بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٤

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني

بحر الفوائد في شرح الفرائد - ج ٤

المؤلف:

آية الله ميرزا محمّد حسن بن جعفر الآشتياني


المحقق: السيّد محمّد حسن الموسوي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات ذوي القربى
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-518-283-8
ISBN الدورة:
978-964-518-249-4

الصفحات: ٦٨٨

ثمّ إن هذا الذي ذكرنا لا يختصّ بالمقام ، بل يجري بالنسبة إلى ما دلّ على نفي الضّرر أيضا.

وثانيا : نسلّم كون الكبرى المستفادة من دليل نفي الحرج هو رفع الحكم عمّا كان في غالب أفراده الحرج وإن تخلّف عن بعض أفراده ، لكن نمنع كون المعنى المذكور مفيدا في المقام ؛ فإنه على المعنى المذكور لا بدّ من أن يلاحظ كل موضوع كليّ تعلّق به الحكم في الأدلّة ، فإن لزم من جعله الحرج على أغلب أفراد المكلّفين في أكثر أفراد هذا الموضوع الكلّي حكم بارتفاعه عن ذلك الموضوع الكلّي بإطلاقه ـ عن جميع أفراده وعن جميع المكلفين حتى من الفرد الذي لا حرج فيه أصلا ـ لتمام المكلّفين ، وعن المكلّف الذي لا حرج في حقّه أصلا بالنسبة إلى تمام الأفراد.

وهذا المعنى كما ترى ، لا تعلّق له بالمقام أصلا ؛ إذ الشبهة الغير المحصورة لم يتعلّق بها حكم في الشرع بهذا العنوان ، وإنّما هو عنوان ومفهوم منتزع عن موضوعات مشتبهة ، والمقتضي لوجوب الاحتياط في كل موضوع مشتبه هو نفس دليل تحريم ذلك الموضوع بضميمة حكم العقل.

فلا بدّ أن يلاحظ الحرج بالنسبة إلى كلّ حرام مشتبه ، فإن لزم بالنسبة إلى أغلب أفراد حرام بالنسبة إلى أغلب المكلّفين ، حكم بارتفاع وجوب الاحتياط عن تمام أفراده وعن جميع المكلّفين ، وإن لم يلزم بالنسبة إلى أغلب أفراد حرام مخصوص مشتبه بالشبهة الغير المحصورة ، لم يكن معنى لرفع وجوب الاحتياط

٤٨١

عنه كلّيّة ، وإن حكم بارتفاعه عن فرد شخصيّ يلزم منه الحرج في حق مكلّف شخصيّ كما يكون الأمر كذلك بالنسبة إلى الشبهة المحصورة أيضا.

فقد علم ممّا ذكرنا : أن هذا الوجه مع تسليمه لا يفي بإثبات المدّعى في تمام أفراد هذا المفهوم المنتزع لحرام مشتبه بالشبهة الغير المحصورة الذي لا يلزم الحرج من الاحتياط في أغلب أفراده لأغلب المكلّفين باعتراف الخصم.

ومنه يظهر : أن الاستعانة بالأخبار الدالّة على إناطة الأحكام بالعسر واليسر الغالبيّين لا ينفع أصلا على تقدير الإغماض عن المناقشة فيها فلعلّ الوجه في الاستدلال بهذا الوجه ـ مع ما عرفت ـ ما أفاده شيخنا في « الكتاب » بقوله : ( وكأنّ المستدل بذلك جعل الشبهة الغير المحصورة واقعة واحدة ... إلى آخر ما أفاده قدس‌سره ) (١).

وثالثا : على تقدير تسليم إرادة المعنى المذكور ـ مما دلّ على نفي الحرج وكون الشبهة الغير المحصورة عنوانا في نفسه اقتضى الدليل وجوب الاحتياط عن نفس هذا العنوان ـ نمنع من لزوم الحرج بالنسبة إلى أغلب أفرادها التي هي أنواع حقيقة ؛ لأن بعض الأطراف من كثير أفراد الشبهة الغير المحصورة ليس محلاّ لابتلاء غالب المكلّفين كما يشهد به الوجدان ، وبعد إخراج هذه عن محلّ الكلام ـ سواء كان الاحتياط فيها موجبا للحرج أم لا ، لما عرفت من عدم وجوب

__________________

(١) فرائد الأصول : ج ٢ / ٢٥٩.

٤٨٢

الاحتياط فيما كان بعض أطراف العلم الإجمالي خارجا عن محلّ الابتلاء مع حصر الشبهة ، فضلا عن كونها غير محصورة ـ توجّه منع وجود الحرج بالنسبة إلى أغلب أفراد محلّ الكلام من الشبهة الغير المحصورة ، وإن سلم تحقّقه في أغلب أفرادها بقول مطلق وفي المجموع ممّا هو محلّ الكلام وغيره.

