بحار الأنوار

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

بحار الأنوار

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٣٧
  الجزء ١   الجزء ٢   الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦ الجزء ٢٧ الجزء ٢٨ الجزء ٢٩ الجزء ٣٠ الجزء ٣١ الجزء ٣٥ الجزء ٣٦ الجزء ٣٧ الجزء ٣٨ الجزء ٣٩ الجزء ٤٠ الجزء ٤١ الجزء ٤٢ الجزء ٤٣ الجزء ٤٤ الجزء ٤٥ الجزء ٤٦ الجزء ٤٧ الجزء ٤٨ الجزء ٤٩ الجزء ٥٠ الجزء ٥١ الجزء ٥٢ الجزء ٥٣ الجزء ٥٤ الجزء ٥٥ الجزء ٥٦ الجزء ٥٧ الجزء ٥٨ الجزء ٥٩ الجزء ٦٠ الجزء ٦١   الجزء ٦٢ الجزء ٦٣ الجزء ٦٤ الجزء ٦٥ الجزء ٦٦ الجزء ٦٧ الجزء ٦٨ الجزء ٦٩ الجزء ٧٠ الجزء ٧١ الجزء ٧٢ الجزء ٧٣ الجزء ٧٤ الجزء ٧٥ الجزء ٧٦ الجزء ٧٧ الجزء ٧٨ الجزء ٧٩ الجزء ٨٠ الجزء ٨١ الجزء ٨٢ الجزء ٨٣ الجزء ٨٤ الجزء ٨٥ الجزء ٨٦ الجزء ٨٧ الجزء ٨٨ الجزء ٨٩ الجزء ٩٠ الجزء ٩١ الجزء ٩٢ الجزء ٩٣ الجزء ٩٤   الجزء ٩٥ الجزء ٩٦   الجزء ٩٧ الجزء ٩٨ الجزء ٩٩ الجزء ١٠٠ الجزء ١٠١ الجزء ١٠٢ الجزء ١٠٣ الجزء ١٠٤

بسم الله الرحمن الرحيم

(٤٢)

(باب)

(حقيقة النفس والروح وأحوالهما)

الآيات :

الإسراء : « وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً » (١).

الزمر : « اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ » (٢)

الواقعة : « فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ » (٣).

الملك : « الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً » (٤).

تفسير : « وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ » قال الطبرسي : روح الله روحه اختلف في الروح المسئول عنه على أقوال أحدها أنهم سألوه عن الروح الذي في بدن الإنسان ما هو ولم يجبهم وسأله عن ذلك قوم من اليهود عن ابن مسعود وابن عباس وجماعة واختاره الجبائي وعلى هذا فإنما عدل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن جوابهم لعلمه بأن ذلك أدعى لهم إلى الصلاح في الدين ولأنهم كانوا بسؤالهم متعنتين لا مستفيدين فلو صدر

__________________

(١) الإسراء : ٨٥.

(٢) الزمر : ٤٢.

(٣) الواقعة : ٨٣.

(٤) الملك : ٢.

١

الجواب لازدادوا عنادا وقيل إن اليهود قالت لقريش (١) سلوا محمدا عن الروح فإن أجابكم فليس بنبي وإن لم يجبكم فهو نبي فإنا نجد في كتبنا ذلك فأمر الله سبحانه بالعدول عن جوابهم وأن يكلمهم (٢) في معرفة الروح إلى ما في عقولهم ليكون ذلك علما على صدقه ودلالة لنبوته.

وثانيها : أنهم سألوه عن الروح أهي مخلوقة محدثة أم ليست كذلك فقال سبحانه « قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي » أي من فعله وخلقه وكان هذا جوابا لهم عما سألوه عنه بعينه وعلى هذا فيجوز أن يكون الروح الذي سألوه عنه هو الذي به قوام الجسد على قول ابن عباس وغيره أم جبرئيل على قول الحسن وقتادة أم ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه لكل وجه سبعون ألف لسان يسبح الله تعالى بجميع ذلك على ما روي عن علي عليه‌السلام أم عيسى عليه‌السلام فإنه سمي بالروح.

وثالثها : أن المشركين سألوه عن الروح الذي هو القرآن كيف يلقاك به الملك وكيف صار معجزا وكيف صار نظمه وترتيبه مخالفا لأنواع كلامنا من الخطب والأشعار وقد سمى الله سبحانه القرآن روحا في قوله « وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا » (٣) فقال سبحانه قل يا محمد إن الروح الذي هو القرآن من أمر ربي أنزله علي دلالة على نبوتي وليس من فعل المخلوقين ولا مما يدخل في إمكانهم وعلى هذا فقد وقع الجواب أيضا موقعه وأما على القول الأول فيكون معنى قوله « الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي » هو الأمر الذي يعلمه ربي ولم يطلع عليه أحدا.

واختلف العلماء في مهية الروح فقيل إنه جسم رقيق هوائي متردد في مخارق الحيوان وهو مذهب أكثر المتكلمين واختاره المرتضى قدس الله روحه وقيل هو جسم هوائي على بنية حيوانية في كل جزء منه حياة عن علي بن عيسى قال فلكل حيوان روح وبدن إلا أن منهم من الأغلب عليه الروح ومنهم من الأغلب

__________________

(١) في المجمع : لكفار قريش.

(٢) فيه : ويكلهم.

(٣) الشورى : ٥٢.

٢

عليه البدن وقيل إن الروح عرض ثم اختلف فيه فقيل هو الحياة التي يتهيأ بها المحل لوجود العلم والقدرة والاختيار وهو مذهب الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان رضي‌الله‌عنه والبلخي وجماعة من المعتزلة البغداديين وقيل هومعنى في القلب عن الأسواري وقيل إن الروح الإنسان وهو الحي المكلف عن ابن الإخشيد والنظام.

وقال بعض العلماء إن الله خلق الروح من ستة أشياء من جوهر النور والطيب والبقاء والحياة والعلم والعلو ألا ترى أنه ما دام في الجسد كان الجسد نورانيا يبصر بالعينين ويسمع بالأذنين ويكون طيبا فإذا خرج من الجسد نتن البدن ويكون باقيا فإذا فارقه الروح بلي وفني ويكون حيا وبخروجه يصير ميتا ويكن عالما فإذا خرج منه الروح لم يعلم شيئا ويكون علويا لطيفا توجد به الحياة بدلالة قوله تعالى في صفة الشهداء « بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ » (١) وأجسادهم قد بليت في التراب.

