بحار الأنوار

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي

بحار الأنوار

المؤلف:

الشيخ محمّد باقر بن محمّد تقي المجلسي


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة الوفاء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٣٧
  الجزء ١   الجزء ٢   الجزء ٣ الجزء ٤ الجزء ٥ الجزء ٦ الجزء ٧ الجزء ٨ الجزء ٩ الجزء ١٠ الجزء ١١ الجزء ١٢ الجزء ١٣ الجزء ١٤ الجزء ١٥ الجزء ١٦ الجزء ١٧ الجزء ١٨ الجزء ١٩ الجزء ٢٠ الجزء ٢١ الجزء ٢٢ الجزء ٢٣ الجزء ٢٤ الجزء ٢٥ الجزء ٢٦ الجزء ٢٧ الجزء ٢٨ الجزء ٢٩ الجزء ٣٠ الجزء ٣١ الجزء ٣٥ الجزء ٣٦ الجزء ٣٧ الجزء ٣٨ الجزء ٣٩ الجزء ٤٠ الجزء ٤١ الجزء ٤٢ الجزء ٤٣ الجزء ٤٤ الجزء ٤٥ الجزء ٤٦ الجزء ٤٧ الجزء ٤٨ الجزء ٤٩ الجزء ٥٠ الجزء ٥١ الجزء ٥٢ الجزء ٥٣ الجزء ٥٤ الجزء ٥٥ الجزء ٥٦ الجزء ٥٧ الجزء ٥٨ الجزء ٥٩ الجزء ٦٠ الجزء ٦١   الجزء ٦٢ الجزء ٦٣ الجزء ٦٤ الجزء ٦٥ الجزء ٦٦ الجزء ٦٧ الجزء ٦٨ الجزء ٦٩ الجزء ٧٠ الجزء ٧١ الجزء ٧٢ الجزء ٧٣ الجزء ٧٤ الجزء ٧٥ الجزء ٧٦ الجزء ٧٧ الجزء ٧٨ الجزء ٧٩ الجزء ٨٠ الجزء ٨١ الجزء ٨٢ الجزء ٨٣ الجزء ٨٤ الجزء ٨٥ الجزء ٨٦ الجزء ٨٧ الجزء ٨٨ الجزء ٨٩ الجزء ٩٠ الجزء ٩١ الجزء ٩٢ الجزء ٩٣ الجزء ٩٤   الجزء ٩٥ الجزء ٩٦   الجزء ٩٧ الجزء ٩٨ الجزء ٩٩ الجزء ١٠٠ الجزء ١٠١ الجزء ١٠٢ الجزء ١٠٣ الجزء ١٠٤

يرتضيه العقل الصحيح بقدر الطاقة البشرية وسمي حكمة عملية وفسروا الحكمة على ما يشمل القسمين بأنها خروج النفس من القوة إلى الفعل في كمالها الممكن علما وعملا إلا أنه لما كثر الخلاف وفشا الباطل والضلال في شأن الكمال وفي كون الأشياء كما هي والأمور على ما ينبغي لزم الاقتداء في ذلك بمن ثبت بالمعجزات الباهرة أنهم على هدى من الله تعالى وكانت الحكمة الحقيقية هي الشريعة لكن لا بمعنى مجرد الأحكام العملية بل بمعنى معرفة النفس ما لها وما عليها والعمل بها على ما ذهب إليه أهل التحقيق من أن المشار إليها في قوله « وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً » (١) هو الفقه وأنه اسم للعلم والعمل جميعا.

وقد تقسم الحكمة المفسرة بمعرفة الأشياء كما هي إلى النظرية العملية لأنها إن كانت علما بالأصول المتعلقة بقدرتنا واختيارنا فعملية وغايتها العمل وتحصيل الخير وإلا فنظرية وغايتها إدراك الحق وكل منهما ينقسم بالقسمة الأولية إلى ثلاثة أقسام فالنظرية إلى الإلهي والرياضي والطبيعي والعملية إلى علم الأخلاق وعلم تدبير المنزل وعلم سياسة المدينة لأن النظرية إن كان علما بأحوال الموجودات من حيث يتعلق بالمادة تصورا وقواما فهي العلم الطبيعي وإن كان من حيث يتعلق بها قواما لا تصورا فالرياضي كالبحث عن الخطوط والسطوح وغيرهما مما يفتقر إلى المادة في الوجود لا في التصور وإن كان من حيث لا يتعلق بها لا قواما ولا تصورا فالإلهي ويسمى العلم الأعلى وعلم ما بعد الطبيعة كالبحث عن الواجب والمجردات وما يتعلق بذلك.

والحكمة العملية إن تعلقت بآراء ينتظم بها حال الشخص وذكاء نفسه فالحكمة الخلقية وإلا فإن تعلقت بانتظام المشاركة الإنسانية الخاصة فالحكمة المنزلية والعامة فالحكمة المدنية والسياسة.

ثم قال : للإنسان قوة شهوية هي مبدأ جذب المنافع ودفع المضار من المآكل والمشارب وغيرها وتسمى القوة البهيمية والنفس الأمارة وقوة غضبية هي

__________________

(١) البقرة : ٢٦٩.

١٢١

مبدأ الإقدام على الأهوال والشوق إلى التسلط والترفع وتسمى السبعية والنفس اللوامة وقوة نطقية هي مبدأ إدراك الحقائق والشوق إلى النظر في العواقب ليتميز بين المصالح والمفاسد ويحدث من اعتدال حركة الأولى العفة وهي أن تكون تصرفات البهيمية على وفق اقتضاء النطقية ليسلم عن أن تستعبدها الهوى وتستخدمها اللذات ولها طرف إفراط هي الخلاعة والفجور أي الوقوع في ازدياد اللذات على ما لا ينبغي وطرف تفريط هي الخمود أي السكون عن طلب ما رخص فيه العقل والشرع من اللذات إيثارا لا خلقة ومن اعتدال حركة السبعية الشجاعة وهي انقيادها للنطقية ليكون إقدامها على حسب الروية من غير اضطراب في الأمور الهائلة ولها طرف إفراط هو التهور أي الإقدام على ما لا ينبغي وتفريط وهو الجبن أي الحذر عما لا ينبغي ومن اعتدال حركة النطقية وهي معرفة الحقائق على ما هي عليه بقدر الاستطاعة وطرف إفراطها الجربزة وهي استعمال الفكر فيما لا ينبغي وطرف تفريطها الغباوة وهي تعطيل الفكر بالإرادة والوقوف على اكتساب العلوم فالأوساط فضائل والأطراف رذائل وإذا امتزجت الفضائل حصل من اجتماعها حالة متشابهة هي العدالة فأصول الفضائل العفة والشجاعة والحكمة والعدالة ولكل منها شعب وفروع مذكورة في كتب الأخلاق وكذا الرذائل الستة انتهى.

