تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور

تفسير التّحرير والتّنوير - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد الطاهر ابن عاشور


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٣٥

القرآن في عدة آيات تتحدى العرب بأن يأتوا بسورة مثله ، وبعشر سورة مثله مما هو معلوم ، ناهيك أن القرآن نادى بأنه معجز لهم ، نحو قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ) [البقرة : ٢٣ ، ٢٤] الآية فإنه سهّل وسجّل : سهّل عليهم أن يأتوا بمثل سورة من سوره ، وسجّل عليهم أنهم لا يفعلون ذلك أبدا ، فكان كما سجّل ، فالتحدي متواتر وعجز المتحدّين أيضا متواتر بشهادة التاريخ إذ طالت مدتهم في الكفر ولم يقيموا الدليل على أنهم غير عاجزين ، وما استطاعوا الإتيان بسورة مثله ثم عدلوا إلى المقاومة بالقوة. قال الله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ) الآية من سورة البقرة [٢٣ ، ٢٤]. وقال : (قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) سورة يونس [٣٨] وقال : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) سورة هود [١٣ ، ١٤]. فعجز جميع المتحدّين عن الإتيان بمثل القرآن متواتر بتواتر هذه الآيات بينهم وسكوتهم عن المعارضة مع توفر دواعيهم عليها.

وقد اختلف العلماء في تعليل عجزهم عن ذلك فذهبت طائفة قليلة إلى تعليله بأنّ الله صرفهم عن معارضة القرآن فسلبهم المقدرة أو سلبهم الداعي لتقوم الحجة عليهم بمرأى ومسمع من جميع العرب ، ويعرف هذا القول بالصّرفة كما في «المواقف» للعضد و«المقاصد» للتفتازاني (ولعلها بفتح الصاد وسكون الراء وهي مرة من الصرف وضع بصيغة المرة للإشارة إلى أنها صرف خاص فصارت كالعلم بالغلبة) ولم ينسبوا هذا القول إلّا إلى الأشعري فيما حكاه أبو الفضل عياض في «الشفاء» وإلى النّظام والشريف المرتضى وأبي إسحاق الاسفرائيني فيما حكاه عنهم عضد الدين في «المواقف» ، وهو قول ابن حزم صرح به في كتاب «الفصل» ص ٧ جزء ٣ ، ص ١٨٤ جزء ٢ وقد عزاه صاحب «المقاصد» في شرحه إلى كثير من المعتزلة.

وأما الذي عليه جمهرة أهل العلم والتحقيق واقتصر عليه أئمّة الأشعرية وإمام الحرمين وعليه الجاحظ وأهل العربية كما في «المواقف» ، فالتعليل لعجز المتحدّين به بأنه بلوغ القرآن في درجات البلاغة والفصاحة مبلغا تعجز قدرة بلغاء العرب عن الإتيان بمثله ،

١٠١

وهو الذي نعتمده ونسير عليه في هذه المقدمة العاشرة.

وقد بدا لي دليل قوي على هذا وهو بقاء الآيات التي نسخ حكمها وبقيت متلوة من القرآن ومكتوبة في المصاحف فإنّها لما نسخ حكمها لم يبق وجه لبقاء تلاوتها وكتبها في المصاحف إلّا ما في مقدار مجموعها من البلاغة بحيث يلتئم منها مقدار ثلاث آيات متحدى بالإتيان بمثلها مثال ذلك آية الوصية في سورة العقود.

وإنما وقع التحدي بسورة أي وإن كانت قصيرة دون أن يتحداهم بعدد من الآيات لأن من أفانين البلاغة ما مرجعه إلى مجموع نظم الكلام وصوغه بسبب الغرض الذي سيق فيه من فواتح الكلام وخواتمه ، وانتقال الأغراض ، والرجوع إلى الغرض ، وفنون الفصل ، والإيجاز والإطناب ، والاستطراد والاعتراض ، وقد جعل شرف الدين الطيبي (١) هذا هو الوجه لإيقاع التّحدّي بسورة دون أن يجعل بعدد من الآيات.

وإذ قد كان تفصيل وجوه الإعجاز لا يحصره المتأمل كان علينا أن نضبط معاقدها التي هي ملاكها ، فنرى ملاك وجوه الإعجاز راجعا إلى ثلاث جهات :

الجهة الأولى : بلوغه الغاية القصوى مما يمكن أن يبلغه الكلام العربي البليغ من حصول كيفيات في نظمه مفيدة معاني دقيقة ونكتا من أغراض الخاصة من بلغاء العرب مما لا يفيده أصل وضع اللغة ، بحيث يكثر فيه ذلك كثرة لا يدانيها شيء من كلام البلغاء من شعرائهم وخطبائهم.

الجهة الثانية : ما أبدعه القرآن من أفانين التصرف في نظم الكلام مما لم يكن معهودا في أساليب العرب ، ولكنه غير خارج عما تسمح به اللغة.

الجهة الثالثة : ما أودع فيه من المعاني الحكمية والإشارات إلى الحقائق العقلية والعلمية مما لم تبلغ إليه عقول البشر في عصر نزول القرآن وفي عصور بعده متفاوتة ، وهذه الجهة أغفلها المتكلمون في إعجاز القرآن من علمائنا مثل أبي بكر الباقلاني والقاضي عياض.

وقد عد كثير من العلماء من وجوه إعجاز القرآن ما يعد جهة رابعة هي ما انطوى

__________________

(١) اسمه على الأصح الحسين ، وقيل : الحسن بن محمد الطيبي ـ بكسر الطاء وسكون الياء ـ ، الشافعي المتوفى سنة ٧٤٣ ه‍.

١٠٢

عليه من الإخبار عن المغيّبات مما دل على أنه منزل من علّام الغيوب ، وقد يدخل في هذه الجهة ما عده عياض في «الشفاء» وجها رابعا من وجوه إعجاز القرآن وهو ما أنبأ به من أخبار القرون السالفة مما كان لا يعلم منه القصة الواحدة إلا الفذّ من أحبار أهل الكتاب ، فهذا معجز للعرب الأميين خاصة وليس معجزا لأهل الكتاب ؛ وخاصّ ثبوت إعجازه بأهل الإنصاف من الناظرين في نشأة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأحواله ، وليس معجزا للمكابرين فقد قالوا (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) [النحل : ١٠٣].

فإعجاز القرآن من الجهتين الأولى والثانية متوجه إلى العرب ، إذ هو معجز لفصحائهم وخطبائهم وشعرائهم مباشرة ، ومعجز لعامتهم بواسطة إدراكهم أن عجز مقارعيه عن معارضته مع توفر الدواعي عليه هو برهان ساطع على أنه تجاوز طاقة جميعهم. ثم هو بذلك دليل على صدق المنزّل عليه لدى بقية البشر الذين بلغ إليهم صدى عجز العرب بلوغا لا يستطاع إنكاره لمعاصريه بتواتر الأخبار ، ولمن جاء بعدهم بشواهد التاريخ. فإعجازه للعرب الحاضرين دليل تفصيلي ، وإعجازه لغيرهم دليل إجمالي.

ثم قد يشارك خاصة العرب في إدراك إعجازه كلّ من تعلم لغتهم ومارس بليغ كلامهم وآدابهم من أئمة البلاغة العربية في مختلف العصور ، وهذا معنى قول السكاكي في «المفتاح» مخاطبا للناظر في كتابه «متوسلا بذلك (أي بمعرفة الخصائص البلاغية التي هو بصدد الكلام عليها إلى أن تتأنّق في وجه الإعجاز في التنزيل منتقلا مما أجمله عجز المتحدّين به عندك إلى التفصيل».