وقوله « وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً » قيل هو خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وغيره إذ لم يبين له الروح ومعناه وما أوتيتم من العلم المنصوص عليه إلا قليلا أي شيئا يسيرا لأن غير المنصوص عليه أكثر فإن معلومات الله تعالى لا نهاية لها وقيل خطاب لليهود الذين سألوه فقالت اليهود عند ذلك كيف وقد أعطانا الله التوراة فقال التوراة في علم الله قليل (٢).

وقال الرازي : للمفسرين في الروح المذكورة في هذه الآية أقوال وأظهرها أن المراد منه الروح الذي هو سبب الحياة ثم ذكر رواية سؤال اليهود وإبهام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قصة الروح وزيفها بوجوه ضعيفة ثم قال بل المختار عندنا أنهم سألوه عن الروح وأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أجابهم عنه على أحسن الوجوه وتقريره أن المذكور في الآية أنهم سألوه عن الروح والسؤال عنه يقع على وجوه كثيرة أحدها أن يقال ماهية الروح أهو

__________________

(١) آل عمران : ١٧٠.

(٢) مجمع البيان : ج ٦ ، ص ٣٤٧ و ٤٣٨.

٣

متحيز أو حال في المتحيز أو موجود غير متحيز ولا حال في المتحيز وثانيها أن يقال الأرواح قديمة أو حادثة وثالثها أن يقال الأرواح هل تبقى بعد موت الأجساد أو تفنى ورابعها أن يقال ما هي حقيقة سعادة الأرواح وشقاوتها.

وبالجملة فالمباحث المتعلقة بالروح كثيرة وقوله « وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ » ليس فيه ما يدل على أنهم عن أي هذه المسائل سألوا إلا أن جوابه تعالى لا يليق إلا بمسألتين من المسائل التي ذكرناها إحداهما السؤال عن ماهية الروح والثانية عن قدمها وحدوثها.

أما البحث الأول فهو أنهم قالوا ما حقيقة الروح وماهيته أهو عبارة عن أجسام موجودة في داخل هذا البدن متولدة من امتزاج الطبائع والأخلاط أو عبارة عن نفس هذا المزاج والتركيب أو هو عبارة عن عرض آخر قائم بهذه الأجسام أو هو عبارة عن موجود مغاير لهذه الأجسام ولهذه الأعراض فأجاب الله عنه بأنه موجود مغاير لهذه الأجسام ولهذه الأعراض وذلك لأن هذه الأجسام وهذه الأعراض أشياء تحدث من امتزاج الأخلاط والعناصر وأما الروح فإنه ليس كذلك بل هو جوهر بسيط مجرد لا يحدث إلا بمحدث قوله كن فيكون فقالوا لم كان شيئا مغايرا لهذه الأجسام ولهذه الأعراض فأجاب الله بأنه موجود يحدث بأمر الله وتكوينه وتأثيره في إفادة الحياة لهذا الجسد ولا يلزم من عدم العلم بحقيقته المخصوصة نفيه فإن أكثر حقائق الأشياء وماهياتها مجهولة ولم يلزم من كونها مجهولة نفيها وهذا هو المراد بقوله « وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ».

وأما البحث الثاني فهو أن لفظ الأمر قد جاء بمعنى الفعل قال تعالى « وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ » وقال « لَمَّا جاءَ أَمْرُنا » أي فعلنا فقوله « قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي » من فعل ربي وهذا الجواب يدل على أنهم سألوا أن الروح قديمة أو حادثة فقال بل هي حادثة وإنما حصلت بفعل الله وتكوينه وإيجاده ثم احتج على حدوث الروح بقوله « وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً » بمعنى أن الأرواح في مبدإ الفطرة تكون خالية عن العلوم ثم تحصل فيها المعارف والعلوم فهي لا تزال تكون في التغير من حال

٤

إلى حال وفي التبديل من نقصان إلى كمال والتغير والتبدل من أمارات الحدوث فقوله « قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي » يدل على أنهم سألوا أن الروح هل هي حادثة أم لا فأجاب بأنها حادثة واقعة بتخليق الله وتكوينه ثم استدل على حدوث الأرواح بتغيرها من حال إلى حال فهذا ما نقوله في هذا الباب والله أعلم بالصواب (١).

أقول : ثم ذكر الأقوال الأخرى في تفسير الروح في هذه الآية فمنها أنه القرآن كما مر ومنها أنه ملك من الملائكة هو أعظمهم قدرا وقوة وهو المراد من قوله تعالى « يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا » (٢) ونقلوا عن علي عليه‌السلام أنه قال : هو ملك له سبعون ألف وجه ولكل وجه سبعون ألف لسان لكل لسان سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها ويخلق الله من كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة قالوا ولم يخلق الله خلقا أعظم من الروح غير العرش ولو شاء الله يبتلع السماوات السبع والأرضين السبع بلقمة واحدة. ثم اعترض على هذا الوجه وعلى الرواية بوجوه سخيفة ثم ذكر من الوجوه أنه جبرئيل عليه‌السلام ووجها رابعا عن مجاهد أنه خلق ليسوا بالملائكة على صورة بني آدم يأكلون ولهم أيد وأرجل ورءوس وقال أبو صالح يشبهون الناس وليسوا بالناس ولم أجد في القرآن ولا في الأخبار الصحيحة شيئا يمكن التمسك به في إثبات هذا القول.

ثم قال في شرح مذاهب الناس في حقيقة الإنسان اعلم أن العلم الضروري حاصل بأن هاهنا شيئا إليه يشير الإنسان بقوله أنا وإذا قال الإنسان علمت وفهمت وأبصرت وسمعت وذقت وشممت ولمست وغضبت فالمشار إليه لكل أحد بقوله أنا إما أن يكون جسما أو عرضا أو مجموع الجسم والعرض أو ما تركب (٣) من الجسم والعرض وذلك الشيء الثالث فهذا ضبط معقول أما القسم الأول وهو أن يقال الإنسان جسم فذلك الجسم إما أن يكون هو هذه البنية أو جسما داخلا في هذه

__________________

(١) مفاتيح الغيب : ج ٢١ ، ص ٣٧ ـ ٣٨ ( ملخصا ).

(٢) النبأ : ٣٨.

