بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٤

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٤

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-283-8
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٨٨

ومنه يظهر : أن قوله بعد فرض عدم إرادة الوجوب ليس من القيود الظهور المذكور بحيث لا يكون ظاهرا في الطلب المولوي على تقدير إرادة الوجوب ، بل هو بيان لما هو المفروض من الحكم بعدم وجوب الاحتياط في الشبهة الحكميّة التحريميّة.

والوجه فيما ذكرنا من الأصل ـ على القول بكون الأمر مجازا في الطلب الإرشادي كما قيل ، أو منسلخا عن معنى الطّلب رأسا ومستعملا في الأخبار كما زعم ـ ظاهر.

وأمّا على ما هو الحقّ وعليه شيخنا قدس‌سره كما أوضحناه في محلّه : من كونه حقيقة في الطّلب الإرشادي أيضا ، فلأن صدور الطّلب الإرشادي من المولى العالي المطاع ، يحتاج إلى تخلية نفسه من المولوية ، فيتوقف على ملاحظة زائدة حقيقة فتدبّر.

نعم ، هنا مناقشة فيما أفاده من جهة أخرى ؛ حيث إن المفروض عند استعمال الأوامر المتعلقة بالاحتياط في الأخبار المتقدّمة في الطلب القدر المشترك وخصوصيّة الاستحباب ، لا بد أن تستفاد من دليل آخر ، فكيف يتمسّك بظهور لفظ الأمر في الطلب الندبي المولوي؟

لكن يدفعها : أن الطلب القدر المشترك المستفاد منها أيضا يمكن أن يكون إرشاديّا ، ويمكن أن يكون مولويّا ، فإذا استفيد الندب من الخارج في مفروض البحث فيحكم بكونه مولويّا فتدبّر.

٢١

ومن جهة بعض الأخبار الظاهرة في أن مطلوبية الاحتياط من جهة خاصية مترتّبة على ذاته ، وهي صيرورة نفس المكلّف أطوع للشارع ، لا أن يكون من جهة مجرّد كونه عنوانا في غيره ومقدّمة له ، ومن أن الظاهر من أكثر الأخبار الواردة في باب الاحتياط بعد التأمّل فيها ، كون الأمر به من جهة كونه عنوانا في غيره ومقدمة له ، فيكون مؤكّدة للطّلب العقلي لا أن يكون الغرض منه التأسيس ، فيكون حاله حال الأمر المتعلّق بالإطاعة كتابا وسنّة من حيث كونه مؤكّدا لحكم العقل بالإطاعة ، وكالأمر المتعلق بالإشهاد ، والكتابة ، والتّوبة ، وغيرها من الأوامر الشرعيّة التي يعلم كون المقصود منها التّوصّل إلى ما يترتّب على فعل المأمور به بحيث لا يكون الأمر في مقام المولويّة أصلا في أمره.

ألا ترى إلى قوله عليه‌السلام : « من ارتكب الشبهات وقع في المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم » (١)؟

حيث إنّ الظاهر منه كون طلب ترك الارتكاب من حيث كونه في معرض الهلاكة ، وأن الغرض منه مجرّد النجاة عن ذلك ، وعليه يترتّب على فعل الاحتياط ثوابان على تقدير موافقته للواقع ؛ من حيث إطاعة الخطاب الواقعي وإدراك حسنه العقلي لو كان حسنه راجعا إلى الفعل ، وإلا فثواب واحد. وعلى الوجه الأول يترتّب عليه استحقاق الثواب زائدا على الثوابين ؛ بملاحظة إطاعة الأمر المتعلّق

__________________

(١) مضى تخريجه.

٢٢

بالاحتياط ، ولا يبعد استظهار الوجه الثاني من سياق الأخبار الواردة في الباب على ما في « الكتاب ».

مضافا إلى الاقتران الذي أفاده ؛ ضرورة كون طلب الاجتناب عن المحرّم المعلوم إرشاديّا لا يحتمل غيره ، فيكون طلب الاجتناب عن الشبهة كذلك ، وإن أشكل بناء على ما استظهر شيخنا قدس‌سره : من كون الاحتياط حسنا بالذات يستحق فاعله عند العقل المدح على فعله ، فيستحق الثواب ؛ فإن هذا المعنى من الحسن يلازم الطلب الشرعي المولوي ، إلاّ فيما لا يمكن ، كما في الإطاعة ؛ حيث إنها وإن كانت حسنة بالذات ، إلاّ أنه يستحيل تعلّق الطلب الشرعي المولوي بها لا من جهة عدم إمكان تعلّق الحكم المستفاد من الأدلّة اللفظيّة المتعلّقة بالإطاعة بنفس هذا الحكم ، حتى يقال : بأن أوامر الإطاعة على تقدير كونها مولويّة شرعيّة لا يشمل نفسها فلا يرد هناك محذور ، لما عرفت مرارا : من أن قصور اللفظ مع ظهور مناط الحكم ، لا يقدح في الحكم بالإرادة ، بل من جهة لزوم التسلسل على تقدير كون الإرادة المتعلقة بإطاعة الأمر المولوي مولويّة.

