من قوله : (وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) إلخ فهو تمهيد له وتوصيف لما حفّ بهذا العفو من عظم الذنب. وقوله : (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) حال من ضمير «عفونا» مقيدة للعفو إعجابا به أي هو عفو حال حصوله بعد ذلك الذنب العظيم وليس ظرفا لغوا متعلقا بعفونا حتى يقال : إن ثم دلت على معناه فيكون تأكيدا لمدلول ثم تأخير العفو فيه وإظهار شناعته بتأخير العفو عنه وإنما جاء قوله ذلك مقترنا بكاف خطاب الواحد في خطاب الجماعة لأن ذلك لكونه أكثر أسماء الإشارة استعمالا بالإفراد إذ خطاب المفرد أكثر غلب فاستعمل لخطاب الجمع تنبيها على أن الكاف قد خرجت عن قصد الخطاب إلى معنى البعد ومثل هذا في كلام العرب كثير لأن التثنية والجمع شيئان خلاف الأصل لا يصار إليهما إلا عند تعيين معناهما فإذا لم يقصد تعيين معناهما فالمصير إليهما اختيار محض.

وقوله : (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) رجاء لحصول شكركم ، وعدل عن لام التعليل إيماء إلى أن شكرهم مع ذلك أمر يتطرقه احتمال التخلف فذكر حرف الرجاء دون حرف التعليل من بديع البلاغة فتفسير لعل بمعنى لكي يفيت هذه الخصوصية وقد تقدم كيفية دلالة لعل على

٤٨٤

الرجاء في كلام الله تعالى عند قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) إلى قوله (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة : ٢١]. ومعنى الشكر تقدم في قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الفاتحة : ٢] وللغزالي فيه باب حافل عدلنا عن ذكره لطوله فارجع إليه في كتاب «الإحياء».

[٥٣] (وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣))

هذا تذكير بنعمة نزول الشريعة التي بها صلاح أمورهم وانتظام حياتهم وتأليف جماعتهم مع الإشارة إلى تمام النعمة وهم يعدونها شعار مجدهم وشرفهم لسعة الشريعة المنزلة لهم حتى كانت كتابا فكانوا به أهل كتاب أي أهل علم تشريع.

والمراد من (الكتاب) التوراة التي أوتيها موسى فالتعريف للعهد ، ويعتبر معها ما ألحق بها على نحو ما قدمناه في قوله تعالى : (ذلِكَ الْكِتابُ) [البقرة : ٢].

والفرقان مصدر بوزن فعلان مشتق من الفرق وهو الفصل استعير لتمييز الحق من الباطل فهو وصف لغوي للتفرقة فقد يطلق على كتاب الشريعة وعلى المعجزة وعلى نصر الحق على الباطل وعلى الحجة القائمة على الحق وعلى ذلك جاءت آيات (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ) [الفرقان : ١] (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ) [الأنبياء : ٤٨] فلعله أراد المعجزات لأن هارون لم يؤت وحيا وقال : (يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) [الأنفال : ٤١] يعني يوم النصر يوم بدر وقال : (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) [آل عمران : ٤] عطفا على (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) [آل عمران : ٣] الآية.

والظاهر أن المراد به هنا المعجزة أو الحجة لئلا يلزم عطف الصفة على موصوفها إن أريد بالفرقان الكتاب الفارق بين الحق والباطل والصفة لا يجوز أن تتبع موصوفها بالعطف ومن نظر ذلك بقول الشاعر :

إلى الملك القرم وابن الهمام

وليث الكتيبة في المزدحم

فقد سها لأن ذلك من عطف بعض الصفات على بعض لا من عطف الصفة على الموصوف كما نبه عليه أبو حيان.

وقوله : (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) هو محل المنة لأن إتيان الشريعة لو لم يكن لاهتدائهم وكان قاصرا على عمل موسى به لم يكن فيه نعمة عليهم. والقول في (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) كالقول في (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة : ٥٢] السابق.

٤٨٥

[٥٤] (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤))

هذه نعمة أخرى وهي نعمة نسخ تكليف شديد عليهم كان قد جعل جابرا لما اقترفوه من إثم عبادة الوثن فحصل العفو عنهم بدون ذلك التكليف فتمت المنة وبهذا صح جعل هذه منة مستقلة بعد المنة المتضمنة لها قوله تعالى : (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) [البقرة : ٥٢] لأن العفو عن المؤاخذة بالذنب في الآخرة قد يحصل مع العقوبة الدنيوية من حد ونحوه وهو حينئذ منة إذ لو شاء الله لجعل للذنب عقابين دنيوي وأخروي كما كان المذنب النفس والبدن ولكن الله برحمته جعل الحدود جوابر في الإسلام كما في الحديث الصحيح ، فلما عفا الله عن بني إسرائيل على أن يقتلوا أنفسهم فقد تفضل بإسقاط العقوبة الأخروية التي هي أثر الذنب ، ولما نسخ تكليفهم بقتل أنفسهم فقد تفضل بذلك فصارت منتان.

فقول موسى لقومه : (إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) تشريع حكم لا يكون مثله إلا عن وحي لا عن اجتهاد ـ وإن جاز الاجتهاد للأنبياء فإن هذا حكم مخالف لقاعدة حفظ النفوس التي قيل قد اتفق عليها شرائع الله ـ فهو يدل على أنه كلفهم بقتل أنفسهم قتلا حقيقة إما بأن يقتل كل من عبد العجل نفسه فيكون المراد بالأنفس الأرواح التي في الأجسام فالفاعل والمفعول واحد على هذا وإنما اختلفا بالاعتبار كقوله (ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) وقول ابن أذينة :

وإذا وجدت لها وساوس سلوة

شفع الفؤاد إلى الضمير فسلها

وإما بأن يقتل من لم يعبدوا العجل عابديه ، وكلام التوراة في هذا الغرض في غاية الإبهام وظاهره أن موسى أمره الله أن يأمر اللاويين ـ الذين هم من سبط لاوي الذي منه موسى وهارون ـ أن يقتلوا من عبد العجل بالسيف وأنهم فعلوا وقتلوا ثلاثة آلاف نفس ثم استشفع لهم موسى فغفر الله لهم أي فيكون حكم قتل أنفسهم منسوخا بعد العمل به ويكون المعنى فليقتل بعضكم بعضا ، فالأنفس مراد بها الأشخاص كما في قوله تعالى : (فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ) [النور : ٦١] أي فليسلم بعضكم على بعض وقوله : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) [البقرة : ٨٤] أي لا يسفك بعضكم دماء بعض وقوله

٤٨٦

عقبه : (ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٨٥] فالفاعل والمفعول متغايران.

