(إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها).
فالله ربّ الصغير والكبير وخالق البعوضة والفيل ، والمعجزة في خلق البعوضة هي ذاتها المعجزة في الفيل. إنّها معجزة الحياة ، معجزة السرّ المغلق الّذي لا يعلمه إلّا الله. على أنّ العبرة في المثل ليست في الحجم والشكل ، إنّما الأمثال أدوات للتنوير والتبصير ، وليس في ضرب المثل ما يعاب أو يستدعي الاستحياء ، والله ـ جلّت حكمته ـ يريد بها اختبار القلوب وامتحان النفوس :
(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ).
ذلك أنّ إيمانهم بالله يجعلهم يتلقّون كلّ ما يصدر عنه بما يليق بجلاله ؛ وبما يعرفون من حكمته ، وقد وهبهم الإيمان نورا في قلوبهم ، وحسّاسيّة في أرواحهم ، وتفتّحا في مداركهم ، واتّصالا بالحكمة الإلهيّة في كلّ أمر وفي كلّ قول يجيئهم من عند الله.
(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً)؟!
وهذا سؤال المحجوب عن نور الله وحكمته ، المقطوع الصّلة بسنّة الله وتدبيره. ثمّ هو سؤال من لا يرجو لله وقارا ، ولا يتأدّب معه الأدب اللائق بالعبد أمام تصرّفات الربّ. يقولونها في جهل وقصور في صيغة الاعتراض والاستنكار ، أو في صورة التشكيك وإيجاد البلبلة في نفوس الضعفاء!
هنا يجيئهم الجواب في صورة تهديد وتحذير بماوراء المثل من تقدير وتدبير :
(يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ).
والله ـ سبحانه ـ يطلق الابتلاءات والامتحانات تمضي في طريقها ، ويتلقّاها عباده ، كلّ وفق طبيعته واستعداده ، وكلّ حسب طريقه ومنهجه الّذي اتّخذه لنفسه. والابتلاء واحد. ولكن آثاره في النفوس تختلف بحسب اختلاف المنهج والطريق. فالشدّة تزيد المؤمن الواثق بالله التجاء إليه وتقرّبا لديه ، وأمّا الفاسق أو المنافق فتزلزله وتزيده من الله بعدا وتخرجه من الصفّ إخراجا.
***
وتبيينا لموضع الفاسق الّذي يأخذ به الضلال حيث مهوى الخسران والدمار ، جاء الوصف التالى :