تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٣٥

إبراهيم ولم يلقب به دين آخر لأن الله أراد أن يكون الدين المحمدي إتماما للحنيفية دين إبراهيم وسيجيء بيان لهذا عند قوله تعالى : (ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا) في سورة آل عمران [٦٧].

ومعنى طلب أن يجعلهما مسلمين هو طلب الزيادة في ما هما عليه من الإسلام وطلب الدوام عليه ، لأن الله قد جعلهما مسلمين من قبل كما دل عليه قوله : (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ) [البقرة : ١٣١] الآية.

وقوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) يتعين أن يكون (مِنْ ذُرِّيَّتِنا) و (مُسْلِمَةً) معمولين لفعل (وَاجْعَلْنا) بطريق العطف ، وهذا دعاء ببقاء دينهما في ذريتهما ، و (من) في قوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا) للتبعيض ، وإنما سألا ذلك لبعض الذرية جمعا بين الحرص على حصول الفضيلة للذرية وبين الأدب في الدعاء لأن نبوءة إبراهيم تقتضي علمه بأنه ستكون ذريته أمما كثيرة وأن حكمة الله في هذا العالم جرت على أنه لا يخلو من اشتماله على الأخيار والأشرار فدعا الله بالممكن عادة ، وهذا من أدب الدعاء وقد تقدم نظيره في قوله تعالى : (قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) [البقرة : ١٢٤].

ومن هنا ابتدئ التعريض بالمشركين الذين أعرضوا عن التوحيد واتبعوا الشرك ، والتمهيد لشرف الدين المحمدي.

والأمة اسم مشترك يطلق على معان كثيرة والمراد منها هنا الجماعة العظيمة التي يجمعها جامع له بال من نسب أو دين أو زمان ، ويقال أمة محمد مثلا للمسلمين لأنهم اجتمعوا على الإيمان بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهي بزنة فعله وهذه الزنة تدل على المفعول مثل لقطة وضحكة وقدوة ، فالأمة بمعنى مأمومة اشتقت من الأم بفتح الهمزة وهو القصد ، لأن الأمة تقصدها الفرق العديدة التي تجمعها جامعة الأمة كلها ، مثل الأمة العربية لأنها ترجع إليها قبائل العرب ، والأمة الإسلامية لأنها ترجع إليها المذاهب الإسلامية ، وأما قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) [الأنعام : ٣٨] فهو في معنى التشبيه البليغ أي كأمم إذا تدبرتم في حكمة إتقان خلقهم ونظام أحوالهم وجدتموه كأمم أمثالكم لأن هذا الاعتبار كان الناس في غفلة عنه.

وقد استجيبت دعوة إبراهيم في المسلمين من العرب الذين تلاحقوا بالإسلام قبل الهجرة وبعدها حتى أسلم كل العرب إلا قبائل قليلة لا تنخرم بهم جامعة الأمة ، وقد أشار إلى هذا المعنى قوله تعالى : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) [البقرة : ١٢٩] ، وأما من

٧٠١

أسلموا من بني إسرائيل مثل عبد الله بن سلام فلم يلتئم منهم عدد أمة.

وقوله : (وَأَرِنا مَناسِكَنا) سؤال لإرشادهم لكيفية الحج الذي أمرا به من قبل أمرا مجملا ، ففعل (أَرِنا) هو من رأى العرفانية وهو استعمال ثابت لفعل الرؤية كما جزم به الراغب في «المفردات» والزمخشري في «المفصل» وتعدت بالهمز إلى مفعولين. وحق رأى أن يتعدى إلى مفعول واحد لأن أصله هو الرؤية البصرية ثم استعمل مجازا في العلم بجعل العلم اليقيني شبيها برؤية البصر ، فإذا دخل عليه همز التعدية تعدى إلى مفعولين وأما تعدية أرى إلى ثلاثة مفاعيل فهو خلاف الأصل وهو استعمال خاص وذلك إذا أراد المتكلم الإخبار عن معرفة صفة من صفات ذات فيذكر اسم الذات أولا ويعلم أن ذلك لا يفيد مراده فيكمله بذكر حال لازمة إتماما للفائدة فيقول رأيت الهلال طالعا مثلا ثم يقول : أراني فلان الهلال طالعا ، وكذلك فعل علم وأخواته من باب ظن كله ومثله باب كان وأخواتها ، ألا ترى أنك لو عدلت عن المفعول الثاني في باب ظن أو عن الخبر في باب كان إلى الإتيان بمصدر في موضع الاسم في أفعال هذين البابين لاستغنيت عن الخبر والمفعول الثاني فتقول كان حضور فلان أي حصل وعلمت مجيء صاحبك وظننت طلوع الشمس وقد روي قول الفند الزّمّاني :

عسى أن يرجع الأيّا

م قوما كالذي كانوا

وقال حطائط بن يعفر :

أريني جوادا مات هزلا لعلّني

أرى ما ترين أو بخيلا مخلّدا

فإن جملة مات هزلا ليست خبرا عن جوادا إذ المبتدأ لا يكون نكرة ، وبهذا يتبين أن الصواب أن يعد الخبر في باب كان والمفعول الثاني في باب ظن أحوالا لازمة لتمام الفائدة وأن إطلاق اسم الخبر أو المفعول على ذلك المنصوب تسامح وعبارة قديمة.

وقرأ ابن كثير ويعقوب (وَأَرِنا) بسكون الراء للتخفيف وقرأه أبو عمرو باختلاس كسرة الراء تخفيفا أيضا ، وجملة (إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) تعليل لجمل الدعاء.

والمناسك جمع منسك وهو اسم مكان من نسك نسكا من باب نصر أي تعبد أو من نسك بضم السين نساكة بمعنى ذبح تقربا ، والأظهر هو الأول لأنه الذي يحق طلب التوفيق له وسيأتي في قوله تعالى : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ) [البقرة : ٢٠٠].

[١٢٩] (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ

٧٠٢

وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩))

كرر النداء لأنه عطف غرض آخر في هذا الدعاء وهو غرض الدعاء بمجيء الرسالة في ذريته لتشريفهم وحرصا على تمام هديهم.

وإنما قال : (فِيهِمْ) ولم يقل لهم لتكون الدعوة بمجيء رسول برسالة عامة فلا يكون ذلك الرسول رسولا إليهم فقط ، ولذلك حذف متعلق (رَسُولاً) ليعم ، فالنداء في قوله : (رَبَّنا وَابْعَثْ) اعتراض بين جمل الدعوات المتعاطفة ، ومظهر هذه الدعوة هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه الرسول الذي هو من ذرية إبراهيم وإسماعيل كليهما ، وأما غيره من رسل غير العرب فليسوا من ذرية إسماعيل ، وشعيب من ذرية إبراهيم وليس من ذرية إسماعيل ، وهود وصالح هما من العرب العاربة فليسا من ذرية إبراهيم ولا من ذرية إسماعيل.