ومن الناس من حمل الأمر بقتل النفس هنا على معنى القتل المجازي وهو التذليل والقهر على نحو قول امرئ القيس : «في أعشار قلب مقتّل» وقوله : خمر مقتلة أو مقتولة ، أي مذللة سورتها بالماء. قال بجير بن زهير :

إن التي ناولتني فرددتها

قتلت قتلت فهاتها لم تقتل (١)

وفيه بعد عن اللفظ بل مخالفة لغرض الامتنان ، لأن تذليل النفس وقهرها شريعة غير منسوخة.

والظلم هنا الجناية والمعصية على حد قوله : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣].

والفاء في قوله : (فَتُوبُوا) فاء التسبب لأن الظلم سبب في الأمر بالتوبة فالفاء لتفريع الأمر على الخبر وليست هنا عاطفة عند الزمخشري وابن الحاجب إذ ليس بين الخبر والإنشاء ترتب في الوجود ، ومن النحاة من لا يرى الفاء تخرج عن العطف وهو الجاري على عبارات الجمهور مثل صاحب «مغني اللبيب» فيجعل ذلك عطف إنشاء على خبر ولا ضير في ذلك.

وذكر التوبة تقدم في قوله تعالى : (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ) [البقرة : ٣٧].

والفاء في قوله : (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) ظاهرة في أن قتلهم أنفسهم بيان للتوبة المشروعة له فتكون الفاء للترتيب الذكري وهو عطف مفصل على مجمل كقوله تعالى : (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) [النساء : ١٥٣] كما في «مغني اللبيب» وهو يقتضي أنها تفيد الترتيب لا التعقيب. وأما صاحب «الكشاف» فقد جوز فيه وجهين أحدهما تأويل الفعل المعطوف عليه بالعزم على الفعل فيكون ما بعده مرتبا عليه ومعقبا وهذا الوجه لم يذكره صاحب «المغني» وهذا لا يتأتى في قوله تعالى : (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا) ، وثانيهما جعل التوبة المطلوبة شاملة لأقوال وأعمال آخرها قتلهم أنفسهم فتكون

__________________

(١) ومن معنى القتل في التذليل جاء معنى مجازي آخر وهو إطلاق القتل على إتقان العمل لأن في الإتقان تذليلا للمصنوع من ذلك قولهم قتل اللسان علما ، وفرى الدهر خبرة وقوله تعالى : (وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً) [النساء : ١٥٧] على وجه.

٤٨٧

الفاء للترتيب والتعقيب أيضا.

وعندي أنه إذا كانت الجملة الثانية منزلة منزلة البيان من الجملة الأولى وكانت الأولى معطوفة بالفاء كان الأصل في الثانية أن تقطع عن العطف فإذا قرنت بالفاء كما في هذه الآية كانت الفاء الثانية مؤكدة للأولى ، ولعل ذلك إنما يحسن في كل جملتين تكون أولاهما فعلا غير محسوس وتكون الثانية فعلا محسوسا مبين للفعل الأول فينزل منزلة حاصل عقبه فيقرن بالفاء لأنه لا يحصل تمامه إلا بعد تقرير الفعل الأول في النفس ولذلك قربه صاحب «الكشاف» بتأويل الفعل الأول بالعزم في بعض المواضع.

والبارئ هو الخالق الخلق على تناسب وتعديل فهو أخص من الخالق ولذلك أتبع به الخالق في قوله تعالى : (هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ) [الحشر : ٢٤].

وتعبير موسى عليه‌السلام في كلامه بما يدل على معنى لفظ البارئ في العربية تحريض على التوبة لأنها رجوع عن المعصية ففيها معنى الشكر وكون الخلق على مثال متناسب يزيد تحريضا على شكر الخالق.

وقوله : (فَتابَ عَلَيْكُمْ) ظاهر في أنه من كلام الله تعالى عند تذكيرهم بالنعمة وهو محل التذكير من قوله : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) إلخ فالماضي مستعمل في بابه من الإخبار وقد جاء على طريقة الالتفات لأن المقام للتكلم فعدل عنه إلى الغيبة ورجحه هنا سبق معاد ضمير الغيبة في حكاية كلام موسى. وعطفت الفاء على محذوف إيجازا ، أي ففعلتم فتاب عليكم أو فعزمتم فتاب عليكم ، على حد (أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) [الشعراء : ٦٣] أي فضرب ، وعطف بالفاء إشارة إلى تعقيب جرمهم بتوبته تعالى عليهم وعدم تأخيرها إلى ما بعد استئصال جميع الذين عبدوا العجل بل نسخ ذلك بقرب نزوله بعد العمل به قليلا أو دون العمل به وفي ذلك رحمة عظيمة بهم إذ حصل العفو عن ذنب عظيم بدون تكليفهم توبة شاقة بل اكتفاء بمجرد ندمهم وعزمهم على عدم العود لذلك.

ومن البعيد أن يكون (فَتابَ عَلَيْكُمْ) من كلام موسى لما فيه من لزوم حذف في الكلام غير واضح القرينة ؛ لأنه يلزم تقدير شرط تقديره فإن فعلتم يتب عليكم فيكون مرادا منه الاستقبال والفاء فصيحة ، ولأنه يعرى هذه الآية عن محل النعمة المذكر به إلا تضمنا.