وإن قيل : المدّعى وجود الحرج في أغلب أفراد محلّ الكلام وبعد تسليم الغلبة وإناطة حكم الرفع بها وكون الشبهة الغير المحصورة عنوانا مستقلاّ بالملاحظة لم يكن معنى لهذا الجواب الثالث.

قلنا : المدعى وإن كان ذلك لما عرفت من خروج ما لم يكن تمام أفراده محلاّ للابتلاء عن محلّ البحث ، إلاّ أنه لم يسبق منّا الاعتراف بما ذكره أيّ عسر في الاجتناب عن الخمر المشتبه بالشبهة الغير المحصورة ، والمرأة المحرّم نكاحها المشتبهة في نساء في صقع من الأرض ، وكذلك بالنسبة إلى المال المشتبه ، ومهدور الدم المشتبه إلى غير ذلك.

ورابعا : نمنع من لزوم الحرج على الغالب بالنسبة إلى أفراد نوع واحد تسالموا على لزوم الحرج الغالبي بالنسبة إليه ؛ فإن النوع الذي يلزم بالنسبة إليه الحرج ـ من دون إشكال ـ النّجس المشتبه ، ومن المعلوم أنه لا يلزم الحرج الغالبي من الاجتناب عن كثير من أفراده المشتبهة بالنسبة إلى الأرض والطعام وغيرهما فتأمل.

فهذا الوجه لا يسمن ولا يغني أصلا. نعم ، لا إشكال في عدم وجوب

٤٨٣

الاحتياط بالنسبة إلى مورد وفرد من نوع يلزم الحرج من الاحتياط فيه ، وإن لم يلزم في أغلب أفراده كما هو واضح ، وقد عرفت الإشارة إليه.

وممّا ذكرنا كله يظهر : توجّه النقض عليهم بالشبهة المحصورة ؛ فإنه لا إشكال في لزوم الحرج من الاحتياط فيها في الجملة.

نقل كلام المحقّق القمّي ومحقّق الفصول

ثمّ إن للمحقّق القمّي وبعض أفاضل معاصريه قدس‌سرهما كلاما متعلّقا بالمقام لا بد من إيراده. قال في « القوانين » ـ في مقام النقض على ما استدلّوا به لوجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة بأن التكليف بالاجتناب عن الحرام والنجس الواقعيّين الموجودين بين المشتبهات يقينيّ إلى آخر ما عرفت شرحه ـ ما هذا لفظه :

« مع أنه يرد على ذلك النقض بغير المحصورة (١) فإن الحرام والنجس فيها أيضا يقينيّ ، والتمسّك بلزوم العسر والحرج لا يثبت الحلّ والطهارة بمعنى ترتيب جميع آثارهما ، سيّما بحيث تصير قاعدة كليّة مثبتة للحكم مطردا ؛ لأن مقتضى ذلك الحكم بطهارة صحراء وسيع الفضاء الذي تنجّس بعضه ولم يعلم محلّها لمن يزاولها بالرطوبة ويحتاج إلى مزاولتها ، ولا حرج على من لا يزاولها ولا يحتاج

__________________

(١) كذا وفي المصدر : بغير المحصور.

٤٨٤

إليها في الاجتناب عنها ، وليس تطهير عضو منه إذا اتفق مباشرته عسرا وحرجا كما لا يخفى (١).

وقد يكون اجتناب الثوبين اللذين أحدهما نجس حرجا عظيما كما لو احتاج إلى لبس أحدهما في السفر في أيّام الشتاء ووقوع المطر ، فإن كان لزوم العسر يوجب الحكم بالطهارة فاحكم هنا بالطهارة ، وكذلك الكلام في الاضطرار إلى أكل الميتة وشرب الماء النجس ؛ فإن الاضطرار والعسر والحرج لا يوجب الحكم بالطهارة. وأمّا ما قد يتمسّك بذلك في مثل طهارة الحديد مع ورود الأخبار بالنجاسة فذلك تأسيس في الحكم ودفع لا رفع لحكم ثابت ، وبينهما فرق

__________________

(١) قال الملاّ تقي الهروي قدس‌سره :

« كأنه مبني على القول بأن ملاقي المشتبه بالنجس نجس بالملاقاة وإلاّ كما هو الأظهر وسيصرّح هو أيضا في تعارض الإستصحابين في [ القوانين ] بطهارة ما يلاقي مستصحب النجاسة فكيف بما يلاقي المشتبه المحصور فضلا عن غيره فلا حاجة إلى التطهير.

