قال قطرب (١) : ما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء لو كنتم (٢) فيها ، كقول القائل : (لا) يفوتني فلان هاهنا ولا في البصرة أي ولا بالبصرة لو كان بها كقوله تعالى : (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)(٣) ، أي على تقدير أن يكونوا فيها ، وأبعد من ذلك من قدره موصولين (٤) محذوفين ؛ أي) (٥) وما أنتم بمعجزين من في الأرض من الجن والإنس ، ولا من في السماء من الملائكة فكيف تعجزون خالقها (و) على قول الجمهور يكون المفعول محذوفا أي وما أنتم بمعجزين أي فائتين ما يريد (٦) الله بكم.
فصل
اعلم أن إعجاز المعذّب عن التعذيب إما بالهرب منه ، أو بالثبات ومدافعته فذكر الله تعالى القسمين فقال : (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) ، يعني بالهرب لو صعدتم إلى السماء ، أو هربتم إلى تخوم الأرض (لم) (٧) تخرجوا من قبضة قدرة الله ـ عزوجل ـ ، فلا مطمع في الإعجاز بالهرب ، وأما بالثبات فكذلك لأن الإعجاز بالثبات إما أن يكون بالاستناد (٨) إلى ركن شديد يشفع ، ولا يمكن المعذب مخالفته فيفوته المعذب ، ويعجز عنه أو بالانتصار بقويّ يدافعه ، وكلاهما محال فلهذا قال : (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ) يشفع (وَلا نَصِيرٍ) يدفع. فإن قيل : ما الحكمة في قوله : (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) ولم يقل : «ولا تعجزون» بصيغة الفعل؟
فالجواب : لأن نفي الفعل لا يدل على نفي الصلاحية فإن من قال : إن فلانا لا يخيط لا يدل على ما يدل عليه أنه ليس بخائط ، وقدم «الأرض» على «السماء» ، و «الولي» على «النصير» ؛ لأن هربهم الممكن في الأرض ، فإن كان يقع منهم هرب فإنه يكون في الأرض ، ثم إن فرضنا لهم قدرة غير ذلك فيصعدون في السماء وأما الدفع فإن العاقل متى أمكنه الدفع فأجمل الطرق فيه الشفاعة (٩) ، لأن ما من أحد في الشاهد إلا ويكون له شفيع يتكلم في حقه عند ملك ، وليس لكل أحد ناصر يعادي الملك فلذلك (١٠) قدم الأرض على السماء ، والولي على النّصير (١١).
__________________
(١) قطرب : محمد بن علي بن المستنير ، أبو علي النحوي المعروف ، لازم سيبويه ، وكان يدلج الليل أخذ عن عيسى بن عمر ، له من التصانيف المثلث ، النوادر ، الصفات ، مات سنة ٢٠٦ ه ، انظر : بغية الوعاة ١ / ٢٤٢.
(٢) انظر : تفسير القرطبي ١٣ / ٣٣٧.
(٣) [الرحمن سبحانه وتعالى : ٣٣].
(٤) انظر : البحر المحيط ٧ / ٤٧ ، والدر المصون ٤ / ٣٠١.
(٥) زيادة يقتضيها السياق من ب.
(٦) في ب : مما يريد الله بكم.
(٧) زيادة يقتضيها السياق من ب.
(٨) في ب : بالإسناد.
(٩) في ب : فإن حمل الطرق فيه بالشفاعة.
(١٠) في ب : فكذلك.
(١١) انظر : تفسير الفخر الرازي ٢٥ / ٤٩.