وجملة : (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) خبر وثناء على الله ، وتأكيده بحرف التوكيد لتنزيلهم منزلة من يشك في حصول التوبة عليهم لأن حالهم في عظم جرمهم حال من

٤٨٨

يشك في قبول التوبة عليه وإنما جمع التواب مع الرحيم لأن توبته تعالى عليهم كانت بالعفو عن زلّة اتخاذهم العجل وهي زلة عظيمة لا يغفرها إلا الغفار ، وبالنسخ لحكم قتلهم وذلك رحمة فكان للرحيم موقع عظيم هنا وليس هو لمجرد الثناء.

[٥٥ ، ٥٦] (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦))

تذكير بنعمة أخرى نشأت بعد عقاب على جفاء طبع فمحل المنة والنعمة هو قوله : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ) ، وما قبله تمهيد له وتأسيس لبنائه كما تقدم في قوله : (وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) [البقرة : ٥١] الآية. والقائلون هم أسلاف المخاطبين وذلك أنهم قالوا لموسى (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً).

والظاهر أن هذا القول وقع منهم بعد العفو عن عبادتهم العجل كما هو ظاهر ترتيب الآيات ، روى ذلك البغوي عن السدي ، وقيل : إن ذلك سألوه عند مناجاته وأن السائلين هم السبعون الذين اختارهم موسى للميقات وهم المعبر عنهم في التوراة بالكهنة وبشيوخ بني إسرائيل. وقيل : سأل ذلك جمع من عامة بني إسرائيل نحو العشرة الآلاف وهذان القولان حكاهما في «الكشاف» وليس في التوراة ما هو صريح لترجيح أحد القولين ولا ما هو صريح في وقوع هذا السؤال ولكن ظاهر ما في سفر التثنية منها ما يشير إلى أن هذا الاقتراح قد صدر وأنه وقع بعد كلام الله تعالى الأول لموسى لأنها لما حكت تذكير موسى في مخاطبة بني إسرائيل ذكرت ما يغاير كيفية المناجاة الأولى إذ قال (١) : فلما سمعتم الصوت من وسط الظلام والجبل يشتعل بالنار تقدم إليّ جميع رؤساء أسباطكم وشيوخكم وقلتم هو ذا الرب إلهنا قد أرانا مجده وعظمته وسمعنا صوته من وسط النار ... إن عند ما نسمع صوت الرب إلهنا أيضا نموت ... تقدم أنت واسمع كل ما يقول لك الرب إلهنا وكلمنا بكل ما يكلمك به الرب إلخ. فهذا يؤذن أن هنالك ترقبا كان منهم لرؤية الله تعالى وأنهم أصابهم ما بلغ بهم مبلغ الموت ، وبعد فالقرآن حجة على غيره مصدقا لما بين يديه ومهيمنا عليه. والظاهر أن ذلك كان في الشهر الثالث بعد خروجهم من مصر.

ومعنى (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ) يحتمل أنهم توقعوا الكفر إن لم يروا الله تعالى أي إنهم

__________________

(١) انظر سفر التثنية الإصحاح ٥.

٤٨٩

يرتدون في المستقبل عن إيمانهم الذي اتصفوا به من قبل ، ويحتمل أنهم أرادوا الإيمان الكامل الذي دليله المشاهدة أي إن أحد هذين الإيمانين ينتفي إن لم يروا الله جهرة لأن لن لنفي المستقبل قال سيبويه : «لا لنفي يفعل ولن لنفي سيفعل» وكما أن قولك سيقوم لا يقتضي أنه الآن غير قائم فليس في الآية ما يدل على أنهم كفروا حين قولهم هذا ولكنها دالة على عجرفتهم وقلة اكتراثهم بما أوتوا من النعم وما شاهدوا من المعجزات حتى راموا أن يروا الله جهرة وإن لم يروه دخلهم الشك في صدق موسى وهذا كقول القائل إن كان كذا فأنا كافر. وليس في القرآن ولا في غيره ما يدل على أنهم قالوا ذلك عن كفر.

وإنما عدى (نُؤْمِنَ) باللام لتضمينه معنى الإقرار بالله ولن نقر لك بالصدق والذي دل على هذا الفعل المحذوف هو اللام وهي طريقة التضمين.

والجهرة مصدر بوزن فعلة من الجهر وهو الظهور الواضح فيستعمل في ظهور الذوات والأصوات حقيقة على قول الراغب إذ قال : «الجهر ظهور الشيء بإفراط إما بحاسة البصر نحو رأيته جهارا ومنه جهر البئر إذا أظهر ماءها ، وإما بحاسة السمع نحو : (وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ) [طه : ٧]» وكلام «الكشاف» مؤذن بأن الجهر مجاز في الرؤية بتشبيه الذي يرى بالعين بالجاهر بالصوت والذي يرى بالقلب بالمخافت ، وكان الذي حداه على ذلك اشتهار استعمال الجهر في الصوت وفي هذا كله بعد إذ لا دليل على أن جهرة الصوت هي الحقيقة ولا سبيل إلى دعوى الاشتهار في جهرة الصوت حتى يقول قائل إن الاشتهار من علامات الحقيقة على أن الاشتهار إنما يعرف به المجاز القليل الاستعمال ، وأما الأشهرية فليست من علامات الحقيقة ، ولأنه لا نكتة في هذه الاستعارة ولا غرض يرجع إلى المشبه من هذا التشبيه فإن ظهور الذوات أوضح من ظهور الأصوات.

وانتصب (جهرة) على المفعول المطلق لبيان نوع فعل ترى لأن من الرؤية ما يكون لمحة أو مع سائر شفاف فلا تكون واضحة.

ووجه العدول عن أن يقول عيانا إلى قوله (جهرة) لأن جهرة أفصح لفظا لخفته ، فإنه غير مبدوء بحرف حلق والابتداء بحرف الحلق أتعب للحلق من وقوعه في وسط الكلام ولسلامته من حرف العلة وكذلك يجتبي البلغاء بعض الألفاظ على بعض لحسن وقعها في الكلام وخفتها على السمع وللقرآن السهم المعلى في ذلك وهو في غاية الفصاحة.