٢٣

الحكم العقلي الإرشادي ملازم للأمر المولوي

الشرعي في مورد القابل

فإن شئت توضيح ذلك فنقول : إن حكم العقل بحسن الفعل وقبحه وطلبه المتعلّق به وإن كان إرشاديّا دائما ؛ لعدم تصوّر مولويّة للعقل ، إلاّ أنه بعد ثبوت الملازمة بين حكمه والحكم الشرعي الذي يرجع إلى كونه دليلا وكاشفا عنه ، يكون الحكم الشرعي المستكشف عنه ، شرعيّا مولويّا في مورد القابل.

نعم ، يكون حكمه الإدراكي تابعا للمدرك واقعا من غير أن يختلف حاله بحسب الإدراك العقلي ، فإذا بني على كون الاحتياط حسنا عقلا يستحق فاعله المدح عند العقل على فعله ويستحق الأجر والثواب عليه ، فيكون قابلا لتعلّق الأمر الشرعي المولوي به ، فلا محالة يستكشف بقاعدة الملازمة عن تعلّق أمر مولويّ به من جانب الشارع.

ولا ينافي ذلك ما تقدّم من الأخبار ؛ لأنه يحتمل قريبا كون المراد منها بيان كون الحكمة في الأمر به التوصّل إلى الغير ، كما هو الشأن في كثير من الواجبات النفسيّة ، لا أن يكون الأمر المتعلّق به غيريّا مقدميّا. والفرق بينهما لا يكاد أن يخفى.

٢٤

بل الأمر في جميع الواجبات الشرعيّة يلاحظ فيه عند العدليّة التوصّل إلى الغير ؛ فإنهم حكموا بأنها إنّما وجبت لكونها ألطافا في الواجبات العقليّة ، ومع ذلك يكون الأمر المتعلّق بها شرعيّا مولويّا ، وهذا الذي ذكرنا من كون الحكم العقلي الإرشادي ملازما للأمر الشرعي المولوي في مورد القابل مع وضوحه ، قد حقّقنا القول فيه وفصّلناه في مسألة الملازمة.

اللهمّ إلاّ أن يقال : إن حسن الاحتياط عقلا إنّما هو من حيث كونه من مراتب الإطاعة ، فيكون حال الأمر المتعلّق به المستكشف من قاعدة الملازمة حال الأمر المتعلّق بالإطاعة. نعم ، يمكن أن يلاحظ الشارع في أمره المستكشف من الأدلّة اللّفظيّة عنوانا آخر للاحتياط ، فأمر به أمرا مولويّا بهذه الملاحظة ، كما أنه يحتمل أن يكون جهة أمره عنوانه الملحوظ في حكم العقل فتأمل.

ثمّ إن هنا إشكالا أيضا على القول بكون حسن الاحتياط والمدح المتعلّق به فاعليّا أيضا ، وملخّصه : أنه بناء عليه يتعيّن القول بكون الأمر المتعلّق به غيريّا مقدّميّا صرفا ؛ إذ لا حسن فيه بالفرض أصلا ، فعلى هذا لا بد أن يبنى الكلام في حكم الأمر المتعلّق بالاحتياط من حيث كونه إرشاديّا أو مولويّا على الكلام في نفس الاحتياط من حيث كونه حسنا بالذات أم لا ، فلا معنى للتكلّم في المقامين هذا.

٢٥

وقد يذبّ عنه أيضا : بأن عدم إدراك العقل لجهة محسّنة في نفس الاحتياط لا يلازم عدمها في نفس الأمر وعند الشارع ، فيمكن تعلّق الأمر الشرعي المولويّ به ، فيستظهر منه وجود جهة في الاحتياط غير ما استكشفه العقل فتأمل.

ثمّ إن ما أفاده شيخنا قدس‌سره في ذيل هذا الأمر بقوله : « ثمّ لا فرق فيما ذكرنا من حسن الاحتياط ... الى آخره » (١)(٢) ممّا لا إشكال فيه أصلا ؛ لأن حكم جميع

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ١٠٣.

