القرآن. وجاءت هذه الجمل الثلاثة منفية على أحسن ترتيب ، نفى أوّلا تنزيل الشياطين به ، لأنّ النفي في الغالب يكون في الممكن ، وإن كان الإمكان هنا منتفيا ثم نفى ثانيا ابتغاء ذلك ، أي : ولو فرض الإمكان لم يكونوا أهلا له (١). ثم نفى ثالثا (٢) الاستطاعة والقدرة ، ثم ذكر علة ذلك وهي انعزالهم عن السماع من الملأ الأعلى ، لأنهم يرجمون بالشهب لو (تسمّعوا (٣)) (٤).
فصل
لما احتج على صدق محمد ـ عليهالسلام (٥) ـ بكون القرآن تنزيل رب العالمين ، لوقوعه في الفصاحة القصوى ، ولاشتماله على قصص المتقدمين من غير تفاوت ، مع أنه ـ عليهالسلام ـ لم يتعلم من أحد ، وكان الكفار يقولون : هذا من إلقاء الجنّ والشياطين كسائر ما ينزل به على الكهنة ، فأجاب الله تعالى بأنّ ذلك لا يتسهل للشياطين ، لأنهم معزولون عن استماع كلام أهل السماء برجمهم بالشهب. فإن قيل : العلم بكون الشياطين ممنوعين عن ذلك لا يحصل إلا بخبر النبي الصادق فإذا أثبتنا كون محمد ـ عليهالسلام (٦) ـ صادقا بفصاحة القرآن ، وإخباره عن الغيب ، ولا يثبت كون الفصاحة والإخبار عن الغيب معجزا إلا إذا ثبت كون الشياطين ممنوعين عن ذلك. (فلزم الدور.
فالجواب : لا نسلم أن العلم بكون الشياطين ممنوعين عن ذلك) (٧) لا يستفاد إلا من قول النبيّ ـ صلىاللهعليهوسلم ـ لأنا نعلم بالضرورة أن النبيّ ـ صلىاللهعليهوسلم ـ كان يلعن الشياطين ، ويأمر الناس بلعنهم ، فلو كان ذلك إنما حصل من إلقاء الشياطين لكان الكفار أولى بأن يحصل لهم مثل هذا العلم ، فيجب أن يكون اقتدار الكفار على مثله أولى. ولما لم يكن كذلك علمنا أن الشياطين ممنوعون ، لأنهم معزولون عن تعرف الغيوب (٨). ثم إنه تعالى لما ذكر هذا الجواب خاطب الرسول ـ عليهالسلام (٩) ـ فقال : (فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ). قال ابن عباس : يحذر به غيره ، يقول : أنت أكرم الخلق عليّ ولو اتخذت إلها غيري لعذبتك (١٠). وقوله : «فتكون» منصوب في جواب النهي.
قوله تعالى : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)(٢٢٠)
قوله تعالى : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ). روى عبد الله بن عباس عن علي بن أبي
__________________
(١) له : سقط من ب.
(٢) في الأصل : ثالثا نفى.
(٣) انظر البحر المحيط ٧ / ٤٦.
(٤) ما بين القوسين في الأصل : قسموا.
(٥) في ب : عليه الصلاة والسلام.
(٦) عليهالسلام : سقط من ب.
(٧) ما بين القوسين سقط من ب.
(٨) انظر الفخر الرازي ٢٤ / ١٧١ ـ ١٧٢.
(٩) في ب : عليه الصلاة والسلام.
(١٠) انظر البغوي ٦ / ٢٤٤.