وقوله : (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) أي عقوبة لهم عما بدا منهم من العجرفة وقلة الاكتراث بالمعجزات. وهذه عقوبة دنيوية لا تدل على أن المعاقب عليه حرام أو كفر لا

٤٩٠

سيما وقد قدر أن موتهم بالصاعقة لا يدوم إلا قليلا فلم تكن مثل صاعقة عاد وثمود. وبه تعلم أن ليس في إصابة الصاعقة لهم دلالة على أن رؤية الله تعالى مستحيلة وأن سؤالها والإلحاح فيه كفر كما زعم المعتزلة وأن لا حاجة إلى الجواب عن ذلك بأن الصاعقة لاعتقادهم أنه تعالى يشبه الأجسام فكانوا بذلك كافرين إذ لا دليل في الآية ولا غيرها على أنهم كفروا ، كيف وقد سأل الرؤية موسى عليه‌السلام.

والصاعقة نار كهربائية من السحاب تحرق من أصابته ، وقد لا تظهر النار ولكن يصل هواؤها إلى الأحياء فيختنقون بسبب ما يخالط الهواء الذي يتنفسون فيه من الحوامض الناشئة عن شدة الكهربائية ، وقد قيل : إن الذي أصابهم نار ، وقيل : سمعوا صعقة فماتوا.

وقوله : (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) فائدة التقييد بهذا الحال عند صاحب «الكشاف» الدلالة على أن الصاعقة التي أصابتهم نار الصاعقة لا صوتها الشديد لأن الحال دلت على أن الذي أصابهم مما يرى ، وقال القرطبي أي وأنتم ينظر بعضكم إلى بعض أي مجتمعون. وعندي أين مفعول (تَنْظُرُونَ) محذوف وأن (تنظرون) بمعنى تحدقون الأنظار عند رؤية السحاب على جبل الطور طمعا أن يظهر لهم الله من خلاله لأنهم اعتادوا أن الله يكلم موسى كلاما يسمعه من خلال السحاب كما تقوله التوراة في مواضع ، ففائدة الحال إظهار أن العقوبة أصابتهم في حين الإساءة والعجرفة إذ طمعوا فيما لم يكن لينال لهم.

وقوله : (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) إيجاز بديع ، أي فمتم من الصاعقة ثم بعثناكم من بعد موتكم ، وهذا خارق عادة جعل الله معجزة لموسى استجابة لدعائه وشفاعته أو كرامة لهم من بعد تأديبهم إن كان السائلون هم السبعين فإنهم من صالحي بني إسرائيل.

فإن قلت إذا كان السائلون هم الصالحين فكيف عوقبوا؟

قلت قد علمت أن هذا عقاب دنيوي وهو ينال الصالحين ويسمى عند الصوفية بالعتاب وهو لا ينافي الكرامة ، ونظيره أن موسى سأل رؤية ربه فتجلى الله للجبل فجعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك.

فإن قلت إن الموت يقتضي انحلال التركيب المزاجي فكيف يكون البعث بعده في غير يوم إعادة الخلق؟

قلت : الموت هو وقوف حركة القلب وتعطيل وظائف الدورة الدموية فإذا حصل عن فساد فيها لم تعقبه حياة إلا في يوم إعادة الخلق وهو المعنى بقوله تعالى : (لا يَذُوقُونَ

٤٩١

فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) [الدخان : ٥٦] وإذا حصل عن حادث قاهر مانع وظائف القلب من عملها كان للجسد حكم الموت في تلك الحالة لكنه يقبل الرجوع إن عادت إليه أسباب الحياة بزوال الموانع العارضة ، وقد صار الأطباء اليوم يعتبرون بعض الأحوال التي تعطل عمل القلب اعتبار الموت ويعالجون القلب بأعمال جراحية تعيد إليه حركته. والموت بالصاعقة إذا كان عن اختناق أو قوة ضغط الصوت على القلب قد تعقبه الحياة بوصول هواء صاف جديد وقد يطول زمن هذا الموت في العادة ساعات قليلة ولكن هذا الحادث كان خارق عادة فيمكن أن يكون موتهم قد طال يوما وليلة كما روي في بعض الأخبار ويمكن دون ذلك.

[٥٧] (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧))

عطف (وَظَلَّلْنا) على (بَعَثْناكُمْ) [البقرة : ٥٦]. وتعقيب ذكر الوحشة بذكر جائزة شأن الرحيم في تربية عبده ، والظاهر أن تظليل الغمام ونزول المن والسلوى كان قبل سؤالهم رؤية الله جهرة لأن التوراة ذكرت نزول المن والسلوى حين دخولهم في برية سين بين إيليم وسينا في اليوم الثاني عشر من الشهر الثاني من خروجهم من مصر حين اشتاقوا أكل الخبز واللحم لأنهم في رحلتهم ما كانوا يطبخون بل الظاهر أنهم كانوا يقتاتون من ألبان مواشيهم التي أخرجوها معهم ومما تنبته الأرض. وأما تظليلهم بالغمام فالظاهر أنه وقع بعد أن سألوا رؤية الله لأن تظليل الغمام وقع بعد أن نصب لهم موسى خيمة الاجتماع محل القرابين ومحل مناجاة موسى وقبلة الداعين من بني إسرائيل في برية سينا فلما تمت الخيمة سنة اثنتين من خروجهم من مصر غطت سحابة خيمة الشهادة ومتى ارتفعت السحابة عن الخيمة فذلك إذن لبني إسرائيل بالرحيل فإذا حلت السحابة حلوا إلخ كذا تقول كتبهم (١). فلما سأل بنو إسرائيل الخبز واللحم كان المن ينزل عليهم في الصباح والسلوى تسقط عليهم في المساء بمقدار ما يكفي جميعهم ليومه أو ليلته إلا يوم الجمعة فينزل عليهم منهما ضعف الكمية لأن في السبت انقطاع النزول.

والمن مادة صمغية جوية ينزل على شجر البادية شبه الدقيق المبلول ، فيه حلاوة إلى الحموضة ولونه إلى الصفرة ويكثر بوادي تركستان وقد ينزل بقلة غيرها ولم يكن يعرف قبل

__________________

(١) سفر الخروج من الإصحاح ٢٥ ـ ٣٣ وسفر العدد الإصحاح ٩.

