البحث عن نظرية الباقلاني ، غير أنّه وجد فيهم من أدرك خطورة الموقف ، وجفاف النظرية ، ومضاعفاتها السيئة ، وتخبّط القوم تخبّطاً واضحاً في المسألة ، فنقض كلّ ما أبرموه وأجهر بالحقيقة ، ونخص بالذكر هنا شخصيات جليلة يعدّون من مشاهير العلم ورجال الفكر :
أ ـ إمام الحرمين أبو المعالي الجويني ، وهو من أعلام القرن الخامس. فقد صرح ـ كما يظهر من العبارة التالية ـ بتأثير قدرة العباد في أفعالهم ، وأن قدرتهم ستنتهي إلى قدرة الله سبحانه واقداره ، وأنّ عالم الكون مجموعة من الأسباب والمسببات ، وكلّ مسبب يستمد من سببه المقدم عليه ، وفي الوقت نفسه ، ذاك السبب يستمد من آخر ، إلى أن يصل إلى الله سبحانه ، وإليك نصّ عبارته :
إنّ نفي هذه القدرة والاستطاعة ممّا يأباه العقل والحس ، وأمّا إثبات قدرة لا أثر لها بوجه ، فهو كنفي القدرة أصلاً. وأمّا إثبات تأثير في حالة لا يفعل ، فهو كنفي التأثير ، فلابدّ إذاً من نسبة فعل العبد إلى قدرته حقيقة لا على وجه الإحداث والخلق ، فإنّ الخلق يشعر باستقلال إيجاده من العدم ، والإنسان كما يحس من نفسه الاقتدار ، يحس من نفسه أيضاً عدم الاستقلال فالفعل يستند وجوده إلى القدرة ، والقدرة يستند وجودها إلى سبب آخر تكون نسبة القدرة إلى ذلك السبب ، كنسبة الفعل إلى القدرة ، وكذلك يستند سبب إلى سبب آخر حتى ينتهي إلى مسبب الأسباب ، وهو الخالق للأسباب ، ومسبباتها ـ المستغني على الإطلاق ـ فإنّ كلّ سبب مهما استغنى من وجه ، محتاج من وجه ، والباري تعالى هو الغني المطلق الذي لا حاجة له ولا فقر. (١)
قال الشهرستاني بعد ما نقل كلامه هذا : وهذا الرأي إنّما أخذه من الحكماء الإلهيين ، وأبرزه في معرض الكلام. وليس تختص نسبة السبب إلى المسبب ـ على أصله ـ بالفعل والقدرة ( قدرة الإنسا من الحوادث فذلك حكمة ، وحينئذ يلزم القول بالطبع وتأثير الأجسام في الأجسام إيجاداً ، وتأثير الطبائع في الطبائع إحداثاً ، وليس ذلك مذهب الإسلاميين ،
ــــــــــــــــــ
١ ـ الملل والنحل : ١/٩٨ ـ ٩٩.