تتميم

قال الرازي في المطالب العالية في تعديد خواص النفس الإنسانية ونحن نذكر منها عشرة القسم الأول من الخواص النطق وفيه أبحاث :

الأول : أن الإنسان الواحد لو لم يكن في الوجود إلا هو وإلا الأمور الموجودة في الطبيعة لهلك أو ساءت معيشته بل الإنسان محتاج إلى أمور أزيد مما في الطبيعة مثل الغذاء المعمول فإن الأغذية الطبيعية لا يلائم الإنسان والملابس أيضا لا يصلح للإنسان إلا بعد صيرورتها صناعية فكذلك يحتاج الإنسان إلى جملة من الصناعات حتى تنتظم أسباب معيشته والإنسان الواحد لا يمكنه القيام بمجموع تلك الصناعات

١٢٢

بل لا بد من المشاركة حتى يخبز هذا لذاك وينسج ذاك لهذا فلهذه الأسباب احتاج الإنسان إلى أن تكون له قدرة على أن يعرف الآخر الذي هو شريكه ما في نفسه بعلامة وضعية وهي أقسام فالأول أصلحها وأشرفها الأصوات المركبة والسبب في شرفها أن بدن الإنسان لا يتم ولا يكمل إلا بالقلب الذي هو معدن الحرارة الغريزية ولا بد من وصول النسيم البارد إليه ساعة فساعة حتى يبقى على اعتداله ولا يحترق فخلقت آلات في بدنه بحيث يقدر الإنسان على استدخال النسيم البارد في قلبه فإذا مكث ذلك النسيم لحظة تسخن وفسد فوجب إخراجه فالصانع الحكيم جعل النفس الخارج سببا لحدوث الصوت فلا جرم سهل تحصيل الصوت بهذا الطريق ثم إن ذلك الصوت سهل تقطيعه في المحابس المختلفة فحصلت هيئات مخصوصة بسبب تقطيع ذلك الصوت في تلك المحابس وتلك الهيئات المخصوصة هي الحروف فحصلت الحروف والأصوات بهذا الطريق ثم تركب الحروف فحصلت الكلمات بهذا الطريق ثم جعلوا كل كلمة مخصوصة معرفة لمعنى مخصوص فلا جرم صار تعريف المعاني المخصوصة بهذا الطريق في غاية السهولة من وجوه الأول أن إدخالها في الوجود في غاية السهولة والثاني أن تكون الكلمات الكثيرة الواقعة في مقابلة المعلومات الكثيرة في غاية السهولة والثالث أن عند الحاجة إلى التعريف تدخل في الوجود وعند الاستغناء عن ذكرها تعدم لأن الأصوات لا تبقى.

والقسم الثاني من طرق التعريف الإشارة والنطق أفضل بوجوه الأول أن الإشارة إنما تكون إلى موجود حاضر عند المشير محسوس وأما النطق فإنه يتناول المعدوم ويتناول ما لا يصح الإشارة إليه ويتناول ما يصح الإشارة إليه أيضا والثاني أن الإشارة عبارة عن تحريك الحدقة إلى جانب معين فالإشارة نوع واحد أو نوعان فلا يصح لتعريف الأشياء المختلفة بخلاف النطق فإن الأصوات والحروف البسيطة والمركبة كثيرة والثالث أنه إذا أشار إلى شيء فذلك الشيء ذات قامت به صفات كثيرة فلا يعرف بسبب تلك الإشارة أن المراد تعريف الذات وحدها أو الصفة الفلانية

١٢٣

أو الصفة الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو المجموع وأما النطق فإنه واف بتعرف كل واحدة من هذه الأحوال بعينها.

والقسم الثالث : الكتابة وظاهر أن المئونة في إدخالها في الوجود صعبة ومع ذلك فإنها مفرعة على النطق وذلك لأنا لو افتقرنا إلى أن نضع لتعريف كل معنى من المعاني البسيطة والمركبة نقشا لافتقرنا إلى حفظ نقوش غير متناهية وذلك غير ممكن فدبروا فيه طريقا لطيفا وهو أنهم وضعوا بإزاء كل واحد من الحروف النطقية البسيطة نقشا خاصا ثم جعلوا النقوش المركبة في مقابلة الحروف المركبة فسهلت المئونة في الكتابة بهذا الطريق إلا أن على هذا التقدير صارت الكتابة مفرعة على النطق إلا أنه حصل في الكتابة منفعة عظيمة وهي أن عقل الإنسان الواحد لا يفي باستنباط العلوم الكثيرة فالإنسان الواحد إذا استنبط مقدارا من العلم وأثبته في الكتاب بواسطة الكتابة فإذا جاء بعده إنسان آخر ووقف عليه قدر على استنباط أشياء أخر زائدة على ذلك الأول فظهر أن العلوم إنما كثرت بإعانة الكتابة. فلهذا قال عليه‌السلام قيدوا العلم بالكتابة. فهذا بيان حقيقة النطق والإشارة والكتابة.

البحث الثاني : مما يتعلق بهذا الباب أن المشهور أنه يقال في حد الإنسان إنه حيوان ناطق فقال بعضهم إن هذا التعريف باطل طردا وعكسا أما الطرد فلأن بعض الحيوانات قد تنطق وأما العكس فهو بعض الناس لا ينطق فأجيب عنه بأن المراد منه النطق العقلي ولم يذكروا لهذا النطق العقلي تفسيرا ملخصا فنقول الحيوان نوعان منه ما إذا عرف شيئا فإنه لا يقدر على أن يعرف غيره حال نفسه مثل البهائم وغيرها فإنها إذا وجدت من نفسها أحوالا مخصوصة لا تقدر على أن تعرف غيرها تلك الأحوال وأما الإنسان فإذا وجد من نفسه حالة مخصوصة قدر على أن يعرف غيره تلك الحالة الموجودة في نفسه فالناطق الذي جعل فصلا مقوما هو هذا المعنى والسبب فيه أن أكمل طرق التعريف هو النطق فعبر عن هذه القدرة بأكمل الطرق الدالة عليها وبهذا التقرير فإن تلك السؤال لا يتوجه والله أعلم بالصواب.