٤٩٢

في برية سينا. وقد وصفته التوراة (١) بأنه دقيق مثل القشور يسقط ندى كالجليد على الأرض وهو مثل بزر الكزبرة أبيض وطعمه كرقاق بعسل وسمته بنو إسرائيل منا ، وقد أمروا أن لا يبقوا منه للصباح لأنه يتولد فيه دود وأن يلتقطوه قبل أن تحمى الشمس لأنها تذيبه فكانوا إذا التقطوه طحنوه بالرحا أو دقوه بالهاون وطبخوه في القدور وعملوه ملات وكان طعمه كطعم قطائف بزيت (٢) وأنهم أكلوه أربعين سنة حتى جاءوا إلى طرف أرض كنعان يريد إلى حبرون.

وأما السلوى فهي اسم جنس جمعي واحدته سلواة وقيل : لا واحد له وقيل : واحده وجمعه سواء ، وهو طائر بري لذيذ اللحم سهل الصيد كانت تسوقه لهم ريح الجنوب كل مساء فيمسكونه قبضا ويسمى هذا الطائر أيضا السمانى بضم السين وفتح الميم مخففة بعدها ألف فنون مقصور كحبارى ، وهو أيضا اسم يقع للواحد والجمع ، وقيل : هو الجمع وأما الفرد فهو سماناة.

وقوله : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) مقول قول محذوف لأن المخاطبين حين نزول القرآن لم يؤمروا بذلك فدل على أنه من بقية الخبر عن أسلافهم.

وقوله : (وَما ظَلَمُونا) قدره صاحب «الكشاف» معطوفا على مقدر أي فظلموا وقرره شارحوه بأن (ما ظلمونا) نفي لظلم متعلق بمفعول معين وهو ضمير الجلالة وهذا النفي يفيد في المقام الخطابي أن هنالك ظلما متعلقا بغير هذا المنصوب إذ لو لم يكن الظلم واقعا لنفى مطلقا بأن يقال : وما ظلموا وليس المعنى عليه ، وأنه إنما قدر في «الكشاف» الفعل المحذوف مقترنا بالفاء لأن الفاء في عطف الجمل تفيد مع الترتيب والتعقيب معنى السببية غالبا ، فتكون الجملة المعطوفة متسببة عن الجملة المعطوف عليها فشبه وقوع ظلمهم حين كفروا النعمة عقب الإحسان بترتب المسبب على السبب في الحصول بلا ريث وبدون مراقبة ذلك الإحسان حتى كأنهم يأتون بالظلم جزاء للنعمة ، ورمز إلى لفظ المشبه به برديفه وهو فاء السببية وقرينة ذلك ما يعلمه السامع من أن الظلم لا يصلح لأن يكون مسببا عن الإنعام على حد قولك أحسنت إلى فلان فأساء إليّ وقوله تعالى : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) [الواقعة : ٨٢] أي تجعلون شكر رزقكم أنكم تكذبون فالفاء

__________________

(١) سفر الخروج الإصحاح ١٦.

(٢) سفر العدد الإصحاح ١١.

٤٩٣

مجاز لغير الترتب على أسلوب قولك : أنعمت عليه فكفر. ولك أن تقول إن أصل معنى الفاء العاطفة الترتيب والتعقيب لا غير وهو المعنى الملازم لها في جميع مواقع استعمالها فإن الاطراد من علامات الحقيقة. وأما الترتب أي السببية فأمر عارض لها فهو من المجاز أو من مستتبعات التراكيب ألا ترى أنه يوجد تارة ويتخلف أخرى فإنه مفقود في عطف المفردات نحو جاء زيد فعمرو وفي كثير من عطف الجمل نحو قوله تعالى : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ) [ق : ٢٢] فلذلك كان معنى السببية حيثما استفيد محتاجا إلى القرائن فإن لم تتطلب له علاقة قلت هو من مستتبعات تراكيب بقرينة المقام وإن تطلبت له علاقة ـ وهي لا تعوزك ـ قلت هو مجاز لأن أكثر الأمور الحاصلة عقب غيرها يكون موجب التعقيب فيها هو السببية ولو عرفا ولو ادعاء فليس خروج الفاء عن الترتب هو المجاز بل الأمر بالعكس.

ومما يدل على أن حقيقة الفاء العاطفة هو الترتيب والتعقيب فقط أن بعض البيانيين جعلوا قوله تعالى : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا) [القصص : ٨] اللام فيه مستعارة لمعنى فاء التعقيب أي فكان لهم عدوّا فجعلوا الفاء حقيقة في التعقيب ولو كانت للترتيب لساوت اللام فلم تستقم الاستعارة فيكون الوجه الحامل للزمخشري على تقدير المحذوف مقترنا بالفاء هو أنه رأى عطف الظلم على (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) وما بعده بالواو ولا يحسن لعدم الجهة الجامعة بين الامتنان والذم والمناسبة شرط في قبول الوصل بالواو بخلاف العطف بالفاء ، فتعين إما تقدير ظلموا مستأنفا بدون عطف وظاهر أنه ليس هنالك معنى على الاستئناف وإما ربط ظلموا بعاطف سوى الواو وليس يصلح هنا غير الفاء لأن المعطوف حصل عقب المعطوف عليه فكان ذلك التعاقب في الخارج مغنيا عن الجهة الجامعة ولذلك كانت الفاء لا تستدعي قوة مناسبة كمناسبة الواو ولكن مناسبة في الخيال فقط وقد وجدت هنا لأن كون المعطوف حصل في الخارج عقب المعطوف عليه مما يجعله حاضرا في خيال الذي يتكلم عن المعطوف عليه ، وأما قبح نحو قولك جاء زيد فصاح الديك فلقلة جدوى هذا الخبر ألا تراه يصير حسنا لو أردت بقولك فصاح الديك معنى التوقيت بالفجر فبهذا ظهر أنه لم يكن طريق لربط الظلم المقدر بالفعلين قبله إلا الفاء.