(٢) ذكر الفاضل الكرماني هنا حاشية من بعضهم ثم علّق عليها بما سيأتي ولنذكر ابتداء الحاشية المزبورة :

« لأن محلّ الكلام في المقام ما دار الأمر فيه بين الحرمة وغير الواجب مطلقا سواء كان هذا الغير هو الإستحباب أو الكراهة أو الإباحة أو إثنان منها أو ثلاثة فالأقسام سبعة ، وما ذكر تمهيد لدفع توهّم عدم رجحان الإحتياط فيما دار الأمر بين الحرمة والإستحباب مثلا لدوران الأمر بين المحذورين لرجحان الترك حينئذ ؛ لاحتمال حرمة الفعل ورجحان الفعل لاحتمال استحبابه. ووجه الدفع واضح » إنتهى.

* قال الكرماني قدس‌سره : « أقول : لا كلام فيما ذكر إنّما الكلام في انّ هذا الفعل المحتمل للحرمة والإستحباب المنفي حرمته بالأصل هل هو مباح بالإباحة الخاصّة أو المطلقة ، أو مستحب.

والأوّل خلاف الفرض وكذا الثاني والأخير ، وإن استلزمه رفع الحرمة بالأصل المقتضي لإستحبابه إلاّ أنّه يلزم منه رجحان تركه ورجحان فعله وتعدّد الجهة بأن رجحان تركه باعتبار كونه محتمل الحرمة ورجحان فعله باعتبار كونه محتمل الإستحباب لا يجعل الأمر

٢٦

صور دوران الأمر بين التحريم وغير الوجوب من الأحكام الثلاثة سواء فرض الدوران ثنائيّا أو ثلاثيّا أو رباعيّا واحد عقلا ، بل شرعا أيضا ؛ بالنظر إلى الأخبار الواردة.

نعم ، في دوران الأمر بين الحرمة والكراهة نعلم بمرجوحيّة الفعل شرعا وتعلّق الطلب الشرعي بتركه ، فلا يتكلّف في الحكم برجحانه شرعا بأن الطّلب المتعلّق بالاحتياط شرعيّ مولويّ كما هو ظاهر.

كما أن ما أفاده من دفع التوهّم على التّعميم المذكور بقوله : « ولا يتوهّم : أنه يلزم من ذلك ... إلى آخره » (١) لا إشكال فيه أيضا ؛ ضرورة أن التحريم الذي يبحث عن احتماله في جميع المسائل هو التحريم الذاتي لا التشريعي.

__________________

الواقع في الخارج متعددا وربّما يقتضي بكونه مكروها رجحان دفع المفسدة المحتملة على جلب المنفعة المحتملة خصوصا مع كون الأولى ملزمة والثانية غير ملزمة.

ويردّه : أنّ المفسدة الأخرويّة منتفية قطعا ولا نسلّم رجحان دفع المفسدة الدنيويّة المحتملة على جلب المنفعة الأخرويّة المحتملة ولو غير ملزمة فافتهم واغتنم » إنتهى.

أنظر الفرائد المحشى : ٢١٧.

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ١٠٤.

٢٧

(٥) قوله قدس‌سره : ( والاحتياط أعمّ من موارد احتمال التحريم ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ١٠٥ )

أقول : فيكون التوقّف الأعمّ من الاحتياط ، أعمّ أيضا من موارد احتمال التحريم. فمن عبّر بالتوقّف أراد الأعمّ من محتمل التحريم ومحتمل الوجوب ، فإنك قد عرفت سابقا : أن المراد من التوقّف هو السكون عند الشبهة وعدم الدخول فيها سواء كانت الشبهة في الفعل ، أو الترك. فإن الظاهر من بعضهم الالتزام بالاحتياط في الشبهة الوجوبية الحكميّة أيضا وإن كان الأكثرون على خلافه.

(٦) قوله : ( أو بملاحظة أنه إذا منع الشارع المكلف ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ١٠٦ )

__________________

(١) قال المحقق الخراساني قدس‌سره عند قول المصنّف : « لأن معنى الإباحة الإذن ... إلى آخره » :

« وهو مأخوذ من الأذان بمعنى الإعلام ومنه قوله تعالى : ( وَأَذانٌ مِنَ اللهِ ) [ توبة : ٣ ] وقوله تعالى : ( أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ ) [ يوسف : ٧٠ ].

فما لم يعلم الترخيص لا يتّصف بكونه مباحا.

لكن لا يخفى أنّ الإباحة كسائر الأحكام الخمسة لها واقع ، لا يتفاوت حالها في حالتي العلم لها والجهل ، كيف! فإن كانت واقعيّتها منوطة بالعلم بها لدار ، كما لا يخفى » إنتهى.