والقرآن معجز من الجهة الثالثة للبشر قاطبة إعجازا مستمرا على ممر العصور ، وهذا من جملة ما شمله قول أئمة الدين : إن القرآن هو المعجزة المستمرة على تعاقب السنين ، لأنه قد يدرك إعجازه العقلاء من غير الأمة العربية بواسطة ترجمة معانيه التشريعية والحكمية والعلمية والأخلاقية ، وهو دليل تفصيلي لأهل تلك المعاني وإجمالي لمن تبلغه شهادتهم بذلك.

وهو من الجهة الرابعة ـ عند الذين اعتبروها زائدة على الجهات الثلاث ـ معجز لأهل عصر نزوله إعجازا تفصيليا ، ومعجز لمن يجيء بعدهم ممن يبلغه ذلك بسبب تواتر نقل القرآن ، وتعيّن صرف الآيات المشتملة على هذا الإخبار إلى ما أريد منها.

هذا ملاك الإعجاز بحسب ما انتهى إليه استقراؤنا إجمالا ، ولنأخذ في شيء من تفصيل ذلك وتمثيله.

١٠٣

فأما الجهة الأولى فمرجعها إلى ما يسمّى بالطرف الأعلى من البلاغة والفصاحة ، وهو المصطلح على تسميته حدّ الإعجاز ، فلقد كان منتهى التنافس عند العرب بمقدار التفوق في البلاغة والفصاحة ، وقد وصف أئمة البلاغة والأدب هذين الأمرين بما دوّن له علما المعاني والبيان ، وتصدّوا في خلال ذلك للموازنة بين ما ورد في القرآن من ضروب البلاغة وبين أبلغ ما حفظ عن العرب من ذلك مما عدّ في أقصى درجاتها. وقد تصدى أمثال أبي بكر الباقلاني وأبي هلال العسكري وعبد القاهر والسّكّاكي وابن الأثير ، إلى الموازنة بين ما ورد في القرآن وبين ما ورد في بليغ كلام العرب من بعض فنون البلاغة بما فيه مقنع للمتأمّل ، ومثل للمتمثّل. وليس من حظ الواصف إعجاز القرآن وصفا إجماليا كصنعنا هاهنا أن يصف هذه الجهة وصفا مفصلا لكثرة أفانينها ، فحسبنا أن نحيل في تحصيل كلياتها وقواعدها على الكتب المجعولة لذلك مثل «دلائل الإعجاز» ، و«أسرار البلاغة» ، والقسم الثالث فما بعده من «المفتاح» ، ونحو ذلك ، وأن نحيل في تفاصيلها الواصفة لإعجاز آي القرآن على التفاسير المؤلّفة في ذلك وعمدتها كتاب «الكشاف» للعلامة الزمخشري ، وما سنستنبطه ونبتكره في تفسيرنا هذا إن شاء الله ، غير أني ذاكر هنا أصولا لنواحي إعجازه من هذه الجهة وبخاصة ما لم يذكره الأئمة أو أجملوا في ذكره.

وحسبنا هنا الدليل الإجمالي وهو أن الله تعالى تحدى بلغاءهم أن يأتوا بسورة من مثله فلم يتعرض واحد إلى معارضته ، اعترافا بالحق وربئا بأنفسهم عن التعريض بالنفس إلى الافتضاح ، مع أنهم أهل القدرة في أفانين الكلام نظما ونثرا ، وترغيبا وزجرا ، قد خصّوا من بين الأمم بقوة الذهن وشدة الحافظة وفصاحة اللسان وتبيان المعاني ، فلا يستصعب عليهم سابق من المعاني ، ولا يجمع بهم عسير من المقامات.

قال عياض في «الشفاء» : «فلم يزل يقرّعهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أشدّ التقريع ويوبخهم غاية التوبيخ ويسفّه أحلامهم ويحط أعلامهم وهم في كل هذا ناكصون عن معارضته محجمون عن مماثلته ، يخادعون أنفسهم بالتكذيب والإغراء بالافتراء ، وقولهم : (إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) [المدثر : ٢٤] و (سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) [القمر : ٢] و (إِفْكٌ افْتَراهُ) [الفرقان : ٤] و (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [الأنعام : ٢٥] وقد قال تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) ، فما فعلوا ولا قدروا ، ومن تعاطى ذلك من سخفائهم كمسيلمة كشف عواره لجميعهم. ولمّا سمع الوليد بن المغيرة قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) [النحل : ٩٠] الآية قال : والله إنّ له لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة ، وإنّ أسفله لمغدق وإنّ أعلاه لمثمر وما هو بكلام بشر. وذكر

١٠٤

أبو عبيدة أن أعرابيا سمع رجلا يقرأ (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ) [الحجر : ٩٤] فسجد وقال : سجدت لفصاحته ، (وكان موضع التأثير في هذه الجملة هو كلمة اصدع في إبانتها عن الدعوة والجهر بها والشجاعة فيها ، وكلمة (بِما تُؤْمَرُ) في إيجازها وجمعها) (١). وسمع آخر رجلا يقرأ : (فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا) [يوسف : ٨٠] فقال : أشهد أن مخلوقا لا يقدر على مثل هذا الكلام. وكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحدّى به وأنّ العرب عجزوا عن معارضته مما علم بالضرورة إجمالا وتصدى أهل علم البلاغة لتفصيله.

قال السكاكي في «المفتاح» : «واعلم أن شأن الإعجاز عجيب يدرك ولا يمكن وصفه ، كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن وصفها ، أو كالملاحة ، ومدرك الإعجاز عندي هو الذوق ليس إلا ، وطريق اكتساب الذوق طول خدمة هذين العلمين (المعاني والبيان) نعم للبلاغة وجوه متلثمة ربما تيسرت إماطة اللّثام عنها لتجلى عليك ، أما نفس وجه الإعجاز فلا» ا ه.

قال التفتازانيّ : «يعني أن كل ما ندركه بعقولنا ففي غالب الأمر نتمكن من التعبير عنه ، والإعجاز ليس كذلك لأنا نعلم قطعا من كلام الله أنه بحيث لا تمكن للبشر معارضته والإتيان بمثله ولا يماثله شيء من كلام فصحاء العرب مع أن كلماته كلمات كلامهم ، وكذا هيئات تراكيبه ، كما أنا نجد كلاما نعلم قطعا أنه مستقيم الوزن دون آخر ، وكما أنا ندرك من أحد كون كل عضو منه كما ينبغي وآخر كذلك أو دون ذلك ، لكن فيه شيء نسميه الملاحة ولا نعرف أنه ما هو ، وليس مدرك الإعجاز عند المصنف سوى الذوق وهو قوة إدراكية لها اختصاص بإدراك لطائف الكلام ووجوه محاسنه الخفية ، فإن كان حاصلا بالفطرة فذاك وإن أريد اكتسابه فلا طريق إليه سوى الاعتناء بعلمي المعاني والبيان وطول ممارستهما والاشتغال بهما ، وإن جمع بين الذوق الفطري وطول خدمة العلمين فلا غاية وراءه ، فوجه الإعجاز أمر من جنس البلاغة والفصاحة لا كما ذهب إليه النظّام وجمع من المعتزلة أن إعجازه بالصّرفة بمعنى أن الله صرف العرب عن معارضته وسلب قدرتهم عليها ، ولا كما ذهب إليه جماعة من أن إعجازه بمخالفة أسلوبه لأساليب كلامهم من الأشعار والخطب والرسائل لا سيما في المقاطع مثل يؤمنون وينفقون ويعلمون (قال السيد لا سيما في مطالع السور ومقاطع الآي) أو بسلامته من التناقض (قال السيد مع طوله

__________________

(١) ما بين الهلالين كلام للمصنف.