هذا ولا يخفى ان قاعدة الحرج كما تمنع عن تكليف لم يثبت بعد كذلك ترفع التكليف الثابت أيضا ، فما ذكره المصنف [ الميرزا القمي في القوانين ] رحمه‌الله في الحديد من الفرق بين الدفع والرفع محل رفع نظر ، كما ان عدم فرقه بين المقام وواجدي المني حيث يقول : وما ذكره من حكم واجدي المني محل نظر أيضا ؛ فإن كل من ابتلى بالثوبين مكلف بالإجتناب عنهما بناء على القاعدة وليس واجد المني مكلّفا بالغسل إلا إذا علم ولو بأمارة شرعيّة انه هو الجنب » إنتهى. حاشية الهروي على القوانين : ج ٢ / ٢٦.

٤٨٥

واضح (١) ». انتهى كلامه رفع مقامه.

وقال فاضل معاصره في « فصوله » ـ بعد إبداء الفرق بين المحصور وغير المحصور بما هو المشهور من لزوم العسر في الاجتناب عن الثاني دون الأول ـ ما هذا لفظه :

« وأمّا ما أورده بعض المعاصرين : بأن العسر والحرج قد لا يتحقّقان في غير المحصور كما إذا لم يكن هناك ما يوجب استعمال البعض ، وقد يتحقّقان في المحصور أيضا كما إذا اضطر إلى استعمال البعض مع أنهما يقتضيان رفع الإثم دون غيره من النجاسة ولهذا لو اضطر إلى أكل الميتة لم يرتفع عنه حكم النجاسة.

فمدفوع : بأن العسر والحرج إنّما يقتضيان رفع الحكم الذي يترتبان عليه على قدر ترتبهما عليه ، ففي غير المحصور لمّا كان ترتّبهما على وجوب الاجتناب عنه وما في حكمه كوجوب الاجتناب عن ملاقيه ثابتا على الإطلاق حتى بالنسبة إلى ما يزيد فيه على قدر الضرورة لوضوح ترتيبهما على تقدير تحديد رفع المنع باندفاعهما أيضا لعموم مورده وابتلاء عامّة النّاس به في عامة الأحوال ، أو أغلبها لزم ارتفاعه على الإطلاق ، بخلاف المحصور ؛ لندرة الاضطرار إليه. وعلى تقدير حصوله فدوران المنع فيه مدار رفع العسر والحرج لا يوجب عسرا ولا حرجا

__________________

(١) قوانين الأصول ج ٢ / ٢٥.

٤٨٦

ولهذا جاز ثبوت حكمه » (١).

إلى أن قال :

« ولا فرق فيما ذكرنا بين كون الحكم حرمة أو نجاسة أو غيرهما ، وإلى هذا ينظر إلى احتجاج بعض الأصحاب بذلك على طهارة الحديد في مقابلة الأخبار الدالّة على نجاستها ، واعتذار المعاصر المذكور (٢) عنه : « بأنه تأسيس للحكم ودفع لا رفع لحكم ثابت وبينهما فرق واضح » غير واضح ؛ فإن ما يصلح للتأسيس والدفع في مثل المقام يصلح للرفع أيضا ، سلّمنا لكن المقام من باب الدفع لا الرفع ؛ حيث يدفع بلزوم العسر والحرج عموم الأدلّة الدالّة على التحريم بصورة الاشتباه بغير المحصور » (٣). انتهى كلامه رفع مقامه.

المناقشة فيما أفاده الفاضلان

وأنت خبير بما يتطرّق إليهما من المناقشة :

أمّا ما أفاده في « القوانين » فيتوجّه عليه ـ بعد اختيار كون قضيّة الأصل بعد ثبوت الاشتغال بالعلم الإجمالي عدم الفرق بين الشبهة المحصورة وغيرها ـ :

__________________

(١) الفصول الغروية : ٣٦١.

(٢) يريد به المحقّق القمّي في كلام سبق له في المقام.

(٣) المصدر السابق : ٣٦١.

٤٨٧

أن الفارق ما عرفت : من قيام الإجماع على عدم وجوب الاحتياط في غير المحصور ، وليس المقصود إلاّ رفع وجوب الاحتياط ، إلاّ الحرمة والنجاسة واقعا عن الواقع المعلوم إجمالا ولم يدّعه أحد من القائلين بعدم وجوب الاحتياط في المقام بحيث يحكمون بطهارة ما لاقى جميع أطراف الشبهة الغير المحصورة.

وأمّا الحكم بطهارة ما يلاقي بعض الأطراف فليس من جهة الحكم بطهارة الملاقى ـ بالفتح ـ بل من الجهة التي عرفتها في ملاقي الشبهة المحصورة من سلامة الأصل فيه عن المعارض وخروجه عن أطراف الشبهة. فإذا كان الحال هذه مع حصر الشبهة فالحكم بطهارته مع عدم الحصر أولى كما لا يخفى.