(٣) في المصدر : أو شيئا مغايرا للجسم والعرض أو من ذلك الشيء الثالث.

٥

البنية أو جسما خارجا عنها أما القائلون بأن الإنسان عبارة عن هذه البنية المحسوسة وهذا الهيكل المجسم المحسوس فإذا أبطلنا كون الإنسان عبارة عن هذا الجسم وأبطلنا كون الإنسان محسوسا فقد بطل كلامهم بالكلية.

والذي يدل على أنه لا يمكن أن يكون الإنسان عبارة عن هذا الجسم وجوه :

الأول : أن العلم البديهي حاصل بأن أجزاء هذه الجثة متبدلة بالزيادة والنقصان تارة بحسب النمو والذبول وتارة بحسب السمن والهزال والعلم الضروري حاصل بأن المتبدل المتغير مغاير للثابت الباقي ويحصل من مجموع هذه المقدمات الثلاث العلم القطعي بأنه ليس عبارة عن مجموع هذه الجثة.

الثاني : أن الإنسان حال ما يكون مشتغل الفكر متوجه الهمة نحو أمر مخصوص فإنه في تلك الحالة غير غافل عن نفسه المعينة بدليل أنه في تلك الحالة قد يقول غضبت واشتهيت وسمعت كلامك وأبصرت وجهك وتاء الضمير كناية عن نفسه المخصوصة فهو في تلك الحالة عالم بنفسه المخصوصة وغافل عن جملة بدنه وعن كل واحد من أعضائه وأبعاضه.

الثالث : أن كل أحد يحكم بصريح عقله بإضافة كل واحد من هذه الأعضاء إلى نفسه فيقول رأسي وعيني ويدي ورجلي ولساني وقلبي وبدني والمضاف غير المضاف إليه فوجب أن يكون الشيء الذي هو الإنسان مغايرا لجملة هذا البدن ولكل واحد من هذه الأعضاء فإن قالوا فقد يقول نفسي وذاتي فيضيف النفس والذات إلى نفسه فيلزم أن نفس الشيء وذاته مغايرة لنفسه وذاته وذلك محال قلنا قد يراد بنفس الشيء وذاته هذا البدن المخصوص وقد يراد بنفس الشيء وذاته الحقيقة المخصوصة التي إليها يشير كل أحد بقوله أنا فإذا قال نفسي وذاتي كان المراد منه البدن وعندنا أنه مغاير لجوهر الإنسان.

الرابع : أن كل دليل يدل على أن الإنسان يمتنع أن يكون جسما فهو أيضا يدل على أنه يمتنع أن يكون عبارة عن هذا الجسم وسيأتي تقرير تلك الدلائل.

الخامس : أن الإنسان قد يكون حيا حال ما يكون البدن ميتا فوجب

٦

كون الإنسان مغايرا لهذا البدن والدليل على صحة ما ذكرناه قوله تعالى « وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ » (١) فهذا النص صريح في أن أولئك المقتولين أحياء والحس يدل على أن هذا الجسد ميتة.

السادس : أن قوله تعالى « النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا » (٢) وقوله « أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً » (٣) يدل على أن الإنسان حي بعد الموت وكذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله الأنبياء لا يموتون ولكن ينقلون من دار إلى دار وكذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران. وكذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله من مات فقد قامت قيامته وأن كل هذه النصوص يدل على أن الإنسان حي يبقى بعد موت الجسد وبديهة العقل والفطرة شاهدتان بأن هذا الجسد ميت ولو جوزنا كونه حيا كان يجوز مثله في جميع الجمادات وذلك عين السفسطة وإذا ثبت أن الإنسان حي ما كان الجسد ميتا لزم أن الإنسان شيء غير هذا الجسد.

السابع : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في خطبة طويلة له حتى إذا حمل الميت على نعشه رفرف روحه فوق النعش ويقول يا أهلي ويا ولدي لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي جمعت المال من حله ومن غير حله فالمهنأ (٤) لغيري والتبعة علي فاحذروا مثل ما حل بي وجه الاستدلال أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله صرح بأن حال كون الجسد محمولا على النعش بقي هناك شيء ينادي ويقول يا أهلي ويا ولدي جمعت المال من حله وغير حله ومعلوم أن الذي كان الأهل أهلا له وكان الولد ولدا له وكان جامعا للمال من الحرام والحلال والذي بقي في ربقته الوبال ليس إلا ذلك الإنسان فهذا تصريح بأن في الوقت الذي كان الجسد ميتا محمولا على النعش كان ذلك الإنسان حيا باقيا فاهما وذلك تصريح بأن الإنسان شيء مغاير لهذا الجسد والهيكل.

__________________

(١) آل عمران : ١٦٥.

(٢) غافر : ٤٦.

(٣) نوح : ٢٥.

(٤) في المصدر : فالغنى.

٧

الثامن : قوله تعالى « يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً » (١) والخطاب بقوله « ارْجِعِي » إنما يتوجه إليها حال الموت فدل هذا على أن الشيء الذي يرجع إلى الله بعد موت الجسد يكون راضيا مرضيا عند الله والذي يكون راضيا مرضيا ليس إلا الإنسان فهذا يدل على أن الإنسان بقي حيا بعد موت الجسد والحي غير الميت فالإنسان مغاير لهذا الجسد.

التاسع : قوله تعالى « حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ » (٢) أثبت كونهم مردودين إلى الله الذي هو مولاهم الحق عند كون الجسد ميتا فوجب أن يكون ذلك المردود إلى الله مغايرا لذلك الجسد الميت.

العاشر : ترى جميع فرق الدنيا من الهند والروم والعرب والعجم وجميع أرباب الملل والنحل من اليهود والنصارى والمجوس والمسلمين وسائر فرق العالم وطوائفهم يتصدقون عن موتاهم ويدعون لهم بالخير ويذهبون إلى زياراتهم ولو لا أنهم بعد موت الجسد بقوا أحياء لكان التصدق لهم عبثا ولكان الدعاء لهم عبثا ولكان الذهاب إلى زيارتهم عبثا فإطباق الكل على هذه الصدقة والدعاء والزيارة يدل على أن فطرتهم الأصلية السليمة شاهدة بأن الإنسان شيء غير هذا الجسد وأن ذلك الشيء لا يموت بموت هذا الجسد.