وفي ذلك الإخبار والربط والتصدي لبيانه ـ مع غرابة هذا التعقيب ـ تعريض بمذمتهم إذ قابلوا الإحسان بالكفران وفيه تعريض بغباوتهم إذ صدفوا عن الشكر كأنهم ينكون

٤٩٤

بالمنعم وهم إنما يوقعون النكاية بأنفسهم ، هذا تفصيل ما يقال على تقدير صاحب «الكشاف».

والذي يظهر لي أن لا حاجة إلى التقدير وأن جملة (وَما ظَلَمُونا) عطف على ما قبلها لأنها مثلها في أنها من أحوال بني إسرائيل ومثار ذكر هذه الجملة هو ما تضمنته بعض الجمل التي سبقت من أن ظلما قد حصل منهم من قوله : (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) [البقرة : ٥١] وقوله : (إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ) [البقرة : ٥٤] وما تضمنه قوله : (فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) [البقرة : ٥٥] الدال على أن ذلك عذاب جروه إلى أنفسهم فأتى بهذه الجملة كالفذلكة لما تضمنته الجمل السابقة نظير قوله : (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) [البقرة : ٩] عقب قوله : (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) [البقرة : ٩] ونظير قوله : (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) [سبأ : ١٩] بعد الكلام السابق وهو قوله : (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً) [سبأ : ١٨] الآية.

وغير الأسلوب في هذه الجملة إذ انتقل من خطاب بني إسرائيل إلى الحديث عنهم بضمير الغيبة لقصد الاتعاظ بحالهم وتعريضا بأنهم متمادون على غيهم وليسوا مستفيقين من ضلالهم فهم بحيث لا يقرون بأنهم ظلموا أنفسهم. وهذا الظلم الذي قدر في نظم الآية هو ضجرهم من مداومة أكل المن والسلوى الذي سيأتي ذكره بقوله تعالى : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) [البقرة : ٦١] الآية فكان قوله : (وَما ظَلَمُونا) تمهيدا له وتعجيلا بتسجيل قلة شكرهم على نعم الله وعنايته بهم إذ كانت شكيمتهم لم تلينها الزواجر ولا المكارم.

وقوله : (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) قدم فيه المفعول للقصر وقد حصل القصر أولا بمجرد الجمع بين النفي والإثبات ثم أكد بالتقديم لأن حالهم كحال من ينكي غيره كما قيل : يفعل الجاهل بنفسه ما يفعل العدو بعدوه.

[٥٨ ، ٥٩] (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩))

هذا تذكير بنعمة أخرى مكنوا منها فما أحسنوا قبولها ولا رعوها حق رعايتها فحرموا منها إلى حين وعوقب الذين كانوا السبب في عدم قبولها. وفي التذكير بهذه النعمة امتنان

٤٩٥

عليهم ببذل النعمة لهم لأن النعمة نعمة وإن لم يقبلها المنعم عليه ، وإثارة لحسرتهم على ما فات أسلافهم وما لقوه من جراء إعجابهم بآرائهم ، وموعظة لهم أن لا يقعوا فيما وقع فيه الأولون فقد علموا أنهم كلما صدفوا عن قدر حق النعم نالتهم المصائب. قال الشيخ ابن عطاء الله : من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها ، ومن شكرها فقد قيدها بعقالها.

ولعلم المخاطبين بما عنته هذه الآية اختصر فيها الكلام اختصارا ترك كثيرا من المفسرين فيها حيارى ، فسلكوا طرائق في انتزاع تفصيل المعنى من مجملها فما أتوا على شيء مقنع ، وكنت تجد أقوالهم هنا إذا التأم بعضها بنظم الآية (١) لا يلتئم بعضه الآخر ، وربما خالف جميعها ما وقع في أيام أخر.

والذي عندي من القول في تفسير هاته الآية أنها أشارت إلى قصة معلومة تضمنتها كتبهم وهي أن بني إسرائيل لما طوحت بهم الرحلة إلى برية فاران نزلوا بمدينة قادش فأصبحوا على حدود أرض كنعان التي هي الأرض المقدسة التي وعدها الله بني إسرائيل وذلك في أثناء السنة الثانية بعد خروجهم من مصر فأرسل موسى اثني عشر رجلا ليتجسسوا أرض كنعان من كل سبط رجل وفيهم يوشع بن نون وكالب بن بفنة فصعدوا وأتوا إلى مدينة حبرون فوجدوا الأرض ذات خيرات وقطعوا من عنبها ورمانها وتينها ورجعوا لقومهم بعد أربعين يوما وأخبروا موسى وهارون وجميع بني إسرائيل وأروهم ثمر الأرض وأخبروهم أنها حقا تفيض لبنا وعسلا غير أن أهلها ذوو عزة ومدنها حصينة جدا فأمر موسى كالبا فأنصت إسرائيل إلى موسى وقال إننا نصعد ونمتلكها وكذلك يوشع أما العشرة الآخرون فأشاعوا في بني إسرائيل مذمة الأرض وأنها تأكل سكانها وأن سكانها جبابرة فخافت بنو إسرائيل من سكان الأرض وجبنوا عن القتال فقام فيهم يوشع وكالب قائلين لا تخافوا من العدو فإنهم لقمة لنا والله معنا ، فلم يصغ القوم لهم وأوحى الله لموسى أن بني إسرائيل أساءوا الظن بربهم وأنه مهلكهم فاستشفع لهم موسى فعفا الله عنهم ولكنه حرمهم من الدخول إلى الأرض المقدسة أربعين سنة يتيهون فلا يدخل لها أحد من

__________________

(١) ذلك أن الآية لم تعين اسم القرية ولا عامل حطة ولا مفعوله ، وأجملت في الذين بدلوا وفي القول ما هو ، وفي الذي قيل لهم ، والقصد من ذلك تجنب ثقل إعادة الأمر المعلوم فإن بني إسرائيل المخاطبين كانوا يعلمون ذلك والمسلمين بالمدينة كانوا يتلقونه مفصلا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن مسلمي أهل الكتاب مثل عبد الله بن سلام.