أنظر درر الفوائد : ٢١٧.

* وقال الشيخ رحمة الله الكرماني قدس‌سره :

٢٨

أقول : مبنى هذا الوجه ـ كما ترى ـ على عدم إمكان اجتماع الحكم الظاهري مع الحكم الواقعي على خلافه ، فكلّما حكم الشارع بحرمة الشيء في

__________________

« أقول : إن المصنّف في مقام توجيه نظر القائل بالحرمة الواقعيّة ذكر وجوها :

منها : انّه ربّما تخيّل ان الشارع بعد أن منع الجاهل بحكم المشتبه عن الإرتكاب في هذه الأخبار كيف يأذن له ويرخّصه في الفعل واقعا؟ ثمّ أمر بالتأمّل لأنّ المنع والإذن في مرتبتين لا في مرتبة واحدة كيما يتناقضان ؛ فإن الأمر المأذون فيه واقعا إذا اختلط بأمور ممنوع عنها وجهل تميّزه عنها لا يمتنع أن يمنع عنه في الظاهر تخلّصا عن إرتكاب الأمور الممنوع عنها.

وأما استعمال الأذان بمعنى الإعلام فليس محلّ الإنكار ، كما أنّ استعمال الإذن بمعنى الرّخصة كذلك كما في قوله تعالى : ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا. )

وأمّا ما ذكره الخراساني من كون الإذن بمعنى الرّخصة مأخوذا من الإذن بمعنى الإعلام فلم يتفوّه به أحد من الفحول وليس منه في كتب اللغة عين ولا أثر ، فإن المعلوم إشتراك المادّة واختصاص الصيغة ؛ فإنّ الإذن لا يكون بمعنى الإعلام كما أن الأذان لا يكون بمعنى الرّخصة.

ثم الذي زعمه توجيها للقول بالحرمة الواقعيّة ومصلحه يشبه أن يكون مفسدة ؛ فإنّ مرجعه إلى منع الجاهل بالرّخصة ورخصة العالم بها ولا تباغض بينهما فضلا عن عدم التعقّل. ثم الذي يلوح منه : أن ما ذكره توضيح لتوجيه المصنف قول القائل بالحرمة الواقعيّة.

ولعمري إنّ المصنّف لم يقصده ولا دلالة لكلامه عليه أصلا ، بل على خلافه دليل ؛ فإنه فسّر الإباحة بالإذن ثم عطف الترخيص عليه تفسيرا له لتوضيح معنى الإذن ، ولو كان مراده وليس ولا يكون أبدا ما ذكره الخراساني لكان المناسب أن يقول الإذن بالترخيص » إنتهى. الفرائد المحشّى : ٢١٧.

٢٩

مرحلة الظاهر فلا بدّ أن يكون حراما في الواقع فالحرمة ظاهريّة بالملاحظة الأوّلية ، وإلاّ فهي واقعيّة. وكذا إذا حكم بحليّة الشيء في مرحلة الظاهر ، فلا بدّ أن يكون حلالا واقعيّا وهكذا ، فيلزم على هذا ارتفاع الأحكام الظاهرية والتصويب الباطل.

ومن هنا أمر قدس‌سره بالتأمل عقيب الوجه المذكور (١) ، وقد أسمعناك في أوّل هذا

__________________

(١) في تقريرات المجدّد الشيرازي قدس‌سره : « لعلّه إشارة إلى منع كون الإباحة هو الترخيص المعلوم بل هي عبارة عن نفس الترخيص الواقعي وهو قد يكون معلوما وقد يكون مجهولا كما فيما نحن فيه ». أنظر : ج ٤ / ١٠١.

* وقال المحقق الفقيه آغا رضا الهمداني قدس‌سره :

« لعله إشارة إلى عدم المنافاة بين المنع عن شيء في مقام العمل والرّخصة في فعله في الواقع فإن من الجائز أن يكون نهي الشارع عن ارتكاب المشتبه من باب أشديّة العلميّة للتجنّب عن المحرّمات الواقعيّة نظير إلزام العقل بالتجنّب عن أطراف الشبهة المحصورة تحرّزا عن الوقوع في مفسدة الحرام المشتبه [ على ] أن هذا لا يقتضى حرمة الأطراف من حيث هي ولا ينافي إباحتها في الواقع ... » إنتهى. أنظر حاشية فرائد الأصول : ١٧٣.

