القضاة ومشايخ الإسلام وجم غفير من الفقراء القادرية والرفاعية وغيرهم ، ورضوا به أن يكون شيخ شيوخ حلب ، فألبسه الخلعة كافلها ، فذهب بها إلى منزله وهم معه في يوم مشهود مد لهم فيه السماط على جاري العادة ، وكانت خرقته قادرية ألبسه إياها السيد الشريف عبد الرزاق الحموي الكيلاني وأجاز له أن يجلس على سجادة المشيخة وأن يأخذ عهد التوبة على كل طالب وراغب وأن يتصرف مع سائر طوائف الفقراء تصرفا عاما مقيدا بالكتاب والسنة ، وكتب له درجا حافلا بالإجازة مؤرخا بشهر صفر الخير من السنة المذكورة مرقوما في صدره بعد البسملة : الحمد لله الذي نره مكنون سر جماله المصون عن الحلول ، وقدس لطيف ألطاف نور كماله عن الغياب والأفول.
وفي أواخر عمره منع الموقعين ببابه أن يترجموا له في الوثايق الشرعية الترجمة المبسوطة ، التي كادت تكون بمجاوزة الحد منوطة ، وأمرهم أن لا يترجموا له بأكثر من قاضي المسلمين تالي كلام رب العالمين خادم سنة سيد المرسلين محب الفقراء والمساكين.
وعند ما قرب أوان وفاته رأى في منامه كأنه سقط في حفرة دولاب ووضعت عليه اللبنات كما في القبر ، فأصبح محموما وهو يخبر أن تلك الحفرة ما هي إلا القبر وأنه يموت بتلك الحمى ، وكان الأمر كما قال ، ولم يزل عند الاحتضار يذكر الله تعالى إلى أن خفي صوته شيئا فشيئا وفارق الدنيا. وكانت وفاته في المحرم سنة تسعمائة ودفن بتربته التي أنشأها خارج باب المقام ، واختلق عليه بعض الحساد أنه سماها إرم ذات العماد ، ورفع ذلك إلى مسامع السلطان قايتباي حتى كانت منه المصادرة لتوهم أن له الأموال الكثيرة الوافرة.
وقد بلغني أنه كان مع ما له من الفضائل العلمية والمآثر العملية لسنا جهوري الصوت حسن التلاوة حسن النية معمور الطوية معتقدا لسان المجالس وترجمان المحافل مقدام كل خطب ، حلّال كل أمر صعب ، منور الشيبة ووافر الهيبة ، مخفوض الجناح ومائلا إلى أرباب أهل الصلاح ، يقول الحق ولا يخاف في الله لومة لائم كما هو الأحق. ونظم ونثر ورفع إليه الكثير من أشعار الأدباء وقصائد النجباء. وممن نطق بمدحه وأشار إلى علو صرحه قاضي القضاة الجلال النصيبي الشافعي. قيل وممن مدحه شيخنا العلاء الموصلي والشهاب أحمد ابن الكاتب الحنفي وعلي السروي الأزهري. ثم مع ما قيل فيه من المدح لم يكن سالما من القدح ، وذلك أن السخاوي ذكر في تاريخه أنه تزوج امرأة يقال لها الصفيرا ثم فارقها