تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٣٥

الخالصين من اليهود وغيرهم ممن سلف مثل النقباء الذين كانوا في المناجاة مع موسى ومثل يوشع بن نون كالب بن يفنة لهم هذا الحكم وهو أن لهم أجرا عند ربهم لأن إناطة الجزاء بالشرط المشتق مؤذن بالتعليل بل السابقون بفعل ذلك قبل التقييد بهذا الشرط أولى بالحكم فقد قضت الآية حق الفريقين.

ويجوز أن تكون (من) موصولة بدلا من اسم (إن) والفعل الماضي حينئذ باق على المضي لأنه ليس ثمة ما يخلصه للاستقبال ودخلت الفاء في (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) إما على أنها تدخل في الخبر نحو قول الشاعر وهو من شواهد «كتاب سيبويه».

وقائلة خولان فانكح فتاتهم

ونحو : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ) [البروج : ١٠] عند غير سيبويه. وإما على أن الموصول عومل معاملة الشرط للإيذان بالتعليل فأدخلت الفاء قرينة على ذلك. ويكون المفاد من الآية حينئذ استثناء صالحي بني إسرائيل من الحكم ، بضرب الذلة والمسكنة والغضب من الله ويكون ذكر بقية صالحي الأمم معهم على هذا إشارة إلى أن هذه سنة الله في معاملته خلقه ومجازاته كلا على فعله.

وقد استشكل ذكر (الَّذِينَ آمَنُوا) في عداد هؤلاء ، وإجراء قوله : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ) عليهم مع أنهم مؤمنون فذكرهم تحصيل للحاصل ، فقيل أريد به خصوص المؤمنين بألسنتهم فقط وهم المنافقون. وقيل أراد به الجميع وأراد بمن آمن من دام بالنسبة للمخلصين ومن أخلص بالنسبة للمنافقين. وهما جوابان في غاية البعد. وقيل : يرجع قوله : (مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) لخصوص الذين هادوا والنصارى والصابين دون المؤمنين بقرينة المقام لأنهم وصفوا بالذين آمنوا وهو حسن. وعندي أنه لا حاجة إلى شيء من ذلك ، لأن الشرط والصلة تركبت من شيئين الإيمان والعمل الصالح.

والمخلصون وإن كان إيمانهم حاصلا فقد بقي عليهم العمل الصالح فلما تركب الشرط أو الصلة من أمرين فقد علم كل أناس مشربهم وترجع كل صفة لمن يفتقر إليها كلا أو بعضا.

ومعنى (مَنْ آمَنَ بِاللهِ). الإيمان الكامل وهو الإيمان برسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقرينة المقام وقرينة قوله : (وَعَمِلَ صالِحاً) إذ شرط قبول الأعمال الإيمان الشرعي لقوله تعالى : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) [البلد : ١٧]. وقد عد عدم الإيمان برسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمنزلة عدم الإيمان بالله لأن مكابرة المعجزات ، القائمة مقام تصديق الله تعالى للرسول المتحدي بها يؤول إلى تكذيب الله تعالى في ذلك التصديق فذلك المكابر غير مؤمن بالله الإيمان الحق.

٥٢١

وبهذا يعلم أن لا وجه لدعوى كون هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) [آل عمران : ٨٥] إذ لا استقامة في دعوى نسخ الخبر إلا أن يقال إن الله أخبر به عن مؤمني أهل الكتاب والصابئين الذين آمنوا بما جاءت به رسل الله دون تحريف ولا تبديل ولا عصيان وماتوا على ذلك قبل بعثة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فيكون معنى الآية كمعنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما ذكر من يؤتى أجره مرتين : «ورجل من أهل الكتاب آمن برسوله ثم آمن بي فله أجران».

وأما القائلون بأنها منسوخة ، فأحسب أن تأويلها عندهم أن الله أمهلهم في أول تلقي دعوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إلى أن ينظروا فلما عاندوا نسخها بقوله : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) لئلا يفضي قولهم إلى دعوى نسخ الخبر.

وقوله تعالى : (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) أطلق الأجر على الثواب مجازا لأنه في مقابلة العمل الصالح والمراد به نعيم الآخرة ، وليس أجرا دنيويّا بقرينة المقام وقوله : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) عندية مجازية مستعملة في تحقيق الوعد كما تستعمل في تحقيق الإقرار في قولهم لك عندي كذا. ووجه دلالة عند في نحو هذا على التحقق أن عند دالة على المكان فإذا أطلقت في غير ما من شأنه أن يحل في مكان كانت مستعملة في لازم المكان ، وهو وجود ما من شأنه أن يكون في مكان على أن إضافة عند لاسم الرب تعالى مما يزيد الأجر تحققا لأن المضاف إليه أكرم الكرماء فلا يفوت الأجر الكائن عنده (١).

وإنما جمع الضمير في قوله : (أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) مراعاة لما صدق (من) ، وأفرد شرطها أوصلتها مراعاة للفظها. ومما حسّن ذلك هنا وجعله في الموقع الأعلى من البلاغة أن هذين الوجهين الجائزين عربية في معاد الموصولات وأسماء الشروط قد جمع بينهما على وجه أنبأ على قصد العموم في الموصول أو الشرط فلذلك أتى بالضمير الذي في صلته أو فعله مناسبا للفظه لقصد العموم ثم لما جيء بالضمير مع الخبر أو الجواب جمع

__________________

(١) ذكرني هذا التقرير في حالة الدرس قصة وهي أن النعمان بن المنذر وفد عليه وفد من العرب فيهم رجل من عبس اسمه شقيق ، فمرض فمات قبل أن يأخذ حباءه فلما بلغ ذلك النعمان أمر بوضع حبائه على قبره ثم أرسل إلى أهله فأخذوه فقال النابغة في ذلك :

أبقيت للعبسي فضلا ونعمة

ومحمدة من باقيات المحامد

حباء شقيق فوق أحجار قبره

وما كان يحبي قبله قبر وافد

أتى أهله منه حباء ونعمة

ورب امرئ يسعى لآخر قاعد

٥٢٢

ليكون عودا على بدء فيرتبط باسم (إنّ) الذي جيء بالموصول أو الشرط بدلا منه أو خبرا عنه حتى يعلم أن هذا الحكم العام مراد منه ذلك الخاص أوّلا ، كأنه قيل إن الذين آمنوا إلخ كل من آمن بالله وعمل إلخ فلأولئك الذين آمنوا أجرهم فعلم أنهم مما شمله العموم على نحو ما يذكره المناطقة في طي بعض المقدمات للعلم به ، فهو من العام الوارد على سبب خاص.

وقوله : (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) قراءة الجميع بالرفع لأن المنفي خوف مخصوص وهو خوف الآخرة. والتعبير في نفي الخوف بالخبر الاسمي وهو (لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) لإفادة نفي جنس الخوف نفيا قارا ، لدلالة الجملة الاسمية على الدوام والثبات ، والتعبير في نفي خوف بالخبر الفعلي وهو (يَحْزَنُونَ) لإفادة تخصيصهم بنفي الحزن في الآخرة أي بخلاف غير المؤمنين. ولما كان الخوف والحزن متلازمين كانت خصوصية كل منهما سارية في الآخر.