* وقال المحقق الكرماني قدس‌سره :

وجه التأمّل ظاهر ؛ لأنه لا منافاة بين الحرمة الظاهريّة والإباحة الواقعيّة والتنافي فيما اجتمع الحكمان في موضوع واحد وهنا موضوعان لحكمين متغايران ؛ لأنّ موضوع الإباحة الفعل من حيث هو هو ، وموضوع الحرمة هو من حيث انه مجهول الحكم فهما غيران ولو بالحيثيّة

٣٠

الجزء من التعليقة الإشكال فيما تسالموا عليه : من عدم التنافي بين الحكمين المتضادين إذا اختلفا بالواقعيّة والظاهريّة.

(٧) قوله قدس‌سره : ( ويحتمل الفرق : بأن معنى الحرمة الظاهريّة حرمة الشيء في الظاهر ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ١٠٦ )

أقول : مبنى الاحتمالين على ما عرفت : من أن الأمر بالاجتناب شرعيّ مولوي مع الالتزام بثبوت العقاب على مخالفة الأحكام الظاهرية ، أو إرشاديّ عقليّ أو شرعيّ لا يعاقب على مخالفته من حيث كونه ظاهريّا ، فالعقاب على التقديرين على مخالفة الواقع لو اتفقت ؛ لأنه لازم البيان الشرعي ولو كان بلسان الإرشاد كما أنه على الأوّل يستحقّ العقابين على تقدير مخالفة الواقع.

(٨) قوله قدس‌سره : ( كأن يكون الشيء مقطوع الحرمة بالجهل المركّب ، ولا يلزم من تسليم ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ١٠٨ )

أقول : لا يخفى عليك : أن التقييد بالجهل المركّب ليس من جهة عدم تحقق التجرّي في صورة مطابقة الاعتقاد للواقع ، كما ربّما يتوهّمه الجاهل ، بل من جهة

__________________

وإنّما احتمل المصنّف كون التنافي بين الحرمة الظاهريّة والإباحة الواقعيّة ملحوظا في الحكم بالحرمة الواقعيّة مع عدم خفاء حاله على أدنى طلبته ؛ لأنّ القائل بها وهو الأخباري لا يبعد ملاحظة أمثال هذا منه وركونه اليه ، فافتهم » إنتهى. أنظر الفرائد المحشّي : ٢١٧.

٣١

وضوح الأمر في هذه الصورة ؛ نظرا إلى انفكاك التجرّي عن الواقع. وقد عرفت ما يتعلّق بالمقام في الجزء الأول من التعليقة.

وأمّا ما أفاده بقوله : « ولا يلزم من تسليم استحقاق الثواب ... إلى آخره » (١) فقد أسمعناك الإشكال في التفكيك بين المدح الفعلي في الاحتياط بكونه راجعا إلى الفعل ، والذمّ العقلي في التجرّي بكونه راجعا إلى الفاعل ؛ لأنه ملاك الفرق العقلي في الحكم بالاستحقاق والعدم كما هو ظاهر.

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ١٠٨.

٣٢

التنبيه الخامس

(٩) قوله قدس‌سره : ( إن أصالة الإباحة في مشتبه الحكم إنما هو مع عدم ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ١٠٩ )

__________________

(١) قال الشيخ موسى بن جعفر التبريزي قدس‌سره :

« توضيح المقام على وجه تنكشف عنه غواشي الأوهام :

أن جريان أصل البراءة التي تتشغب منها أصالة الإباحة في مشتبه الحكم أو الموضوع سواء كانت الشبهة على التقديرين تحريمة أم وجوبيّة مشروط بعدم وجود أصل موضوعي في مورده حاكم عليه كما في الفروج والأموال واللحوم ونحوها ؛ لكون حلّيّة الفروج مشروطة بالسبب المحلّل لها وحلّيّة الأموال بالملكيّة أو إذن المالك ، واللّحوم بقابليّة المحلّ للتذكية ، فإذا شك في تحقق شيء من هذه الشروط في مورد فالأصل يقتضي عدمه.

فنقول :

إذا وجد حيوان وعلمت قابليّته للتذكية فأصالة الإباحة تقتضي حليّته وإذا شك في قابليّته لها فأصالة الإباحة لا تقتضي كونه قابلا لذلك لفرض كون حلّيّة لحمه بمقتضى قوله تعالى : ( إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ ) مشروطة بقابليّته للتذكية فلا بد في الحكم بها من إحراز شرطها والأصل يقتضي عدمه فيحكم بحرمته حينئذ لا محالة. نعم ، هذا إنّما هو فيما لم يكن هنا أصل لفظي يقتضي الحلّيّة مثل قوله عليه‌السلام : « الحرام ما حرّم الله في كتابه » أو كان مجملا ، وإلاّ فمقتضى

٣٣

__________________

الأصل الثانوي كون كلّ حيوان قابلا للتذكية ، بل لا بد أن يفرض الكلام أيضا على تقدير عدم كون التذكية أمرا عرفيّا كما حكي عن القاضي حيث ادّعى كفاية الذبح العرفي ، في الحلّيّة مدّعيا عدم ثبوت حقيقة شرعيّة في لفظها ، كما ادّعى عدم ثبوتها في الفاظ العبادات وإلاّ فأصالة الإباحة بعد إبانة الرّأس بحيث يصدق عليه كونه مذبوحا تقتضي جواز الأكل منه.