وجاء في التوراة (في الإصحاح ١٧ من التكوين) «ظهر الرب لإبرام أي إبراهيم» وقال له : أنا الله القدير سر أمامي وكن كاملا فأجعل عهدي بيني وبينك وأكثرك كثيرا جدا وفي فقرة ٢٠ وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه ها أنا أباركه وأثمره وأكثره كثيرا جدا». وذكر عبد الحق الإسلامي السبتي الذي كان يهوديا فأسلم هو وأولاده وأهله في سبتة وكان موجودا بها سنة ٧٣٦ ست وثلاثين وسبعمائة في كتاب له سماه «الحسام المحدود في الرد على اليهود» : أن كلمة كثيرا جدا أصلها في النص العبراني «مادا مادا» وأنها رمز في التوراة لاسم محمد بحساب الجمّل لأن عدد حروف «مادا مادا» بحساب الجمّل عند اليهود تجمع عدد اثنين وتسعين وهو عدد حروف محمد ا ه وتبعه على هذا البقاعي في «نظم الدرر».

ومعنى (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ) يقرؤها عليهم قراءة تذكير ، وفي هذا إيماء إلى أنه يأتيهم بكتاب فيه شرع. فالآيات جمع آية وهي الجملة من جمل القرآن ، سميت آية لدلالتها على صدق الرسول بمجموع ما فيها من دلالة صدور مثلها من أمي لا يقرأ ولا يكتب ، وما نسجت عليه من نظم أعجز الناس عن الإتيان بمثله ، ولما اشتملت عليه من الدلالة القاطعة على توحيد الله وكمال صفاته دلالة لم تترك مسلكا للضلال في عقائد الأمة بحيث أمنت هذه الأمة من الإشراك ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في خطبة حجة الوداع «إن الشيطان قد يئس أن يعبد في بلدكم هذا».

وجيء بالمضارع في قوله : (يَتْلُوا) للإشارة إلى أن هذا الكتاب تتكرر تلاوته.

٧٠٣

والحكمة العلم بالله ودقائق شرائعه وهي معاني الكتاب وتفصيل مقاصده ، وعن مالك : الحكمة معرفة الفقه والدين والاتباع لذلك ، وعن الشافعي الحكمة سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكلاهما ناظر إلى أن عطف الحكمة على الكتاب يقتضي شيئا من المغايرة بزيادة معنى وسيجيء تفصيل معنى الحكمة عند قوله تعالى : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ) في هذه السورة [٢٦٩].

والتزكية التطهير من النقائص وأكبر النقائص الشرك بالله ، وفي هذا تعريض بالذين أعرضوا عن متابعة القرآن وأبوا إلا البقاء على الشرك.

وقد جاء ترتيب هذه الجمل في الذكر على حسب ترتيب وجودها لأن أول تبليغ الرسالة تلاوة القرآن ثم يكون تعليم معانيه قال تعالى : (فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) [القيامة : ١٨ ، ١٩] العلم تحصل به التزكية وهي في العمل بإرشاد القرآن.

وقوله : (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) تذييل لتقريب الإجابة أي لأنك لا يغلبك أمر عظيم ولا يعزب عن علمك وحكمتك شيء. والحكيم بمعنى المحكم هو فعيل بمعنى مفعل وقد تقدم نظيره في قوله تعالى : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) [البقرة : ١٠] وقوله : (قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [البقرة : ٣٢].

[١٣٠ ، ١٣١] (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٣٠) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٣١))

موقع هاته الآيات من سوابقها موقع النتيجة بعد الدليل ، فإنه لما بين فضائل إبراهيم من قوله : (وَإِذِ ابْتَلى) [البقرة : ١٢٤] إلى هنا علم أن صاحب هاته الفضائل لا يعدل عن دينه والاقتداء به إلا سفيه العقل أفن الرأي ، فمقتضى الظاهر أن تعطف على سوابقها بالفاء وإنما عدل من الفاء إلى الواو ليكون مدلول هذه الجملة مستقلا بنفسه في تكميل التنويه بشأن إبراهيم وفي أن هذا الحكم حقيق بملة إبراهيم من كل جهة لا من خصوص ما حكي عنه في الآيات السالفة وفي التعريض بالذين حادوا عن الدين الذي جاء متضمنا لملة إبراهيم ، والدلالة عن التفريع لا تفوت لأن وقوع الجملة بعد سوابقها متضمنة هذا المعنى دليل على أنها نتيجة لما تقدم كما تقول أحسن فلان تدبير المهم وهو رجل حكيم ولا تحتاج إلى أن تقول فهو رجل حكيم.

٧٠٤

والاستفهام للإنكار والاستبعاد ، واستعماله في الإنكار قد يكون مع جواز إرادة قصد الاستفهام فيكون كناية ، وقد يكون مع عدم جواز إرادة معنى الاستفهام فيكون مجازا في الإنكار ويكون معناه معنى النفي ، والأظهر أنه هنا من قبيل الكناية فإن الإعراض عن ملة إبراهيم مع العلم بفضلها ووضوحها أمر منكر مستبعد. ولما كان شأن المنكر المستبعد أن يسأل عن فاعله استعمل الاستفهام في ملزومه وهو الإنكار والاستبعاد على وجه الكناية مع أنه لو سئل عن هذا المعرض لكان السؤال وجيها ، والاستثناء قرينة عن إرادة النفي واستعمال اللفظ في معنيين كنائيين ، أو ترشيح للمعنى الكنائي وهما الإنكار. والاستفهام لا يجيء فيه ما قالوا في استعمال اللفظ المشترك في معنييه واستعمال اللفظ في حقيقته ومجازه أو في مجازيه لأن الدلالة على المعنى الكنائي بطريق العقل بخلاف الدلالة على المعنيين الموضوع لهما الحقيقي وعلى المعنى الحقيقي والمجازي إذ الذين رأوا ذلك منعوا بعلة أن قصد الدلالة باللفظ على أحد المعنيين يقتضي عدم الدلالة به على الآخر لأنه لفظ واحد فإذا دل على معنى تمت دلالته وأن الدلالة على المعنيين المجازيين دلالة باللفظ على أحد المعنيين فتقضى أنه نقل من مدلوله الحقيقي إلى مدلول مجازي وذلك يقتضي عدم الدلالة به على غيره لأنه لفظ واحد ، وقد أبطلنا ذلك في المقدمة التاسعة ، أما المعنى الكنائي فالدلالة عليه عقلية سواء بقي اللفظ دالا على معناه الحقيقي أم تعطلت دلالته عليه. ولك أن تجعل استعمال الاستفهام في معنى الإنكار مجازا بعلاقة اللزوم كما تكرر في كل كناية لم يرد فيها المعنى الأصلي وهو أظهر لأنه مجاز مشهور حتى صار حقيقة عرفية فقال النحاة : الاستفهام الإنكاري نفي ولذا يجيء بعده الاستثناء ، والتحقيق أنه لا يطرد أن يكون بمعنى النفي ولكنه يكثر فيه ذلك لأن شأن الشيء المنكر بأن يكون معدوما ولهذا فالاستثناء هنا يصح أن يكون استثناء من كلام دل عليه الاستفهام كأنّ مجيبا أجاب السائل بقوله : «لا يرغب عنها إلا من سفه نفسه.