الحادي عشر : أن كثيرا من الناس يرى أباه وابنه في المنام ويقول له اذهب إلى الموضع الفلاني فإن فيه ذهبا دفنته لك وقد يراه فيوصيه بقضاء دين عنه ثم عند اليقظة إذا فتش عنه كان كما رآه في النوم من غير تفاوت ولو لا أن الإنسان باق حي بعد الموت لما كان كذلك ولما دل هذا الدليل على أن الإنسان حي بعد الموت ودل الحس على أن الجسد ميت كان الإنسان مغايرا لهذا الجسد.

الثاني عشر : أن الإنسان إذا ضاع عضو من أعضائه مثل أن تقطع يداه ورجلاه

__________________

(١) الفجر : ٢٧ ـ ٢٨.

(٢) الأنعام : ٦١ ـ ٦٢.

٨

وتقلع عيناه وتقطع أذناه إلى غيرها من الأعضاء فإن ذلك الإنسان يجد من قلبه وعقله أنه هو عين ذلك الإنسان من غير تفاوت البتة حتى أنه يقول أنا ذلك الإنسان الذي كنت موجودا قبل ذلك إلا أنهم قطعوا يدي ورجلي وذلك برهان يقيني على أن ذلك الإنسان شيء مغاير لهذه الأعضاء والأبعاض وذلك يبطل قول من يقول الإنسان عبارة عن هذه البنية المخصوصة.

الثالث عشر : أن القرآن والأحاديث يدلان على أن جماعة من اليهود قد مسخهم الله وجعلهم في صورة القردة والخنازير فنقول ذلك الإنسان هل بقي حال ذلك المسخ أو لم يبق فإن لم يبق كان هذا إماتة لذلك الإنسان وخلق خنزير أو قردة وليس هذا من المسخ في شيء وإن قلنا إن ذلك الإنسان بقي حال حصول ذلك المسخ فنقول فعلى هذا التقدير الإنسان باق وتلك البنية وذلك الهيكل غير باق فوجب أن يكون ذلك الإنسان شيئا مغايرا لتلك البنية.

الرابع عشر : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يرى جبرئيل في صورة دحية الكلبي وكان يرى إبليس في صورة الشيخ النجدي فهنا بنية الإنسان وهيكله وشكله حاصل مع أن الحقيقة (١) الإنسانية غير حاصلة وهذا يدل على أن الإنسان ليس عبارة عن هذه البنية وهذا الهيكل.

الخامس عشر : أن الزاني يزني بفرجه ويضرب على ظهره فوجب أن يكون الإنسان شيئا آخر سوى الفرج وسوى الظهر ويقال إن ذلك الشيء يستعمل الفرج في عمل والظهر في عمل آخر فيكون الملتذ والمتألم هو ذلك الشيء إلا أنه يحصل اللذة بواسطة ذلك العضو ويتألم بواسطة الضرب على هذا العضو.

السادس عشر : أني إذا تكلمت مع زيد وقلت له افعل كذا ولا تفعل كذا فالمخاطب بهذا الخطاب والمأمور والمنهي ليس هو جبهة زيد ولا حدقته ولا أنفه ولا فمه ولا شيء من أعضائه بعينه فوجب أن يكون المأمور والمنهي والمخاطب شيئا مغايرا لهذه الأعضاء وذلك يدل على أن ذلك المأمور والمنهي غير هذا الجسد فإن قالوا

__________________

(١) في المصدر : حقيقة الإنسان.

٩

لم لا يجوز أن يكون المأمور والمنهي جملة هذا البدن لا شيء من أجزائه وأبعاضه قلنا توجيه التكليف إلى الجملة إنما يصح لو كانت الجملة فاهمة عالمة فنقول لو كانت الجملة عالمة فإما أن يقوم بمجموع البدن علم واحد أو يقوم بكل واحد من أجزاء البدن علم على حده والأول يقتضي قيام العرض الواحد بالمحال الكثيرة وهو محال والثاني يقتضي أن يكون كل واحد من أجزاء البدن عالما فاهما على سبيل الاستقلال وقد بينا أن العلم الضروري حاصل بأن الجزء المعين من البدن ليس عالما فاهما مدركا بالاستقلال فسقط هذا السؤال.

السابع عشر : الإنسان يجب أن يكون عالما والعلم لا يحصل إلا في القلب فيلزم أن يكون الإنسان عبارة عن الشيء الموجود في القلب وإذا ثبت هذا بطل القول بأن الإنسان عبارة عن هذا الهيكل وهذه الجثة إنما قلنا إن الإنسان يجب أن يكون عالما لأنه فاعل مختار والفاعل المختار هو الذي يفعل بواسطة القصد إلى تكوينه وهما مشروطان بالعلم لأن ما لا يكون متصورا امتنع القصد إلى تكوينه فثبت أن الإنسان يجب أن يكون عالما بالأشياء وإنما قلنا إن العلم لا يوجد إلا في القلب للبرهان والقرآن أما البرهان فلأنا نجد العلم الضروري بأنا نجد علومنا من ناحية القلب وأما القرآن فآيات نحو قوله تعالى « لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها » (١) وقوله « كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ » (٢) وقوله « نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ » (٣) وإذا ثبت أن الإنسان يجب أن يكون عالما وثبت أن العلم ليس إلا في القلب ثبت أن الإنسان شيء في القلب أو شيء له تعلق بالقلب وعلى التقديرين فإنه بطل قول من يقول إن الإنسان هو هذا الجسد وهذا الهيكل.

وأما البحث الثاني وهو بيان أن الإنسان غير محسوس هو أن حقيقة الإنسان شيء مغاير للسطح واللون وكل ما هو مرئي فهو إما السطح وإما اللون وهما مقدمتان

__________________

(١) الأعراف : ١٧٨.

(٢) المجادلة : ٢٢.

(٣) الشعراء : ١٩٣ ـ ١٩٤.

١٠

قطعيتان ينتج هذا القياس أن حقيقة الإنسان غير مرئية ولا محسوسة وهذا برهان يقيني.