٤٩٦

الحاضرين يومئذ إلا يوشع وكالبا وأرسل الله على الجواسيس العشرة المثبطين وباء أهلكهم.

فهذه الآية تنطبق على هذه القصة تمام الانطباق لا سيما إذا ضمت لها آية سورة [المائدة : ٢١ ، ٢٥] (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) إلى قوله (الْفاسِقِينَ) فقوله : (ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) الظاهر أنه أراد بها «حبرون» التي كانت قريبة منهم والتي ذهب إليها جواسيسهم وأتوا بثمارها ، وقيل : أراد من القرية الجهة كلها قاله القرطبي عن عمرو بن شبة فإن القرية تطلق على المزرعة لكن هذا يبعده قوله : (وَادْخُلُوا الْبابَ) وإن كان الباب يطلق على المدخل بين الجبلين وكيفما كان ينتظم ذلك مع قوله : (فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً) يشير إلى الثمار الكثيرة هناك. وقوله : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) يتعين أنه إشارة إلى ما أشاعه الجواسيس العشرة من مذمة الأرض وصعوبتها وأنهم لم يقولوا مثل ما قال موسى حيث استنصت الشعب بلسان كالب بن بفنّة ويوشع ويدل لذلك قوله تعالى في سورة الأعراف [١٦٢] (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً) أي من الذين قيل لهم ادخلوا القرية وأن الرجز الذي أصاب الذين ظلموا هو الوباء الذي أصاب العشرة الجواسيس ، وينتظم ذلك أيضا مع قوله في آية المائدة [٢١ ، ٢٢] (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ) إلخ وقوله : (قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ) [المائدة : ٢٣] فإن الباب يناسب القرية. وقوله : (قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ) [المائدة : ٢٦]. فهذا هو التفسير الصحيح المنطبق على التاريخ الصريح.

فقوله : (وَإِذْ قُلْنَا) أي على لسان موسى فبلغه للقوم بواسطة استنصات كالب بن بفنّة ، وهذا هو الذي يوافق ما في سورة العقود في قوله تعالى : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) الآيات. وعلى هذا الوجه فقوله : (ادْخُلُوا) إما أمر بدخول قرية قريبة منهم وهي «حبرون» لتكون مركزا أولا لهم ، والأمر بالدخول أمر بما يتوقف الدخول عليه أعني القتال كما دلت عليه آية المائدة إذ قال : (ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) إلى قوله (وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ) فإن الارتداد على الأدبار من الألفاظ المتعارفة في الحروب كما قال تعالى : (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) [الأنفال : ١٥]. ولعل في الإشارة بكلمة (هذِهِ) المفيدة للقرب ما يرجح أن القرية هي حبرون التي طلع إليها جواسيسهم.

والقرية ـ بفتح القاف لا غير على الأصح ـ البلدة المشتملة على المساكن المبنية من

٤٩٧

حجارة وهي مشتقة من القري ـ بفتح فسكون وبالياء ـ وهو الجمع يقال : قرى الشيء يقريه إذا جمعه وهي تطلق على البلدة الصغيرة وعلى المدينة الكبيرة ذات الأسوار والأبواب كما أريد بها هنا بدليل قوله : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً). وجمع القرية قرى بضم القاف على غير قياس لأن قياس فعل أن يكون جمعا لفعلة بكسر الفاء مثل كسوة وكسى وقياس جمع قرية أن يكون على قراء بكسر القاف وبالمد كما قالوا : ركوة وركاء وشكوة وشكاء.

وقوله : (وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) مراد به باب القرية لأن أل متعينة للعوضية عن المضاف إليه الدال عليه اللفظ المتقدم. ومعنى السجود عند الدخول الانحناء شكرا لله تعالى لا لأن بابها قصير كما قيل ، إذ لا جدوى له. والظاهر أن المقصود من السجود مطلق الانحناء لإظهار العجز والضعف كيلا يفطن لهم أهل القرية وهذا من أحوال الجوسسة ، ولم تتعرض لها التوراة ويبعد أن يكون السجود المأمور به سجود الشكر لأنهم داخلون متجسسين لا فاتحين وقد جاء في الحديث الصحيح أنهم بدلوا وصية موسى فدخلوا يزحفون على أستاههم كأنهم أرادوا إظهار الزمانة فأفرطوا في التصنع بحيث يكاد أن يفتضح أمرهم لأن بعض التصنع لا يستطاع استمراره.

وقوله : (وَقُولُوا حِطَّةٌ) الحطة فعلة من الحط وهو الخفض وأصل الصيغة أن تدل على الهيئة ولكنها هنا مراد بها مطلق المصدر ، والظاهر أن هذا القول كان معروفا في ذلك المكان للدلالة على العجز أو هو من أقوال السّؤّال والشحاذين كيلا يحسب لهم أهل القرية حسابا ولا يأخذوا حذرا منهم فيكون القول الذي أمروا به قولا يخاطبون به أهل القرية.

وقيل : المراد من الحطة سؤال غفران الذنوب أي حط عنا ذنوبنا أي اسألوا الله غفران ذنوبكم إن دخلتم القرية. وقيل : من الحط بمعنى حط الرحال أي إقامة أي ادخلوا قائلين إنكم ناوون الإقامة بها إذ الحرب ودخول ديار العدو يكون فتحا ويكون صلحا ويكون للغنيمة ثم الإياب. وهذان التأويلان بعيدان ولأن القراءة بالرفع وهي المشهورة تنافي القول بأنها طلب المغفرة لأن المصدر المراد به الدعاء لا يرتفع على معنى الإخبار نحو سقيا ورعيا وإنما يرتفع إذا قصد به المدح أو التعجب لقربهما من الخبر دون الدعاء ولا يستعمل الخبر في الدعاء إلا بصيغة الفعل نحو رحمه‌الله ويرحمه‌الله.

و (حطة) بالرفع على أنه مبتدأ أو خبر نحو سمع وطاعة وصبر جميل.