والرغبة طلب أمر محبوب ، فحق فعلها أن يتعدى بفي وقد يعدى بعن إذا ضمن معنى العدول عن أمر وكثر هذا التضمين في الكلام حتى صار منسيا.

والملة الدين وتقدم بيانها عند قوله تعالى : (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) [البقرة : ١٢٠].

وسفه بمعنى استخف لأن السفاهة خفة العقل واضطرابه يقال تسفهه استخفه قال ذو الرمة :

٧٠٥

مشين كما اهتزت رماح تسفّهت

أعاليها مرّ الرياح النّواسم

ومنه السفاهة في الفعل وهو ارتكاب أفعال لا يرضى بها أهل المروءة. والسفه في المال وهو إضاعته وقلة المبالاة به وسوء تنميته. وسفهه بمعنى استخفه وأهانه لأن الاستخفاف ينشأ عنه الإهانة وسفه صار سفيها وقد تضم الفاء في هذا.

وانتصاب (نَفْسَهُ) إما على المفعول به أي أهملها واستخفها ولم يبال بإضاعتها دنيا وأخرى ويجوز انتصابه على التمييز المحول عن الفاعل وأصله سفهت نفسه أي خفت وطاشت فحوّل الإسناد إلى صاحب النفس على طريقة المجاز العقلي للملابسة قصدا للمبالغة وهي أن السفاهة سرت من النفس إلى صاحبها من شدة تمكنها بنفسه حتى صارت صفة لجثمانه ، ثم انتصب الفاعل على التمييز تفسيرا لذلك الإبهام في الإسناد المجازي ، ولا يعكر عليه مجيء التمييز معرفة بالإضافة لأن تنكير التمييز أغلبي.

والمقصود من قوله : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) تسفيه المشركين في إعراضهم عن دعوة الإسلام بعد أن بين لهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الإسلام مقام على أساس الحنيفية وهي معروفة عندهم بأنها ملة إبراهيم قال تعالى : (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) [النحل : ١٢٣] وقال في الآية السابقة (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) [البقرة : ١٢٨] وقال : (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ) [البقرة : ١٣٢] إلى قوله : (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [البقرة : ١٣٢].

وجملة (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ) معطوفة على الجمل التي قبلها الدالة على رفعة درجة إبراهيم عند الله تعالى إذ جعله للناس إماما وضمن له النبوءة في ذريته وأمره ببناء مسجد لتوحيده واستجاب له دعواته.

وقد دلت تلك الجمل على اختيار الله إياه فلا جرم أعقبت بعطف هذه الجملة عليها لأنها جامعة لفذلكتها وزائدة بذكر أنه سيكون في الآخرة من الصالحين. واللام جواب قسم محذوف وفي ذلك اهتمام بتقرير اصطفائه وصلاحه في الآخرة.

ولأجل الاهتمام بهذا الخبر الأخير أكد بقوله : (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) فقوله : (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ) إلى آخره اعتراض بين جملة (اصْطَفَيْناهُ) وبين الظرف وهو قوله : (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ) ، إذ هو ظرف لاصطفيناه وما عطف عليه ، قصد من هذه الظرفية التخلّص إلى منقبة أخرى ، لأن ذلك الوقت هو دليل اصطفائه حيث خاطبه الله

٧٠٦

بوحي وأمره بما تضمنه قوله (أَسْلِمْ) من معان جماعها التوحيد والبراءة من الحول والقوة وإخلاص الطاعة ، وهو أيضا وقت ظهور أن الله أراد إصلاح حاله في الآخرة إذ كلّ ميسّر لما خلق له.

وقد فهم أن مفعول (أَسْلِمْ) ومتعلقه محذوفان يعلمان من المقام أي أسلم نفسك لي كما دل عليه الجواب بقوله : (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) وشاع الاستغناء عن مفعول أسلم فنزل الفعل منزلة اللازم يقال أسلم أي دان بالإسلام كما أنبأ به قوله تعالى : (وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً) [آل عمران : ٦٧].

وقوله : (قالَ أَسْلَمْتُ) فصلت الجملة على طريقة حكاية المحاورات كما قدمناه في (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠].

وقوله : (قالَ أَسْلَمْتُ) مشعر بأنه بادر بالفور دون تريث كما اقتضاه وقوعه جوابا ، قال ابن عرفة : إنما قال لرب العالمين دون أن يقول أسلمت لك ليكون قد أتى بالإسلام وبدليله ا ه. يعني أن إبراهيم كان قد علم أن لهذا العالم خالقا عالما حصل له بإلهام من الله فلما أوحى الله إليه بالإيمان صادف ذلك عقلا رشدا.

[١٣٢] (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٣٢))

لما كان من شأن أهل الحق والحكمة أن يكونوا حريصين على صلاح أنفسهم وصلاح أمتهم كان من مكملات ذلك أن يحرصوا على دوام الحق في الناس متّبعا مشهورا فكان من سننهم التوصية لمن يظنونهم خلفا عنهم في الناس بأن لا يحيدوا عن طريق الحق ولا يفرطوا فيما حصل لهم منه ، فإن حصوله بمجاهدة نفوس ومرور أزمان فكان لذلك أمرا نفيسا يجدر أن يحتفظ به.

والإيصاء أمر أو نهي يتعلق بصلاح المخاطب خصوصا أو عموما ، وفي فوته ضر ، فالوصية أبلغ من مطلق أمر ونهي فلا تطلق إلا في حيث يخاف الفوات إما بالنسبة للموصى ولذلك كثر الإيصاء عند توقع الموت كما سيأتي عند قوله تعالى : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي) [البقرة : ١٣٣] ، وفي حديث العرباض : «وعظنا رسول الله موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا : يا رسول الله كأنها موعظة مودّع فأوصنا» الحديث ، وإما بالنسبة إلى الموصى كالوصية عند

٧٠٧

السفر في حديث معاذ حين بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لليمن : «كان آخر ما أوصاني رسول الله حين وضعت رجلي في الغرز أن قال حسّن خلقك للناس» ، وجاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له أوصني قال : «لا تغضب».

فوصية إبراهيم ويعقوب إما عند الموت كما تشعر به الآية الآتية : (إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) [البقرة : ١٣٣] وإما في مظان خشية الفوات.

والضمير المجرور بالباء عائد على الملة أو على الكلمة أي قوله : (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) [البقرة : ١٣١] فإن كان بالملة فالمعنى أنه أوصى أن يلازموا ما كانوا عليه معه في حياته ، وإن كان الثاني فالمعنى أنه أوصى بهذا الكلام الذي هو شعار جامع لمعاني ما في الملة.

وبنو إبراهيم ثمانية : إسماعيل وهو أكبر بنيه وأمه هاجر ، وإسحاق وأمه سارة وهو ثاني بنيه ، ومديان ، ومدان ، وزمران ، ويقشان ، وبشباق ، وشوح ، وهؤلاء أمهم قطورة التي تزوجها إبراهيم بعد موت سارة ، وليس لغير إسماعيل وإسحاق خبر مفصل في التوراة سوى أن ظاهر التوراة أن مديان هو جد أمة مدين أصحاب الأيكة وأن موسى عليه‌السلام لما خرج خائفا من مصر نزل أرض مديان وأن يثرون أو رعوئيل (هو شعيب) كان كاهن أهل مدين. وأما يعقوب فهو ابن إسحاق من زوجه رفقة الآرامية تزوجها سنة ست وثلاثين وثمانمائة وألف قبل المسيح في حياة جده إبراهيم فكان في زمن إبراهيم رجلا ولقب بإسرائيل وهو جد جميع بني إسرائيل ومات يعقوب بأرض مصر سنة تسع وثمانين وتسعمائة وألف قبل المسيح ودفن بمغارة المكفلية بأرض كنعان (بلد الخليل) حيث دفن جده وأبوه عليهم‌السلام.