١٢٤

البحث الثالث : أن هذه الألفاظ والكلمات لها أسماء كثيرة فالأول اللفظ وفيه وجهان أحدهما أن هذه الألفاظ إنما تولد بسبب أن ذلك الإنسان لفظ ذلك الهواء من حلقه فلما كان سبب حدوث هذه الأصوات هو لفظ ذلك الهواء لا جرم سميت باللفظ والثاني أن تلك المعاني كانت كامنة في قلب ذلك الإنسان فلما ذكر هذه الألفاظ صارت تلك المعاني الكامنة معلومة فكأن ذلك الإنسان لفظها من الداخل إلى الخارج.

والاسم الثاني : الكلام واشتقاق هذه اللفظة من الكلم وهو الجرح والسبب أن الإنسان إذا سمع تلك اللفظة تأثر جسمه بسماعها وتأثر عقله بفهم معناها فلهذا السبب سمي بالكلمة.

والاسم الثالث : العبارة وهي مأخوذة من العبور والمجاوزة وفيه وجهان الأول أن ذلك النفس لما خرج منه فكأن جاوزه وعبر عليه الثاني أن ذلك المعنى عبر من القائل إلى فهم المستمع.

الاسم الرابع : القول وهذا التركيب يفيد الشدة والقوة ولا شك أن تلك اللفظة لها قوة إما لسبب خروجها إلى الخارج وإما لسبب أنها تقوى على التأثر في السمع وعلى التأثير في العقل والله أعلم.

النوع الثاني : من خواص الإنسان قدرته على استنباط الصنائع العجيبة ولهذه القدرة مبدأ وآلة أما المبدأ فهو الخيال القادر على تركيب الصور بعضها ببعض وأما الآلة فهي اليدان وقد سماهما الحكيم أرسطاطاليس الآلة المباحة وسنذكر هذه اللفظة في علم التشريح إن شاء الله وقد يحصل ما يشبه هذه الحالة للحيوانات الأخر كالنحل في بناء البيوت المسدسة إلا أن ذلك لا يصدر من استنباط وقياس بل إلهام وتسخير ولذلك لا يختلف ولا يتنوع هكذا قاله الشيخ وهو منقوض بالحركة الفلكية وسنفرد لهذا البحث فصلا على الاستقصاء.

النوع الثالث : من خواص الإنسان الأعراض النفسانية المختلفة وهي على أقسام فأحدها أنه إذا رأى شيئا لم يعرف سببه حصلت حالة مخصوصة في نفسه مسماة

١٢٥

بالتعجب وثانيها أنه إذا أحس بحصول الملائم حصلت حالة مخصوصة وتتبعها أحوال جسمانية وهي تمدد في عضلات الوجه مع أصوات مخصوصة وهي الضحك فإن أحس بحصول المنافي والموذي حزن فانعصر دم قلبه في الداخل فينعصر أيضا دماغه وتنفصل عنه قطرة من الماء وتخرج من العين وهي البكاء وثالثها أن الإنسان إذا اعتقد في غيره أنه اعتقد فيه أنه أقدم على شيء من القبائح حصلت حالة مخصوصة تسمى بالخجالة ورابعها أنه إذا اعتقد في فعل مخصوص أنه قبيح فامتنع عنه لقبحه حصلت حالة مخصوصة هي الحياء وبالجملة فاستقصاء القول في تعديد الأحوال النفسانية مذكور في باب الكيفيات النفسانية.

والنوع الرابع : من خواص الإنسان الحكم بحسن بعض الأشياء وقبح بعضها إما لأن صريح العقل يوجب ذلك عند من يقول به وإما لأجل أن المصلحة الحاصلة بسبب المشاركة الإنسانية اقتضت تقريرها لتبقى مصالح العالم مرعية وأما سائر الحيوانات فإنها إن تركت بعض الأشياء مثل الأسد فإنه لا يفترس صاحبه فليس ذلك مشابها للحالة الحاصلة للإنسان بل هيئة أخرى لأن كل حيوان فهو يحب بالطبع كل من ينفعه فلهذا السبب الشخص الذي أطعمه محبوب عنده فيصير ذلك مانعا له عن افتراسه.

النوع الخامس : من خواص الإنسان تذكر الأمور الماضية وقيل إن هذه الحالة لا تحصل لسائر الحيوانات والجزم في هذا الباب بالنفي والإثبات مشكل.

والنوع السادس : الفكر والروية وهذا الفكر على قسمين أحدهما أن يتفكر لأجل أن يعرف حاله وهذا النوع من الفكر ممكن في الماضي والمستقبل والحاضر.

والنوع الثاني : التفكر في كيفية إيجاده وتكوينه وهذا النوع من الفكر لا يمكن في الواجب والممتنع وإنما يمكن في الممكن ثم لا يمكن في الممكن الماضي والحاضر وإنما يمكن في الممكن المستقبل وإذا حكمت هذه القوة تبع حكمها حصول الإرادة الجازمة ويتبعها تأثير القوة والقدرة في تحريك البدن وهل لشيء من الحيوانات شيء من الكيفيات المشهور إنكاره وفيه موضع بحث فإنها راغبة في

١٢٦

كل ما يكون لذيذا عندها نافرة عن كل ما يكون مولما عندها فوجب أن يتقرر عندها أن كل لذيذ مطلوب وأن كل مولم مكروه فأجيب عنه بأن رغبتها إنما يكون في هذا اللذيذ فكل لذيذ حضر عنده فإنه يرغب فيه من حيث إنه ذلك الشيء فأما أن يعتقد أن كل لذيذ فهو مطلوب فهذا ليس عنده.

واعلم أن الحكم في هذه الأشياء بالنفي والإثبات حكم على الغيب والعلم بها ليس إلا لله العلي العليم والله أعلم.

الفصل الثاني والعشرون في بيان أن اللذات العقلية أشرف وأكمل من اللذات الحسية اعلم أن الغالب على الطباع العامية أن أقوى اللذات وأكمل السعادات لذة المطعم والمنكح ولذلك فإن جمهور الناس لا يعبدون الله إلا ليجدوا المطاعم اللذيذة في الآخرة وإلا ليجدوا المناكح الشهية هناك وهذا القول مردود عند المحققين من أهل الحكمة وأرباب الرياضة ويدل عليه وجوه :

الحجة الأولى : لو كانت سعادة الإنسان متعلقة بقضاء الشهوة وإمضاء الغضب لكان الحيوان الذي يكون أقوى في هذا الباب من الإنسان أشرف منه لكن الجمل أكثر أكلا من الناس والذئب أقوى في الإيذاء من الإنسان والعصفور أقوى على السفاد من الإنسان فوجب كون هذه الأشياء أشرف من الإنسان لكن التالي معلوم البطلان بالضرورة فوجب الجزم بأن سعادة الإنسان غير متعلقة بهذه الأمور.

