من المواشي السائمة ، والمراعي الوسيعة ، والبساتين الحسنة الكثيرة ، والخلع والملابس الحسنة ، والزرائع الجيدة على الأنهار الجارية الدائمة ، وجعل له الخدم ، وخوّله النعم ، ومكّنه من كل ما يمكن (١) الإشارة إليه من نعم الدنيا ، ثم إن أحدهما عصى مولاه في كل وجه من الوجوه ، فقال الملك للثاني : إن هذا قد عصاني ، وخرج عن أمري ، وكفر نعمتي ، وأنا أحب منك أن تهجره وتقليه ، وتبعده وتقصيه ، فإن فعلت ذلك خوّلتك نعما أكثر من نعمك هذه بألفي ألف ألف ضعف ، فعند ذلك بادر هذا العبد إلى تقريب العبد العاصي ، وإتحافه وإنصافه ، والإنعام عليه بالأموال الجليلة والنعم الكثيرة معاندة لمولاه ، واتباعا لهواه ، مع استمراره على الالتزام بأوامر سيده كلها ، إلا ما كان منه من موالاته لمن عصى مولاه ، وخروجه في ذلك عن رضاه ـ ما حكم هذين العبدين عند أولي الأحلام والنّهى؟! أليس يشهد جميع العقلاء بأنهما كافران لنعم سيدهما التي ذكرناها ، وأياديه التي وصفناها ، وأن حكمهما قد صار واحدا عند العارفين ، فإذا كان يستقبح من هذا العبد موالاة عدو مولاه الذي أنعم عليه من النعم بما ذكرناه ـ وإنما قبح ذلك لكونه كفرا لنعمة مولاه ـ فكيف بنعم الله تعالى؟ إذ كل النّعم من جهته ، قال (٢) تعالى : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) [النحل : ٥٣] ولا سواء ؛ فإن نعم الله تعالى تمطر على عبيده كلهم ، في كل حركة وسكون ، وجدّ ومجون ، ولا تفارقهم في حال معصية يرتكبونها ، ولا في حال طاعة يفعلونها ، بل لا يقدر العبد على معصية الله إلا بنعمة الله ، ولا يقدر على القيام بما يلزمه من شكر الله إلا بنعمة الله ، فإنه لو لا تعريفه للعبد كيفية
__________________
(١) في (ب) : تمكن ويمكن بالتاء والياء.
(٢) في (ب) : قال الله.