وعطف يعقوب على إبراهيم هنا إدماج مقصود به تذكير بني إسرائيل (الذي هو يعقوب) بوصية جدهم فكما عرض بالمشركين في إعراضهم عن دين أوصى به أبوهم عرض باليهود كذلك لأنهم لما انتسبوا إلى إسرائيل وهو يعقوب الذي هو جامع نسبهم بعد إبراهيم لتقام الحجة عليهم بحق اتباعهم الإسلام.

وقوله : (يا بَنِيَ) إلخ حكاية صيغة وصية إبراهيم وسيجيء ذكر وصية يعقوب. ولما كان فعل (أوصى) متضمنا للقول صح مجيء جملة بعده من شأنها أن تصلح لحكاية الوصية لتفسر جملة (أوصى) ، وإنما لم يؤت بأن التفسيرية التي كثر مجيئها بعد جملة فيها معنى القول دون حروفه ، لأن أن التفسيرية تحتمل أن يكون ما بعدها محكيا بلفظه أو

٧٠٨

بمعناه والأكثر أن يحكى بالمعنى ، فلما أريد هنا التنصيص على أن هذه الجملة حكاية لقول إبراهيم بنصه (ما عدا مخالفة المفردات العربية) عوملت معاملة فعل القول نفسه فإنه لا تجيء بعده أن التفسيرية بحال ، ولهذا يقول البصريون في هذه الآية إنه مقدر قول محذوف خلافا للكوفيين القائلين بأن وصى ونحوه ناصب للجملة المقولة ، ويشبه أن يكون الخلاف بينهم لفظيا.

و (اصْطَفى لَكُمُ) اختار لكم الدين أي الدين الكامل ، وفيه إشارة إلى أنه اختاره لهم من بين الأديان وأنه فضلهم به لأن اصطفى لك يدل على أنه ادخره لأجله ، وأراد به دين الحنيفية المسمى بالإسلام فلذلك قال : (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

ومعنى (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) النهي عن مفارقة الإسلام أعني ملة إبراهيم في جميع أوقات حياتهم ، وذلك كناية عن ملازمته مدة الحياة لأن الحي لا يدري متى يأتيه الموت فنهي أحد عن أن يموت غير مسلم أمر بالاتصاف بالإسلام في جميع أوقات الحياة فالمراد من مثل هذا النهي شدة الحرص على تلك المنهي.

وللعرب في النهي المراد منه النهي عن لازمه طرق ثلاثة : الأول : أن يجعلوا المنهي عنه مما لا قدرة للمخاطب على اجتنابه فيدلوا بذلك على أن المراد نفي لازمه مثل قولهم لا تنس كذا أي لا ترتكب أسباب النسيان ، ومثل قولهم : لا أعرفنك تفعل كذا أي لا تفعل فأعرفك لأن معرفة المتكلم لا ينهى عنها المخاطب ، وفي الحديث : «فلا يذادن أقوام عن حوضي» ، الثاني : أن يكون المنهي عنه مقدورا للمخاطب ولا يريد المتكلم النهي عنه ولكن عما يتصل به أو يقارنه فيجعل النهي في اللفظ عن شيء ويقيده بمقارنه للعلم بأن المنهي عنه مضطر لإيقاعه فإذا أوقعه اضطر لإيقاع مقارنه نحو قولك لا أراك بثياب مشوهة ، ومنه قوله تعالى : (فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) ، الثالث : أن يكون المنهي عنه ممكن الحصول ويجعله مفيدا مع احتمال المقام لأن يكون النهي عن الأمرين إذا اجتمعا ولو لم يفعل أحدهما نحو لا تجئني سائلا وأنت تريد أن لا يسألك فإما أن يجيء ولا يسأل وإما أن لا يجيء بالمرة ، وفي الثانية إثبات أن بني إبراهيم ويعقوب كانوا على ملة الإسلام وأن الإسلام جاء بما كان عليه إبراهيم وبنوه حين لم يكن لأحد سلطان عليهم ، وفيه إيماء إلى أن ما طرأ على بنيه بعد ذاك من الشرائع إنما اقتضته أحوال عرضت وهي دون الكمال الذي كان عليه إبراهيم ولهذا قال تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) [آل عمران : ١٩] وقال : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ

٧٠٩

الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) [الحج : ٧٨].

[١٣٣] (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٣))

تفصيل لوصية يعقوب بأنه أمر أبناءه أن يكونوا على ملة إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وهي نظير ما وصى به إبراهيم بنيه فأجمل هنا اعتمادا على ما صرح به في قوله سابقا : (يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [البقرة : ١٣٢] وهذا تنويه بالحنيفية التي هي أساس الإسلام ، وتمهيد لإبطال قولهم : (كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا) [البقرة : ١٣٥] وإبطال لزعمهم أن يعقوب كان على اليهودية وأنه أوصى بها بنيه فلزمت ذريته فلا يحولون عنها. وقد ذكر أن اليهود قالوا ذلك قاله الواحدي والبغوي بدون سند ، ويدل عليه قوله تعالى : (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١٤٠] الآية فلذلك جيء هنا بتفصيل وصية يعقوب إبطالا لدعاوى اليهود ونقضا لمعتقدهم الذي لا دليل عليه كما أنبأ به الإنكار في قوله : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ) إلخ.

و (أَمْ) عاطفة جملة (كُنْتُمْ شُهَداءَ) على جملة (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ) [البقرة : ١٣٢] فإن أم من حروف العطف كيفما وقعت ، وهي هنا منقطعة للانتقال من الخبر عن إبراهيم ويعقوب إلى مجادلة من اعتقدوا خلاف ذلك الخبر ، ولما كانت أم يلازمها الاستفهام كما مضى عند قوله تعالى : (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ) [البقرة : ١٠٨] إلخ فالاستفهام هنا غير حقيقي لظهور أن عدم شهودهم احتضار يعقوب محقق ، فتعين أن الاستفهام مجاز ، ومحمله على الإنكار لأنه أشهر محامل الاستفهام المجازي ، ولأن مثل هذا المستفهم عنه مألوف في الاستفهام الإنكاري.