١٠٥

جدا) أو باشتماله على الإخبار بالمغيبات والكل فاسد». ا ه.

وقال السيد الجرجاني فهذه أقوال خمسة في وجه الإعجاز لا سادس لها.

وقال السيد أراد المصنف أن الإعجاز نفسه وإن لم يمكن وصفه وكشفه بحيث يدرك به لكن الأمور المؤدية إلى كون الكلام معجزا أعني وجوه البلاغة قد تحتجب فربما تيسر كشفها ليتقوّى بذلك ذوق البليغ على مشاهدة الإعجاز.

يريد السيد بهذا الكلام إبطال التدافع بين قول صاحب «المفتاح» : يدرك ولا يمكن وصفه إذ نفى الإمكان ، وبين قوله نعم للبلاغة وجوه متلثمة ربما تيسرت إماطة اللثام عنها ، فأثبت تيسر وصف وجوه الإعجاز ، بأنّ الإعجاز نفسه لا يمكن كشف القناع عنه ، وأما وجوه البلاغة فيمكن كشف القناع عنها.

واعلم أنّه لا شك في أنّ خصوصيات الكلام البليغ ودقائقه مرادة لله تعالى في كون القرآن معجزا وملحوظة للمتحدّين به على مقدار ما يبلغ إليه بيان المبيّن. وأن إشارات كثيرة في القرآن تلفت الأذهان لذلك ويحضرني الآن من ذلك أمور : أحدها : ما رواه مسلم والأربعة عن أبي هريرة قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قال الله تعالى : قسمت الصلاة (أي سورة الفاتحة) بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل : فإذا قال العبد : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) قال الله تعالى : حمدني عبدي. وإذا قال : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) قال الله تعالى أثنى علي عبدي. وإذا قال : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) قال : مجدني عبدي ، وقال مرة : فوض إلي عبدي ، فإذا قال : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) قال : هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل ، فإذا قال : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) [الفاتحة : ٢ ـ ٧] ، قال : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل.

ففي هذا الحديث تنبيه على ما في نظم فاتحة الكتاب من خصوصية التقسيم إذ قسم الفاتحة ثلاثة أقسام. وحسن التقسيم من المحسنات البديعية ، مع ما تضمّنه ذلك التقسيم من محسن التخلص في قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ، قال : «هذا بيني وبين عبدي» إذ كان ذلك مزيجا من القسمين الذي قبله والذي بعده.

وفي القرآن مراعاة التجنيس في غير ما آية والتجنيس من المحسنات ، ومنه قوله تعالى : (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) [الأنعام : ٢٦].

وفيه التنبيه على محسّن المطابقة كقوله : (فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ)

١٠٦

[الحج : ٤].

والتنبيه على ما فيه من تمثيل كقوله تعالى : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها)(١)(لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) [العنكبوت : ٤٣] وقوله : (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [إبراهيم : ٢٥].

ولذا فنحن نحاول تفصيل شيء مما أحاط به علمنا من وجوه الإعجاز :

نرى من أفانين الكلام الالتفات وهو نقل الكلام من أحد طرق التكلّم أو الخطاب أو الغيبة إلى طريق آخر منها ، وهو بمجرده معدود من الفصاحة ، وسماه ابن جني شجاعة العربية لأن ذلك التغيير يجدد نشاط السامع فإذا انضم إليه اعتبار لطيف يناسب الانتقال إلى ما انتقل إليه صار من أفانين البلاغة وكان معدودا عند بلغاء العرب من النفائس ، وقد جاء منه في القرآن ما لا يحصى كثرة مع دقة المناسبة في الانتقال.

وكان للتشبيه والاستعارة عند القوم المكان القصي والقدر العلي في باب البلاغة ، وبه فاق امرؤ القيس ونبهت سمعته ، وقد جاء في القرآن من التشبيه والاستعارة ما أعجز العرب كقوله : (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) [مريم : ٤] وقوله : (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِ) [الإسراء : ٢٤] وقوله : (وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) [يس : ٣٧] وقوله تعالى : (ابْلَعِي ماءَكِ) [هود : ٤٤] وقوله : (صِبْغَةَ اللهِ) [البقرة : ١٣٨] إلى غير ذلك من وجوه البديع.

ورأيت من محاسن التشبيه عندهم كمال الشّبه ، ورأيت وسيلة ذلك الاحتراس وأحسنه ما وقع في القرآن كقوله تعالى : (فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) [محمد : ١٥] احتراس عن كراهة الطعام (وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) [محمد : ١٥] احتراس عن أن تتخلله أقذاء من بقايا نحله.

وانظر التمثيلية في قوله تعالى : (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) [البقرة : ٢٦٦] الآية ففيه إتمام جهات كمال تحسين التشبيه لإظهار أن الحسرة على تلفها أشد. وكذا قوله تعالى : (مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ) ـ إلى قوله ـ (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ) [النور : ٣٥] فقد ذكر من الصفات ، والأحوال ما فيه مزيد وضوح المقصود من شدة الضياء ، وما فيه تحسين المشبّه وتزيينه بتحسين شبهه ، وأين من الآيتين قول كعب :

__________________

(١) في المطبوعة : ويضرب الله الأمثال ... وهو خطأ.

١٠٧

شجّت بذي شبم من ماء محنية

صاف بأبطح أضحى وهو مشمول

تنفي الرّياح القذى عنه وأفرطه

من صوب سارية بيض يعاليل

إن نظم القرآن مبني على وفرة الإفادة وتعدد الدلالة ، فجمل القرآن لها دلالتها الوضعية التركيبية التي يشاركها فيها الكلام العربي كله ، ولها دلالتها البلاغية التي يشاركها في مجملها كلام البلغاء ولا يصل شيء من كلامهم إلى مبلغ بلاغتها.

ولها دلالتها المطويّة وهي دلالة ما يذكر على ما يقدّر اعتمادا على القرينة ، وهذه الدلالة قليلة في كلام البلغاء وكثرت في القرآن مثل تقدير القول وتقدير الموصوف وتقدير الصفة.

ولها دلالة مواقع جمله بحسب ما قبلها وما بعدها ، ككون الجملة في موقع العلة لكلام قبلها ، أو في موقع الاستدراك ، أو في موقع جواب سؤال ، أو في موقع تعريض أو نحوه. وهذه الدلالة لا تتأتّى في كلام العرب لقصر أغراضه في قصائدهم وخطبهم بخلاف القرآن ، فإنه لما كان من قبيل التذكير والتلاوة سمحت أغراضه بالإطالة ، وبتلك الإطالة تأتّى تعدد مواقع الجمل والأغراض.