وبالجملة : المنفيّ في المقام مجرّد وجوب الاحتياط الثابت بالعلم الإجمالي لا آثار الواقع ؛ فإن ثبوتها لا تعلّق له بالعلم الإجمالي فإنّها من مقولة الوضع لا أثر للعلم الإجمالي بالنسبة إليها أصلا ، فالمنفي بالإجماع أو دليل نفي العسر هو مجرّد وجوب الاحتياط لا غيره من الأحكام والآثار. نعم ، ما أفاده بالنسبة إلى دليل نفي الحرج في المقام من عدم جواز التمسّك به ، فهو حقّ لا محيص عنه ، لكن لا من الجهة التي ذكرها بل لما عرفت ، هذا.

وأمّا ما ذكره في « الفصول » تحقيقا للمقام ودفعا لما أورده المحقق القميّ على المتمسّكين بدليل نفي الحرج في المقام الفارقين بينه وبين الشبهة المحصورة.

فيتوجّه عليه : ما عرفت من المناقشات. مضافا إلى ما يتوجّه عليه في مواضع من كلماته ؛ لأن ما ذكره في تتميم المدّعى والفرق ـ من أن التحديد بلزوم

٤٨٨

العسر والحرج في المقام يكون حرجيّا بخلاف الشبهة المحصورة ـ يتوجّه عليه :

أنّ ذلك إنّما يفيد على تقدير تسليمه بالنسبة إلى نوع خاصّ يكون الحرج في الاحتياط عن غالب أفراده وقد عرفت المنع عنه.

وما ذكره تحقيقا لاقتضاء أدلّة نفي العسر رفع النجاسة في المقام ـ من أن قضيّة نفي الحرج هو رفع كلّ حكم يترتّب على جعله الحرج من غير فرق بين النجاسة وغيرها من الأحكام.

يتوجّه عليه : أنه لا ينفع في ردّ ما أفاده المحقق القميّ قدس‌سره للمنع من لزوم الحرج في بقاء النجاسة في الشبهة الغير المحصورة كما هو واضح.

نعم ، يتوجّه عليه : ما أشرنا إليه من أن الغرض التمسّك بدليل نفي الحرج لمجرّد عدم وجوب الاحتياط ويحصل الموافقة القطعيّة لا طهارة النجس الواقعي الموجود بين المشتبهات.

وما ذكره في عدم الفرق بين مسألة الحديد والمقام ؛ لأن ما يصلح للتأسيس والدفع يصلح للرفع أيضا.

يتوجه عليه : أن دليل نفي العسر ليس من المطهرات حتى يرفع النجاسة الثابتة المسلّمة بين المشتبهات ، واقتضاؤه لدفع النجاسة في الحديد يرجع إلى منعه من ثبوت أصل النجاسة لها ، وأين هذا من المقام؟

ثمّ إن هذا الذي عرفت في مسألة الحديد إنّما هو على مقتضى ما وقع من

٤٨٩

المحقّق القميّ وفاضل عصره قدس‌سرهما.

والذي يقتضيه التحقيق فيها أن يقال : إنه لو كان هناك دليل معتبر على نجاسة الحديد لم يكن معنى للحكم بطرحه من جهة ما دلّ على نفي الحرج في الشريعة لما عرفت غير مرّة ؛ من أن أدلّة نفي الحرج وإن كانت حاكمة على أدلّة التكاليف القاضية بثبوتها في الموضوع الأعمّ من مورد لزوم الحرج ، إلاّ أنه يتعيّن تخصيصها بما هو أخصّ منها يدلّ على ثبوت حكم حرجيّ إذا كان معتبرا من جميع الجهات هذا.

مضافا إلى ما عرفت من مطاوي كلمات شيخنا الأستاذ العلاّمة قدس‌سره في « الكتاب » : من كون عمومات نفي الحرج من العمومات الموهونة بكثرة الخارج منها فلا يجوز التمسّك بها من غير جابر لها ، فضلا عمّا إذا كان هناك ما يقتضي تخصيصها هذا.

مضافا إلى أنه لو كان الدليل على طهارة الحديد ما دلّ على نفي الحكم العسري لزم الاقتصار على صورة وجود العسر ، ولم يجز الحكم بالطهارة على الإطلاق ؛ لما أسمعناك : من أن التحقيق في مفاده هو نفي الحرج الشخصي ، لا الغالبي والنوعي ، وإن لم يكن هناك دليل معتبر على نجاسته ، أو كان وكان معارضا لأخبار الطهارة مع التكافؤ ، فالمتعيّن الرجوع إلى قاعدة الطهارة بناء على جريانها في الشبهة الحكميّة على ما هو الحق وعليه المشهور ، وعلى هذا لا معنى للتمسّك بدليل نفي الحرج.