ثم إن كون الاستفهام إنكاريا يمنع أن يكون الخطاب الواقع فيه خطابا للمسلمين لأنهم ليسوا بمظنة حال من يدعي خلاف الواقع حتى ينكر عليهم ، خلافا لمن جوز كون الخطاب للمسلمين من المفسرين ، توهموا أن الإنكار يساوي النفي مساواة تامة وغفلوا عن الفرق بين الاستفهام الإنكاري وبين النفي المجرد فإن الاستفهام الإنكاري مستعمل في الإنكار مجازا بدلالة المطابقة وهو يستلزم النفي بدلالة الالتزام ، ومن العجيب وقوع

٧١٠

الزمخشري في هذه الغفلة ، فتعين أن المخاطب اليهود وأن الإنكار متوجه إلى اعتقاد اعتقدوه يعلم من سياق الكلام وسوابقه وهو ادعاؤهم أن يعقوب مات على اليهودية وأوصى بها فلزمت ذريته ، فكان موقع الإنكار على اليهود واضحا وهو أنهم ادعوا ما لا قبل لهم بعلمه إذ لم يشهدوا كما سيأتي ، فالمعنى ما كنتم شهداء احتضار يعقوب. ثم أكمل الله القصة تعليما وتفصيلا واستقصاء في الحجة بأن ذكر ما قاله يعقوب حين اختصاره وما أجابه أبناؤه وليس ذلك بداخل في حيز الإنكار ، فالإنكار ينتهي عند قوله : (الموت) والبقية تكملة للقصة ، والقرينة على الأمرين ظاهرة اعتمادا على مألوف الاستعمال في مثله فإنه لا يطال فيه المستفهم عنه بالإنكار ألا ترى إلى قوله تعالى : (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) [الزخرف : ١٩] ، فلما قال هنا : (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) ، علم السامع موقع الإنكار ، ثم يعلم أن قول أبناء يعقوب (نَعْبُدُ إِلهَكَ) لم يكن من دعوى اليهود حتى يدخل في حيز الإنكار لأنهم لو ادعوا ذلك لم ينكر عليهم إذ هو عين المقصود من الخبر ، وبذلك يستقر كلا الكلامين في قراره ، ولم يكن داع لجعل (أم) متصلة بتقدير محذوف قبلها تكون هي معادلة له ، كأن يقدر أكنتم غائبين إذ حضر يعقوب الموت أم شهداء وأن الخطاب لليهود أو للمسلمين والاستفهام للتقرير ، ولا لجعل الخطاب في قوله : (كُنْتُمْ) للمسلمين على معنى جعل الاستفهام للنفي المحض أي ما شهدتم احتضار يعقوب أي على حد (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) [القصص : ٤٤] وحد (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ) [آل عمران : ٤٤] كما حاوله الزمخشري ومتابعوه ، وإنما حداه إلى ذلك قياسه على غالب مواقع استعمال أمثال هذا التركيب مع أن موقعه هنا موقع غير معهود وهو من الإيجاز والإكمال إذ جمع الإنكار عليهم في التقول على من لم يشهدوه ، وتعليمهم ما جهلوه ، ولأجل التنبيه على هذا الجمع البديع أعيدت إذ في قوله : (إِذْ قالَ لِبَنِيهِ) ليكون كالبدل من (إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) فيكون مقصودا بالحكم أيضا.

والشهداء جمع شهيد بمعنى الشاهد أي الحاضر للأمر والشأن ، ووجه دلالة نفي المشاهدة على نفي ما نسبوه إلى يعقوب هو أن تنبيههم إلى أنهم لم يشهدوا ذلك يثير في نفوسهم الشك في معتقدهم.

وقوله تعالى : (قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ) هو من بقية القصة المنفي شهود المخاطبين محضرها فهذا من مجيء القول في المحاورات كما قدمنا ، فقوله : (قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) [البقرة : ٣٠] فيكون الكلام نفيا لشهودهم مع إفادة تلك الوصية ، أي ولو شاهدتم

٧١١

ما اعتقدتم خلافها فلما اعتقدوا اعتقادا كالضروري وبخهم وأنكر عليهم حتى يرجعوا إلى النظر في الطرق التي استندوا إليها فيعلموا أنها طرق غير موصلة ، وبهذا تعلمون وجهة الاقتصار على نفي الحضور مع أن نفي الحضور لا يدل على كذب المدعى لأن عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود ، فالمقصود هنا الاستدراج في إبطال الدعوى بإدخال الشك على مدعيها.

وقوله تعالى : (إِذْ قالَ لِبَنِيهِ) بدل من (إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ) وفائدة المجيء بالخبر على هذه الطريقة دون أن يقال أم كنتم شهداء إذ قال يعقوب لبنيه عند الموت ، هي قصد استقلال الخبر وأهمية القصة وقصد حكايتها على ترتيب حصولها ، وقصد الإجمال ثم التفصيل لأن حالة حضور الموت لا تخلو من حدث هام سيحكى بعدها فيترقبه السامع.

وهذه الوصية جاءت عند الموت وهو وقت التعجيل بالحرص على إبلاغ النصيحة في آخر ما يبقى من كلام الموصى فيكون له رسوخ في نفوس الموصين ، أخرج أبو داود والترمذي عن العرباض بن سارية قال : «وعظنا رسول الله موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودّع فأوصنا» الحديث.

وجاء يعقوب في وصيته بأسلوب الاستفهام لينظر مقدار ثباتهم على الدين حتى يطّلع على خالص طويتهم ليلقي إليهم ما سيوصيهم به من التذكير وجيء في السؤال بما الاستفهامية دون من لأن ما هي الأصل عند قصد العموم لأنه سألهم عما يمكن أن يعبده العابدون.

واقترن ظرف (بَعْدِي) بحرف (من) لقصد التوكيد فإن (من) هذه في الأصل ابتدائية فقولك : جئت من بعد الزوال يفيد أنك جئت في أول الأزمنة بعد الزوال ثم عوملت معاملة حرف تأكيد.

وبنو يعقوب هم الأسباط أي أسباط إسحاق ومنهم تشعبت قبائل بني إسرائيل وهم اثنا عشر ابنا : رأوبين ، وشمعون ، ولاوى ، ويهوذا ، ويساكر ، وزبولون ، (وهؤلاء أمهم ليئة) ويوسف وبنيامين (أمهما راحيل) ودان ونفتالي (أمهما بلهة) وجاد وأشير (أمهما زلفة).

وقد أخبر القرآن بأن جميعهم صاروا أنبياء وأن يوسف كان رسولا.

٧١٢

وواحد الأسباط سبط ـ بكسر السين وسكون الباء ـ وهو ابن الابن أي الحفيد ، وقد اختلف في اشتقاق سبط قال ابن عطية في تفسير قوله تعالى : (وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً) في سورة الأعراف [١٦٠] عن الزجاج : الأظهر أن السبط عبراني عرب ا ه. قلت : وفي العبرانية سيبط بتحتية بعد السين ساكنة.

وجملة : (قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ) جواب عن قوله : (ما تَعْبُدُونَ) جاءت على طريقة المحاورات بدون واو وليست استئنافا لأن الاستئناف إنما يكون بعد تمام الكلام ولا تمام له قبل حصول الجواب.

