فإن (١) قيل : ما وجه تعلق قوله : (وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) بما (٢) تقدم؟
فنقول : لما بالغ إبراهيم في الإرشاد ، ولم يهتد قومه وحصل اليأس الكلي ، ورأى القوم الآية الكبرى ولم يؤمنوا وجبت (٣) المهاجرة ، لأن الهادي إذا هدى قومه ولم ينتفعوا فبقاؤه فيهم مفسد ، لأنه إذا دام على الإرشاد كان اشتغالا بما لا ينتفع في علمه ، فيصير كمن يقول للحجر صدق ، وهو عبث والسكوت دليل الرضا فيقال : إنه صار منا ، ورضي بأفعالنا ، وإذا لم يبق للإقامة وجه وجبت المهاجرة.
فإن قيل : ما الحكمة في قوله : (إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) ولم يقل : «مهاجر إلى حيث أمرني ربي» مع أن المهاجرة إلى الرب توهم الجهة.
فالجواب : أن قول ه «إلى حيث أمرني ربّي» ليس في الإخلاص ، كقوله : (إِلى رَبِّي) لأن الملك إذا صدر منه أمر برواح الأجناد إلى موضع ثم إن واحدا منهم عاد إلى ذلك الموضع لغرض (في) (٤) نفسه يصيبه ، فقد هاجر إلى حيث أمره الملك ولكن لا مخلصا لوجهه ، وقال : (مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي) يعني : توجهي إلى الجهة المأمور بالهجرة إليها ليس طلبا للجهة ، إنما طلب لله (٥).
قوله : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ) ، قيل : إن الله لم يبعث نبيا بعد «إبراهيم» إلا من نسله ، (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا) وهو الثناء الحسن ، وكل الأديان يقولون به ، وقال السدي : هو الولد الصالح ، وقيل : إنه رأى (٦) مكانه في الجنة (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) أي في زمرة الصالحين قال ابن عباس : «مثل آدم ، ونوح» وفي هذه الآية لطيفة وهي أن الله تعالى بدّل جميع أحوال إبراهيم في الدنيا بأضدادها لما عذبه قومه بالنار كان وحيدا فريدا ، فبدل الله وحدته بالكثرة حتى ملأ الدنيا من ذريته ، ولما كانت أقاربه القريبة ضالين مضلين من جملتهم «آزر» بدل الله أقاربه بأقارب مهتدين هادين ، وهم ذريته الذين جعل فيهم النبوة والكتاب ، وكان أولا لا جاه له ، ولا مال ، وهم غاية اللذة في الدنيا آتاه الله أجره في المال والجاه وكثر ماله حتى كان له من المواشي ما علم الله عدده حتى قيل : إنه كان له اثنا عشر ألف كلب حارس بأطواق ذهب وأما الجاه فصار (بحيث تقرن) (٧) الصلاة عليه بالصلاة على سائر الأنبياء إلى يوم القيامة ، وصار معروفا وشيخ المرسلين بعد أن كان خاملا حتى قال قائلهم : (سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ)(٨) ، وهذا الكلام لا يقال إلا في مخمول من الناس.
فإن قيل : إنّ إسماعيل كان من أولاده الصالحين (وكان قد) (٩) سلم لأمر الله بالذبح ، وانقاد لحكم الله ولم يذكر.
__________________
(١) في ب : فصل بدلا من «فإن قيل».
(٢) في ب : مما تقدم.
(٣) في ب : وجب بالتذكير.
(٤) زيادة يقتضيها السياق.
(٥) انظر : الفخر الرازي ٢٥ / ٥٥.
(٦) الكشاف ٣ / ٢٠٣ ، والبحر المحيط ٧ / ١٤٨.
(٧) ساقط من ب.
(٨) الأنبياء : ٦٠.
(٩) ساقط من أ.