ثم قال في شرح مذاهب القائلين بأن الإنسان جسم موجود في داخل البدن اعلم أن الأجسام الموجودة في هذا العالم السفلي إما أن يكون أحد العناصر الأربعة أو ما يكون متولدا من امتزاجها ويمتنع أن يحصل في البدن الإنساني جسم عنصري خالص بل لا بد وأن يكون الحاصل جسما متولدا من امتزاجات هذه الأربعة فنقول أما الجسم الذي تغلب عليه الأرضية فهو الأعضاء الصلبة الكثيفة كالعظم والعصب والوتر والرباط والشحم واللحم والجلد ولم يقل أحد من العقلاء الذين قالوا إن الإنسان شيء مغاير لهذا الجسد بأنه عبارة عن عضو معين من هذه الأعضاء وذلك لأن هذه الأعضاء كثيفة ثقيلة ظلمانية فلا جرم لم يقل أحد من العقلاء بأن الإنسان عبارة عن أحد هذه الأعضاء وأما الجسم الذي تغلب عليه المائية فهو الأخلاط الأربعة ولم يقع (١) في شيء منها أنه الإنسان إلا في الدم فإن فيهم من قال إنه لروح بدليل أنه إذا خرج لزمه الموت أما الجسم الذي تغلب عليه الهوائية والنارية فهي الأرواح وهي نوعان أحدهما أجسام هوائية مخلوطة بالحرارة الغريزية متولدة إما في القلب أو في الدماغ وقالوا إنها هي الروح الإنساني ثم إنهم اختلفوا فمنهم من يقول الإنسان هو الروح الذي في القلب ومنهم من يقول إنه جزء لا يتجزأ في الدماغ ومنهم من يقول الروح عبارة عن أجزاء نارية مختلطة بهذه الأرواح القلبية والدماغية وتلك الأجزاء النارية هي المسماة بالحرارة الغريزية وهي الإنسان ومن الناس من يقول الروح عبارة عن أجسام نورانية سماوية لطيفة الجوهر على طبيعة ضوء الشمس وهي لا تقبل التحلل والتبدل ولا التفرق والتمزق فإذا تكون البدن وتم استعداده وهو المراد بقوله « فَإِذا سَوَّيْتُهُ » نفذت تلك الأجسام الشريفة السماوية الإلهية في داخل أعضاء البدن نفاذ النار في الفحم ونفاذ دهن السمسم في

__________________

(١) في المصدر : ولم يقل أحد في ...

١١

السمسم ونفاذ ماء الورد في جسم الورد ونفاذ تلك الأجسام (١) السماوية في جوهر البدن هو المراد بقوله « وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي » (٢) ثم إن البدن ما دام يبقى سليما قابلا لنفاذ تلك الأجسام الشريفة فيه بقي حيا فإذا تولد في البدن أخلاط غليظة منعت تلك الأخلاط الغليظة من سريان تلك الأجسام الشريفة فانفصلت عن هذا البدن فحينئذ يعرض الموت فهذا مذهب قوي وقول شريف يجب التأمل فيه فإنه شديد المطابقة لما ورد في الكتب الإلهية من أحوال الموت والحياة فهذا تفصيل مذاهب القائلين بأن الإنسان جسم موجود في داخل البدن وأما أن الإنسان جسم موجود خارج البدن فلا أعرف أحدا ذهب إلى هذا القول.

وأما القسم الثاني : وهو أن يقال الإنسان عرض حال في البدن فهذا لا يقوله عاقل لأنه من المعلوم بالضرورة أن الإنسان جوهر لأنه موصوف بالعلم والقدرة والتدبير والتصرف وكل من كان هذا شأنه كان جوهرا والجوهر لا يكون عرضا بل الذي يمكن أن يقال له عاقل هو الإنسان (٣) بشرط أن يكون موصوفا بأعضاء مخصوصة وعلى هذا التقدير فللناس فيه أقوال :

القول الأول أن العناصر الأربعة إذا امتزجت وانكسرت سورة كل واحد منها بسورة أخرى حصلت كيفية معتدلة هي المزاج ومراتب هذا المزاج غير متناهية فبعضها هي الإنسانية وبعضها هي الفرسية فالإنسان عبارة عن أجسام موصوفة بكيفيات مخصوصة متولدة عن امتزاجات أجزاء العناصر بمقدار مخصوص وهذا قول جمهور الأطباء ومنكري بقاء النفس ومن المعتزلة قول أبي الحسين البصري.

والقول الثاني : أن الإنسان عبارة عن أجزاء مخصوصة بشرط كونها موصوفة بصفة الحياة والعلم والقدرة والحياة عرض قائم بالجسم وهؤلاء أنكروا الروح والنفس

__________________

(١) في بعض النسخ « الاجزاء ».

(٢) الحجر : ٢٩ ، ص : ٧٢.

(٣) كذا في نسخ الكتاب ، وفي المصدر « بل الذي يمكن ان يقول به كل عاقل هو ان الإنسان يشترط ... ».

١٢

وقالوا ليس هاهنا إلا أجسام مؤتلفة موصوفة بصفة الحياة وبهذه الأعراض المخصوصة وهي الحياة والعلم والقدرة وهذا مذهب أكثر شيوخ المعتزلة.

والقول الثالث : أن الإنسان عبارة عن أجسام مخصوصة بأشكال مخصوصة وبشرط أن تكون أيضا موصوفة بالحياة والعلم والقدرة والإنسان إنما يمتاز عن سائر الحيوانات بشكل جسده وهيئة أعضائه وأجزائه إلا أن هذا مشكل فإن الملائكة قد يتشبهون بصور الناس فهنا صورة الإنسان حاصلة مع عدم الإنسانية وفي صورة المسخ معنى الإنسانية حاصلة مع أن هذه الصورة غير حاصلة فقد بطل اعتبار هذا الشكل والصورة في حصول معنى الإنسانية طردا وعكسا.

أما القسم الثالث : وهو أن يقال الإنسان موجود ليس بجسم ولا جسماني وهذا قول أكثر الإلهيين من الفلاسفة القائلين ببقاء النفس المثبتين للنفس معادا روحانيا وثوابا وعقابا روحانيا ذهب إليه جماعة من علماء المسلمين مثل الشيخ أبي القاسم الراغب الأصفهاني والشيخ أبي حامد الغزالي ومن قدماء المعتزلة معمر بن عباد السلمي ومن الشيعة الملقب عندهم بالشيخ المفيد ومن الكرامية جماعة.

واعلم أن القائلين بإثبات النفس فريقان الأول وهم المحققون منهم قالوا الإنسان عبارة عن هذا الجوهر المخصوص وهذا البدن آلته ومنزله ومركبه وعلى هذا التقدير فالإنسان غير موجود في داخل العالم ولا في خارجه وغير متصل بالعالم ولا منفصل عنه ولكنه متعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف كما أن إله العالم لا تعلق له بالعالم إلا على سبيل التصرف والتدبير.