قال الشهيد والمحقق الثانيان ـ وقيل : لم يسبقهما ولم يلحقهما أحد في ذلك في مقام عدّ أقسام النجاسات ـ : « الكلب والخنزير البرّيّان وأجزاءهما وإن لم تحلّها الحياة وما تولّد منهما وإن بانيهما في الإسم ، وأمّا المتولّد من أحدهما وطاهر فإنّه يتبع في الحكم الإسم ، فإن انتفى المماثل فالأقوى طهارته وإن حرم لحمه للأصل فيهما » إنتهى. كلام الشهيد.

أنظر أوثق الوسائل.

وقال المحقق الكرماني قدس‌سره :

وفيه مواقع للنظر لو تعرّضنا لبيانها لخرج التعليق عمّا التزمناه من الإيجاز ، نتعرّض لموضع منها وعليك استخراج باقيها :

وهو انّ من المعلوم أنّ الأصل الأوّلي المأخوذ من حال العقل الذي هو قبل الشرع هو البراءة والحلّيّة والإباحة لكل الأشياء. ومن المراد من حال العقل هو ما قبل زمان الشرع المعرّي عن كلّ حكم ولو من العقل ، ثم إذا ورد في الشرع ما يوافق الاصل الأوّلي فهو مؤكّد ، وإذا ورد ما يخالفه فهو أصل ثانوي كما في اللحوم ؛ فإنّ الأصل انقلب فيه الى الحرمة واستثني منه المذّكي بقوله تعالى : ( إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ ).

وأمّا قوله تعالى : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً )

٣٤

في بيان أصالة الإباحة

أقول : ما أفاده قدس‌سره من الشرط في الرجوع إلى أصالة الإباحة في الشبهة الحكميّة أمر ظاهر لا سترة فيه أصلا ، كما هو الشأن في جميع ما يكون الشكّ في الحكم مسبّبا عن الشك في الموضوع ؛ لأن الشك في الحليّة المسبّب عن الشكّ في قبول الحيوان للتذكية لا أثر له ، بعد الحكم بمقتضى الأصل على عدم قبوله للتذكية ؛ بمعنى أن الأصل عدم تحقق التذكية الشرعية بالنسبة إليه ، لكن الرجوع إلى الأصل المذكور مشروط بعدم وجود عموم ، أو إطلاق من الكتاب والسنة يقتضي قابليّة كلّ حيوان للتذكية ، إلاّ ما خرج ؛ فإنه مع الدليل المذكور لا يبقى شكّ بحكم الشارع في القابليّة حتى يرجع إلى الأصل المذكور.

فالشأن إذن التكلّم في وجود الدليل وعدمه ، ومحلّه في الفقه ، وإن كان تمسّك غير واحد لأصالة القبول بالآيات الواردة في حليّة ما أمسك الكلاب ، وما

__________________

فالميتة هو غير المذكّي فهو مطابق لحرمة ما استثني عنه المذّكي لا انه أصل ثانوي بالنسبة اليه فانقلب أصالة الحرمة إلى الحلّيّة.

وكذا قوله عليه‌السلام : « الحرام ما حرّم الله في كتابه » ليس مما يوجب انقلاب أصالة الحرمة إلى الإباحة ؛ إذ الميتة الي هي غير المذكّي ممّا حرّمه الله في كتابه.

فقوله : « نعم هذا إنما هو فيما لم يكن هنا أصل لفظي يقتضي الحلّيّة ... إلى آخره » ساقط بالمرّة ولمّا طال التعليق فبالحريّ إقصار التحقيق » إنتهى. أنظر الفرائد المحشّي : ٢١٨.

٣٥

ذكر اسم الله عليه ، وبالأخبار الواردة في الاصطياد بالسّهم ، والسيف ، والكلاب ، ونحوها محل نظر ، بل منع ؛ لعدم إطلاق لهما ينفع المقام أصلا ؛ نظرا إلى سوقهما لبيان مطلب آخر ، كما هو ظاهر.

