أحدها : قوله : (مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي من نسلكم مع حقارة الأنفس ونقصها وعجزها ، وقاس نفسه عليكم مع جلالتها وعظمتها وقدرتها وكمالها.
وثانيها : قوله : (ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) أي عبيدكم لكم عليهم ملك اليمين والملك لها طار (ىء) قابل للنقل والزوال ، أما النقل فالبيع وغيره ، وأما الزوال فبالعتق ومملوكه تعالى لا خروج له عن الملك فإذا لم يجز أن يكون مملوك يمينكم شريكا لكم مع أنه يجوز أن يصير مثلكم من جميع الوجوه بل هو في الحال مثلكم في الآدميّة حالة الرق حتى أنكم ليس لكم تصرف في روحه وآدميته بقطع وقتل وليس لكم منعهم من العبادة وقضاء الحاجة فكيف يجوز أن يكون مملوك الله الذي هو مملوكه من جميع الوجوه وهو مباين له بالكلية شريكا له؟!
وثالثها : قوله : (مِمَّا رَزَقْناكُمْ) يعني : الذي لكم هو في الحقيقة ليس لكم بل هو لله ومن رزقه حقيقة فإذا لم يجز أن يكون لكم شريك فيما هو لكم من حيث الاسم فكيف يجوز أن يكون له شريك فيما هو له من حيث الحقيقة.
ورابعها : قوله : (فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ) أي هل أنتم ومماليككم في شيء مما تملكون أنتم سواء ليس كذلك فلا يكون لله شريك في شيء ؛ لأن كل شيء فهو لله وما تدعون إلهيّته لا يملكون شيئا أصلا ، ولا مثقال ذرة خردل فلا يعبد لعظمته ولا لمنفعة تصل إليكم (منهم (١)) منه ، وأيضا فأنتم ومماليككم سواء ليس كذلك لأن المملوك ليس له عندكم حرمة الأحرار ، وإذا لم يكن المملوك مع مساواته إياكم في الحقيقة والصفة عندكم حرمة فكيف يكون حال المماليك الذين لا مساواة بينهم وبين المالك بوجه من الوجوه ، وإلى هذا إشار بقوله : (تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) انتهى (٢). وإنما ذكرت هذا المعنى مبسوطا لأنه مبين لما ذكرته من وجوه الإعراب. «كخيفتكم» أي كخيفة مثل خيفتكم (٣). والعامة على نصب «أنفسكم» ، لأن المصدر مضاف لفاعله (٤).
وقرأ ابن أبي عبلة بالرفع على إضافة المصدر لمفعوله (٥). واستقبح بعضهم هذا إذا وجد الفاعل. وقال بعضهم : ليس بقبيح بل يجوز إضافته إلى كل منهما إذا وجدا (٦) وأنشد :
__________________
(١) زيادة عن الفخر الرازي.
(٢) انظر : التفسير الكبير للإمام الرازي ٢٥ / ١١٨ و ١١٩.
(٣) الدر المصون ٤ / ٣٢٤.
(٤) وأجاز الفراء أن يضاف المصدر إلى المفعول فترفع الأنفس قال : «ولو نويت به أي بالكاف والميم أن يكون في تأويل نصب رفعت ما بعدها» انظر : معاني القرآن للفراء ٢ / ٣٢٤.
(٥) كما أجازه الفراء كما سبق ، وانظر هذه القراءة في : البحر المحيط ٧ / ١٧١.
(٦) ومن المجيزين له ولم يستقبحوه أبو حيان حيث قال في بحره : «وهما وجهان حسنان ولا قبح في إضافة المصدر إلى المفعول مع وجود الفاعل» انظر : البحر المحيط ٧ / ١٧١ ، وقال السيوطي في الهمع ٢ / ٩٤ : ويجوز إبقاؤه أي الفاعل مع الإضافة إلى المفعول في الأصح نحو قوله تعالى في قراءة ـ