والفريق الثاني الذين قالوا النفس إذا تعلقت بالبدن اتحدت بالبدن فصارت النفس عين البدن والبدن عين النفس ومجموعهما عند الاتحاد هو الإنسان فإذا جاء وقت الموت بطل هذا الاتحاد وبقيت النفس وفسد البدن فهذا جملة مذاهب الناس في الإنسان وكان ثابت بن قرة يثبت النفس ويقول إنها متعلقة بأجسام سماوية نورانية لطيفة غير قابلة للكون والفساد والتفرق والتمزق وأن تلك الأجسام تكون سارية في البدن وهن موجودات في داخل البدن (١) وأما أن

__________________

(١) مفاتيح الغيب : ج ٢١ ، ص ٤٥.

١٣

الإنسان جسم موجود خارج البدن فلا أعرف أحدا ذهب إلى ذلك.

أقول : ثم ذكر حججا عقلية طويلة الذيل على إثبات النفس ومغايرتها للبدن.

منها : أن النفس واحدة ومتى كانت واحدة وجب أن تكون مغايرة لهذا البدن ولكل واحد من أجزائه أما كونها واحدة فتارة ادعى البداهة فيه وتارة استدل عليه بوجوه منها أنا إذا فرضنا جوهرين مستقلين يكون كل واحد منهما مستقلا بفعله الخاص امتنع أن يصير اشتغال أحدهما بفعله الخاص به مانعا لاشتغال الآخر بفعله الخاص به وإذا ثبت هذا فنقول لو كان محل الإدراك والفكر جوهرا ومحل الغضب جوهرا آخر ومحل الشهوة جوهرا ثالثا وجب أن لا يكون اشتغال القوة الغضبية بفعلها مانعا للقوة الشهوانية من الاشتغال بفعلها ولا بالعكس لكن التالي باطل فإن اشتغال الإنسان بالشهوة وانصبابه إليها يمنعه من الاشتغال بالغضب والانصباب إليه وبالعكس فعلمنا أن هذه الأمور الثلاثة ليست مبادئ مستقلة بل هي صفات مختلفة لجوهر واحد فلا جرم كان اشتغال ذلك الجوهر بأحد هذه الأفعال عائقا له عن الاشتغال بالفعل الآخر.

ومنها : أن حقيقة الحيوان أنه جسم ذو نفس حساسة متحركة بالإرادة فالنفس لا يمكنها أن تتحرك بالإرادة إلا عند حصول الداعي ولا معنى للداعي إلا الشعور بخير يرغب في جذبه أو بشر يرغب في دفعه وهذا يقتضي أن يكون المتحرك بالإرادة هو بعينه مدركا للخير والشر والملذ والموذي والنافع والضار فثبت بما ذكرنا أن النفس الإنسانية شيء واحد وثبت أن ذلك الشيء هو المبصر والسامع والشام والذائق واللامس والمتخيل والمتفكر والمتذكر والمشتهي والغاضب وهو الموصوف بجميع الإدراكات لكل المدركات وهو الموصوف بجميع الأفعال الاختيارية والحركات الإرادية.

ثم قال : وأما المقدمة الثانية فهي في بيان أنه لما كانت النفس شيئا واحدا وجب أن لا يكون النفس هذا البدن ولا شيئا من أجزائه وأما امتناع كونها جملة هذا البدن فتقريره أنا نعلم بالضرورة أن القوة الباصرة غير سارية في كل البدن

١٤

وكذا القوة السامعة وكذا سائر القوى كالتخيل والتذكر والتفكر والعلم بأن هذه القوى غير سارية في جملة أجزاء البدن علم بديهي بل هو من أقوى العلوم البديهية وأما بيان أنه يمتنع أن يكون النفس جزءا من أجزاء البدن فإنا نعلم بالضرورة أنه ليس في البدن جزء واحد هو بعينه موصوف بالإبصار والسماع والفكر والذكر بل الذي يتبادر إلى الخاطر أن الإبصار مخصوص بالعين لا بسائر الأعضاء والسماع مخصوص بالأذن لا بسائر الأعضاء والصوت مخصوص بالحلق لا بسائر الأعضاء وكذلك القول في سائر الإدراكات وسائر الأفعال فأما أن يقال إنه حصل في البدن جزء واحد موصوف بكل هذه الإدراكات وكل هذه الأفعال فالعلم الضروري حاصل أنه ليس الأمر كذلك فثبت بما ذكرناه أن النفس الإنسانية شيء واحد موصوف بجملة هذه الإدراكات وبجملة هذه الأفعال وثبت بالبديهة أن جملة البدن ليست كذلك وثبت أيضا أن شيئا من أجزاء البدن ليس كذلك فحينئذ يحصل اليقين بأن النفس شيء مغاير لهذا البدن ولكل واحد من أجزائه وهو المطلوب.

ولنقرر هذا البرهان بعبارة أخرى نقول إنا نعلم بالضرورة أنا إذا أبصرنا شيئا عرفناه وإذا عرفناه اشتهيناه وإذا اشتهيناه حركنا أبداننا إلى القرب منه فوجب القطع بأن الذي أبصر هو الذي عرف وأن الذي عرف هو الذي اشتهى وأن الذي اشتهى هو الذي حرك إلى القرب منه فيلزم القطع بأن المبصر لذلك الشيء والعارف به والمشتهي إليه والمحرك إلى القرب منه شيء واحد إذ لو كان المبصر شيئا والعارف شيئا ثانيا والمشتهي شيئا ثالثا والمحرك شيئا رابعا لكان الذي أبصر لم يعرف والذي عرف لم يشته والذي اشتهى لم يحرك لكن من المعلوم أن كون شيء مبصرا لشيء لا يقتضي صيرورة شيء آخر عالما بذلك الشيء وكذلك القول في سائر المراتب وأيضا فإنا نعلم بالضرورة أن الرائي للمرئيات أنا وأني لما رأيتها عرفتها ولما عرفتها اشتهيتها ولما اشتهيتها طلبتها وحركت الأعضاء إلى القرب منها ونعلم أيضا بالضرورة أن الموصوف بهذه الرؤية وبهذا العلم وبهذه الشهوة وبهذا التحريك أنا لا غيري.