واعلم أن قوله : (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) مقابل لقوله : (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) [البقرة : ٦١] ولذلك قرن بعند الدالة على العناية والرضى. وقوله : (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) مقابل (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) [البقرة : ٦١] لأن الذلة ضد العزة فالذليل خائف لأنه يخشى العدوان والقتل والغزو ، وأما العزيز فهو شجاع لأنه لا يخشى ضرا ويعلم أن ما قدره له فهو كائن قال تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون : ٨] وقوله : (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) مقابل قوله : (وَالْمَسْكَنَةُ) لأن المسكنة تقضي على صاحبها بالحزن وتمني حسن العيش قال تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) [النحل : ٩٧] فالخوف المنفي هو الخوف الناشئ عن الذلة والحزن المنفي هو الناشئ عن المسكنة.

[٦٣ ، ٦٤] (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤))

تذكير بقصة أخرى أرى الله تعالى أسلافهم فيها بطشه ورحمته فلم يرتدعوا ولم يشكروا وهي أن أخذ الميثاق عليهم بواسطة موسى عليه‌السلام أن يعملوا بالشريعة وذلك حينما تجلى الله لموسى عليه‌السلام في الطور تجليا خاصا للجبل فتزعزع الجبل وتزلزل وارتجف وأحاط به دخان وضباب ورعود وبرق كما ورد في صفة ذلك في الفصل التاسع

٥٢٣

عشر من سفر الخروج وفي الفصل الخامس من سفر التثنية فلعل الجبل من شدة الزلازل وما ظهر حوله من الأسحبة والدخان والرعود صار يلوح كأنه سحابة ، ولذلك وصف في آية الأعراف [١٧١] بقوله : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ) (نتقه : زعزعه ونقضه) حتى يخيل إليهم أنه يهتز وهذا نظير قولهم استطاره إذا أزعجه فاضطرب فأعطوا العهد وامتثلوا لجميع ما أمرهم الله تعالى وقالوا : «كل ما تكلم الله به نفعله فقال الله لموسى فليؤمنوا بك إلى الأبد» وليس في كتب بني إسرائيل ولا في الأحاديث الصحيحة ما يدل على أن الله قلع الطور من موضعه ورفعه فوقهم وإنما ورد ذلك في أخبار ضعاف فلذلك لم نعتمده في التفسير.

وضمائر الخطاب لتحميل الخلف تبعات السلف كيلا يقعوا في مثلها وليستغفروا لأسلافهم عنها.

والميثاق في هاته الآية كالعهد في الآيات المتقدمة مراد به الشريعة ووعدهم بالعمل بها وقد سمته كتبهم عهدا كما قدمنا وهو إلى الآن كذلك في كتبهم. وهذه معجزة علمية لرسولنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

والطّور علم على جبل ببرية سينا ، ويقال إن الطور اسم جنس للجبال في لغة الكنعانيين نقل إلى العربية وأنشدوا قول العجاج :

دانى جناحيه من الطور فمر

تقضّي البازي إذا البازي كسر

فإذا صح ذلك فإطلاقه على هذا الجبل علم بالغلبة في العبرية لأنهم وجدوا الكنعانيين يذكرونه فيقولون الطور يعنون الجبل كلمة لم يسبق لهم أن عرفوها فحسبوها علما له فسموه الطور.

وقوله : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) مقول قول ، محذوف تقديره قائلين لهم خذوا ، وذلك هو الذي أخذ الميثاق عليه. والأخذ مجاز عن التلقي والتفهم. والقوة مجاز في الإيعاء وإتقان التلقي والعزيمة على العمل به كقوله تعالى : (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) [مريم : ١٢].

ويجوز أن يكون الذكر مجازا عن الامتثال أي اذكروه عند عزمكم على الأعمال حتى تكون أعمالكم جارية على وفق ما فيه ، أو المراد بالذكر التفهم بدليل حرف (في) المؤذن بالظرفية المجازية أي استنباط الفروع من الأصول.

٥٢٤

والمراد بما آتاهم ما أوحاه إلى موسى وهو الكلمات العشر التي هي قواعد شريعة التوراة.

وجملة (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) علة للأمر بقوله : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) ولذلك فصلت بدون عطف.

والرجاء الذي يقتضيه حرف (لعل) مستعمل في معنى تقريب سبب التقوى بحضهم على الأخذ بقوة ، وتعهد التذكر لما فيه ، فذلك التقريب والتبيين شبيه برجاء الراجي. ويجوز أن يكون (لعل) قرينة استعارة تمثيل شأن الله حين هيأ لهم أسباب الهداية بحال الراجي تقواهم وعلى هذا محمل موارد كلمة (لعل) في الكلام المسند إلى الله تعالى. وتقدم عند قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) [البقرة : ٢١] الآية.

وقوله : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) إشارة إلى عبادتهم العجل في مدة مناجاة موسى وأن الله تاب عليهم بفضله ولو لا ذلك لكانوا من الخاسرين الهالكين في الدنيا أو فيها وفي الآخرة.

ولا حاجة بنا إلى الخوض في مسألة التكليف الإلجائي ومنافاة الإلجاء للتكليف وهي مسألة تكليف الملجأ ، المذكورة في الأصول لأنها بنيت هنا على أطلال الأخبار المروية في قلع الطور ورفعه فوقهم وقول موسى لهم إما أن تؤمنوا أو يقع عليكم الطور ، على أنه لو صحت تلك الأخبار لما كان من الإلجاء في شيء إذ ليس نصب الآيات والمعجزات والتخويف من الإلجاء وإنما هو دلالة وبرهان على صدق الرسول وصحة ما جاء به والممتنع في التكليف هو التكليف في حالة الإلجاء لا التخويف لإتمام التكليف ، فلا تغفلوا.

[٦٥ ، ٦٦] (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦))

هذه من جملة الأخبار التي ذكرها الله تعالى تذكيرا لليهود بما أتاه سلفهم من الاستخفاف بأوامر الله تعالى وبما عرض في خلال ذلك من الزواجر والرحمة والتوبة ، وإنما خالف في حكاية هاته القصة أسلوب حكاية ما تقدمها وما تلاها من ذكر (إِذْ) [البقرة : ٦٣] المؤذنة بزمن القصة والمشعرة بتحقق وقوعها إلى قوله هنا : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ) لمعنى بديع هو من وجوه إعجاز القرآن وذلك أن هذه القصة المشار إليها بهذه الآية ليست

٥٢٥

من القصص التي تضمنتها كتب التوراة مثل القصص الأخرى المأتي في حكايتها بكلمة (إذ) لأنها متواترة عندهم بل هذه القصة وقعت في زمن داود عليه‌السلام ، فكانت غير مسطورة في الأسفار القديمة وكانت معروفة لعلمائهم وأحبارهم فأطلع الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليها وتلك معجزة غيبية وأوحى إليه في لفظها ما يؤذن بأن العلم بها أخفى من العلم بالقصص الأخرى فأسند الأمر فيها لعلمهم إذ قال : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ).