وجيء في قوله : (نَعْبُدُ إِلهَكَ) معرفا بالإضافة دون الاسم العلم بأن يقول نعبد الله لأن إضافة إله إلى ضمير يعقوب وإلى آبائه تفيد جميع الصفات التي كان يعقوب وآباؤه يصفون الله بها فيما لقنه لأبنائه منذ نشأتهم ، ولأنهم كانوا سكنوا أرض كنعان وفلسطين مختلطين ومصاهرين لأمم تعبد الأصنام من كنعانيين وفلسطينيين وحثيين وأراميين ثم كان موت يعقوب في أرض الفراعنة وكانوا يعبدون آلهة أخرى. وأيضا فمن فوائد تعريف الذي يعبدونه بطريق الإضافة إلى ضمير أبيهم وإلى لفظ آبائه أن فيها إيماء إلى أنهم مقتدون بسلفهم.

وفي الإتيان بعطف البيان من قولهم (إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) ضرب من محسن الاطراد تنويها بأسماء هؤلاء الأسلاف كقول ربيعة بن نصر بن قعين :

إن يقتلوك فقد ثللت عروشهم

بعتيبة بن الحارث بن شهاب

وإنما أعيد المضاف في قوله : (وَإِلهَ آبائِكَ) لأن إعادة المضاف مع المعطوف على المضاف إليه أفصح في الكلام وليست بواجبة ، وإطلاق الآباء على ما شمل إسماعيل وهو عم ليعقوب إطلاق من باب التغليب ولأن العم بمنزلة الأب.

وقد مضى التعريف بإبراهيم وإسماعيل.

وأما إسحاق فهو ابن إبراهيم وهو أصغر من إسماعيل بأربع عشرة سنة وأمه سارة. ولد سنة ١٨٩٦ ست وتسعين وثمانمائة وألف قبل ميلاد المسيح وهو جد بني إسرائيل وغيرهم من أمم تقرب لهم.

واليهود يقولون : إن الابن الذي أمر الله إبراهيم بذبحه وفداه الله هو إسحاق ، والحق أن الذي أمر بذبحه هو إسماعيل في صغره حين لم يكن لإبراهيم ولد غيره ليظهر كمال

٧١٣

الامتثال ومن الغريب أن التوراة لما ذكرت قصة الذبيح وصفته بالابن الوحيد لإبراهيم ولم يكن إسحاق وحيدا قط ، وتوفي إسحاق سنة ثمان وسبعمائة وألف قبل الميلاد ودفن مع أبيه وأمه في مغارة المكفيلة في حبرون (بلد الخليل).

وقوله : (إِلهاً واحِداً) توضيح لصفة الإله الذي يعبدونه فقوله : (إِلهاً) حال من (إِلهَكَ) ووقوع (إلها) حالا من (إلهك) مع أنه مرادف له في لفظه ومعناه إنما هو باعتبار إجراء الوصف عليه بواحدا فالحال في الحقيقة هو ذلك الوصف ، وإنما أعيد لفظ إلها ولم يقتصر على وصف واحدا لزيادة الإيضاح لأن المقام مقام إطناب ففي الإعادة تنويه بالمعاد وتوكيد لما قبله ، وهذا أسلوب من الفصاحة إذ يعاد اللفظ ليبنى عليه وصف أو متعلق ويحصل مع ذلك توكيد اللفظ السابق تبعا ، وليس المقصود من ذلك مجرد التوكيد ومنه قوله تعالى : (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) [الفرقان : ٧٢] وقوله : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) [الإسراء : ٧] وقوله : (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ) [الشعراء : ١٣٢ ، ١٣٣] إذ أعاد فعل أمدكم وقول الأحوص الأنصاري :

فإذا تزول تزول عن متخمّط

تخشى بوادره على الأقران

قال ابن جني في «شرح الحماسة» محال أن تقول : إذا قمت قمت لأنه ليس في الثاني غير ما في الأول وإنما جاز أن يقول : فإذا تزول تزول لما اتصل بالفعل الثاني من حرف الجر المفاد منه الفائدة ، ومثله قول الله تعالى : (هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) [القصص : ٦٣] وقد كان أبو علي امتنع في هذه الآية مما أخذناه غير أن الأمر فيها عندي على ما عرفتك.

وجوز صاحب «الكشاف» أن يكون قوله : (إِلهاً واحِداً) بدلا من (إِلهَكَ) بناء على جواز إبدال النكرة الموصوفة من المعرفة مثل (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ) [العلق : ٦٣] ، أو أن يكون منصوبا على الاختصاص بتقدير امدح فإن الاختصاص يجيء من الاسم الظاهر ومن ضمير الغائب.

وقوله : (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) جملة في موضع الحال من ضمير (نَعْبُدُ) ، أو معطوفة على جملة (نَعْبُدُ) ، جيء بها اسمية لإفادة ثبات الوصف لهم ودوامه بعد أن أفيد بالجملة الفعلية المعطوف عليها معنى التجدد والاستمرار.

[١٣٤] (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا

٧١٤

يَعْمَلُونَ (١٣٤))

عقبت الآيات المتقدمة من قوله : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ) [البقرة : ١٢٤] بهذه الآية لأن تلك الآيات تضمنت الثناء على إبراهيم وبنيه والتنويه بشأنهم والتعريض بمن لم يقتف آثارهم من ذريتهم وكأن ذلك قد ينتحل منه المغرورون عذرا لأنفسهم فيقولون نحن وإن قصرنا فإن لنا من فضل آبائنا مسلكا لنجاتنا ، فذكرت هذه الآية لإفادة أن الجزاء بالأعمال لا بالاتكال.

والإشارة بتلك عائدة إلى إبراهيم وبنيه باعتبار أنهم جماعة وباعتبار الإخبار عنهم باسم مؤنث لفظه وهو أمة.

والأمة تقدم بيانها آنفا عند قوله تعالى : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) [البقرة : ١٢٨].

وقوله : (قَدْ خَلَتْ) صفة لأمة ومعنى خلت مضت ، وأصل الخلاء الفراغ فأصل معنى خلت خلا منها المكان فأسند الخلو إلى أصحاب المكان على طريقة المجاز العقلي لنكتة المبالغة ، والخبر هنا كناية عن عدم انتفاع غيرهم بأعمالهم الصالحة وإلا فإن كونها خلت مما لا يحتاج إلى الإخبار به ، ولذا فقوله : (لَها ما كَسَبَتْ) الآية بدل من جملة (قَدْ خَلَتْ) بدل مفصل من مجمل.

والخطاب موجه إلى اليهود أي لا ينفعكم صلاح آبائكم إذا كنتم غير متبعين طريقتهم ، فقوله : (لَها ما كَسَبَتْ) تمهيد لقوله : (وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) إذ هو المقصود من الكلام ، والمراد بما كسبت وبما كسبتم ثواب الأعمال بدليل التعبير فيه بلها ولكم ، ولك أن تجعل الكلام من نوع الاحتباك والتقرير لها ما كسبت وعليكم ما كسبتم أي إثمه.

ومن هذه الآية ونظائرها انتزع الأشعري التعبير عن فعل العبد بالكسب.

وتقديم المسندين على المسند إليهما في (لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) لقصر المسند إليه على المسند أي ما كسبت الأمة لا يتجاوزها إلى غيرها وما كسبتم لا يتجاوزكم ، وهو قصر إضافي لقلب اعتقاد المخاطبين فإنهم لغرورهم يزعمون أن ما كان لأسلافهم من الفضائل يزيل ما ارتكبوه هم من المعاصي أو يحمله عنهم أسلافهم.