وأيضا العقلاء قالوا الحيوان لا بد وأن يكون حساسا متحركا بالإرادة

١٥

فإن لم يحس بشيء لم يشعر بكونه ملائما وبكونه منافرا وإذا لم يشعر بذلك امتنع كونه مريدا للجذب أو الدفع فثبت أن الشيء الذي يكون متحركا بالإرادة فإنه بعينه يجب أن يكون حساسا فثبت أن المدرك لجميع المدركات بجميع أنواع الإدراكات وأن المباشر لجميع التحريكات الاختيارية شيء واحد.

وأيضا فإنا إذا تكلمنا بكلام لقصد تفهيم الغير معاني تلك الكلمات فقد عقلناها وأردنا تعريف غيرنا تلك المعاني ولما حصلت هذه الإرادة في قلوبنا حاولنا إدخال تلك الحروف والأصوات في الوجود لنتوسل بها إلى تعريف غيرنا تلك المعاني.

إذا ثبت هذا فنقول إن كان محل العلم والإرادة ومحل تلك الحروف والأصوات جسما واحدا لزم أن يقال إن محل العلوم والإرادات هو الحنجرة واللهاة واللسان ومعلوم أنه ليس كذلك وإن قلنا إن محل العلوم والإرادات هو القلب لزم أن يكون محل الصوت هو القلب أيضا وذلك باطل أيضا بالضرورة وإن قلنا إن محل الكلام هو الحنجرة واللهاة واللسان ومحل العلوم والإرادات هو القلب ومحل القدرة هو الأعصاب والأوتار والعضلات كنا قد وزعنا هذه الأمور على هذه الأعضاء المختلفة لكنا أبطلنا ذلك وبينا أن المدرك لجميع الإدراكات والإرادات والمحرك لجميع الأعضاء بجميع أنواع التحريكات يجب أن يكون شيئا واحدا فلم يبق إلا أن يقال محل الإدراك والقدرة على التحريك شيء سوى هذا البدن وسوى أجزاء هذا البدن وأن هذه الأعضاء جارية مجرى الآلات والأدوات فكما أن النجار يفعل أفعالا مختلفة بواسطة آلات مختلفة فكذلك النفس تبصر بالعين وتسمع بالأذن وتتفكر بالدماغ وتعقل بالقلب فهذه الأعضاء آلات النفس وأدوات لها وذات النفس جوهر مغاير لها مفارق عنها بالذات متعلق بها تعلق التصرف والتدبير وهذا البرهان برهان شريف يقيني في هذا المطلوب وبالله التوفيق.

ومنها : أنه لو كان الإنسان عبارة عن هذا الجسد لكان إما أن يقوم بكل واحد من الأجزاء حياة وعلم وقدرة على حدة أو يقوم بجميع الأجزاء حياة وعلم وقدرة واحدة والقسمان باطلان أما الأول فلأنه يقتضي كون كل واحد من أجزاء الجسد حيا

١٦

عالما قادرا على سبيل الاستقلال فوجب أن لا يكون الإنسان الواحد حيوانا واحدا بل أحياء عالمين قادرين وحينئذ لا يبقى فرق بين الإنسان الواحد وبين أشخاص كثيرين من الناس ربط بعضهم بالبعض بالسلسلة لكنا نعلم بالضرورة فساد هذا الكلام لأني أجد ذاتي ذاتا واحدة وحيوانا لا حيوانات كثيرين وأيضا فبتقدير أن يكون كل واحد من أجزاء هذا الجسد حيوانا واحدا على حدة فحينئذ لا يكون لكل واحد منها خبر عن حال صاحبه فلا يمتنع أن يريد هذا الجزء أن يتحرك إلى هذا الجانب ويريد الجزء الآخر أن يتحرك إلى الجانب الآخر فحينئذ يقع التدافع بين أجزاء بدن الإنسان الواحد كما يقع بين الشخصين وفساد ذلك معلوم بالبديهة وأما الثاني فلأنه يقتضي قيام الصفة الواحدة بالمحال الكثيرة وذلك معلوم البطلان بالضرورة مع أنه يعود المحذور السابق أيضا.

ومنها أنا لما تأملنا في أحوال النفس رأينا أحوالها بالضد من أحوال الجسم وذلك يدل على أن النفس ليست جسما وتقرير هذه المنافاة من وجوه.

الأول أن كل جسم حصلت فيه صورة فإنه لا يقبل صورة أخرى من جنس الصورة الأولى إلا بعد زوال الصورة الأولى عنه زوالا تاما مثاله أن البصر إذا حصل فيه شكل التثليث امتنع أن يحصل فيه شكل التربيع والتدوير إلا بعد زوال الشكل الأول عنه ثم إنا وجدنا الحال في قبول النفس لصور المعقولات بالضد من ذلك فإن النفس التي لم تقبل صورة عقلية البتة يعسر قبولها لشيء من الصور العقلية فإذا قبلت صورة واحدة كان قبولها للصورة الثانية أسهل وإذا قبلت الصورة الثانية صار قبولها للصورة الثالثة أسهل ثم إن النفس لا تزال تقبل صورة بعد صورة من غير أن تضعف البتة بل كلما كان قبولها للصور أكثر كان قبولها للصور الآتية بعد ذلك أسهل وأسرع ولهذا السبب يزداد الإنسان فهما وإدراكا كلما ازداد تخريجا وارتياضا للعلوم فثبت أن قبول النفس للصورة العقلية على خلاف قبول الجسم للصورة وذلك يوهم أن النفس ليست بجسم.

والثاني : أن المواظبة على الأفكار الدقيقة لها أثر في النفس وأثر في البدن أما

١٧

أثرها في النفس فهو تأثيرها في إخراج النفس عن القوة إلى الفعل في التعقلات والإدراكات وكلما كانت الأفكار أكثر كان حصول هذه الأحوال أكمل وذلك غاية كمالها ونهاية شرفها وجلالتها وأما أثرها في البدن فهو أنها توجب استيلاء اليبس على البدن واستيلاء الذبول عليه وهذه الحالة لو استمرت لانتهت إلى الماليخوليا وموت البدن (١) فثبت بما ذكرنا أن هذه الأفكار توجب حياة النفس وشرفها وتوجب نقصان البدن وموته فلو كانت النفس هي البدن لصار الشيء الواحد بالنسبة إلى الشيء الواحد سببا لكماله ونقصانه معا ولحياته وموته معا وإنه محال.