والاعتداء وزنه افتعال من العدو وهو تجاوز حد السير والحد والغاية. وغلب إطلاق الاعتداء على مخالفة الحق وظلم الناس والمراد هنا اعتداء الأمر الشرعي لأن الأمر الشرعي يشبّه بالحد في أنه يؤخذ بما شمله ولا يؤخذ بما وراءه والاعتداء الواقع منهم هو اعتداء أمر الله تعالى إياهم من عهد موسى بأن يحافظوا على حكم السبت وعدم الاكتساب فيه ليتفرغوا فيه للعبادة بقلب خالص من الشغل بالدنيا ، فكانت طائفة من سكان أيلة (١) على البحر رأوا تكاثر الحيتان يوم السبت بالشاطئ لأنها إذا لم تر سفن الصيادين وشباكهم أمنت فتقدمت إلى الشاطئ تفتح أفواهها في الماء لابتلاع ما يكون على الشواطئ من آثار الطعام ومن صغير الحيتان وغيرها فقالوا لو حفرنا لها حياضا وشرعنا إليها جداول يوم الجمعة فتمسك الحياض الحوت إلى يوم الأحد فنصطادها وفعلوا ذلك فغضب الله تعالى عليهم لهذا الحرص على الرزق أو لأنهم يشغلون بالهم يوم السبت بالفكر فيما تحصّل لهم أو لأنهم تحيلوا على اعتياض العمل في السبت ، وهذا الذي أحسبه لما اقترن به من الاستخفاف واعتقادهم أنهم علموا ما لم تهتد إليه شريعتهم فعاقبهم الله تعالى بما ذكره هنا.

فقوله : (فِي السَّبْتِ) يجوز أن تكون (في) للظرفية. والسبت مصدر سبت اليهودي من باب ضرب ونصر بمعنى احترم السبت وعظمه. والمعنى اعتدوا في حال تعظيم السبت أو في زمن تعظيم السبت. ويجوز أن تكون (في) للعلة أي اعتدوا اعتداء لأجل ما أوجبه احترام السبت من قطع العمل. ولعل تحريم الصيد فيه ليكون أمنا للدواب.

ويجوز أن تكون (في) ظرفية والسبت بمعنى اليوم وإنما جعل الاعتداء فيه مع أن

__________________

(١) أيلة : بفتح الهمزة وبتاء تأنيث في آخره بلدة على خليج صغير من البحر الأحمر في أطراف مشارف الشام وتعرف اليوم بالعقبة وهي غير إيلياء بكسر الهمزة وبياءين ممدودتين الذي هو اسم بيت المقدس.

٥٢٦

الحفر في يوم الجمعة لأن أثره الذي ترتب عليه العصيان وهو دخول الحيتان للحياض يقع في يوم السبت.

وقوله : (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) كونوا أمر تكوين والقردة ـ بكسر القاف وفتح الراء ـ جمع قرد وتكوينهم قردة يحتمل أن يكون بتصيير أجسامهم أجسام قردة مع بقاء الإدراك الإنساني وهذا قول جمهور العلماء والمفسرين ، ويحتمل أن يكون بتصيير عقولهم كعقول القردة مع بقاء الهيكل الإنساني ، وهذا قول مجاهد والعبرة حاصلة على كلا الاعتبارين والأول أظهر في العبرة لأن فيه اعتبارهم بأنفسهم واعتبار الناس بهم بخلاف الثاني والثاني أقرب للتاريخ إذ لم ينقل مسخ في كتب تاريخ العبرانيين ، والقدرة صالحة للأمرين والكل معجزة للشريعة أو لداود ولذلك قال الفخر : ليس قول مجاهد ببعيد جدا لكنه خلاف الظاهر من الآية وليس الآية صريحة في المسخ.

ومعنى كونهم قردة أنهم لما لم يتلقوا الشريعة بفهم مقاصدها ومعانيها وأخذوا بصورة الألفاظ فقد أشبهوا العجماوات في وقوفها عند المحسوسات فلم يتميزوا عن العجماوات إلا بالشكل الإنساني وهذه القردة تشاركهم في هذا الشبه وهذا معنى قول مجاهد هو مسخ قلوب لا مسخ ذوات.

ثم إن القائلين بوقوع المسخ في الأجسام اتفقوا أو كادوا على أن الممسوخ لا يعيش أكثر من ثلاثة أيام وأنه لا يتناسل وروى ذلك ابن مسعود عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في «صحيح مسلم» أنه قال : «لم يهلك الله قوما أو يعذب قوما فيجعل لهم نسلا» وهو صريح في الباب ومن العلماء من جوز تناسل الممسوخ وزعموا أن الفيل والقرد والضب والخنزير من الأمم الممسوخة وقد كانت العرب تعتقد ذلك في الضب قال أحد بني سليم وقد جاء لزوجه بضب فأبت أن تأكله :

قالت وكنت رجلا فطينا

هذا لعمر الله إسرائينا

حتى قال بعض الفقهاء بحرمة أكل الفيل ونحوه بناء على احتمال أن أصله نسل آدمي قال ابن الحاجب «وأما ما يذكر أنه ممسوخ كالفيل والقرد والضب ففي المذهب الجواز لعموم الآية والتحريم لما يذكر» أي لعموم آية المأكولات ، وصحح صاحب «التوضيح» عن مالك الجواز وقد روى مسلم في أحاديث متفرقة من آخر «صحيحه» عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «فقدت أمة من بني إسرائيل لا يدرى ما فعلت ولا أراها إلا الفأر ، ألا ترونها إذا وضع لها ألبان الإبل لم تشربه وإذا وضع لها ألبان الشاء شربته» ا ه. وقد تأوله

٥٢٧

ابن عطية وابن رشد في «البيان» وغير واحد من العلماء بأن هذا قاله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن اجتهاد قبل أن يوقفه الله على أن الممسوخ لا يعيش أكثر من ثلاثة أيام ولا يتناسل كما هو صريح حديث ابن مسعود ، قلت : يؤيد هذا أنه قال عن اجتهاد قوله : «ولا أراها». ولا شك أن هاته الأنواع من الحيوان موجودة قبل المسخ وأن المسخ إليها دليل على وجودها ومعرفة الناس بها.

وهذا الأمر التكويني كان لأجل العقوبة على ما اجترءوا من الاستخفاف بالأمر الإلهي حتى تحيلوا عليه وفي ذلك دليل على أن الله تعالى لا يرضى بالحيل على تجاوز أوامره ونواهيه فإن شرائع الله تعالى مشروعة لمصالح وحكم فالتحيل على خرق تلك الحكم بإجراء الأفعال على صور مشروعة مع تحقق تعطيل الحكمة منها جراءة ، على الله تعالى ، ولا حجة لمن ينتحل جواز الحيل بقوله تعالى في قصة أيوب : (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ) [ص : ٤٤] لأن تلك فتوى من الله تعالى لنبي لتجنب الحنث الذي قد يتفادى عنه بالكفارة ولكن الله لم يرض أصل الحنث لنبيه لأنه خلاف الأولى فأفتاه بما قاله ، وذلك مما يعين على حكمة اجتناب الحنث لأن فيه محافظة على تعظيم اسم الله تعالى فلا فوات للحكمة في ذلك ، ومسألة الحيل الشرعية لعلنا نتعرض لها في سورة ص وفيها تمحيص.