والخطايا جمع خطيئة ولامها مهموزة فقياس جمعها خطائئ بهمزتين بوزن فعائل

٤٩٨

فلما اجتمعت الهمزتان قلبت الثانية ياء لأن قبلها كسرة أو لأن في الهمزتين ثقلا فخففوا الأخيرة منهما ياء ثم قلبوها ألفا إما لاجتماع ثقل الياء مع ثقل صيغة الجمع وإما لأنه لما أشبه جائي استحق التخفيف ولكنهم لم يعاملوه معاملة جائي لأن همزة جائي زائدة وهمزة خطائئ أصلية ففروا بتخفيفه إلى قلب الياء ألفا كما فعلوا في يتامى ووجدوا له في الأسماء الصحيحة نظيرا وهو طهارى جمع طاهرة. والخطيئة فعيلة بمعنى مفعولة لأنها مخطوء بها أي مسلوك بها مسلك الخطأ أشاروا إلى أنها فعل يحق أن لا يقع فيه فاعله إلا خطأ فهي الذنب والمعصية.

وقوله : (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) وعد بالزيادة من خيري الدنيا والآخرة ولذلك حذف مفعول (نزيد). والواو عاطفة جملة (سَنَزِيدُ) على جملة (قُلْنَا ادْخُلُوا) أي وقلنا سنزيد المحسنين ؛ لأن جملة (سَنَزِيدُ) حكيت في سورة الأعراف [١٦١] مستأنفة فعلم أنها تعبر عن نظير لها في الكلام الذي خاطب الله به موسى على معنى الترقي في التفضل فلما حكيت هنا عطفت عطف القول على القول.

وقوله : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) أي بدل العشرة القول الذي أمر موسى بإعلانه في القوم وهو الترغيب في دخول القرية وتهوين العدو عليهم فقالوا لهم : لا تستطيعون قتالهم وثبطوهم ولذلك عوقبوا فأنزل عليهم رجز من السماء وهو الطاعون. وإنما جعل من السماء لأنه لم يكن له سبب أرضي من عدوى أو نحوها فعلم أنه رمتهم به الملائكة من السماء بأن ألقيت عناصره وجراثيمه عليهم فأصيبوا به دون غيرهم. ولأجل هذا خص التبديل بفريق معروف عندهم فعبر عنه بطريق الموصولية لعلم المخاطبين به وبتلك الصلة فدل على أن التبديل ليس من فعل جميع القوم أو معظمهم لأن الآية تذكير لليهود بما هو معلوم لهم من حوادثهم.

وإنما جاء بالظاهر في موضع المضمر في قوله : (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً) ولم يقل عليهم لئلا يتوهم أن الرجز عم جميع بني إسرائيل وبذلك تنطبق الآية على ما ذكرته التوراة تمام الانطباق.

وتبديل القول تبديل جميع ما قاله الله لهم وما حدثهم الناس عن حال القرية ، وللإشارة إلى جميع هذا بني فعل (قِيلَ) إلى المجهول إيجازا. فقولا مفعول أو لبدّل ، و (غَيْرَ الَّذِي قِيلَ) مفعول ثان لأن (بدل) يتعدى إلى مفعولين من باب كسى أي مما دل على عكس معنى كسى مثل سلبه ثوبه. قال أبو الشيص :

٤٩٩

بدّلت من برد الشباب ملاءة

خلقا وبئس مثوبة المقتاض

وفائدة إظهار لفظ القول دون أن يقال فبدلوه لدفع توهم أنهم بدلوا لفظ حطة خاصة وامتثلوا ما عدا ذلك لأنه لو كان كذلك لكان الأمر هينا. يوقد ورد في الحديث عن أبي هريرة أن القول الذي بدّلوا به أنهم قالوا : حبة في شعرة أو في شعيرة ، والظاهر أن المراد به أن العشرة استهزءوا بالكلام الذي أعلنه موسى عليه‌السلام في الترغيب في فتح الأرض وكنوا عن ذلك بأن محاولتهم فتح الأرض كمحاولة ربط حبة بشعرة أي في التعذر ، أو هو كأكل حبة مع شعرة تخنق آكلها ، أو حبّة من برّ مع شعيرة.

وقوله : (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) وقوله : (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) اعتنى فيهما بالإظهار في موضع الإضمار ليعلم أن الرجز خص الذين بدّلوا القول وهم العشرة الذين أشاعوا مذمة الأرض لأنهم كانوا السبب في شقاء أمة كاملة. وفي هذا موعظة وذكرى لكل من ينصب نفسه لإرشاد قوم ليكون على بصيرة بما يأتي ويذر وعلم بعواقب الأمور فمن البر ما يكون عقوقا ، وفي المثل «على أهلها تجني براقش» وهي اسم كلبة قوم كانت تحرسهم بالليل فدل نبحها أعداءهم عليهم فاستأصلوهم فضربت مثلا.

[٦٠] (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠))

تذكير بنعمة أخرى جمعت ثلاث نعم وهي الري من العطش ، وتلك نعمة كبرى أشد من نعمة إعطاء الطعام ولذلك شاع التمثيل بري الظمآن في حصول المطلوب. وكون السقي في مظنة عدم تحصيله وتلك معجزة لموسى وكرامة لأمته لأن في ذلك فضلا لهم. وكون العيون اثنتي عشرة ليستقل كل سبط بمشرب فلا يتدافعوا.

وقوله : (وَإِذِ) متعلق ب (اذْكُرُوا) وقد أشارت الآية إلى حادثة معروفة عند اليهود وذلك أنهم لما نزلوا في «رفيديم» قبل الوصول إلى برية سينا وبعد خروجهم من برية سين في حدود الشهر الثالث من الخروج عطشوا ولم يكن بالموضع ماء فتذمروا على موسى وقالوا أتصعدنا من مصر لنموت وأولادنا ومواشينا عطشا فدعا موسى ربه فأمره الله أن يضرب بعصاه صخرة هناك في «حوريب» فضرب فانفجر منها الماء. ولم تذكر التوراة أن العيون اثنتا عشرة عينا وذلك التقسيم من الرفق بهم لئلا يتزاحموا مع كثرتهم فيهلكوا فهذا

٥٠٠