الحجة الثانية : كل شيء يكون سببا لحصول السعادة والكمال فكلما كان ذلك الشيء أكثر حصولا كانت السعادة والكمال أكثر حصولا فلو كان قضاء شهوة البطن والفرج سببا لكمال حال الإنسان ولسعادته لكان الإنسان كلما أكثر اشتغالا بقضاء شهوة البطن والفرج وأكثر استغراقا فيه كان أعلى درجة وأكمل فضيلة لكن التالي باطل لأن الإنسان الذي جعل عمره وقفا على الأكل والشرب والبعال يعد من البهيمة ويقضى عليه بالدناءة والخساسة وكل ذلك يدل على أن الاشتغال بقضاء هاتين الشهوتين ليس من باب السعادات والكمالات بل من باب دفع الحاجات والآفات.

الحجة الثالثة : أن الإنسان يشاركه في لذة الأكل والشرب جميع الحيوانات

١٢٧

الخسيسة فإنه كما أن الإنسان يلتذ بأكل السكر فكذلك الجعل يلتذ بتناول السرقين فلو كانت هذه اللذات البدنية هي السعادة الكبرى للإنسان لوجب أن لا يكون للإنسان فضيلة على هذه الحيوانات الخسيسة بل نزيد ونقول لو كانت سعادة الإنسان متعلقة بهذه اللذات الخسيسة لوجب أن يكون الإنسان أخس الحيوانات والتالي باطل فالمقدم مثله وبيان وجه الملازمة أن الحيوانات الخسيسة مشاركة للإنسان في هذه اللذات الخسيسة البدنية إلا أن الإنسان يتنغص عليه المطالب بسبب العقل فإن العقل سمي عقلا لكونه عقالا له وحبسا له عن أكثر ما يشتهيه ويميل طبعه إليه فإذا كان التقدير أن كمال السعادة ليس إلا في هذه اللذات الخسيسة ثم بينا أن هذه اللذات الخسيسة حاصلة على سبيل الكمال والتمام للبهائم والسباع من غير معارض ومدافع وهي حاصلة للإنسان مع المنازع القوي والمعارض الكامل وجب أن يكون الإنسان أخس الحيوانات ولما كان هذا معلوم الفساد بالبديهة ثبت أن هذه اللذات الخسيسة ليست موجبة للبهجة والسعادة.

الحجة الرابعة : أن هذه اللذات الخسيسة إذا بحث عنها فهي في الحقيقة ليست لذات بل حاصلها يرجع إلى دفع الألم والدليل عليه أن الإنسان كلما كان أكثر جوعا كان التذاذه بالأكل أكمل وكلما كان ألم الجوع أقل كان الالتذاذ بالأكل أقل وأيضا إذا طال عهد الإنسان بالوقاع واجتمع المني الكثير في أوعية المني حصلت في تلك الأوعية دغدغة شديدة وتمدد وثقل وكلما كانت هذه الأحوال الموذية أكثر كانت اللذة الحاصلة عند اندفاع ذلك المني أقوى ولهذا السبب فإن لذة الوقاع في حق من طال عهده بالوقاع يكون أكمل منها في حق من قرب عهده به فثبت أن هذه الأحوال التي يظن أنها لذات جسمانية فهي في الحقيقة ليست إلا دفع الألم وهكذا القول في اللذة الحاصلة بسبب لبس الثياب فإنه لا حاصل لتلك اللذة إلا دفع ألم الحر والبرد وإذا ثبت أنه لا حاصل لهذه اللذات إلا دفع الآلام فنقول ظهر أنه ليس فيها سعادة لأن الحالة السابقة هي حصول الألم والحالة الحاضرة عدم الألم وهذا العدم كان حاصلا عند العدم الأصلي فثبت أن هذه الأحوال ليست

١٢٨

سعادات ولا كمالات البتة.

الحجة الخامسة أن الإنسان من حيث يأكل ويشرب ويجامع ويؤذي يشاركه سائر الحيوانات وإنما يمتاز عنها بالإنسانية وهي مانعة من تكميل تلك الأحوال وموجبة لنقصانها وتقليلها فلو كانت هذه الأحوال عين السعادة لكان الإنسان من حيث إنه إنسان ناقصا شقيا خسيسا ولما حكمت البديهة بفساد هذا التالي ثبت فساد المقدم.

الحجة السادسة : أن العلم الضروري حاصل بأن بهجة الملائكة وسعادتهم أكمل وأشرف من بهجة الحمار وسعادته ومن بهجة الديدان والذباب وسائر الحيوانات والحشرات ثم لا نزاع أن الملائكة ليس لها هذه اللذات فلو كانت السعادة القصوى ليست إلا هذه اللذات لزم كون هذه الحيوانات الخسيسة أعلى حالا وأكمل درجة من الملائكة المقربين ولما كان هذا التالي باطلا كان المقدم مثله بل هاهنا ما هو أعلى وأقوى مما ذكرناه وهو أنه لا نسبة لكمال واجب الوجود وجلاله وشرفه وعزته إلى أحوال غيره مع أن هذه اللذات الحسية ممتنعة عليه فثبت أن الكمال والشرف قد يحصلان سوى هذه اللذات الجسمية فإن قالوا ذلك الكمال لأجل حصول الإلهية وذلك في حق الخلق محال فنقول لا نزاع أن حصول الإلهية في حق الخلق محال إلا أنه قال عليه‌السلام تخلقوا بأخلاق الله والفلاسفة قالوا الفلسفة عبارة عن التشبه بالإله بقدر الطاقة البشرية فيجب عليه أن يعرف تفسير هذا التخلق وهذا التشبه ومعلوم أنه لا معنى لهما إلا تقليل الحاجات وإضافة الخيرات والحسنات لا بالاستكثار من اللذات والشهوات.

الحجة السابعة : أن هؤلاء الذين حكموا بأن سعادة الإنسان ليس إلا في تحصيل هذه اللذات البدنية والراحات الجسمانية إذا رأوا إنسانا أعرض عن طلبها مثل أن يكون مواظبا للصوم مكتفيا بما جاءت الأرض عظم اعتقادهم فيه وزعموا أنه ليس من جنس الإنسان بل من زمرة الملائكة ويعدون أنفسهم بالنسبة إليه أشقياء أراذل وإذا رأوا إنسانا مستغرق الفكر والهمة في طلب الأكل والشرب والوقاع مصروف الهمة إلى تحصيل أسباب هذه الأحوال معرضا عن العلم والزهد والعبادة قضوا بالبهيمية

١٢٩

والخزي والنكال ولو لا أنه تقرر في عقولهم أن الاشتغال بتحصيل هذه اللذات الجسدانية نقص ودناءة وأن الترفع عن الالتفات إليها كمال وسعادة لما كان الأمر على ما ذكرنا ولكان يجب أن يحكموا على المعرض عن تحصيل هذه اللذات بالخزي والنكال وعلى المستغرق فيها بالسعادة والكمال وفساد التالي يدل على فساد المقدم.