وقوله : (فَجَعَلْناها نَكالاً) عاد فيه الضمير على العقوبة المستفادة من قوله : (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً). والنكال بفتح النون العقاب الشديد الذي يردع المعاقب عن العود للجناية ويردع غيره عن ارتكاب مثلها ، وهو مشتق من نكل إذا امتنع ويقال نكّل به تنكيلا ونكالا معنى عاقبه بما يمنعه من العود. والمراد بما بين يديها وما خلفها ما قارنها من معاصيهم وما سبق يعني أن تلك الفعلة كانت آخر ما فعلوه فنزلت العقوبة عندها ولما بين يديها من الأمم القريبة منها ولما خلفها من الأمم البعيدة. والموعظة ما به الوعظ وهو الترهيب من الشر.

[٦٧] (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧))

تعرضت هذه الآية لقصة من قصص بني إسرائيل ظهر فيها من قلة التوقير لنبيهم ومن الإعنات في المسألة والإلحاح فيها إما للتفصي من الامتثال وإما لبعد أفهامهم عن مقصد

٥٢٨

الشارع ورومهم التوقيف على ما لا قصد إليه. قيل : إن أول هذه القصة هو المذكور بقوله تعالى : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها) [البقرة : ٧٢] الآية وإن قول موسى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) ناشئ عن قتل النفس المذكورة ، وإن قول موسى قدم هنا لأن خطاب موسى عليه‌السلام لهم قد نشأ عنه ضرب من مذامهم في تلقي التشريع وهو الاستخفاف بالأمر حين ظنوه هزؤا والإعنات في المسألة فأريد من تقديم جزء القصة تعدد تقريعهم ، هكذا ذكر صاحب «الكشاف» والموجهون لكلامه ، ولا يخفى أن ما وجهوا به تقديم جزء القصة لا يقتضي إلا تفكيك القصة إلى قصتين تعنون كل واحدة منهما بقوله : (وَإِذْ) مع بقاء الترتيب ، على أن المذام قد تعرف بحكايتها والتنبيه عليها بنحو قوله : (أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) وقوله : (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) [البقرة : ٧١].

فالذي يظهر لي أنهما قصتان أشارت الأولى وهي المحكية هنا إلى أمر موسى إياهم بذبح بقرة وهذه هي القصة التي أشارت إليها التوراة في السفر الرابع وهو سفر التشريع الثاني (تثنية) في الإصحاح ٢١ أنه «إذا وجد قتيل لا يعلم قاتله فإن أقرب القرى إلى موقع القتيل يخرج شيوخها ويخرجون عجلة من البقر لم يحرث عليها ولم تنجر بالنير فيأتون بها إلى واد دائم السيلان لم يحرث ولم يزرع ويقطعون عنقها هنا لك ويتقدم الكهنة من بني لاوى فيغسل شيوخ تلك القرية أيديهم على العجلة في الوادي ويقولون لم تسفك أيدينا هذا الدم ولم تبصر أعيننا سافكه فيغفر لهم الدم» ا ه. هكذا ذكرت القصة بإجمال أضاع المقصود وأبهم الغرض من هذا الذبح أهو إضاعة ذلك الدم باطلا أم هو عند تعذر معرفة المتهم بالقتل؟ وكيفما كان فهذه بقرة مشروعة عند كل قتل نفس جهل قاتلها وهي المشار إليها هنا ، ثم كان ما حدث من قتل القتيل الذي قتله أبناء عمه وجاءوا مظهرين المطالبة بدمه وكانت تلك النازلة نزلت في يوم ذبح البقرة فأمرهم الله بأن يضربوا القتيل ببعض تلك البقرة التي شأنها أن تذبح عند جهل قاتل نفس. وبذلك يظهر وجه ذكرهما قصتين وقد أجمل القرآن ذكر القصتين لأن موضع التذكير والعبرة منهما هو ما حدث في خلالهما لا تفصيل الوقائع فكانت القصة الأولى تشريعا سيق ذكره لما قارنه من تلقيهم الأمر بكثرة السؤال الدال على ضعف الفهم للشريعة وعلى تطلب أشياء لا ينبغي أن يظن اهتمام التشريع بها ، وكانت القصة الثانية منة عليهم بآية من آيات الله ومعجزة من معجزات رسولهم بينها الله لهم ليزدادوا إيمانا ولذلك ختمت بقوله : (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [البقرة : ٧٣] وأتبعت بقوله : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) [البقرة : ٧٤].

٥٢٩

والتأكيد في قوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ) حكاية لما عبر به موسى من الاهتمام بهذا الخبر الذي لو وقع في العربية لوقع مؤكدا بإنّ.

وقولهم : (تَتَّخِذُنا هُزُواً) استفهام حقيقي لظنهم أن الأمر بذبح بقرة للاستبراء من دم قتيل كاللعب و (تَتَّخِذُنا) بمعنى تجعلنا وسيأتي بيان أصل فعل اتخذ عند قوله تعالى : (أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً) في سورة الأنعام [٧٤].

والهزؤ بضم الهمزة والزاي وبسكون الزاي مصدر هزأ به هزءا وهو هنا مصدر بمعنى المفعول كالصيد والخلق.

وقرأ الجمهور (هزؤا) بضمتين وهمز بعد الزاي وصلا ووقفا ، وقرأ حمزة بسكون الزاي وبالهمز وصلا ، ووقف عليه بتخفيف الهمز واوا وقد رسمت في المصحف واوا ، وقرأ حفص بضم الزاي وتخفيف الهمز واوا في الوصل والوقف.

وقول موسى : (أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) تبرؤ وتنزه عن الهزء لأنه لا يليق بالعقلاء الأفاضل فإنه أخص من المزح لأن في الهزؤ مزحا مع استخفاف واحتقار للمزوح معه على أن المزح لا يليق في المجامع العامة والخطابة ، على أنه لا يليق بمقام الرسول ولذا تبرأ منه موسى بأنه نفى أن يكون من الجاهلين كناية عن نفي المزح بنفي ملزومه ، وبالغ في التنزه بقوله (أَعُوذُ بِاللهِ) أي منه لأن العياذ بالله أبلغ كلمات النفي فإن المرء لا يعوذ بالله إلا إذا أراد التغلب على أمر عظيم لا يغلبه إلا الله تعالى. وصيغة (أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) أبلغ في انتفاء الجهالة من أن لو قال أعوذ بالله أن أجهل كما سيأتي في سورة الأنعام [٥٦] عند قوله : (وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ).