نعم ، لا بأس في التمسّك للأصل المذكور بما دلّ عموما على حليّة كلّ حيوان مثل قوله تعالى : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً )(١) الآية ، ونحوه ؛ فإن حلّيّة كلّ حيوان بالحلّيّة الذاتيّة إلاّ ما خرج ، لا يجامع عدم قبوله للتذكية كما هو ظاهر.

(١٠) قوله قدس‌سره : ( وإن كان الوجه فيه أصالة عدم التذكية ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ١٠٩ )

أقول : الحكم بالطهارة فيما فرضناه فإنّما هو من جهة جريان أصالة الطهارة في الشبهة الحكميّة كالموضوعيّة على ما هو المشهور ، خلافا للمحقّق الخوانساري فالمقصود طهارته الذاتيّة في مقابل نجاسته كذلك ، فلا ينافي الحكم بنجاسته لو حكم بحرمة أكل لحمه ؛ من جهة الشك في التذكية والحكم بعدمها وأنّه ميتة كما هو ظاهر. وأمّا الحكم بحرمة الحيوان المذكور ، فلا بدّ أن يكون مستندا إلى أصالة عدم التذكية ؛ نظرا إلى عدم تسليمهما أصالة القبول.

وقول شيخنا قدس‌سره : « وكيف كان فلا يعرف وجه ... الى آخره » (٢) نصّ في

__________________

(١) الأنعام : ١٤٥.

(٢) فرائد الأصول : ج ٢ / ١١٠.

٣٦

تسليمه أصالة القبول التي حكاها قبل ذلك عن بعض. وأمّا ما حكاه عن الفاضل الهندي في « الشرح » (١) وجها لما ذكر من قضيّة الحصر فلا محصّل له أصلا ، مع قطع النظر عما أفاده قدس‌سره في ردّه ؛ فإنه لم يعلم المراد من الحصر في كلامه.

فإنه إن كان المراد منه أن هناك قضيّة حاصرة في الشرع للنجاسات والمحلّلات ، فيتوجّه عليه ـ مضافا إلى منعها ـ : أنه لا معنى للرجوع إلى أصالة الطهارة وأصالة الحرمة حينئذ ، بل يتعيّن الرجوع إلى الظهور اللفظي ، اللهمّ إلاّ أن يكون مراده من الأصل الظهور ، فتدبّر.

وإن كان المراد مجرّد عدم الاطّلاع ـ بعد التفحّص في الأدلّة الشرعيّة إلاّ على نجاسات ومحلّلات كما أنه مراد شيخنا قدس‌سره من حصر المحرّمات ـ فيتوجّه عليه : أن الحصر بهذا المعنى ـ الذي ليس بحصر حقيقة ـ لا يمنع من الشّك في الحلّيّة والحرمة ، فيرجع إلى الأصل. والعجب أنه قال ـ في محكيّ الشرح بعد ما حكاه عنه في « الكتاب » ـ : « وهو ظاهر » (٢).

مع أنّك قد عرفت : أنه لا محصّل له ، فلا وجه إذن لما أفاده إلاّ ما عرفت : من عدم ثبوت أصالة القابليّة عندهما ، وعرفت ما يقضي بثبوتهما ممّا دلّ بظاهره على حلّيّة كلّ حيوان ؛ فإنه يلازم قبوله التذكية كما هو ظاهر.

__________________

(١) المناهج السويّة : ٨٤ مخطوط.

(٢) المناهج السوية : ٨٤ ، عنه فرائد الأصول : ج ٢ / ١١٠.

٣٧

(١١) قوله قدس‌سره : ( ولو قيل : إن الحلّ قد علّق (١) ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ١١٠ )

في بيان حصر المحلّلات في الطيّبات

أقول : هذا وجه آخر للحصر غير ما ذكرناه من الوجهين ، وهو حصر الإجمالي للمحلّلات في الطيّبات ، وإن كانت إرادته بعيدة عن كلام الشارح.

ودلالة القضية على الحصر ليست مستندة إلى مفهوم الوصف حتى يمنع ، سيّما في الوصف الغير المعتمد على الموصوف المحقّق المذكور ، بل من جهة ورودها في جواب الاستفهام في سورة المائدة : ( يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ )(٢) على ما أفاده قدس‌سره فمعناه : أن الطيّب حلال ليس إلاّ ، فيلزم أن يكون غيره حراما فإذا أريد الحكم بحليّة حيوان أو غيره ، فلا بدّ من إحراز كونه طيّبا وإلاّ فلا يجوز الحكم بحليّته ؛ لأنه معنى حصر الحلّيّة في الطّيّب ؛ لأن نفس الشكّ في إرادته من الكلام ولو من جهة الشك في صدق الموضوع عليه ، يكفي في الحكم بعدم المحمول له في مرحلة الظاهر ، فيحكم بالتحريم ؛ لأنه معنى نفي التحليل ، فلا يحتاج إلى إحراز عدم الموضوع بإجراء الأصل في الوصف العنواني للموضوع المردّد ؛ حتى يقال بعدم حالة سابقة له ، سواء كان الطّيّب أمرا وجوديّا أو عدميّا ، أي : مجرّد عدم تنفّر الطبع واستقذاره فتأمّل.