٤٩٠

الكلام في حكم الحديد

فالتحقيق : أن الدليل على طهارة الحديد إمّا الأخبار الدالة على طهارته لمكان رجحانها على أخبار النجاسة بضرب من الترجيح من العمل وغيره ، أو ضعف أخبار النجاسة ، أو أصالة الطّهارة بعد تعارض الأخبار وتساقطها فتأمل ، أو قيام الإجماع عليها ، فليس المستند أدلّة نفي الحرج ، حتى يتوجّه عليه : ما عرفت من لزوم الاقتصار على المورد العسري وغيره ، وإن كان حكمة في حكم الشارع بطهارته ، فلا يلزم اطّرادها في موارد رفع النجاسة.

وهذا نظير ما ذكرنا في مسألة « الانسداد » : من الفرق بين كونه حكمة لا يلزم اطّرادهما ، فيعمل بالظنّ حتى مع التمكّن من تحصيل العلم من المسألة وعلّة يدور الحكم مدارها ، وكذلك ذكرنا ثمّة الفرق بين كون لزوم العسر من الاحتياط الكلّي علّة لإبطال وجوب الاحتياط ؛ بأن يتمسّك له بدليل نفي الحرج فيدور البطلان مداره ، وحكمة ؛ بأن يتمسّك له بالإجماع ونحوه.

وأمّا ما يقال : وأشرنا إليه في طيّ كلماتنا : من أن ما اشتهر من عدم لزوم الاطّراد في الحكمة ، كلام لا محصّل له ؛ من حيث استلزامه تجويز العبث على الحكيم تعالى ؛ نظرا إلى كون لازمه الالتزام بثبوت الحكم في مورد مع فقدان جهة مقتضية له ، بل ربّما يمكن القول بامتناعه الذاتي ، فتدبّر.

٤٩١

فيتوجّه عليه : بأن ما جعل حكمة في تشريع الحكم وهي المصلحة الغالبة لمصلحة من المصالح لا ينفكّ عن الحكم ؛ ضرورة صدق وجود مصلحة في غالب الأفراد دائما ، وإنّما المنفكّ نفس المصلحة بالاعتبار الذي اقتضى تشريع الحكم فتدبّر.

(١٢٠) قوله : ( الثالث : الأخبار الدّالة على حلّيّة كل ما لم يعلم حرمته ؛ فإنها بظاهرها ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٢٦٠ )

تقريب الإستدلال بالوجه الثالث (١)

أقول : تقريب الاستدلال بهذا الوجه ما أفاده في « الكتاب » : من أن قضيّة عموم أخبار الحليّة ـ بناء على شمولها لصورة العلم الإجمالي بالحرام ـ هو الحكم بالحلّيّة وعدم وجوب الاحتياط في المقام وهي على هذا التقدير وإن لم تكن فارقة بين الشبهتين ، بل مقتضاها كما ترى ، هو الحكم بعدم وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة أيضا ، إلاّ أنه لمكان الجمع بينها وبين ما يعارضها من أخبار التوقّف والاحتياط العامة للشبهتين أيضا يحمل على الشبهة الغير المحصورة لكونها متيقنة منها. كما أنّه يحمل أخبار الاحتياط على الشبهة المحصورة للجهة المذكورة فيتم الاستدلال والفرق بعد الجمع بين الطائفتين هذا حاصل ما يقال في

__________________

(١) من الوجوه التي استدلوا بها على عدم وجوب الإحتياط في الشبهة غير المحصورة.

٤٩٢

تقريب الاستدلال بهذا الوجه.

ويتوجّه عليه : أوّلا : أن المستند في الحكم بوجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة هو حكم العقل بالوجوب ـ من باب استقلاله بوجوب دفع الضّرر المحتمل على ما عرفت شرح القول فيه ، ولا ريب في وجود المناط المذكور بعينه في الشبهة الغير المحصورة أيضا بناء على فساد الوجه الخامس حسبما ستقف عليه ـ أو الأخبار المختصّة بصورة الإجمالي مثل : « أتركوا ما لا بأس به حذرا عما به البأس » (١). وهي عامة للشبهتين أيضا بلا ارتياب ، لا الأخبار العامّة الواردة في التوقّف والاحتياط.