والجهل ضد العلم وضد الحلم وقد ورد لهما في كلام العرب ، فمن الأول قول عمرو بن كلثوم :

ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا

ومن الثاني قول الحماسي :

فليس سواء عالم وجهول

وقول النابغة :

وليس جاهل شيء مثل من علما

٥٣٠

[٦٨] (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨))

جيء في مراجعتهم لنبيهم بالطريقة المألوفة في حكاية المحاورات ، وهي طريقة حذف العاطف بين أفعال القول وقد بيناها لكم في قصة خلق آدم.

ومعنى (ادْعُ لَنا) يحتمل أن يراد منه الدعاء الذي هو طلب بخضوع وحرص على إجابة المطلوب فيكون في الكلام رغبتهم في حصول البيان لتحصيل المنفعة المرجوة من ذبح بقرة مستوفية للصفات المطلوبة في القرابين المختلفة المقاصد ، بنوه على ما ألفوه من الأمم عبدة الأوثان من اشتراط صفات وشروط في القرابين المقربة تختلف باختلاف المقصود من الذبيحة ، ويحتمل أنهم أرادوا مطلق السؤال فعبروا عنه بالدعاء لأنه طلب من الأدنى إلى الأعلى ، ويحتمل أنهم أرادوا من الدعاء النداء الجهير بناء على وهمهم أن الله بعيد المكان ، فسائله يجهر بصوته ، وقد نهي المسلمون عن الجهر بالدعاء في صدر الإسلام.

واللام في قوله (لَنا) لام الأجل أي ادع عنا ، وجزم (يُبَيِّنْ) في جواب (ادْعُ) لتنزيل المسبب منزلة السبب ، أي إن تدعه يسمع فيبين وقد تقدم.

وقوله : (ما هِيَ) حكى سؤالهم بما يدل عليه بالسؤال ب (ما) في كلام العرب وهو السؤال عن الصفة لأن (ما) يسأل بها عن الصفة ، كما يقول من يسمع الناس يذكرون حاتما أو الأحنف وقد علم أنهما رجلان ولم يعلم صفتيهما ما حاتم؟ أو ما الأحنف؟ فيقال : كريم أو حليم.

وليس (ما) موضوعة للسؤال عن الجنس كما توهمه بعض الواقفين على كلام «الكشاف» فتكلفوا لتوجيهه حيث إن جنس البقرة معلوم بأنهم نزلوا هاته البقرة المأمور بذبحها منزلة فرد من جنس غير معلوم لغرابة حكمة الأمر بذبحها وظنوا أن الموقع هنا للسؤال ب (أي) أو (كيف) وهو وهم نبه عليه التفتازانيّ في «شرح الكشاف» واعتضد له بكلام «المفتاح» إذ جعل الجنس والصفة قسمين للسؤال بما.

والحق أن المقام هنا للسؤال بما لأن أيّا إنما يسأل بها عن مميز الشيء عن أفراد من نوعه التبست به وعلامة ذلك ذكر المضاف إليه مع أي نحو : (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ) [مريم : ٧٣] وأي البقرتين أعجبتك وليس لنا هنا بقرات معينات يراد تمييز إحداها.

٥٣١

وقوله : (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ) أكد مقول موسى ومقول الله تعالى بإن لمحاكاة ما اشتمل عليه كلام موسى من الاهتمام بحكاية قول الله تعالى فأكده بإن ، وما اشتمل عليه مدلول كلام الله تعالى لموسى من تحقيق إرادته ذلك تنزيلا لهم منزلة المنكرين لما بدا من تعنتهم وتنصلهم ، ويجوز أن يكون التأكيد الذي في كلام موسى لتنزيلهم منزلة أن يكون الله قال لموسى ذلك جريا على اتهامهم السابق في قولهم : (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) [البقرة : ٦٧] جوابا عن قوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ).

ووقع قوله : (لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ) موقع الصفة لبقرة وأقحم فيه حرف (لا) لكون الصفة بنفي وصف ثم بنفي آخر على معنى إثبات وصف واسطة بين الوصفين المنفيين فلما جيء بحرف (لا) أجري الإعراب على ما بعده لأن (لا) غير عاملة شيئا فيعتبر ما قبل لا على عمله فيما بعدها سواء كان وصفا كما هنا وقوله تعالى : (زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) [النور : ٣٥] وقول جويرية أو حويرثة بن بدر الرامي :

وقد أدركتني والحوادث جمة

أسنة قوم لا ضعاف ولا عزل

أو حالا كقول الشاعر وهو من شواهد النحو :

قهرت العدا لا مستعينا بعصبة

ولكن بأنواع الخدائع والمكر (١)

أو مضافا كقول النابغة :

وشيمة لاوان لا واهن القوى

وجدّ إذا خاب المفيدون صاعد

أو خبر مبتدأ كما وقع في حديث أم زرع قول الأولى : «لا سهل فيرتقى ، ولا سمين فينتقل» على رواية الرفع ـ أي هو أي الزوج ـ لا سهل ولا سمين. وجمهور النحاة أن لا هذه يجب تكريرها في الخبر والنعت والحال أي بأن يكون الخبر ونحوه شيئين فأكثر فإن لم يكن كذلك لم يجز إدخال (لا) في الخبر ونحوه وجعلوا بيت جويرية أو حويرثة ضرورة وخالف فيه المبرد. وليست (لا) في مثل هذا بعاملة عمل ليس ولا عمل إن ، وذكر النحاة لهذا الاستعمال في أحد هذين البابين لمجرد المناسبة.

واعلم أن نفي وصفين بحرف (لا) قد يستعمل في إفادة إثبات وصف ثالث هو وسط بين حالي ذينك الوصفين مثل ما في هذه الآية بدليل قوله : (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) ومثل قوله

__________________

(١) بفتح التاء للخطاب.

٥٣٢

تعالى : (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ) [النساء : ١٤٣] وقد يستعمل في إرادة مجرد نفي ذينك الوصفين لأنهما مما يطلب في الغرض الواردين فيه ولا يقصد إثبات وصف آخر وسط بينهما وهو الغالب كقوله تعالى : (فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) [الواقعة : ٤٢ ـ ٤٤].

والفارض المسنة لأنها فرضت سنها أي قطعتها ، والفرض القطع ويقال للقديم فارض. والبكر الفتية مشتقة من البكرة بالضم وهي أول النهار لأن البكر في أول السنوات عمرها والعوان هي المتوسطة السن.

وإنما اختيرت لهم العوان لأنها أنفس وأقوى ولذلك جعلت العوان مثلا للشدة في قول النابغة :

ومن يتربّص الحدثان تنزل

بمولاه عوان غير بكر

أي مصيبة عوان أي عظيمة. ووصفوا الحرب الشديدة فقالوا : حرب عوان.

وقوله : (بَيْنَ ذلِكَ) أي بين هذين السنين ، فالإشارة للمذكور المتعدد. ولهذا صحت إضافة بين لاسم الإشارة كما تضاف للضمير الدال على متعدد وإن كان كلمة واحدة في نحو بينها. وإفراد اسم الإشارة على التأويل بالمذكور كما تقدم قريبا عند قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) [البقرة : ٦١].