مثال ذلك قوله تعالى : (وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [الجاثية : ٢٢] ـ بعد قوله ـ (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [الجاثية : ٢١] فإن قوله : (وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) إلى آخره مفيد بتراكيبه فوائد من التعليم والتذكير ، وهو لوقوعه عقب قوله : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ) واقع موقع الدليل على أنه لا يستوي من عمل السيئات مع من عمل الصالحات في نعيم الآخرة.

وإنّ للتقديم والتأخير في وضع الجمل وأجزائها في القرآن دقائق عجيبة كثيرة لا يحاط بها وسننبّه على ما يلوح منها في مواضعه إن شاء الله. وإليك مثلا من ذلك يكون لك عونا على استجلاء أمثاله. قال تعالى : (إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً لِلطَّاغِينَ مَآباً) ـ إلى قوله ـ (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً حَدائِقَ وَأَعْناباً) ـ إلى قوله ـ (وَكَأْساً دِهاقاً لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً) [النبأ : ٢١ ـ ٣٥] فكان للابتداء بذكر جهنم ما يفسر المفاز في قوله : (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً) أنّه الجنة لأنّ الجنة مكان فوز. ثم كان قوله : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً) ما يحتمل لضمير (فيها) من قوله : (لا يَسْمَعُونَ فِيها) أن يعود إلى (كَأْساً دِهاقاً)

١٠٨

وتكون (في) للظرفية المجازية أي الملابسة أو السببية أي لا يسمعون في ملابسة شرب الكأس ما يعتري شاربيها في الدنيا من اللغو واللجاج ، وأن يعود إلى (مَفازاً) بتأويله باسم مؤنث وهو الجنة وتكون (في) للظرفية الحقيقة أي لا يسمعون في الجنة كلاما لا فائدة فيه ولا كلاما مؤذيا. وهذه المعاني لا يتأتّى جميعها إلا بجمل كثيرة لو لم يقدم ذكر جهنم ولم يعقب بكلمة (مَفازاً). ولم يؤخر (وَكَأْساً دِهاقاً) ولم يعقب بجملة : (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً) إلخ.

ومما يجب التنبيه له أن مراعاة المقام في أن ينظّم الكلام على خصوصيات بلاغيّة هي مراعاة من مقومات بلاغة الكلام وخاصّة في إعجاز القرآن ، فقد تشتمل آية من القرآن على خصوصيات تتساءل نفس المفسّر عن دواعيها وما يقتضيها فيتصدى لتطلب مقتضيات لها ربما جاء بها متكلّفة أو مغصوبة ، ذلك لأنه لم يلتفت إلا إلى مواقع ألفاظ الآية ، في حال أنّ مقتضياتها في الواقع منوطة بالمقامات التي نزلت فيها الآية ، مثال ذلك قوله تعالى في سورة المجادلة [١٩] : (أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) ثم قوله : (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [المجادلة : ٢٢] فقد يخفى مقتضى اجتلاب حرف التنبيه في افتتاح كلتا الجملتين فيأوي المفسر إلى تطلّب مقتضيه ويأتي بمقتضيات عامة مثل أن يقول : التنبيه للاهتمام بالخبر ، ولكن إذا قدرنا أن الآيتين نزلتا بمسمع من المنافقين والمؤمنين جميعا علمنا أن اختلاف حرف التنبيه في الأولى لمراعاة إيقاظ فريقي المنافقين والمؤمنين جميعا ، فالأوّلون لأنهم يتظاهرون بأنهم ليسوا من حزب الشيطان في نظر المؤمنين إذ هم يتظاهرون بالإسلام فكأنّ الله يقول قد عرفنا دخائلكم ، وثاني الفريقين وهم المؤمنون نبّهوا لأنهم غافلون عن دخائل الآخرين فكأنه يقول لهم تيقظوا فإن الذين يتولون أعداءكم هم أيضا عدوّ لكم لأنهم حزب الشيطان والشيطان عدوّ الله وعدوّ الله عدوّ لكم! واجتلاب حرف التنبيه في الآية الثانية لتنبيه المنافقين إلى فضيلة المسلمين لعلهم يرغبون فيها فيرعوون عن النفاق ، وتنبيه المسلمين إلى أن حولهم فريقا ليسوا من حزب الله فليسوا بمفلحين ليتوسموا أحوالهم حق التوسم فيحذروهم.

ومرجع هذا الصنف من الإعجاز إلى ما يسمّى في عرف علماء البلاغة بالنّكت البلاغيّة فإنّ بلغاءهم كان تنافسهم في وفرة إيداع الكلام من هذه النكت ، وبذلك تفاضل بلغاؤهم ، فلما سمعوا القرآن انثالت على كلّ من سمعه من بلغائهم من النكت التي تفطّن

١٠٩

لها ما لم يجد من قدرته قبلا بمثله ، وأحسب أن كل بليغ منهم قد فكر في الاستعانة بزملائه من أهل اللسان فعلم ألّا مبلغ بهم إلى التظاهر على الإتيان بمثل القرآن فيما عهده كل واحد من ذوق زميله.

هذا كله بحسب ما بلغت إليه قريحة كل واحد ممن سمع القرآن منهم من التفطن إلى نكت القرآن وخصائصه. ووراء ذلك نكت لا يتفطن إليها كل واحد ، وأحسب أنهم تآمروا وتدارسوا بينهم في نواديهم أمر تحدي الرسول إيّاهم بمعارضة القرآن وتواصفوا ما اشتملت عليه بعض آياته العالقة بحوافظهم وأسماعهم من النكت والخصائص وأوقف بعضهم بعضا على ما لاح له من تلك الخصائص ، وفكروا وقدروا وتدبروا فعلموا أنهم عاجزون عن الإتيان بمثلها إن انفردوا أو اجتمعوا ، ولذلك سجل القرآن عليهم عجزهم في الحالتين فقال تارة : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) [البقرة : ٢٣] وقال لهم مرّة : (لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [الإسراء : ٨٨] فحالة اجتماعهم وتظاهرهم لم تكن مغفولا عنها بينهم ضرورة أنهم متحدون بها.

وهذه الناحية من هذه الجهة من الإعجاز هي أقوى نواحي إعجاز القرآن وهي التي يتحقق بها إعجاز أقصر سورة منه. وفي هذه الجهة ناحية أخرى وهي ناحية فصاحة اللفظ وانسجام النظم وذلك بسلامة الكلام في أجزائه ومجموعه مما يجزّ الثقل إلى لسان الناطق به ، ولغة العرب لغة فصيحة وأهلها مشهورون بفصاحة الألسن. قال فخر الدين الرازي في «مفاتيح الغيب» : «إن المحاسن اللفظية غير مهجورة في الكلام الحكمي ، والكلام له جسم وهو اللفظ وله روح وهو المعنى وكما أن الإنسان الذي نوّر روحه بالمعرفة ينبغي أن ينوّر جسمه بالنظافة ، كذلك الكلام ، ورب كلمة حكيمة لا تؤثر في النفوس لركاكة لفظها».

وكان مما يعرض لشعرائهم وخطبائهم ألفاظ ولهجات لها بعض الثقل على اللسان ، فأما ما يعرض للألفاظ فهو ما يسمى في علم الفصاحة بتنافر حروف الكلمة أو تنافر حروف الكلمات عند اجتماعها مثل : مستشزرات والكنهبل في معلقة امرئ القيس ، وسفنّجة والحفيدد في معلقة طرفة ، وقول القائل : وليس قرب قبر حرب قبر.