والأخبار المانعة كما ترى أخصّ من الأخبار المرخّصة على تقدير تسليم شمولها لصورة العلم الإجمالي. وأمّا حكم العقل فهو وإن كان مورودا بالنسبة إلى الأخبار المرخّصة على تقدير دلالتها على حكم صورة العلم الإجمالي من غير فرق بين الشبهتين ، إلاّ أن ظاهرها لمّا كان ثبوت الرخصة بالنسبة إلى جميع الأطراف لعدم إمكان حملها على إرادة بعض الأطراف على ما عرفت تفصيل القول فيه في الشبهة المحصورة ، فلا بدّ من جعل الغاية فيها الأعم من العلم الإجمالي ، فلا يجوز الاستدلال بها على حكم المقام ، كما لا يجوز الاستدلال بها في الشبهة المحصورة.

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٦٧ / ٢٩٦.

٤٩٣

فغرض شيخنا قدس‌سره مما ذكره في الجواب الأول : هو دفع ما يتوهّم من الدليل المذكور ؛ من كون الوجه في وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة ما دلّ على وجوب التوقّف والاحتياط من الأخبار العامة التي حكم باختصاصها ، جمعا بينها وبين ما دلّ على الإباحة ، وأن الوجه فيه : هو حكم العقل بالوجوب بعد العلم الإجمالي بوجود الحرام بين المشتبهات المتحقّق في الشبهة الغير المحصورة ، لا جعل حكم العقل معارضا لأخبار الإباحة.

اللهم إلاّ أن يكون المراد ما أشرنا إليه : من أن ظاهر أخبار الرّخصة على تقدير تسليم الظهور لما كان ترخيص ارتكاب جميع الأطراف وهو مصروف بحكم العقل القطعي بقبحه على الحكيم تعالى من حيث كونه إذنا في المعصية للخطاب المنجّز وحملها على الترخيص في البعض أيضا غير ممكن ، فلا مناص عن حملها على غير صورة العلم الإجمالي بالخطاب المنجّز.

ثمّ إن الوجه في قصر شيخنا في دليل الاحتياط على حكم العقل به لعلّه مبنيّ على المناقشة في سند الرواية من حيث إرسالها فتدبّر ، أو كونها مؤكّدة لحكم العقل به كالأخبار العامة للوقف والاحتياط.

وثانيا : سلّمنا كون المستند لوجوب الاحتياط الأخبار العامّة ، لكن قد عرفت غير مرّة اختصاص أخبار الحلّ والبراءة بالشبهة الابتدائية ، فلا يعارض أخبار الاحتياط حتى يجمع بينهما بما ذكر.

وثالثا : سلّمنا شمول أخبار الحلّ والبراءة لصورة العلم الإجمالي فيشمل

٤٩٤

الشبهتين لا محالة ، لكن نقول : إن أخبار الاحتياط والتوقّف أخصّ مطلقا منها ، ولو من جهة قيام الإجماع على خروج الشبهات الابتدائيّة منها ، فأخبار الحلّ على عمومها لصورة العلم الإجمالي أعمّ مطلقا من أخبار التوقّف ، فيتعيّن تخصيصها بالشبهات الابتدائية وإبقاء كلتا الشبهتين تحت أخبار التوقّف.

لا يقال : كيف يدّعى الإجماع على عدم وجوب الاحتياط في الشبهات الابتدائية مع أن جماعة من الأصحاب كالأخباريين قالوا بوجوبه في الشبهة الحكمية التحريميّة؟

لأنا نقول : مخالفتهم في ذلك لا يقدح في انعقاد الإجماع على ما أسمعناك في محلّه هذا. مضافا إلى أن قيام الإجماع على عدم وجوبه في الشبهة الموضوعيّة البدويّة مطلقا والشبهة الابتدائية الوجوبيّة الحكميّة كاف في أخصيّة أخبار التوقّف بالنسبة إلى أخبار الحلّ.

لا يقال : إن أخصّيّة أخبار التوقّف بالنسبة إلى أخبار الحلّ إنما هي فيما لوحظت بالنسبة بينهما بعد تخصيص أخبار التوقّف بالإجماع ، لم لا يلاحظ النسبة بينهما قبل العلاج بالتخصيص ، وهما قبل العلاج بالتخصيص؟ وهما قبل العلاج عامّان تعارضا يجمع بينهما بما ذكر في طيّ الاستدلال.

لأنّا نقول : ما ذكر توهّم قد سبق إلى ذهن بعض أفاضل من تأخّر على خلاف ما يقتضيه التحقيق ، ومقالة المشهور في تعارض أزيد من دليلين ؛ فإن الأخصّ من المعارضات يقدّم في العلاج ولو أوجب تقديمه انقلاب النسبة بين

٤٩٥

الباقي منها ، ووجهه ـ مضافا إلى ظهوره من حيث إن عدم تقديمه ربّما يوجب طرحه ـ يأتي في الجزء الرابع من التعليقة هذا.