الحجة الثامنة : كل شيء يكون في نفسه كمالا وسعادة وجب أن لا يستحيا من إظهاره بل يجب أن يفتخر بإظهاره ويتبجح بفعله ونحن نعلم بالضرورة أن أحدا من العقلاء لا يفتخر بكثرة الأكل ولا بكثرة المباشرة ولا بكونه مستغرق الوقت والزمان في هذه الأعمال وأيضا فالعاقل لا يقدر على الوقاع إلا في الخلوة فأما عند حضور الناس فإن أحدا من العقلاء لا يجد في نفسه تجويز الإقدام عليه وذلك يدل على أنه تقرر في عقول الخلق أنه فعل خسيس وعمل قبيح فيجب إخفاؤه عن العيون وأيضا فقد جرت عادة السفهاء بأنه لا يشتم بعضهم بعضا إلا بذكر ألفاظ الوقاع وذلك يدل على أنه مرتبة خسيسة ودرجة قبيحة وأيضا لو أن واحدا من السفهاء أخذ يحكي عند حضور الجمع العظيم فلانا كيف يواقع زوجته فإن ذلك الرجل يستحيي من ذلك الكلام ويتأذى من ذلك القائل وكل هذا يدل على أن ذلك الفعل ليس من الكمالات والسعادات بل هو عمل باطل وفعل قبيح.

الحجة التاسعة : كل فرس وحمار كان ميله إلى الأكل والشرب والإيذاء أكثر وكان قبوله للرياضة أقل كان قيمته أقل وكل حيوان كان أقل رغبة في الأكل والشرب وكان أسرع قبولا للرياضة كانت قيمته أكثر ألا ترى أن الفرس الذي يقبل الرياضة في الكر والفر والعدو الشديد فإنه يشترى بثمن رفيع وكل فرس لا يقبل هذه الرياضة يوضع على ظهره الإكاف ويسوى بينه وبين الحمار ولا يشترى إلا بثمن قليل فلما كانت الحيوانات التي هي غير ناطقة لا تظهر فضائلها بسبب الأكل والشرب والوقاع بل بسبب تقليلها وبسبب قبول الأدب وحسن الخدمة لمولاه فما ظنك بالحيوان الناطق العاقل؟

الحجة العاشرة : أن سكان أطراف الأرض لما لم تكمل عقولهم ومعارفهم و

١٣٠

أخلاقهم لا جرم كانوا في غاية الخسة والدناءة ألا ترى أن سكان الإقليم السابع وهم الصقالبة لما قل نصيبهم من المعارف الحقيقية والأخلاق الفاضلة فلا جرم تقرر في عقول العقلاء خسة درجاتهم ودناءة مراتبهم وأما سكان وسط المعمور لما فازوا بالمعارف الحقيقية والأخلاق الفاضلة لا جرم أقر كل أحد بأنهم أفضل طوائف البشر وأكملهم وذلك يدل على أن فضيلة الإنسان وكماله لا يظهر إلا بالعلوم الحقيقية والأخلاق الفاضلة.

٤٣

(باب اخر)

(في خلق الأرواح قبل الأجساد وعلة تعلقها بها وبعض شئونها من ائتلافها واختلافها وحبها وبغضها وغير ذلك من أحوالها)

١ ـ البصائر : عن محمد بن الحسين عن جعفر بن بشير عن آدم أبي الحسين (١) عن إسماعيل بن أبي حمزة عمن حدثه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال والله يا أمير المؤمنين إني لأحبك فقال كذبت فقال الرجل سبحان الله كأنك تعرف ما في قلبي فقال علي عليه‌السلام إن الله خلق الأرواح قبل الأبدان بألفي عام ثم عرضهم علينا فأين كنت لم أرك (٢).

٢ ـ ومنه : عن عبد الله بن محمد عن إبراهيم بن محمد عن عبد الرحمن بن أبي هاشم عن سلام بن أبي عمير (٣) عن عمارة قال : كنت جالسا عند أمير المؤمنين عليه‌السلام إذ أقبل رجل فسلم عليه ثم قال يا أمير المؤمنين والله إني لأحبك فسأله ثم قال له

__________________

(١) في المصدر : أبى الحسن.

(٢) البصائر : ٨٧.

(٣) كذا في جميع النسخ ، والظاهر أنه « سلام بن أبي عمرة » لعدم ذكر « سلام بن أبي عمير » في كتب الرجال ، واما عمارة فلم نعرف أنه من هو ، ومن المعلوم انه غير عمارة بن أبي سلامة الهمداني شهيد الطف ، وعلى فرض كونه إياه فلا يمكن رواية سلام عنه بلا واسطة ، وكيف كان فلا تخلو الرواية عن ضعف او ارسال كسابقتها ولاحقاتها.

١٣١

إن الأرواح خلقت قبل الأبدان بألفي عام ثم أسكنت الهواء فما تعارف منها ثم ائتلف هاهنا وما تناكر منها ثم اختلف هاهنا وإن روحي أنكر روحك (١).

٣ ـ ومنه : عن أبي محمد عن عمران بن موسى عن يونس بن جعفر عن علي بن أسباط عن محمد بن الفضيل عن أبي حمزة الثمالي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أن رجلا قال لأمير المؤمنين عليه‌السلام والله إني لأحبك ثلاث مرات فقال علي عليه‌السلام والله ما تحبني فغضب الرجل فقال كأنك والله تخبرني ما في نفسي قال له علي عليه‌السلام لا ولكن الله خلق الأرواح قبل الأبدان بألفي عام فلم أر روحك فيها (٢).

٤ـ الكشي : وجدت في كتاب جبرئيل بن أحمد بخطه حدثني محمد بن عيسى عن محمد بن الفضيل (٣) عن عبد الله بن عبد الرحمن عن الهيثم بن واقد عن ميمون بن عبد الله عن الصادق عن آبائه عليهم‌السلام قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله خلق الله الأرواح قبل الأجساد بألفي عام ثم أسكنها الهواء فما تعارف منها ثم ائتلف هاهنا وما تناكر ثم اختلف هاهنا.