__________________

(١) كذا وفي الكتاب « إنّ الحلّ إنّما علّق ... إلى آخره ».

(٢) المائدة : ٤.

٣٨

وأمّا ما أجاب به عنه شيخنا قدس‌سره من المعارضة بقوله : « قلنا : إن التحريم ... الى آخره » (١) فقد يناقش فيه :

أوّلا : بأن مجرّد تحريم الخبائث في الكتاب العزيز ، مع عدم دلالة القضيّة على الحصر لا يفيد شيئا ؛ فإنّ تحريمها من حيث كونها من أفراد المفهوم.

وثانيا : بأن تقابل الطّيّب الخبيث تقابل التضادّ ، كما حكي عن « الصحاح » و« القاموس ».

ويستفاد من تفسير الطيّب بما يستلذّ به النفس ، والخبيث بما يستكرهها ، ولم يعلم عدم ثالث لهما ، بل الثالث بين المعنيين موجود بالوجدان ، فإذن لا معنى للتعارض بين الأصلين ؛ حتى يرجع إلى أصالة الحلّ وعموم الحلّيّة في الآية والرواية.

نعم ، لو كان تقابل الخبيث والطّيّب ، تقابل الإيجاب والسلب ، أمكن الحكم بالحلّيّة في مورد الشكّ من جهة الأصل الموضوعي كما ذكره ؛ إذ لا يتصوّر هناك معارض له ، إلا أن يناقش فيه بما عرفت التأمّل فيه ، هذا.

والذي يقتضيه التحقيق : أنه على تقدير دلالة الآية على الحصر ، لا معنى لإجراء الأصل الحكميّ حتى يعارض بأصالة عدم التحريم ، كما أنه لا معنى للتمسّك بالعموم والأصل اللفظي للشّك في الموضوع ، فإن جرى هناك أصل

__________________

(١) فرائد الأصول ج ٢ / ١١١.

٣٩

موضوعي سليم عن المعارض تعيّن الرجوع إليه ، وإلاّ فالحصر بالمعنى المذكور أيضا لا يجدي في رفع اليد عن أصالة الحلّ. وما ذكرناه في تقريب عدم الحاجة إلى الأصل عند الشكّ مع تسليم الحصر ، كان مبناه على تقريب الاستدلال لا على الاعتقاد والتحقيق.

(١٢) قوله قدس‌سره : ( وعلى كلّ تقدير : فلا ينفع قول الأخباريّين ... إلى آخره ) (١). ( ج ٢ / ١١٣ )

أقول : الغرض : أنّه بعد سدّ باب طريق الإفتاء للمجتهد المرجع من حيث تساوي أدلّة البراءة والاحتياط في نظره ، وعدم قدر متيقّن في البين بالفرض ، وعدم جواز الرّجوع للجاهل بالحكم الظاهري للمسألة إلى الأموات ، فلا محالة يرجع إلى ما يحكم به عقله من الوجهين على التقديرين ، ولا ينفع قول كل من المجتهد والأخباري له ؛ من حيث لزوم الأخذ به من حيث التعبّد ، لفرض عدم الدليل عليه ، وإلاّ فلو فرض إيجابه للردع عن حكم عقله ، فلا إشكال في لزوم

__________________

(١) قال في قلائد الفرائد ( ج ١ / ٣٨٦ ) :

« الوجه في عدم النفع : أنه بعد ما فرضت المسألة عقليّة وأريد العلم بحكمها ، فلا معنى للرّجوع إلى قول الفريقين ، بل المرجع حينئذ هو العقل حتى يعلم انّه إلى أيّ شيء يحكم.

نعم ، قد ينفع الرجوع اليهم من حيث بيانهم له قاعدة قبح العقاب أو دفع الضّرر المحتمل ، لكن هذا ليس من الرجوع إليهم في الحقيقة ، بل هو نظير الرجوع إلى العالم في مسائل العقائد من حيث كونه سببا للبصيرة » إنتهى.

٤٠