مضافا إلى أن التوهّم المذكور على تقدير صحّته إنّما يتمشّى في المخصّص المنفصل اللفظي لا في المتّصل ولا في المخصّص اللّبّي ، كالإجماع والعقل على ما ستقف على شرح القول فيه.

ورابعا : أغمضنا عما ذكر ثالثا من أخصيّة أخبار التوقّف وكونهما عامّين متباينين يلاحظ النسبة بينهما بملاحظة وضعهما قبل العلاج بالإجماع على ما سبق من التوهّم ، لكن نقول : إنه لا معنى للجمع المذكور ؛ إذ لا شاهد له أصلا لا من الداخل ، ولا من الخارج ؛ لأنه مع الغضّ عما ذكرنا تكون النسبة المنطقيّة بين الطائفتين التباين الكلي لشمولها جميع الشبهات ، غاية ما هناك كون الشبهات الابتدائيّة متيقّنة الإرادة من أخبار الحل والبراءة ، فيكون نصّا فيها بهذا المعنى.

والشبهة المحصورة متيقّنة الإرادة من أخبار التوقّف فيكون نصّا بالنسبة إليها بالملاحظة المذكورة ، وكلّ ظاهر في الشبهة الغير المحصورة فإدراجها في أحدهما وإخراجها عن الأخرى ليس جمعا ، بل ترجيح بلا مرجح ، بعد فرض عدم الشاهد. هذا ، بناء على كفاية النصوصيّة بالمعنى المذكور في باب التعارض لصرف الظاهر عن ظهوره ، وإلاّ فلا بدّ من إعمال المرجّحات والحكم بالطّرح.

ثمّ إن تحرير المقام بما حرّرناه : من جعل ما حرّر أخيرا جوابا برأسه أولى مما حرره شيخنا الأستاذ العلاّمة ( دام ظلّه ) : من جعل ما أفاده ثانيا الراجع إلى ما

٤٩٦

ذكرناه لثالث الأجوبة ؛ فإنه ظاهر في اتحادهما بحسب المفاد وإن اختلفا بالتفصيل والإجمال ، وليس الأمر كما ذكر قطعا ؛ لابتناء ما ذكره ثانيا على أخصّيّة أخبار التوقف من أخبار الحلّ بملاحظة الإجماع القائم على إخراج الشبهات الابتدائية منها وإبقائها تحت أخبار حلّ الشبهات ، وابتناء ما ذكره في الحاصل على ما يقتضيه وضع الطائفتين قبل العلاج بالتخصيص من التباين الكلي.

فالمقام بهذه الملاحظة نظير ما إذا ورد الأمر بإكرام جميع العلماء ، والنهي عن إكرام الجميع وقلنا بأن العدول متيقّن الإرادة من مورد الأمر ، والفسّاق متيقّن الإرادة من مورد النهي ، وكل منهما ظاهر بالنسبة إلى الواسطة بين العادل والفاسق لو قلنا بثبوت الواسطة ، كالشّخص في أوّل بلوغه مع فرض عدم حصول الملكة له وعدم صدور الكبيرة منه هذا.

ولكن يمكن توجيه ما أفاده : بأنّ ما ذكره في الحاصل يرجع إلى ما أفاده ثانيا بإسقاط ملاحظة الإجماع فتدبّر.

وقد ظنّ بعض طلبة العصر كون ما ذكره في الحاصل منافيا لما أفاده في الجواب الثاني من جهة كون مبناه على جعل النسبة بين الطائفتين العموم من وجه من حيث كون الشبهات الابتدائيّة مادّة افتراق أخبار الحلّ ، والشبهة المحصورة مادّة افتراق أخبار الاجتناب ، والشبهة الغير المحصورة مادة تعارضهما واجتماعهما.

وهو كما ترى ، ظن فاسد جدّا ؛ لصراحة كلامه في الحاصل بشمول

٤٩٧

الطائفتين المشبهات الابتدائيّة والمحصورة ، غاية الأمر تيقّن إرادة الشبهات الابتدائيّة من أخبار الحلّ وتيقّن إرادة الشبهة المحصورة من أخبار المنع ، لا خروج الأولى عن الثانية موردا وخروج الثانية عن الأولى كذلك حتى تكون النسبة العموم من وجه.