وجاء في جوابهم بهذا الإطناب دون أن يقول من أول الجواب إنها عوان تعريضا بغباوتهم واحتياجهم إلى تكثير التوصيف حتى لا يترك لهم مجالا لإعادة السؤال.

فإن قلت : هم سألوا عن صفة غير معينة فمن أين علم موسى أنهم سألوا عن السن؟ ومن أين علم من سؤالهم الآتي ب (ما هِيَ) أيضا أنهم سألوا عن تدربها على الخدمة؟

قلت : يحتمل أن يكون (ما هِيَ) اختصارا لسؤالهم المشتمل على البيان وهذا الاختصار من إبداع القرآن اكتفاء بما يدل عليه الجواب ، ويحتمل أن يكون ما حكى في القرآن مرادف سؤالهم فيكون جواب موسى عليه‌السلام بذلك لعلمه بأن أول ما تتعلق به أغراض الناس في معرفة أحوال الدواب هو السن فهو أهم صفات الدابة ولما سألوه عن اللون ثم سألوا السؤال الثاني المبهم علم أنه لم يبق من الصفات التي تختلف فيها مقاصد الناس من الدواب غير حالة الكرامة أي عدم الخدمة لأن ذلك أمر ضعيف إذ قد تخدم الدابة النفيسة ثم يكرمها من يكتسبها بعد ذلك فتزول آثار الخدمة وشعثها.

٥٣٣

وقوله : (فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ) الفاء للفصيحة وموقعها هنا موقع قطع العذر مع الحث على الامتثال كما هي في قول عباس بن الأحنف :

قالوا خراسان أقصى ما يراد بنا

ثم القفول فقد جئنا خراسانا

أي فقد حصل ما تعللتم به من طول السفر. والمعنى فبادروا إلى ما أمرتم به وهو ذبح البقرة ، و (ما) موصولة والعائد محذوف بعد حذف جاره على طريقة التوسع لأنهم يقولون أمرتك الخير ، فتوسلوا بحذف الجار إلى حذف الضمير.

وفي حث موسى إياهم على المبادرة بذبح البقرة بعد ما كلفوا به من اختيارها عوانا دليل على أنهم مأمورون بذبح بقرة ما غير مراد منها صفة مقيدة لأنه لما أمرهم بالمبادرة بالذبح حينئذ علمنا وعلموا أن ما كلفوا به بعد ذلك من طلب أن تكون صفراء فاقعة وأن تكون سالمة من آثار الخدمة ليس مما أراده الله تعالى عند تكليفهم أول الأمر وهو الحق ، إذ كيف تكون تلك الأوصاف مرادة مع أنها أوصاف طردية لا أثر لها في حكمة الأمر بالذبح لأنه سواء كان أمرا بذبحها للصدقة أو للقربان أو للرش على النجس أو للقسامة فليس لشيء من هاته الصفات مناسبة للحكم ، وبذلك يعلم أن أمرهم بهاته الصفات كلها هو تشريع طارئ قصد منه تأديبهم على سؤالهم فإن كان سؤالهم للمطل والتنصل فطلب تلك الصفات المشقة عليهم تأديب على سوء الخلق والتذرع للعصيان ، وإن كان سؤالا ناشئا عن ظنهم أن الاهتمام بهاته البقرة يقتضي أن يراد منها صفات نادرة كما هو ظاهر قولهم بعد : (وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) [البقرة : ٧٠] فتكليفهم بهاته الصفات العسير وجودها مجتمعة تأديب علمي على سوء فهمهم في التشريع كما يؤدّب طالب العلم إذا سأل سؤالا لا يليق برتبته في العلم. وقد قال عمر لأبي عبيدة في واقعة الفرار من الطاعون «لو غيرك قالها يا أبا عبيدة». ومن ضروب التأديب الحمل على عمل شاق ، وقد أدب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عمه عباسا رضي‌الله‌عنه على الحرص حين حمل من خمس مال المغنم أكثر من حاجته فلم يستطع أن يقله فقال له : مر أحدا رفعه لي فقال : لا آمر أحدا فقال له : ارفعه أنت لي فقال : لا ، حتى جعل العباس يحثو من المال ويرجعه لصبرته إلى أن استطاع أن يحمل ما بقي فذهب والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتبعه بصره تعجبا من حرصه كما في «صحيح البخاري».

ومما يدل على أنه تكليف لقصد التأديب أن الآية سيقت مساق الذم لهم ، وعدت القصة في عداد قصص مساويهم وسوء تلقيهم للشريعة بأصناف من التقصير عملا وشكرا وفهما بدليل قوله تعالى آخر الآيات : (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) [البقرة : ٧١] مع ما روي عن ابن

٥٣٤

عباس أنه قال : لو ذبحوا أي بقرة أجزأتهم ولكن شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم.

وبهذا تعلمون أن ليس في الآية دليل على تأخير البيان عن وقت الخطاب ولا على وقوع النسخ قبل التمكن لأن ما طرأ تكليف خاص للإعنات ، على أن الزيادة على النص ليست بنسخ عند المحققين ، وتسميتها بالنسخ اصطلاح القدماء.

[٦٩] (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩))

سألوا ب (ما) عن ماهية اللون وجنسه لأنه ثاني شيء تتعلق به أغراض الراغبين في الحيوان. والقول في جزم : (يُبَيِّنْ) وفي تأكيد (إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ) كالقول في الذي تقدم.

وقوله : (صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها) احتيج إلى تأكيد الصفرة بالفقوع وهو شدة الصفرة لأن صفرة البقر تقرب من الحمرة غالبا فأكده بفاقع والفقوع خاص بالصفرة ، كما اختص الأحمر بقان والأسود بحالك ، والأبيض بيقق ، والأخضر بمدهامّ ، والأورق بخطباني (نسبة إلى الخطبان بضم الخاء وهو نبت كالهليون) ، والأرمك وهو الذي لونه لون الرماد برداني (براء في أوله) والردان الزعفران كذا في الطيبي (ووقع في «الكشاف» و«الطيبي» بألف بعد الدال ووقع في «القاموس» أنه بوزن صاحب) وضبط الراء في نسخة من «الكشاف» ونسخة من «حاشية القطب» عليه ونسخة من «حاشية الهمداني» عليه بشكل ضمة على الراء وهو مخالف لما في «القاموس».

والنصوع يعم جميع الألوان ، وهو خلوص اللون من أن يخالطه لون آخر.

ولونها إما فاعل بفاقع أو مبتدأ مؤخر وإضافته لضمير البقرة دلت على أنه اللون الأصفر فكان وصفه بفاقع وصفا حقيقيا ولكن عدل عن أن يقال صفراء فاقعة إلى (صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها) ليحصل وصفها بالفقوع مرتين إذ وصف اللون بالفقوع ، ثم لما كان اللون مضافا لضمير الصفراء كان ما يجري عليه من الأوصاف جاريا على سببيه (على نحو ما قاله صاحب «المفتاح» في كون المسند فعلا من أن الفعل يستند إلى الضمير ابتداء ثم بواسطة عود ذلك الضمير إلى المبتدأ يستند إلى المبتدأ في الدرجة الثانية) وقد ظن الطيبي في «شرح الكشاف» أن كلام صاحب «الكشاف» مشير إلى أن إسناد (فاقع) للونها مجاز عقلي وهو وهم إذ ليس من المجاز العقلي في شيء. وأما تمثيل صاحب «الكشاف» بقوله جد

٥٣٥

جده فهو تنظير في مجرد إفادة التأكيد.