وقوله : (وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) معطوف على قوله : (لَها ما كَسَبَتْ) وهو من تمام التفصيل لمعنى خلت ، فإن جعلت (لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) خاصا بالأعمال الصالحة فقوله : (وَلا تُسْئَلُونَ) إلخ تكميل للأقسام أي وعلى كل ما عمل من

٧١٥

الإثم ولذا عبر هنالك بالكسب المتعارف في الادخار والتنافس وعبر هنا بالعمل. وإنما نفى السؤال عن العمل لأنه أقل أنواع المؤاخذة بالجريمة فإن المرء يؤخذ بجريمته فيسأل عنها ويعاقب وقد يسأل المرء عن جريمة غيره ولا يعاقب كما يلام على القوم فعل بعضهم ما لا يليق وهو شائع عند العرب قال زهير :

لعمري لنعم الحيّ جرّ عليهم

بما لا يواتيهم حصين بن ضمضم

فنفي أصل السؤال أبلغ وأشمل للأمرين ، وإن جعلت قوله : (وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) مرادا به الأعمال الذميمة المحيطة بهم كان قوله : (وَلا تُسْئَلُونَ) إلخ احتراسا واستيفاء لتحقيق معنى الاختصاص أي كل فريق مختص به عمله أو تبعته ولا يلحق الآخر من ذلك شيء ولا السؤال عنه ، أي لا تحاسبون بأعمال سلفكم وإنما تحاسبون بأعمالكم.

[١٣٥] (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٣٥))

(وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا).

الظاهر أنه عطف على قوله : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) [البقرة : ١٣٠] ، فإنه بعد أن ذمهم بالعدول عن تلقي الإسلام الذي شمل خصال الحنيفية بين كيفية إعراضهم ومقدار غرورهم بأنهم حصروا الهدى في اليهودية والنصرانية أي كل فريق منهم حصر الهدى في دينه.

ووجه الحصر حاصل من جزم (تَهْتَدُوا) في جواب الأمر فإنه على تقدير شرط فيفيد مفهوم الشرط أن من لم يكن يهوديا لا يراه اليهود مهتديا ومن لم يكن نصرانيا لا يراه النصارى مهتديا أي نفوا الهدى عن متبع ملة إبراهيم وهذا غاية غرورهم.

والواو في قال عائدة لليهود والنصارى بقرينة مساق الخطاب في (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ) [البقرة : ١٣٣] وقوله : (وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) [البقرة : ١٣٤].

و (أو) في قوله : (أَوْ نَصارى) تقسيم بعد الجمع لأن السامع يرد كلا إلى من قاله ، وجزم (تَهْتَدُوا) في جواب الأمر للإيذان بمعنى الشرط ليفيد بمفهوم الشرط أنكم إن كنتم على غير اليهودية والنصرانية فلستم بمهتدين.

(قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

٧١٦

جردت جملة (قل) من العاطف لوقوعها في مقام الحوار مجاوبة لقولهم (كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا) على نحو ما تقدم أي بل لا اهتداء إلا باتباع ملة إبراهيم فإنها لما جاء بها الإسلام أبطل ما كان قبله من الأديان.

وانتصب (ملة) بإضمار تتبع لدلالة المقام لأن (كُونُوا هُوداً) بمعنى اتبعوا اليهودية ، ويجوز أن ينصب عطفا على (هُوداً) والتقدير بل نكون ملة إبراهيم أي أهل ملته كقول عدي بن حاتم لما وفد على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليسلم : «إني من دين أو من أهل دين» يعني النصرانية.

والحنيف فعيل بمعنى فاعل مشتق من الحنف بالتحريك وهو الميل في الرجل قالت أم الأحنف ابن قيس فيما ترقصه به :

والله لو لا حنف برجله

ما كان في فتيانكم من مثله

والمراد الميل في المذهب أن الذي به حنف يميل في مشيه عن الطريق المعتاد. وإنما كان هذا مدحا للملة لأن الناس يوم ظهور ملة إبراهيم كانوا في ضلالة عمياء فجاء دين إبراهيم مائلا عنهم فلقب بالحنيف ثم صار الحنيف لقب مدح بالغلبة. والوجه أن يجعل (حنيفا) حالا من (إبراهيم) وهذا من مواضع الاتفاق على صحة مجيء الحال من المضاف إليه ولك أن تجعله حالا لملة إلا أن فعيلا بمعنى فاعل يطابق موصوفه إلا أن تؤول ملة بدين على حد (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف : ٥٦] أي إحسانه أو تشبيه فعيل إلخ بمعنى فاعل بفعيل بمعنى مفعول.

وقد دلت هذه الآية على أن الدين الإسلامي من إسلام إبراهيم.

وقوله : (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) جملة هي حالة ثانية من إبراهيم وهو احتراس لئلا يغتر المشركون بقوله : (بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) أي لا نكون هودا ولا نصارى فيتوهم المشركون أنه لم يبق من الأديان إلا ما هم عليه لأنهم يزعمون أنهم على ملة إبراهيم وإلا فليس ذلك من المدح له بعد ما تقدم من فضائله وهذا على حد قوله تعالى : (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) غلط فيه صاحب «الكشاف» غلطا فاحشا كما سيأتي.

[١٣٦] (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (١٣٦))

٧١٧

بدل من جملة (قُلْ بَلْ مِلَّةَ) [البقرة : ١٣٥] لتفصيل كيفية هاته الملة بعد أن أجمل ذلك في قوله : (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً).

والأمر بالقول أمر بما يتضمنه إذ لا اعتداد بالقول إلا لأنه يطابق الاعتقاد ، إذ النسبة إنما وضعت للصدق لا للكذب ، والمقصود من الأمر بهذا القول الإعلان به والدعوة إليه لما يشتمل عليه من الفضيلة الظاهرة بحصول فضيلة سائر الأديان لأهل هاته الملة ولما فيه من الإنصاف وسلامة الطوية ، ليرغب في ذلك الراغبون ويكمد عند سماعه المعاندون وليكون هذا كالاحتراس بعد قوله : (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) أي نحن لا نطعن في شريعة موسى وشريعة عيسى وما أوتي النبيئون ولا نكذبهم ولكنا مسلمون لله بدين الإسلام الذي بقي على أساس ملة إبراهيم وكان تفصيلا لها وكمالا لمراد الله منها حين أراد الله إكمالها فكانت الشرائع التي جاءت بعد إبراهيم كمنعرجات الطريق سلك بالأمم فيها لمصالح ناسبت أحوالهم وعصورهم بعد إبراهيم كما يسلك بمن أتعبه المسير طريق منعرج ليهدأ من ركز السيارة في المحجة فيحط رحله وينام ثم يرجع به بعد حين إلى الجادة ، ومن مناسبات هذا المعنى أن ابتدئ بقوله (وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) ، واختتم بقوله (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) ، ووسّط ذكر ما أنزل على النبيئين بين ذلك.