أقول : قد أوردنا أمثال هذه الأخبار في باب إخبار أمير المؤمنين عليه‌السلام بشهادته وباب أنهم عليهم‌السلام يعرفون الناس بحقيقة الإيمان والنفاق وباب أنهم المتوسمون.

٥ ـ البصائر : عن بعض أصحابنا عن محمد بن الحسين عن محمد بن مسلم عن إبراهيم بن أيوب عن عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام قال قال أمير المؤمنين عليه‌السلام إن الله تبارك وتعالى خلق الأرواح قبل الأبدان بألفي (٤) عام فلما ركب الأرواح في أبدانها كتب بين أعينهم مؤمن أو كافر وما هم به مبتلون (٥) و

__________________

(١) البصائر : ٨٨.

(٢) المصدر : ٨٨.

(٣) مشترك بين جماعة من الضعفاء والمجهولين كعبد الله بن عبد الرحمن ، وفي بعض النسخ « أبي عبد الله بن عبد الرحمن ».

(٤) في تفسير الفرات : بألف.

(٥) فيه : مبتلين بقدر اذن فأرة.

١٣٢

ما هم عليه من سيئ أعمالهم وحسنها في قدر أذن الفأرة ثم أنزل بذلك قرآنا على نبيه فقال « إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ » (١) وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هو المتوسم وأنا بعده والأئمة من ذريتي هم المتوسمون (٢).

تفسير الفرات : عن أحمد بن يحيى معنعنا عن أبي جعفر عليه‌السلام مثله (٣).

٦ ـ العلل : عن علي بن أحمد عن محمد بن أبي عبد الله عن محمد بن إسماعيل البرمكي عن جعفر بن سليمان عن أبي أيوب الخراز عن عبد الله بن الفضل الهاشمي قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام لأي علة جعل الله عز وجل الأرواح في الأبدان بعد كونها في ملكوته الأعلى في أرفع محل فقال عليه‌السلام إن الله تبارك وتعالى علم أن الأرواح في شرفها وعلوها متى ما تركت على حالها نزع أكثرها إلى دعوى الربوبية دونه عز وجل فجعلها بقدرته في الأبدان التي قدر لها في ابتداء التقدير نظرا لها ورحمة بها وأحوج بعضها إلى بعض وعلق بعضها على بعض ورفع بعضها على بعض ورفع بعضها فوق بعض درجات وكفى (٤) بعضها ببعض وبعث إليهم رسله واتخذ عليهم حججه مبشرين ومنذرين يأمرون بتعاطي العبودية والتواضع لمعبودهم بالأنواع التي تعبدهم بها ونصب لهم عقوبات في العاجل وعقوبات في الآجل ومثوبات في العاجل ومثوبات في الآجل ليرغبهم بذلك في الخير ويزهدهم في الشر وليذلهم (٥) بطلب المعاش والمكاسب فيعلموا بذلك أنهم بها مربوبون وعباد مخلوقون ويقبلوا على عبادته فيستحقوا بذلك نعيم الأبد وجنة الخلد ويأمنوا من النزوع إلى ما ليس لهم بحق.

ثم قال عليه‌السلام يا ابن الفضل إن الله تبارك وتعالى أحسن نظرا لعباده منهم لأنفسهم ألا ترى أنك لا ترى فيهم إلا محبا للعلو على غيره حتى إنه يكون منهم

__________________

(١) الحجر : ٧٥.

(٢) البصائر : ٣٥٦.

(٣) تفسير الفرات : ٨١.

(٤) كفأ ( ظ ).

(٥) في بعض النسخ « ليدلهم » بالدال المهملة.

١٣٣

لمن قد نزع إلى دعوى الربوبية ومنهم من (١) نزع إلى دعوى النبوة بغير حقها ومنهم من (٢) نزع إلى دعوى الإمامة بغير حقها وذلك مع ما يرون في أنفسهم من النقص والعجز والضعف والمهانة والحاجة والفقر والآلام والمناوبة عليهم والموت الغالب لهم والقاهر لجميعهم يا ابن الفضل إن الله تبارك وتعالى لا يفعل بعباده إلا الأصلح لهم و « لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ » (٣)

بيان : في القاموس نزع إلى أهله نزاعا ونزاعة ونزوعا بالضم اشتاق وفي المصباح نزع إلى الشيء نزاعا ذهب إليه والمناوبة عليهم أي إنزال المصائب عليهم بالنوبة نوعا بعد نوع أو معاقبتهم بذلك قال في القاموس النوب نزول الأمر كالنوبة والنوبة الدولة وناوبه عاقبه ويحتمل أن يكون المنادبة بالدال من الندبة والنوحة.

٧ ـ الإختصاص : بإسناده عن أحمد بن محمد بن عيسى عن الحسين بن سعيد عن الحسين بن علوان عن سعد بن طريف عن الأصبغ بن نباتة قال : كنت مع أمير المؤمنين عليه‌السلام فأتاه رجل فسلم عليه ثم قال يا أمير المؤمنين إني والله لأحبك في الله وأحبك في السر كما أحبك في العلانية وأدين الله بولايتك في السر كما أدين بها في العلانية وبيد أمير المؤمنين عود فطأطأ رأسه ثم نكت بالعود ساعة في الأرض ثم رفع رأسه إليه فقال إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حدثني بألف حديث لكل حديث ألف باب وإن أرواح المؤمنين تلتقي في الهواء فتشم وتتعارف فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف بحق الله لقد كذبت فما أعرف في الوجوه (٤) وجهك ولا اسمك في الأسماء ثم دخل عليه رجل آخر فقال يا أمير المؤمنين إني لأحبك (٥) في الله وأحبك في السر كما أحبك في العلانية قال فنكت الثانية

__________________

(١) في المصدر : من قد نزع.

(٢) في المصدر : من قد نزع.

(٣) العلل : ج ١ ، ص ١٥ و ١٦.

(٤) في المصدر : وجهك في الوجوه.

(٥) ليس في المصدر هذه الجملة « لاحبك في الله ».

١٣٤

بعوده في الأرض ثم رفع رأسه الأرض ثم رفع رأسه إليه فقال له صدقت إن طينتنا طينة مخزونة أخذ الله ميثاقها من صلب آدم فلم يشذ منها شاذ ولا يدخل فيها داخل من غيرها اذهب فاتخذ للفقر جلبابا فإني سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول يا علي بن أبي طالب والله الفقر أسرع إلى محبينا من السيل إلى بطن الوادي (١).