وقد سلم القرآن من هذا كله مع تفننه في مختلف الأغراض وما تقتضيه من تكاثر الألفاظ ، وبعض العلماء أورد قوله تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ) [يس : ٦٠] وقوله : (وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ) [هود : ٤٨] وتصدي للجواب ، والصواب أن ذلك غير وارد كما قاله المحققون لعدم بلوغه حد الثقل ، ولأن حسن دلالة اللفظ على المعنى بحيث لا يخلفه فيها

١١٠

غيره مقدّم على مراعاة خفة لفظه.

فقد اتفق أئمة الأدب على أن وقوع اللفظ المتنافر في أثناء الكلام الفصيح لا يزيل عنه وصف الفصاحة ، فإن العرب لم يعيبوا معلقة امرئ القيس ولا معلقة طرفة. قال أبو العباس المبرد : «وقد يضطرّ الشاعر المفلق والخطيب المصقع والكاتب البليغ فيقع في كلام أحدهم المعنى المستغلق واللفظ المستكره فإذا انعطفت عليه جنبتا الكلام غطّتا على عواره وسترتا من شينه».

وأما ما يعرض للهجات العرب فذلك شيء تفاوتت في مضماره جياد ألسنتهم وكان المجلى فيها لسان قريش ومن حولها من القبائل المذكورة في المقدمة السادسة وهو مما فسر به حديث : «أنزل القرآن على سبعة أحرف» ، ولذلك جاء القرآن بأحسن اللهجات وأخفّها وتجنّب المكروه من اللهجات ، وهذا من أسباب تيسير تلقي الأسماع له ورسوخه فيها. قال تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) [القمر : ١٧].

ومما أعدّه في هذه الناحية صراحة كلماته باستعمال أقرب الكلمات في لغة العرب دلالة على المعاني المقصودة ، وأشملها لمعان عديدة مقصودة بحيث لا يوجد في كلمات القرآن كلمة تقصر دلالتها عن جميع المقصود منها في حالة تركيبها ، ولا تجدها مستعملة إلا في حقائقها مثل إيثار كلمة حرد في قوله تعالى : (وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ) [القلم : ٢٥] إذ كان جميع معاني الحرد صالحا للإرادة في ذلك الغرض ، أو مجازات أو استعارات أو نحوها مما تنصب عليه القرائن في الكلام ، فإن اقتضى الحال تصرفا في معنى اللفظ كان التصرف بطريق التضمين وهو كثير في القرآن مثل قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ) [الفرقان : ٤٠] فجاء فعل (أَتَوْا) مضمنا معنى مرّوا فعدي بحرف على ؛ لأن الإتيان تعدّى إلى اسم القرية والمقصود منه الاعتبار بمآل أهلها ، فإنه يقال أتى أرض بني فلان ومرّ على حي كذا. وهذه الوجوه كلها لا تخالف أساليب الكلام البليغ بل هي معدودة من دقائقه ونفائسه التي تقل نظائرها في كلام بلغائهم لعجز فطنة الأذهان البشرية عن الوفاء بجميعها.

وأما الجهة الثانية : وهي ما أبدعه القرآن من أفانين التصرف في أساليب الكلام البليغ وهذه جهة مغفولة من علم البلاغة ، فاعلم أن أدب العرب نوعان شعر ونثر ، والنثر خطابة وأسجاع كهّان ، وأصحاب هذه الأنواع وإن تنافسوا في ابتكار المعاني وتفاوتوا في تراكيب أدائها في الشعر فهم بالنسبة إلى الأسلوب قد التزموا في أسلوبي الشعر والخطابة

١١١

طريقة واحدة تشابهت فنونها فكادوا لا يعدون ما ألفوه من ذلك حتى إنك لتجد الشاعر يحذو حذو الشاعر في فواتح القصائد وفي كثير من تراكيبها ، فكم من قصائد افتتحت بقولهم : «بانت سعاد» للنابغة وكعب بن زهير ، وكم من شعر افتتح ب :

يا خليليّ أربعا واستخبرا

وكم من شعر افتتح ب :

يا أيها الراكب المزجي مطيته

وقال امرؤ القيس في معلقته :

وقوفا بها صحبي عليّ مطيّهم

يقولون لا تهلك أسى وتحمل

فقال طرفة في معلقته بيتا مماثلا له سوى أن كلمة القافية منه «وتجلّد».

وكذلك القول في خطبهم تكاد تكون لهجة واحدة وأسلوبا واحدا فيما بلغنا من خطب سحبان وقس بن ساعدة. وكذلك أسجاع الكهان وهي قد اختصت بقصر الفقرات وغرابة الكلمات. إنما كان الشعر الغالب على كلامهم ، وكانت الخطابة بحالة ندور لندرة مقاماتها. قال عمر «كان الشعر علم القوم ولم يكن لهم علم أصح منه» فانحصر تسابق جياد البلاغة في ميدان الكلام المنظوم ، فلما جاء القرآن ولم يكن شعرا ولا سجع كهان ، وكان من أسلوب النثر أقرب إلى الخطابة ، ابتكر للقول أساليب كثيرة بعضها تتنوع بتنوع المقاصد ، ومقاصدها بتنوع أسلوب الإنشاء ، فيها أفانين كثيرة فيجد فيه المطلع على لسان العرب بغيته ورغبته ، ولهذا قال الوليد بن المغيرة لما استمع إلى قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والله ما هو بكاهن ، ما هو بزمزمته ولا سجعه ، وقد عرفنا الشّعر كله رجزه وهزجه ، وقريضه ومبسوطه ، ومقبوضه ما هو بشاعر».

وكذلك وصفه أنيس بن جنادة الغفاري الشاعر أخو أبي ذر حين انطلق إلى مكة ليسمع من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويأتي بخبره إلى أخيه فقال : «لقد سمعت قول الكهنة فما هو بقولهم ، ولقد وضعته على أقراء الشّعر (١) فلم يلتئم ، وما يلتئم على لسان واحد بعدي أنه شعر» ثم أسلم. وورد مثل هذه الصفة عن عتبة بن ربيعة والنّضر بن الحارث ، والظاهر أن المشركين لما لم يجدوا بدّا من إلحاق القرآن بصنف من أصناف كلامهم ألحقوه بأشبه

__________________

(١) الأقراء جمع قرء وهو الطريق.