وقوله : (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) أي تدخل رؤيتها عليهم مسرة في نفوسهم ، والمسرة لذة نفسية تنشأ عن الإحساس بالملائم أو عن اعتقاد حصوله ومما يوجبها التعجب من الشيء والإعجاب به. وهذا اللون من أحسن ألوان البقر فلذلك أسند فعل (تَسُرُّ) إلى ضمير البقرة لا إلى ضمير اللون فلا يقتضي أن لون الأصفر مما يسر الناظرين مطلقا. والتعبير بالناظرين دون الناس ونحوه للإشارة إلى أن المسرة تدخل عليهم عند النظر إليها من باب استفادة التعليل من التعليق بالمشتق.

[٧٠ ، ٧١] (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١))

(قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ).

القول في (ما هِيَ) كالقول في نظيره ، فإن كان الله تعالى حكى مرادف كلامهم بلغة العرب فالجواب لهم ب (إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ) لما علم من أنه لم يبق من الصفات التي تتعلق الأغراض بها إلا الكرامة والنفاسة ، وإن كان المحكي في القرآن اختصارا لكلامهم فالأمر ظاهر. على أن الله قد علم مرادهم فأنبأهم به.

وجملة (إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) مستأنفة استئنافا بيانيا لأنهم علموا أن إعادتهم السؤال توقع في نفس موسى تساؤلا عن سبب هذا التكرير في السؤال ، وقولهم (إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا) اعتذار عن إعادة السؤال ، وإنما لم يعتذروا في المرتين الأوليين واعتذروا الآن لأن للثالثة في التكرير وقعا في النفس في التأكيد والسآمة وغير ذلك ولذلك كثر في أحوال البشر وشرائعهم التوقيت بالثلاثة.

وقد جيء بحرف التأكيد في خبر لا يشك موسى في صدقه فتعين أن يكون الإتيان بحرف التأكيد لمجرد الاهتمام ثم يتوسل بالاهتمام إلى إفادة معنى التفريع والتعليل فتفيد (إن) مفاد فاء التفريع والتسبب وهو ما اعتنى الشيخ عبد القاهر بالتنبيه عليه في «دلائل الإعجاز» ومثله بقول بشار :

٥٣٦

بكّرا صاحبيّ قبل الهجير

إن ذاك النجاح في التبكير

تقدم ذكرها عند قوله تعالى : (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [البقرة : ٣٢] في هذه السورة وذكر فيه قصة.

وقولهم : (وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) تنشيط لموسى ووعد له بالامتثال لينشط إلى دعاء ربه بالبيان ولتندفع عنه سآمة مراجعتهم التي ظهرت بوارقها في قوله : (فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ) [البقرة : ٦٨] ولإظهار حسن المقصد من كثرة السؤال وأن ليس قصدهم الإعنات. تفاديا من غضب موسى عليهم.

والتعليق ب (إِنْ شاءَ اللهُ) للتأدب مع الله في رد الأمر إليه في طلب حصول الخير.

والقول في وجه التأكيد في (إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ) كالقول في نظيره الأول.

والذلول ـ بفتح الذال ـ فعول من ذل ذلا ـ بكسر الذال في المصدر ـ بمعنى لان وسهل. وأما الذل ـ بضم الذال ـ فهو ضد العز وهما مصدران لفعل واحد خص الاستعمال أحد المصدرين بأحد المعنيين. والمعنى إنها لم تبلغ سن أن يحرث عليها وأن يسقى بجرها أي هي عجلة قاربت هذا السن وهو الموافق لما حدد به سنها في التوراة.

و (لا ذَلُولٌ) صفة لبقرة. وجملة (تُثِيرُ الْأَرْضَ) حال من (ذَلُولٌ).

وإثارة الأرض حرثها وقلب داخل ترابها ظاهرا وظاهره باطنا ، أطلق على الحرث فعل الإثارة تشبيها لانفلال أجزاء الأرض بثورة الشيء من مكانه إلى مكان آخر كما قال تعالى : (فَتُثِيرُ سَحاباً) [الروم : ٤٨] أي تبعثه وتنقله ونظير هذا الاستعمال قوله في سورة الروم [٩] : (وَأَثارُوا الْأَرْضَ) و (لا تَسْقِي الْحَرْثَ) في محل نصب على الحال.

وإقحام (لا) بعد حرف العطف في قوله : (وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ) مع أن حرف العطف على المنفي بها يغني عن إعادتها إنما هو لمراعاة الاستعمال الفصيح في كل وصف أو ما في معناه أدخل فيه حرف لا كما تقدم في قوله تعالى : (لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ) [البقرة : ٦٨] فإنه لما قيدت صفة ذلول بجملة تسقى الحرث صار تقدير الكلام أنها بقرة لا تثير الأرض ولا تسقي الحرث فجرت الآية على الاستعمال الفصيح من إعادة (لا) وبذلك لم تكن في هذه الآية حجة للمبرد كما يظهر بالتأمل.

واختير الفعل المضارع في (تثير) و (تسقي) لأنه الأنسب بذلول إذ الوصف شبيه بالمضارع ولأن المضارع دال على الحال.

٥٣٧

و (مسلمة) أي سليمة من عيوب نوعها فهو اسم مفعول من سلمت المبني للمفعول وكثيرا ما تذكر الصفات التي تعرض في أصل الخلقة بصيغة البناء للمجهول في الفعل والوصف إذ لا يخطر على باب المتكلم تعيين فاعل ذلك ، ومن هذا معظم الأفعال التي التزم فيها البناء للمجهول.

وقوله : (لا شِيَةَ فِيها) صفة أخرى تميز هذه البقرة عن غيرها. والشية العلامة وهي بزنة فعلة من وشى الثوب إذا نسجه ألوانا وأصل شية وشية ويقول العرب ثوب موشى وثوب وشي ، ويقولون : ثور موشى الأكارع لأن في أكارع ثور الوحش سواد يخالط صفرته فهو ثور أشية ونظائره قولهم فرس أبلق ، وكبش أدرع ، وتيس أزرق وغراب أبقع ، بمعنى مختلط لونين.

وقوله : (قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ) أرادوا بالحق الأمر الثابت الذي لا احتمال فيه كما تقول جاء بالأمر على وجهه ، ولم يريدوا من الحق ضد الباطل لأنهم ما كانوا يكذبون نبيهم.