بيان : في النهاية شاممت فلانا إذا قاربته وعرفت ما عنده بالاختبار والكشف وهي مفاعلة من الشم كأنك تشم ما عنده ويشم ما عندك لتعملا بمقتضى ذلك وقال في حديث علي عليه‌السلام من أحبنا أهل البيت فليعد للفقر جلبابا : أي ليزهد في الدنيا وليصبر على الفقر والقلة الحديث والجلباب الإزار والرداء وقيل هو كالمقنعة تغطي به المرأة رأسها وظهرها وصدرها وجمعه جلابيب كنى به عن الصبر لأنه يستر عن الفقر كما يستر الجلباب البدن وقيل إنما كنى بالجلباب عن اشتماله بالفقر أي فليلبس إزار الفقر ويكون منه على حالة تعمه وتشتمله لأن الغناء من أحوال أهل الدنيا ولا يتهيأ الجمع بين حب الدنيا وحب أهل البيت.

٨ ـ العلل لمحمد بن علي بن إبراهيم ، قال : العلة في خلق الأرواح قبل الأبدان بألفي عام قال إنما عنى به أن الأرواح خلقت قبل آدم بألفي عام.

٩ ـ كتاب محمد بن المثنى الحضرمي ، عن جعفر بن محمد بن شريح الحضرمي عن حميد بن شعيب عن جابر بن يزيد قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها عند الله ائتلف في الأرض وما تناكر عند الله اختلف في الأرض.

٩ ـ الكافي : عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن ابن محبوب عن بكير بن أعين قال كان أبو جعفر عليه‌السلام يقول إن الله أخذ ميثاق شيعتنا بالولاية لنا وهم ذر يوم أخذ الميثاق على الذر بالإقرار (٢) بالربوبية ولمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بالنبوة وعرض الله عز وجل على محمد أمته في الطين وهم أظلة وخلقهم من الطينة التي خلق منها آدم

__________________

(١) الاختصاص : ٣١١.

(٢) في المصدر : له بالربوبية.

١٣٥

وخلق الله أرواح شيعتنا قبل أبدانهم بألفي عام عرضهم عليه وعرفهم رسول الله وعرفهم عليا ونحن نعرفهم « فِي لَحْنِ الْقَوْلِ » (١)

بيان : في الطين أي حين كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الطين أو الأمة أو هما معا وهو أظهر والمراد قبل خلق الجسد وعرضهم عليه أي على الله أو على النبي في لحن القول إشارة إلى قوله تعالى « وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ » (٢) قال البيضاوي لحن القول أسلوبه وإمالته إلى جهة تعريض وتورية منه قيل للمخطئ لاحن لأنه يعدل الكلام عن الصواب (٣).

١١ ـ معاني الأخبار : عن أحمد بن محمد بن الهيثم عن أحمد بن يحيى بن زكريا عن بكر بن عبد الله عن تميم بن بهلول عن أبيه عن محمد بن سنان عن المفضل بن عمر قال قال أبو عبد الله عليه‌السلام إن الله تبارك وتعالى خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام فجعل أعلاها وأشرفها أرواح محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة بعدهم عليهم‌السلام فعرضها على السماوات والأرض والجبال فغشيها نورهم (٤) الحديث.

١٢ ـ البصائر : عن إبراهيم بن هاشم عن عمرو بن عثمان عن أبي محمد المشهدي من آل رجاء البجلي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رجل لأمير المؤمنين عليه‌السلام أنا والله لأحبك فقال له كذبت إن الله خلق الأرواح قبل الأبدان بألفي عام فأسكنها الهواء ثم عرضها علينا أهل البيت فو الله ما منها روح إلا وقد عرفنا بدنه فو الله ما رأيتك فيها فأين كنت (٥) الخبر.

١٣ ـ البصائر : عن عباد بن سليمان عن محمد بن سليمان عن هارون بن الجهم عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر قال : بينا أمير المؤمنين جالس في مسجد الكوفة وقد احتبى بسيفه

__________________

(١) الكافي : ج ١ ، ص ٤٣٧.

(٢) محمد : ٣٠.

(٣) أنوار التنزيل : ج ٢ ، ص ٤٣٩.

(٤) معاني الأخبار : ١٠٨.

(٥) البصائر : ٨٧.

١٣٦

وألقى ترسه خلف ظهره إذ أتته امرأة تستعدي على زوجها فقضى للزوج عليها فغضبت فقالت والله ما هو كما قضيت والله ما تقضي بالسوية ولا تعدل في الرعية ولا قضيتك عند الله بالمرضية قال فغضب أمير المؤمنين عليه‌السلام فنظر إليها مليا ثم قال كذبت يا جرية يا بذية يا سلسع يا سلفع يا التي لا تحيض مثل النساء قال فولت هاربة وهي تقول ويلي ويلي فتبعها عمرو بن حريث فقال يا أمة الله قد استقبلت ابن أبي طالب بكلام سررتني به ثم نزغك بكلمة فوليت منه هاربة تولولين قال فقالت يا هذا ابن أبي طالب أخبرني (١) بالحق والله ما رأيت حيضا كما تراه المرأة قال فرجع عمرو بن حريث إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال له يا ابن أبي طالب ما هذا التكهن قال ويلك يا ابن حريث ليس مني هذا كهانة إن الله تبارك وتعالى خلق الأرواح قبل الأبدان (٢) بألفي عام ثم كتب بين أعينها مؤمن أو كافر ثم أنزل بذلك قرآنا على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله « إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ » (٣) فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من المتوسمين وأنا بعده والأئمة من ذريتي منهم (٤).

ومنه : عن إبراهيم بن هاشم عن عمرو بن عثمان عن إبراهيم بن أيوب عن عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر عليه‌السلام مثله إلى قوله يا عمرو ويلك إنها ليست بالكهانة ولكن الله خلق الأرواح قبل الأبدان بألفي عام فلما ركب الأرواح في أبدانها كتب بين أعينهم مؤمن (٥) أم كافر وما هم به مبتلون وما هم عليه من شر (٦) أعمالهم وحسنته في قدر أذن الفأرة ثم أنزل بذلك قرآنا على نبيه فقال « إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ » فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هو المتوسم ثم أنا [ من بعده والأئمة ] من ذريتي من

__________________

(١) في المصدر : أخبرنى والله بما هو في ، لا والله ما رأيت ...

(٢) الاجساد ( خ ).

(٣) الحجر : ٧٥.

(٤) البصائر : ٣٥٦.

(٥) في الاختصاص : كافر ومؤمن وما هم مبتلين وما هم عليه من سيئ عملهم وحسنه ..