١١٢

الكلام به فقالوا إنه شعر تقريبا للدّهماء بما عهده القوم من الكلام الجدير بالاعتبار من حيث ما فيه من دقائق المعاني وأحكام الانتظام والنفوذ إلى العقول ، فإنه مع بلوغه أقصى حد في فصاحة العربية ومع طول أغراضه وتفنن معانيه وكونه نثرا لا شعرا ترى أسلوبه يجري على الألسنة سلسا سهلا لا تفاوت في فصاحة تراكيبه ، وترى حفظه أسرع من حفظ الشعر. وقد اختار العرب الشعر لتخليد أغراضهم وآدابهم لأن ما يقتضيه من الوزن يلجئ إلى التدريب على ألفاظ متوازنة فيكسبها ذلك التوازن تلاؤما فتكون سلسة على الألسن ، فلذلك انحصر تسابق جياد البلاغة في الكلام المنظوم ، وفحول الشعراء مع ذلك متفاوتون في سلاسة الكلام مع تسامحهم في أمور كثيرة اغتفرها الناس لهم وهي المسماة بالضرورات ، بحيث لو كان لواحد من البشر أن يتكلف فصاحة لما يقوله من كلام ويعاود تنقيحه وتغيير نظمه بإبدال لكلمات أو بالتقديم لما حقه التأخير أو التأخير لما حقّه التقديم ، أو حذف أو زيادة ، لقضى زمنا مديدا في تأليف ما يقدّر بسورة من متوسط سور القرآن ، ولما سلم مع ذلك من جمل يتعثر فيها اللسان. ولم يدع مع تلك الفصاحة داع إلى ارتكاب ضرورة أو تقصير في بعض ما تقتضيه البلاغة ، فبني نظمه على فواصل وقرائن متقاربة فلم تفته سلاسة الشعر ولم ترزح تحت قيود الميزان ، فجاء القرآن كلاما منثورا ولكنه فاق في فصاحته وسلاسته على الألسنة وتوافق كلماته وتراكيبه في السلامة من أقلّ تنافر وتعثر على الألسنة. فكان كونه من النثر داخلا في إعجازه ، وقد اشتمل القرآن على أنواع أساليب الكلام العربي وابتكر أساليب لم يكونوا يعرفونها وإن لذلك التنويع حكمتين داخلتين في الإعجاز : أولا هما ظهور أنه من عند الله ؛ إذ قد تعارف الأدباء في كل عصر أن يظهر نبوغ نوابغهم على أساليب مختلفة كلّ يجيد أسلوبا أو أسلوبين. الثانية أن يكون في ذلك زيادة التحدي المتحدّين به بحيث لا يستطيع أحد أن يقول إن هذا الأسلوب لم تسبق لي معالجته ولو جاءنا بأسلوب آخر لعارضته.

نرى من أعظم الأساليب التي خالف بها القرآن أساليب العرب أنه جاء في نظمه بأسلوب جامع بين مقصديه وهما : مقصد الموعظة ومقصد التشريع ، فكان نظمه يمنح بظاهره السامعين ما يحتاجون أن يعلموه وهو في هذا النوع يشبه خطبهم ، وكان في مطاوي معانيه ما يستخرج منه العالم الخبير أحكاما كثيرة في التشريع والآداب وغيرها ، وقد قال في الكلام على بعضه : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) [آل عمران : ٧] هذا من حيث ما لمعانيه من العموم والإيماء إلى العلل والمقاصد وغيرها.

١١٣

ومن أساليبه ما أسمّيه بالتفنن وهو بداعة تنقلاته من فن إلى فن بطرائق الاعتراض والتنظير والتذليل والإتيان بالمترادفات عند التكرير تجنبا لثقل تكرير الكلم ، وكذلك الإكثار من أسلوب الالتفات المعدود من أعظم أساليب التفنن عند بلغاء العربية فهو في القرآن كثير ، ثم الرجوع إلى المقصود فيكون السامعون في نشاط متجدد بسماعه وإقبالهم عليه ، ومن أبدع أمثله ذلك قوله : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ* صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ. أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ* يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة : ١٧ ـ ٢٠] بحيث كان أكثر أساليب القرآن من الأساليب البديعة العزيز مثلها في شعر العرب وفي نثر بلغائهم من الخطباء وأصحاب بدائه الأجوبة. وفي هذا التفنن والتنقل مناسبات بين المنتقل منه والمنتقل إليه هي في منتهى الرقة والبداعة بحيث لا يشعر سامعه وقارئه بانتقاله إلا عند حصوله. وذلك التفنن مما يعين على استماع السامعين ويدفع سآمة الإطالة عنهم ، فإن من أغراض القرآن استكثار أزمان قراءته كما قال تعالى : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) [المزمل : ٢٠] فقوله (ما تَيَسَّرَ) يقتضي الاستكثار بقدر التّيسّر ، وفي تناسب أقواله وتفنن أغراضه مجلبة لذلك التيسير وعون على التكثير.

نقل عن أبي بكر بن العربي أنه قال في كتابه «سراج المريدين» : «ارتباط آي القرآن بعضها مع بعض حتى تكون كالكلمة الواحدة متّسعة المعاني منتظمة المباني ، علم عظيم» ونقل الزركشي عن عز الدين بن عبد السلام : «المناسبة علم حسن ويشترط في حسن ارتباط الكلام أن يقع في أمر متحد مرتبط أوله بآخره فإن وقع على أسباب مختلفة لم يقع فيه ارتباط ، والقرآن نزل في نيف وعشرين سنة في أحكام مختلفة شرعت لأسباب مختلفة ، وما كان كذلك لا يتأتى ربط بعضه بعض».

وقال شمس الدين محمود الأصفهاني في «تفسيره» نقلا عن الفخر الرازي أنه قال : «إن القرآن كما أنه معجز بسبب فصاحة ألفاظه وشرف معانيه هو أيضا معجز بسبب ترتيبه ونظم آياته ، ولعل الذين قالوا إنه معجز بسبب أسلوبه أرادوا ذلك».

إن بلاغة الكلام لا تنحصر في أحوال تراكيبه اللفظية ، بل تتجاوز إلى الكيفيات التي تؤدي بها تلك التراكيب. فإن سكوت المتكلم البليغ في جملة سكوتا خفيفا قد يفيد من

١١٤

التشويق إلى ما يأتي بعده ما يفيده إبهام بعض كلامه ثم تعقيبه ببيانه ، فإذا كان من مواقع البلاغة نحو الإتيان بلفظ الاستئناف البياني ، فإنّ السكوت عند كلمة وتعقيبها بما بعدها يجعل ما بعدها بمنزلة الاستئناف البياني ، وإن لم يكنه عينه ، مثاله قوله تعالى : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) [النازعات : ١٦] فإنّ الوقف على قوله (موسى) يحدث في نفس السامع ترقبا لما يبيّن حديث موسى ، فإذا جاء بعده (إِذْ ناداهُ رَبُّهُ) إلخ حصل البيان مع ما يحصل عند الوقف على كلمة (موسى) من قرينة من قرائن الكلام لأنه على سجعة الألف مثل قوله : (طُوىً) ، (طَغى) [النازعات : ١٧] ، (تَزَكَّى) [النازعات : ١٨] ، إلخ.

وقد بينت عند تفسير قوله تعالى : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٢] أنّك إن وقفت على كلمة (رَيْبَ) كان من قبيل إيجاز الحذف أي لا ريب في أنّه الكتاب فكانت جملة (فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) ابتداء كلام وكان مفاد حرف (في) استنزال طائر المعاندين أي إن لم يكن كلّه هدى فإنّ فيه هدى ، وإن وصلت (فِيهِ) كان من قبيل الإطناب وكان ما بعده مفيدا أنّ هذا الكتاب كلّه هدى.

ومن أساليب القرآن العدول عن تكرير اللفظ والصيغة فيما عدا المقامات التي تقتضي التكرير من تهويل ونحوه ، ومما عدل فيه عن تكرير الصيغة قوله تعالى : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) [التحريم : ٤] فجاء بلفظ قلوب جمعا مع أن المخاطب امرأتان فلم يقل قلبا كما تجنبا لتعدد صيغة المثنى.

