فصل
معنى (كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها) شغل المتكبر الذي لا يلتفت إلى الكلام ويجعل نفسه كأنها غافلة ، وقوله : (كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً) أدخل في الإعراض (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي مؤلم ، ووصفه أولا بأنه «مهين» وهو إشارة إلى الدوام فكأنه قال : «مؤلم دائم» (١).
قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (٨) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (١٠) هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(١١)
قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ...) الآية لما بين حال المعرض عن سماع الآيات بين حال من يقبل على تلك الآيات بأنّ لهم جنات النعيم. ولذلك عذاب مهين ووحد العذاب ، وجمع الجنات إشارة إلى أن الرحمة (واسعة (٢) أكثر من الغضب ، ونكّر «العذاب» وعرف «الجنات» إشارة إلى أن الرحمة) تبين النعمة وتعرفها ولم يبين النعمة وإنما نبه عليها تنبيها.
قوله : «خالدين» حال (٣) ، وخبر «إنّ» الجملة من قوله : (لَهُمْ جَنَّاتُ) والأحسن أن يجعل «لهم» هو الخبر وحده (٤) ، و «جنّات» فاعل به ، وقرأ زيد بن عليّ «خالدون» (٥) بالواو فيجوز أن يكون هو الخبر والجملة أو الجارّ وحده حال ، ويجوز أن يكون («خالدون») خبرا ثانيا.
قوله : (وَعْدَ اللهِ) مصدر مؤكد لنفسه (٦) ؛ لأن قوله : (لَهُمْ جَنَّاتُ) في معنى وعدهم الله ذلك ، و «حقّا» مصدر مؤكد لغيره (٧) ، أي لمضمون تلك الجملة الأولى ، وعاملها مختلف ، فتقدير الأولى وعد الله ذلك وعدا ، وتقدير الثاني : أحقّ ذلك حقّا. واعلم أنه لم يؤكد (الْعَذابِ الْمُهِينِ) ، وأكد نعيم الجنات بقوله : (وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) «العزيز» في اقتداره «الحكيم» في أفعاله.
قوله : (خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ) وهذا تبيين لقوّته وحكمته ، وقد تقدم الكلام
__________________
(١) انظر : تفسير الرازي ٢٥ / ١٤١.
(٢) ساقط من «ب».
(٣) نقله في البحر ٧ / ١٨٥ والتبيان ١٠٤٣.
(٤) قاله ابن الأنباري في البيان ٢ / ٢٥٤.
(٥) نقلها عنه أبو حيان في البحر ٧ / ١٨٥ و ١٨٤.
(٦) البحر ٧ / ١٨٥ و ١٨٤ والتبيان ١٠٣٦ و ١٠٤٣ وقد ذكرت أيضا في السورة السابقة في قوله : «وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ» وانظر ـ أيضا ـ الكشاف ٣ / ٢٣٠.
(٧) المرجع السابق.