(٦) في البصائر : سيئ.

١٣٧

بعدي هم المتوسمون فلما تأملتها عرفت ما هي (١) عليها بسيماها (٢).

الإختصاص : عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب وإبراهيم بن هاشم عن عمرو بن عثمان مثله (٣).

١٤ ـ البصائر : عن أبي محمد عن عمران بن موسى عن إبراهيم بن مهزيار عن محمد بن عبد الوهاب عن إبراهيم بن أبي البلاد عن أبيه عن بعض أصحاب أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : دخل عبد الرحمن بن ملجم لعنه الله على أمير المؤمنين عليه‌السلام وساق الحديث إلى أن قال قال عليه‌السلام إن الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي عام فأسكنها الهواء فما تعارف منها هنالك ائتلف في الدنيا وما تناكر منها هناك اختلف في الدنيا وإن روحي لا تعرف روحك (٤) الخبر.

١٥ ـ ومنه : عن أحمد بن محمد عن الحسن بن محبوب عن صالح بن سهل عن أبي عبد الله عليه‌السلام أن رجلا جاء إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام وهو مع أصحابه فسلم عليه ثم قال (٥) أما والله أحبك وأتولاك فقال له أمير المؤمنين عليه‌السلام ما أنت كما قلت ويلك إن الله خلق الأرواح قبل الأبدان بألفي عام عرض علينا المحب لنا فو الله ما رأيت روحك فيمن عرض علينا فأين كنت فسكت الرجل عند ذلك ولم يراجعه (٦).

١٦ ـ ومنه : عن الحسن بن علي بن عبد الله عن عيسى بن هشام عن عبد الكريم عن سماعة بن مهران عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : بينا أمير المؤمنين عليه‌السلام في مسجد الكوفة إذ أتاه رجل فقال يا أمير المؤمنين والله إني لأحبك قال ما تفعل قال :

__________________

(١) فيه : عرفت ما فيها وما هي عليه.

(٢) البصائر : ٣٥٤.

(٣) الاختصاص : ٣٠٨.

(٤) البصائر : ٨٨ ـ ٨٩.

(٥) في بعض النسخ وفي المصدر : أنا.

(٦) البصائر : ٨٧.

١٣٨

بلى والله الذي لا إله إلا هو قال والله الذي لا إله إلا هو ما تحبني فقال يا أمير المؤمنين إني أحلف بالله أني أحبك وأنت تحلف بالله ما أحبك والله كأنك تخبرني أنك أعلم بما في نفسي قال فغضب أمير المؤمنين عليه‌السلام وإنما كان الحديث العظيم يخرج منه عند الغضب قال فرفع يده إلى السماء وقال كيف يكون ذلك وهو ربنا تبارك وتعالى خلق الأرواح قبل الأبدان بألفي عام ثم عرض علينا المحب من المبغض فو الله ما رأيتك فيمن أحب فأين كنت (١).

بيان : ما تفعل أي ما تحب أو ما تعمل بمقتضاه أو للاستفهام أي أي شيء تقصد بإظهار الحب فيكون تعريضا بالنفي والأول أظهر.

١٧ ـ العلل : عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن عبد الكريم بن عمرو عن عبد الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إن الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها في الميثاق ائتلف هاهنا وما تناكر منها في الميثاق اختلف هاهنا والميثاق هو في هذا الحجر الأسود (٢) الخبر.

١٨ ـ ومنه : بهذا الإسناد عن محمد بن الحسين عن جعفر بن بشير عن الحسين بن أبي العلا عن حبيب قال حدثنا الثقة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إن الله تبارك وتعالى أخذ ميثاق العباد وهم أظلة قبل الميلاد فما تعارف من الأرواح ائتلف وما تناكر منها اختلف (٣).

١٩ ـ ومنه : بهذا الإسناد عن حبيب عمن رواه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : ما تقول في الأرواح أنها جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف قال فقلت إنا نقول ذلك قال فإنه كذلك إن الله عز وجل أخذ على (٤) العباد

__________________

(١) البصائر : ٨٧ ـ ٨٨.

(٢) العلل : ج ٢ ، ص ١١١.

(٣) المصدر : ج ١ ، ص ٨٠.

(٤) في المصدر : من.

١٣٩

ميثاقهم وهم أظلة قبل الميلاد وهو قوله عز وجل « وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ » إلى آخر الآية (١) قال فمن أقر له يومئذ جاءت ألفته هاهنا ومن أنكره يومئذ جاء خلافه هاهنا (٢).

بيان : قال في النهاية فيه الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف (٣) مجندة أي مجموعة كما يقال ألوف مؤلفة وقناطير مقنطرة ومعناه الإخبار عن مبدإ كون الأرواح وتقدمها على الأجساد أي أنها خلقت أول خلقها على قسمين من ائتلاف واختلاف كالجنود المجموعة إذا تقابلت وتواجهت ومعنى تقابل الأرواح ما جعلها الله عليه من السعادة والشقاوة والأخلاق في مبدإ الخلق يقول إن الأجساد التي فيها الأرواح تلتقي في الدنيا فتأتلف وتختلف على حسب ما خلقت عليه ولهذا ترى الخير يحب الأخيار ويميل إليهم والشرير يحب الأشرار ويميل إليهم انتهى.

وقال الكرماني في شرح البخاري أي خلقت مجتمعة ثم فرقت في أجسامها فمن وافق الصفة ألفه ومن باعد نافره وقال الخطابي خلقت قبلها فكانت تلتقي فلما التبست بها تعارفت بالذكر الأول فصار كل إنما يعرف وينكر على ما سبق له من العهد وقال النووي مجندة أي جموع مجتمعة وأنواع مختلفة وتعارفها لأمر جعلها الله عليه وقيل موافقة صفاتها وتناسبها في شيمها وقال الطيبي الفاء في فما تعارف تدل على تقدم اشتباك في الأزل ثم تفرق فيما لا يزال أزمنة متطاولة ثم ائتلاف بعد تناكر كمن فقد أنيسه ثم اتصل به فلزمه وأنس به وإن لم يسبق له اختلاط معه اشمأز منه ودل التشبيه بالجنود على أن ذلك الاجتماع في الأزل كان لأمر عظيم من فتح بلاد وقهر أعداء ودل على أن أحد الحزبين حزب الله والآخر

__________________

(١) الأعراف : ١٧١.

(٢) العلل : ج ١ ، ص ٨٠.

(٣) قد مر منا بيان موجز في شرح الحديث في ذيل الرواية الرابعة من الباب السابق فراجع.

١٤٠