ومن ذلك قوله تعالى : (وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا) [الأنعام : ١٣٩] فروعي معنى ما الموصولة مرّة فأتى بضمير جماعة المؤنث وهو (خالِصَةٌ) ، وروعي لفظ ما الموصولة فأتي بمحرم مذكّرا مفردا.

إن المقام قد يقتضى شيئين متساويين أو أشياء متساوية فيكون البليغ مخيرا في أحدهما وله ذكرهما تفننا وقد وقع في القرآن كثير من هذا :

من ذلك قوله : (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً) بواو العطف في سورة البقرة [٣٥] ، وقوله في الأعراف [١٩] (فَكُلا) بفاء التفريع وكلاهما مطابق للمقام فإنه أمر ثان وهو أمر مفرع على الإسكان فيجوز أن يحكى بكل من الاعتبارين ، ومنه قوله في سورة البقرة [٥٨] : (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها) وفي سورة الأعراف [١٦١] : (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها) فعبر مرة

١١٥

بادخلوا ومرة باسكنوا ، وعبر مرة بواو العطف ومرة بفاء التفريع. وهذا التخالف بين الشيئين يقصد لتلوين المعاني المعادة حتى لا تخلو إعادتها عن تجدد معنى وتغاير أسلوب ، فلا تكون إعادتها مجرد تذكير.

قال في «الكشاف» في تفسير قوله تعالى : (قالَ)(١)(رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) في سورة الأنبياء [٤] : «ليس بواجب أن يجاء بالآكد في كل موضع ولكن يجاء بالوكيد تارة وبالآكد أخرى كما يجاء بالحسن في موضع وبالأحسن في غيره ليفتنّ الكلام افتنانا».

ومنها اتساع أدب اللغة في القرآن. لم يكن أدب العرب السائر فيهم غير الشعر ، فهو الذي يحفظ وينقل ويسير في الآفاق ، وله أسلوب خاص من انتقاء الألفاظ وإبداع المعاني ، وكان غيره من الكلام عسير العلوق بالحوافظ ، وكان الشعر خاصا بأغراض وأبواب معروفة أشهرها وأكثرها النسيب والحماسة والرثاء والهجاء والفخر ، وأبواب أخر لهم فيها شعر قليل وهي الملح والمديح. ولهم من غير الشعر الخطب ، والأمثال ، والمحاورات : فأما الخطب فكانت تنسى بانتهاء المقامات المقولة فيها فلا يحفظ من ألفاظها شيء ، وإنما يبقي في السامعين التأثّر بمقاصدها زمانا قليلا للعمل به فتأثر المخاطبين بها جزئي ووقتي. وأما الأمثال فهي ألفاظ قصيرة يقصد منها الاتعاظ بمواردها ، وأما المحاورات فمنها عادية لا يهتمون بما تتضمنه إذ ليست من الاهمية بحيث تنقل وتسير ، ومنها محاورات نواد وهي المحاورات الواقعة في المجامع العامة والمنتديات وهي التي أشار إليها لبيد بقوله :

وكثيرة غرباؤها مجهولة

ترجى نوافلها ويخشى ذامها

غلب تشذّر بالذّحول كأنها

جنّ البديّ رواسيا أقدامها

أنكرت باطلها ويؤت بحقهما

عندي ولم يفخر عليّ كرامها

وتلك مثل مجامعهم عند الملوك وفي مقامات المفاخرات وهي نادرة الوقوع قليلة السيران وحيدة الغرض ، إذ لا تعدو المفاخر والمبالغات فلا يحفظ منها إلا ما فيه نكتة أو ملحة أو فقرات مسجوعة مثل خطاب امرئ القيس مع شيوخ بني أسد. فجاء القرآن بأسلوب في الأدب غض جديد صالح لكل العقول ، متفنن إلى أفانين أغراض الحياة كلها

__________________

(١) في المطبوعة : (إن) بدل (قالَ) وهو خطأ.

١١٦

معط لكل فن ما يليق به من المعاني والألفاظ واللهجة ، فتضمن المحاورة والخطابة والجدل والأمثال (أي الكلم الجوامع) والقصص والتوصيف والرواية.

وكان لفصاحة ألفاظه وتناسبها في تراكيبه وترتيبه على ابتكار أسلوب الفواصل العجيبة المتماثلة في الأسماع وإن لم تكن متماثلة الحروف في الأسجاع ، كان لذلك سريع العلوق بالحوافظ خفيف الانتقال والسير في القبائل ، مع كون مادته ولحمته هي الحقيقة دون المبالغات الكاذبة والمفاخرات المزعومة ، فكان بذلك له صولة الحق وروعة لسامعيه ، وذلك تأثير روحاني وليس بلفظي ولا معنوي.

وقد رأيت المحسنات في البديع جاءت في القرآن أكثر مما جاءت في شعر العرب ، وخاصة الجناس كقوله : (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً).

والطباق كقوله : (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) [الكهف : ١٠٤] وقد ألف ابن أبي الإصبع كتابا في «بديع القرآن». وصار لمجيئه نثرا أدبا جديدا غضا ومتناولا لكل الطبقات. وكان لبلاغته وتناسقه نافذ الوصول إلى القلوب حتى وصفوه بالسّحر وبالشّعر : (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) [الطور : ٣٠].

مبتكرات القرآن

هذا وللقرآن مبتكرات تميز بها نظمه عن بقية كلام العرب.

فمنها أنه جاء على أسلوب يخالف الشعر لا محالة ، وقد نبه عليه العلماء المتقدمون ، وأنا أضم إلى ذلك أن أسلوبه يخالف أسلوب الخطابة بعض المخالفة ، بل جاء بطريقة كتاب يقصد حفظه وتلاوته ، وذلك من وجوه إعجازه إذ كان نظمه على طريقة مبتكرة ليس فيها اتباع لطرائقها القديمة في الكلام.

وأعدّ من ذلك أنه جاء بالجمل الدالة على معان مفيدة محررة ، شأن الجمل العلمية والقواعد التشريعية ، فلم يأت بعمومات شأنها التخصيص غير مخصوصة ، ولا بمطلقات تستحق التقييد غير مقيدة ، كما كان يفعله العرب لقلة اكتراثهم بالأحوال القليلة والأفراد النادرة ، مثاله قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ) [النساء : ٩٥] وقوله : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) [القصص : ٥٠] فبين أن الهوى قد يكون محمودا إذا كان هوى المرء عن هدى ، وقوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) [العصر : ٢ ، ٣].

١١٧

ومنها أن جاء على أسلوب التقسيم والتسوير وهي سنة جديدة في الكلام العربي أدخل بها عليه طريقة التبويب والتصنيف وقد أومأ إليها في «الكشاف» إيماء.

ومنها الأسلوب القصصي في حكاية أحوال النعيم والعذاب في الآخرة ، وفي تمثيل الأحوال ، وقد كان لذلك تأثير عظيم على نفوس العرب إذ كان فن القصص مفقودا من أدب العربية إلا نادرا ، كان في بعض الشعر كأبيات النابغة في الحيّة التي قتلت الرجل وعاهدت أخاه وغدر بها ، فلما جاء القرآن بالأوصاف بهت به العرب كما في سورة الأعراف [٤٤] من وصف أهل الجنة وأهل النار وأهل الأعراف : (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ) إلخ وفي سورة الحديد [١٣] : (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ) الآيات.