فإن قلت : لما ذا ذكر هنا بلفظ الحق؟ وهلا قيل قالوا : الآن جئت بالبيان أو بالثبت؟

قلت : لعل الآية حكت معنى ما عبر عنه اليهود لموسى بلفظ هو في لغتهم محتمل للوجهين فحكى بما يرادفه من العربية تنبيها على قلة اهتمامهم بانتقاء الألفاظ النزيهة في مخاطبة أنبيائهم وكبرائهم كما كانوا يقولون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (راعِنا) ، فنهينا نحن عن أن نقوله بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا) [البقرة : ١٠٤] وهم لقلة جدارتهم بفهم الشرائع قد توهموا أن في الأمر بذبح بقرة دون بيان صفاتها تقصيرا كأنهم ظنوا الأمر بالذبح كالأمر بالشراء فجعلوا يستوصفونها بجميع الصفات واستكملوا موسى لما بين لهم الصفات التي تختلف بها أغراض الناس في الكسب للبقر ظنا منهم أن في علم النبي بهذه الأغراض الدنيوية كمالا فيه ، فلذا مدحوه بعد البيان بقولهم (الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ) كما يقول الممتحن للتلميذ بعد جمع صور السؤال : الآن أصبت الجواب ، ولعلهم كانوا لا يفرقون بين الوصف الطردي وغيره في التشريع ، فليحذر المسلمون أن يعقلوا في فهم الدين على شيء مما وقع فيه أولئك وذموا لأجله.

(فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ).

عطفت الفاء جملة (فَذَبَحُوها) على مقدر معلوم وهو فوجدوها أو فظفروا بها أو

٥٣٨

نحو ذلك وهذا من إيجاز الحذف الاقتصاري ، ولما ناب المعطوف في الموقع عن المعطوف عليه صح أن نقول الفاء فيه للفصيحة لأنها وقعت موقع جملة محذوفة فيها فاء للفصيحة ولك أن تقول إن فاء الفصيحة ما أفصحت عن مقدر مطلقا كما تقدم.

وقوله : (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) تعريض بهم بذكر حال من سوء تلقيهم الشريعة ، تارة بالإعراض والتفريط ، وتارة بكثرة التوقف والإفراط ، وفيه تعليم للمسلمين بأصول التفقه في الشريعة ، والأخذ بالأوصاف المؤثرة في معنى التشريع دون الأوصاف الطردية ، ولذلك قال ابن عباس : لو ذبحوا أية بقرة لأجزأتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم. وروى ابن مردويه والبزار وابن أبي حاتم بسندهم إلى الحسن البصري عن رافع عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو اعترضوا أدنى بقرة فذبحوها لكفتهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم» وفي سنده عبادة بن منصور وهو ضعيف ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينهى أصحابه عن كثرة السؤال وقال : «فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم» وبين للذي سأله عن اللقطة ما يفعله في شأنها فقال السائل : فضالّة الغنم قال : «هي لك أو لأخيك أو للذئب ، قال السائل فضالة الإبل فغضب رسول الله وقال مالك ولها ، معها حذاؤها وسقاؤها تشرب الماء وترعى الشجر حتى يأتيها ربها».

وجملة : (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) تحتمل الحال والاستئناف ، والأول أظهر لأنه أشد ربطا للجملة وذلك أصل الجمل أي ذبحوها في حال تقرب من حال من لا يفعل ، والمعنى أنهم ذبحوها مكرهين أو كالمكرهين لما أظهروا من المماطلة وبذلك يكون وقت الذبح ووقت الاتصاف بمقاربة انتفائه وقتا متحدا اتحادا عرفيا بحسب المقامات الخطابية للإشارة إلى أن مماطلتهم قارنت أول أزمنة الذبح. وعلى الاستئناف يصح اختلاف الزمنين أي فذبحوها عند ذلك أي عند إتمام الصفات ، وكان شأنهم قبل ذلك شأن من لم يقارب أن يفعل.

ثم إن (ما كادُوا يَفْعَلُونَ) يقتضي بحسب الوضع نفي مدلول كاد فإن مدلولها المقاربة ونفي مقاربة الفعل يقتضي عدم وقوعه بالأولى فيقال أنى يجتمع ذلك مع وقوع ذبحها بقوله : (فَذَبَحُوها)؟ فأما على وجه الاستئناف فيمكن الجواب بأن نفي مقاربة الفعل كان قبل الذبح حين كرروا السؤال وأظهروا المطال ثم وقع الذبح بعد ذلك ، وقد أجاب بمثل هذا جماعة يعنون كأن الفعل وقع فجأة بعد أن كانوا بمعزل عنه على أنه مبني على جعل الواو استئنافا وقد علمتم بعده.

٥٣٩

فالوجه القالع للإشكال هو أن أئمة العربية قد اختلفوا في مفاد كاد المنفية في نحو ما كاد يفعل فذهب قوم منهم الزجاجي إلى أن نفيها يدل على نفي مقاربة الفعل وهو دليل على انتفاء وقوع الفعل بالأولى فيكون إثبات كاد نفيا لوقوع الخبر الذي في قولك كاد يقوم أي قارب فإنه لا يقال إلا إذا قارب ولم يفعل ونفيها نفيا للفعل بطريق فحوى الخطاب فهو كالمنطوق وأن ما ورد مما يوهم خلاف ذلك مؤول بأنه باعتبار وقتين فيكون بمنزلة كلامين ومنه قوله تعالى : (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) في هذه الآية أي فذبحوها الآن وما كادوا يفعلون قبل ذلك ، ولعلهم يجعلون الجمع بين خبرين متنافيين في الصورة قرينة على قصد زمانين ، وإلى هذا ذهب ابن مالك في «الكافية» إذ قال :

وبثبوت كاد ينفى الخبر

وحين ينفى كاد ذاك أجدر

وغير ذا على كلامين يرد

كولدت هند ولم تكد تلد

وهذا المذهب وقوف مع قياس الوضع.

وذهب قوم إلى أن إثبات كاد يستلزم نفي الخبر على الوجه الذي قررناه في تقرير المذهب الأول وأن نفيها يصير إثباتا على خلاف القياس وقد اشتهر هذا بين أهل الأعراب حتى ألغز فيه أبو العلاء المعري بقوله :

أنحويّ هذا العصر ما هي لفظة

أنت في لساني جرهم وثمود

إذا استعملت في صورة الجحد أثبتت

وإن أثبتت قامت مقام جحود

وقد احتجوا لذلك بقوله تعالى : (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) وهذا من غرائب الاستعمال الجاري على خلاف الوضع اللغوي.

وقد جرت في هذا نادرة أدبية ذكرها الشيخ عبد القاهر في «دلائل الإعجاز» وهي أن عنبسة العنسي الشاعر قال : قدم ذو الرمة الكوفة فوقف على ناقته بالكناسة (١) ينشد قصيدته الحائية التي أولها :

أمنزلتي ميّ سلام عليكم

على النّأي والنّائي يودّ وينصح

حتى بلغ قوله فيها :

إذا غيّر النّأي المحبين لم يكد

رسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح

__________________

(١) الكناسة : بضم الكاف أصله اسم لما يكنس ، وسمي بها ساحة بالكوفة مثل المربد بالبصرة.

٥٤٠