والثالث : أنا شاهدنا أنه ربما كان بدن الإنسان ضعيفا نحيفا فإذا لاح نور من الأنوار القدسية وتجلى له سر من أسرار عالم الغيب حصل لذلك الإنسان جرأة عظيمة وسلطنة قوية ولم يعبأ بحضور أكبر السلاطين ولم يقم له وزنا ولو لا أن النفس شيء سوى البدن والنفس إنما تحيا وتبقى بغير ما به يقوى البدن ويحيا لما كان الأمر كذلك.

والرابع : أن أصحاب الرياضات والمجاهدات كلما أمعنوا في قهر القوى البدنية وتجويع الجسد قويت قواهم الروحانية وأشرقت أسرارهم بالمعارف الإلهية وكلما أمعن الإنسان في الأكل والشرب وقضاء الشهوات الجسدانية صار كالبهيمة وبقي محروما عن آثار النظر والعقل والفهم والمعرفة (٢) ولو لا أن النفس غير البدن لما كان الأمر كذلك.

والخامس : أنا نرى النفس تفعل أفاعيلها بآلات بدنية فإنها تبصر بالعين وتسمع بالأذن وتأخذ باليد وتمشي بالرجل أما إذا آل الأمر إلى التعقل والإدراك فإنها مستقلة بذاتها في هذا الفعل من غير إعانة شيء من الآلات ولذلك فإن الإنسان يمكنه أن لا يبصر شيئا إذا غمض عينه وأن لا يسمع شيئا إذا سد أذنيه ولا يمكنه البتة أن يزيل عن قلبه العلم بما كان عالما به فعلمنا أن النفس

__________________

(١) في المصدر : وسوق الموت.

(٢) في المصدر : عن آثار النطق والعقل والمعرفة.

١٨

غنية بذاتها في العلوم والمعارف عن شيء من الآلات البدنية فهذه الوجوه أمارات قوية في أن النفس ليست بجسم.

ثم ذكر في إثبات أن النفس ليست بجسم وجوها من الدلائل السمعية.

الأول قوله تعالى « وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ » (١) ومعلوم أن أحدا من العقلاء لا ينسى هذا الهيكل المشاهد فدل ذلك على أن النفس التي ينساها الإنسان عند فرط الجهل شيء آخر غير هذا البدن.

الثاني قوله تعالى « أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ » وهذا صريح في أن النفس غير هذا الجسد.

الثالث أنه تعالى ذكر مراتب الخلقة الجسمانية فقال « وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ » إلى قوله « فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً » ولا شك أن جميع هذه المراتب اختلافات واقعة في الأحوال الجسمانية ثم إنه تعالى لما أراد أن يذكر نفخ الروح قال « ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ » وهذا تصريح بأن ما يتعلق بالروح جنس مغاير لما سبق ذكره من التغيرات الواقعة في الأحوال الجسمانية وذلك يدل على أن الروح شيء مغاير للبدن.

فإن قالوا هذه الآية حجة عليكم لأنه تعالى قال « وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ » وكلمة من للتبعيض وهذا يدل على أن الإنسان بعض من أبعاض الطين قلنا كلمة من أصلها لابتداء الغاية كقولك خرجت من البصرة إلى الكوفة فقوله تعالى « وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ » يقتضي أن يكون ابتداء تخليق الإنسان حاصلا من هذه السلالة ونحن نقول بموجبه لأنه تعالى يسوي المزاج أولا ثم ينفخ فيه الروح فيكون ابتداء تخليقه من سلالة.

الرابع قوله « فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي » ميز تعالى بين التسوية وبين نفخ الروح فالتسوية عبارة عن تخليق الأبعاض والأعضاء ثم أضاف الروح إلى نفسه بقوله « مِنْ رُوحِي » دل ذلك على أن جوهر الروح شيء مغاير لجوهر الجسد.

__________________

(١) الحشر : ١٩.

١٩

الخامس قوله تعالى « وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها » وهذه الآية صريحة في وجود النفس موصوفة بالإدراك والتحريك معا لأن الإلهام عبارة عن الإدراك وأما الفجور والتقوى فهو فعل وهذه الآية صريحة في أن الإنسان شيء واحد وهو موصوف بالإدراك والتحريك وهو موصوف أيضا بفعل الفجور تارة وفعل التقوى أخرى ومعلوم أن جملة البدن غير موصوف بهذين الوصفين وليس في البدن عضو واحد موصوف بهذين الوصفين فلا بد من إثبات جوهر واحد يكون موصوفا بكل هذه الأمور.

السادس قوله تعالى « إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً » فهذا تصريح بأن الإنسان شيء واحد وذلك الشيء الواحد هو المبتلى بالتكاليف الإلهية والأمور الربانية وهو الموصوف بالسمع والبصر ومجموع البدن ليس كذلك وليس عضو من أعضاء البدن كذلك فالنفس شيء مغاير جملة البدن ومغاير (١) أجزاء البدن وهو الموصوف بهذه الصفات.

واعلم أن الأحاديث الواردة في صفة الأرواح قبل تعلقها بالأجساد وبعد انفصالها من الأجساد كثيرة وكل ذلك يدل على أن النفس غير هذا الجسد والعجب ممن يقرأ هذه الآيات الكثيرة ويروي هذه الأخبار الكثيرة ثم يقول توفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وما كان يعرف ما الروح وهذا من العجائب.

ثم استدل بهذه الآية التي بصدد تفسيرها على هذا المذهب وتقريره أن الروح لو كان جسما منتقلا من حالة إلى حالة ومن صفة إلى صفة لكان مساويا للبدن في كونه متولدا من أجسام اتصفت بصفات مخصوصة بعد أن كانت موصوفة بصفات أخر فإذا سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن الروح وجب أن يبين أنه جسم كان كذا ثم صار كذا وكذا حتى صار روحا مثل ما ذكر في كيفية تولد البدن أنه كان نطفة ثم علقة ثم مضغة فلما لم يقل ذلك بل قال إنه من أمر ربي بمعنى أنه لا يحدث ولا يدخل في الوجود إلا لأجل أن الله تعالى قال له « كُنْ فَيَكُونُ » دل ذلك على أنه جوهر ليس

__________________

(١) كذا ، وفي المصدر : مغاير لجملة البدن ومغاير لاجزاء ...

٢٠