ومما يتبع هذا أن القرآن يتصرف في حكاية أقوال المحكي عنهم فيصوغها على ما يقتضيه أسلوب إعجازه لا على الصيغة التي صدرت فيها ، فهو إذا حكى أقوالا غير عربية صاغ مدلولها في صيغة تبلغ حد الإعجاز بالعربية ، وإذا حكى أقوالا عربية تصرف فيها تصرفا يناسب أسلوب المعبر مثل ما يحكيه عن العرب فإنه لا يلتزم حكاية ألفاظهم بل يحكى حاصل كلامهم ، وللعرب في حكاية الأقوال اتساع مداره على الإحاطة بالمعنى دون التزام الألفاظ ، فالإعجاز الثابت للأقوال المحكية في القرآن هو إعجاز للقرآن لا للأقوال المحكية.

ومن هذا القبيل حكاية الأسماء الواقعة في القصص فإن القرآن يغيرها إلى ما يناسب حسن مواقعها في الكلام من الفصاحة مثل تغيير شاول إلى طالوت ، وتغيير اسم تارح أبي إبراهيم إلى آزر.

وكذلك التمثيل فقد كان في أدب العرب الأمثال وهي حكاية أحوال مرموز لها بتلك الجمل البليغة التي قيلت فيها أو قيلت لها المسماة بالأمثال ، فكانت تلك الجمل مشيرة إلى تلك الأحوال ، إلا أنها لمّا تداولتها الألسن في الاستعمال وطال عليها الأمد نسيت الأحوال التي وردت فيها ولم يبق للأذهان عند النطق بها إلا الشعور بمغازيها التي تقال لأجلها.

أما القرآن فقد أوضح الأمثال وأبدع تركيبها كقوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ) [إبراهيم : ١٨] وقوله : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) [الحج : ٣١] وقوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ) إلى قوله : (فَما لَهُ مِنْ

١١٨

نُورٍ) [النور : ٣٩] وقوله : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ) [الرعد : ١٤].

لم يلتزم القرآن أسلوبا واحدا ، واختلفت سوره وتفننت ، فتكاد تكون لكل سورة لهجة خاصة ، فإن بعضها بني على فواصل وبعضها ليس كذلك. وكذلك فواتحها منها ما افتتح بالاحتفال كالحمد ، و (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) [البقرة : ١٠٤] ، و (الم ذلِكَ الْكِتابُ) [البقرة : ١ ، ٢] ، وهي قريب مما نعبر عنه في صناعة الإنشاء بالمقدّمات. ومنها ما افتتح بالهجوم على الغرض من أول الأمر نحو : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) [محمد : ١] و (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) [التوبة : ١].

ومن أبدع الأساليب في كلام العرب الإيجاز وهو متنافسهم وغاية تتبارى إليها فصحاؤهم ، وقد جاء القرآن بأبدعه إذ كان ـ مع ما فيه من الإيجاز المبيّن في علم المعاني ـ فيه إيجاز عظيم آخر وهو صلوحية معظم آياته لأن تؤخذ منها معان متعددة كلها تصلح لها العبارة باحتمالات لا ينافيها اللفظ ، فبعض تلك الاحتمالات مما يمكن اجتماعه ، وبعضها إن كان فرض واحد منه يمنع من فرض آخر فتحريك الأذهان إليه وإخطاره بها يكفي في حصول المقصد من التذكير به للامتثال أو الانتهاء. وقد أشرنا إلى هذا في المقدمة التاسعة. ولو لا إيجاز القرآن لكان ما يتضمنه من المعاني في أضعاف مقدار القرآن ، وأسرار التنزيل ورموزه في كل باب بالغة من اللطف والخفاء حدّا يدق عن تفطن العالم ويزيد عن تبصره ، (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) [فاطر : ١٤].

إنك تجد في كثير من تراكيب القرآن حذفا ولكنك لا تعثر على حذف يخلو الكلام من دليل عليه من لفظ أو سياق ، زيادة على جمعه المعاني الكثيرة في الكلام القليل ، قال في «الكشاف» في سورة المدثر : «الحذف والاختصار هو نهج التنزيل» قال بعض بطارقة الروم لعمر بن الخطاب لما سمع قوله تعالى : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ). [النور : ٥٢] «قد جمع الله في هذه الآية ما أنزل على عيسى من أحوال الدنيا والآخرة» ومن ذلك قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) [القصص : ٧] الآية ، جمع بين أمرين ونهيين وبشارتين ، ومن ذلك قوله : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) [البقرة : ١٧٩] مقابلا أوجز كلام عرف عندهم وهو «القتل أنفى للقتل» ومن ذلك قوله تعالى : (وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي) [هود : ٤٤] ولقد بسط السكاكي في «المفتاح» آخر قسم البيان نموذجا مما اشتملت عليه هذه الآية من البلاغة والفصاحة ،

١١٩

وتصدى أبو بكر الباقلاني في كتابه المسمى «إعجاز القرآن» إلى بيان ما في سورة النمل من الخصائص فارجع إليهما.

وأعد من أنواع إيجازه إيجاز الحذف مع عدم الالتباس ، وكثر ذلك في حذف القول ، ومن أبدع الحذف قوله تعالى : (فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) [المدثر : ٤٠ ـ ٤٣] أي يتذاكرون شأن المجرمين فيقول من علموا شأنهم سألناهم فقلنا ما سلككم في سقر. قال في «الكشاف» قوله : (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) ليس ببيان للتساؤل عنهم وإنما هو حكاية قول المسئولين ، أي إن المسئولين يقولون للسائلين قلنا لهم ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين ا ه.

ومنه حذف المضاف كثيرا كقوله تعالى : (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ). [البقرة : ١٧٧] وحذف الجمل التي يدل الكلام على تقديرها نحو قوله تعالى : (فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) [الشعراء : ٦٣] إذ التقدير فضرب فانفلق. ومن ذلك الإخبار عن أمر خاص بخبر يعمه وغيره لتحصل فوائد : فائدة الحكم العام ، وفائدة الحكم الخاص ، وفائدة أن هذا المحكوم عليه بالحكم الخاص هو من جنس ذلك المحكوم عليه بالحكم العام.

وقد تتبعت أساليب من أساليب نظم الكلام في القرآن فوجدتها مما لا عهد بمثلها في كلام العرب ، مثال ذلك قوله تعالى : (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ) [الطلاق : ١٠] فإبدال (رسولا) من (ذكرا) يفيد أن هذا الذكر ذكر هذا الرسول ، وأن مجيء الرسول هو ذكر لهم ، وأن وصفه بقوله (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ) يفيد أن الآيات ذكر. ونظير هذا قوله : (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً) [البينة : ١ ، ٢] الآية وليس المقام بسامح لإيراد عديد الأمثلة من هذا ، ولعله يأتي في أثناء التفسير.

ومن بديع الإيجاز في القرآن وأكثره ما يسمى بالتضمين ، وهو يرجع إلى إيجاز الحذف ، والتضمين أن يضمّن الفعل أو الوصف معنى فعل أو وصف آخر ويشار إلى المعنى المضمن بذكر ما هو من متعلقاته من حرف أو معمول فيحصل في الجملة معنيان.

ومن هذا الباب ما اشتمل عليه من الجمل الجارية مجرى الأمثال ، وهذا باب من أبواب البلاغة نادر في كلام بلغاء العرب ، وهو الذي لأجله عدت قصيدة زهير في «المعلقات» فجاء في القرآن ما يفوق ذلك كقوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ)

١٢٠