وجمع الضمير ليشمل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمين فهم مأمورون بأن يقولوا ذلك. وجعله بدلا يدل على أن المراد من الأمر في قوله : (قُلْ بَلْ مِلَّةَ) النبي وأمته.

وأفرد الضمير في الكلامين اللذين للنبي فيهما مزيد اختصاص بمباشرة الرد على اليهود والنصارى لأنه مبعوث لإرشادهم وزجرهم وذلك في قوله : (قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) إلخ وقوله الآتي : (قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللهِ) [البقرة : ١٣٩] وجمع الضمير في الكلام الذي للأمة فيه مزيد اختصاص بمضمون المأمور به في سياق التعليم أعني قوله : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ) إلخ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قد علم ذلك من قبل فيما تضمنته علوم الرسالة ، ولذلك لم يخل واحد من هاته الكلامات ، عن الإيذان بشمول الأمة مع النبي ، أما هنا فظاهر بجمع الضمائر كلها ، وأما في قوله : (قُلْ بَلْ مِلَّةَ) إلخ فلكونه جوابا مواليا لقولهم : (كُونُوا هُوداً) [البقرة : ١٣٥] بضمير الجمع فعلم أنه رد عليهم بلسان الجميع ، وأما في قوله الآتي : (قُلْ أَتُحَاجُّونَنا) فلأنه بعد أن أفرد قل جمع الضمائر في (أَتُحَاجُّونَنا) ، و (رَبُّنا) ، و (لَنا) ، و (أَعْمالُنا) ، و (نَحْنُ) ، و (مُخْلِصُونَ) ، فانظر بدائع النظم في هاته الآيات ودلائل إعجازها.

٧١٨

وقدم الإيمان بالله لأنه لا يختلف باختلاف الشرائع الحق ، ثم عطف عليه الإيمان بما أنزل من الشرائع.

والمراد بما أنزل إلينا القرآن ، وبما عطف عليه ما أنزل على الأنبياء والرسل من وحي وما أوتوه من الكتب ، والمعنى أنا آمنا بأن الله أنزل تلك الشرائع ، وهذا لا ينافي أن بعضها نسخ بعضا ، وأن ما أنزل إلينا نسخ جميعها فيما خالفها فيه ، ولذلك قدم (وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) للاهتمام به ، والتعبير في جانب بعض هذه الشرائع بلفظ (أنزل) وفي بعضها بلفظ (أوتي) تفنن لتجنب إعادة اللفظ الواحد مرارا ، وإنما لم يفرد أحد الفعلين ولم تعطف متعلقاته بدون إعادة الأفعال تجنبا لتتابع المتعلقات فإنه كتتابع الإضافات في ما نرى.

والأسباط تقدم ذكرهم آنفا.

وجملة (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) حال أو استئناف كأنه قيل كيف تؤمنون بجميعهم فإن الإيمان بحق بواحد منهم ، وهذا السؤال المقدر ناشئ عن ضلالة وتعصب حيث يعتقدون أن الإيمان برسول لا يتم إلا مع الكفر بغيره وأن تزكية أحد لا تتم إلا بالطعن في غيره ، وهذه زلة في الأديان والمذاهب والنحل والأحزاب والأخلاق كانت شائعة في الأمم والتلامذة فاقتلعها الإسلام ، قال أبو علي بن سينا في «الإشارات» ردا على من انتصر في الفلسفة لأرسطو وتنقص أفلاطون «والمعلم الأول وإن كان عظيم المقدار لا يخرجنا الثناء عليه إلى الطعن في أساتيذه».

وهذا رد على اليهود والنصارى إذا آمنوا بأنبيائهم وكفروا بمن جاء بعدهم ، فالمقصود عدم التفرقة بينهم في الإيمان ببعضهم ، وهذا لا ينافي اعتقاد أن بعضهم أفضل من بعض.

وأحد أصله وحد بالواو ومعناه منفرد وهو لغة في واحد ومخفف منه وقيل هو صفة مشبهة فأبدلت واوه همزة تخفيفا ثم صار بمعنى الفرد الواحد فتارة يكون بمعنى ما ليس بمتعدد وذلك حين يجري على مخبر عنه أو موصوف نحو (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) [الإخلاص : ١] واستعماله كذلك قليل في الكلام ومنه اسم العدد أحد عشر ، وتارة يكون بمعنى فرد من جنس وذلك حين يبين بشيء يدل على جنس نحو خذ أحد الثوبين ويؤنث نحو قوله تعالى : (فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) [البقرة : ٢٨٢] وهذا استعمال كثير وهو قريب في المعنى من الاستعمال الأول ، وتارة يكون بمعنى فرد من جنس لكنه لا يبين بل يعمم وتعميمه قد يكون في الإثبات نحو قوله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ) [التوبة : ٦] ،

٧١٩

وقد يكون تعميمه في النفي وهو أكثر أحوال استعماله نحو قوله تعالى : (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) [الحاقة : ٤٧] وقول العرب : أحد لا يقول ذلك ، وهذا الاستعمال يفيد العموم كشأن النكرات كلها في حالة النفي.

وبهذا يظهر أن أحد لفظ معناه واحد في الأصل وتصريفه واحد ولكن اختلفت مواقع استعماله المتفرعة على أصل وضعه حتى صارت بمنزلة معان متعددة وصار أحد بمنزلة المترادف ، وهذا يجمع مشتت كلام طويل للعلماء في لفظ أحد وهو ما احتفل به القرافي في كتابه «العقد المنظوم في الخصوص والعموم».

وقد دلت كلمة (بَيْنَ) على محذوف تقديره وآخر لأن بين تقتضي شيئين فأكثر.

وقوله : (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) القول فيه كالقول في نظيره المتقدم آنفا عند قوله تعالى : (إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) [البقرة : ١٣٣].

[١٣٧] (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣٧))

كلام معترض بين قوله : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ) [البقرة : ١٣٦] وقوله : (صِبْغَةَ اللهِ) [البقرة : ١٣٨] والفاء للتفريع ودخول الفاء في الاعتراض وارد في الكلام كثيرا وإن تردد فيه بعض النحاة والتفريع على قوله : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ) والمراد من القول أن يكون إعلانا أي أعلنوا دينكم واجهروا بالدعوة إليه فإن اتبعكم الذين قالوا : (كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى) [البقرة : ١٣٥] فإيمانهم اهتداء وليسوا قبل ذلك على هدى خلافا لزعمهم أنهم عليه من قولهم : (كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا) فدل مفهوم الشرط على أنهم ليسوا على هدى ما داموا غير مؤمنين بالإسلام.

وجاء الشرط هنا بحرف (إن) المفيدة للشك في حصول شرطها إيذانا بأن إيمانهم غير مرجو.

والباء في قوله : (بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ) للملابسة وليست للتعدية أي إيمانا مماثلا لإيمانكم ، فالمماثلة بمعنى المساواة في العقيدة والمشابهة فيها باعتبار أصحاب العقيدة وليست مشابهة معتبرا فيها تعدد الأديان لأن ذلك ينبو عنه السياق ، وقيل لفظ مثل زائد ، وقيل الباء للآلة والاستعانة ، وقيل : الباء زائدة ، وكلها وجوه متكلفة.

٧٢٠