(١٢١) قوله « دام ظله » : ( إلا أن يقال : إن أكثر أفراد الشبهة الابتدائية ... إلى آخره ). ( ج ٢ / ٢٦١ )

أقول : أراد بذلك الاستدراك عما أفاده في الحاصل من تسوية الطائفتين من الأخبار بالنسبة إلى الشبهة الغير المحصورة ، وعدم مزيّة لإحداهما على الأخرى بحسب الدلالة ، وكونهما ظاهرين بالنسبة إليها ، وإثبات كون أخبار الحلّ أظهر من أخبار المنع بالملاحظة التي ذكرها ؛ حيث إن كثرة أخبار الحلّ الظاهرة في الاهتمام بشأن المطلب مقتضية لكثرة موردها ، فإذا رجع أكثر أفراد الشبهة الابتدائيّة إلى الشبهة الغير المحصورة من جهة العلم بوجود الحرام بعد النظرة الثانية في المشتبهات بكون الواقعة الشخصيّة من أطرافها لم يبق تحت أخبار الحلّ ـ على تقدير إخراج الشبهة الغير المحصورة عنها ـ إلاّ القليل النادر ، وهي بالملاحظة التي عرفتها آبية عن ذلك.

وهذا بخلاف أخبار المنع فإن تخصيصها بإخراج الشبهة الغير المحصورة لا يوجب قلّة موردها ، فهي أقوى دلالة من أخبار المنع وإن كان تعارضهما بالتباين الكلّي. وهذا مع وضوحه قد برهن عليه في باب التعارض ، فلو فرض في نظير

٤٩٨

المقام الذي أشرنا إليه قلّة أفراد العدول من العلماء فلا محالة يكون ما دلّ على وجوب إكرام العلماء أقوى دلالة بالنسبة إلى الواسطة مما دلّ على النهي عن إكرامهم هذا.

ولكن قد يناقش فيما أفاده من وجوه :

أحدها : المنع من رجوع أكثر أفراد الشبهة الابتدائيّة إلى الشبهة الغير المحصورة ؛ ضرورة وقوع الشكّ كثيرا في نجاسة شيء أو حرمته من غير أن يكون هناك علم إجمالي بوجود النجس ، أو الحرام ، بين أشياء يكون المشكوك من أطرافه ، وإن كان هناك علم إجمالي لا تعلّق له بالمشكوك أصلا ؛ فإنه غير موجب لصيرورة المشكوك من الشبهة الغير المحصورة كما هو ظاهر.

فإذا شك في نجاسة البدن أو الثوب من جهة الشكّ في خروج البول عن المحلّ لم يكن معنى للحكم بكونه من الشبهة الغير المحصورة ؛ من جهة العلم الإجمالي بوجود النجس في العالم ، وكذا إذا شكّ في تنجّس البدن أو الثوب أو غيرهما من جهة الشك في ملاقاتها للنجس المعلوم بالتفصيل من غير أن يكون هناك علم إجمالي بملاقاة شيء له يحتمل كونه أحد المذكورات إلى غير ذلك من الأمثلة الواضحة.

وبالجملة : لا إشكال في أن الشكّ لا يخرج عن كونه ابتدائيّا إلاّ إذا كان له تعلّق بما علم إجمالا باحتمال انطباق المعلوم بالإجمال على مورده بحيث يصير سببا للشكّ ، وإلاّ فربّما يشكّ في نجاسة أشياء كثيرة وحرمتها مع عدم العلم بوجود

٤٩٩

النجس أو الحرام بينهما ، وعدم احتمال كونها مما علم إجمالا بنجاستها أو حرمتها ، فلا يكون من الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي.

وهذا الذي ذكرنا أمر واضح لا سترة فيه أصلا ولا ينكره أحد جزما ، وقد صرّح به شيخنا قدس‌سره غير مرّة في مجالس تبيّن فيها الفرق بين الشبهة الابتدائية والمقرونة بالعلم الإجمالي.

ثانيها : المنع من كونه مقيّدا على تقدير تسليمه لما عرفت في مطاوي كلماتنا السابقة ، وكلام شيخنا الأستاذ العلامة ، وستعرفه ممّا نذكره عن قريب : من أن محلّ البحث في حكم الشبهة المقرونة بالعلم الإجمالي حتى الشبهة المحصورة ما إذا كان جميع أطراف العلم الإجمالي مورد الابتلاء المكلّف بها فعلا بحيث يكون هناك علم إجمالا بتوجّه خطاب منجّز إلى المكلّف ، وإلاّ فمجرّد العلم الإجمالي لا يؤثّر في شيء حتى في حرمة المخالفة القطعيّة ما لم يؤثّر في العلم بتوجّه الخطاب المنجّز.

ومن المعلوم أنّه لو سلّم رجوع الشّكوك الابتدائيّة إلى الشبهة الغير المحصوريّة فإنّما يسلّم رجوعها إلى ما لا يكون جميع أطرافه مورد الابتلاء ، لظهور فساد دعوى رجوعها إلى ما يكون جميع أطرافه موارد الابتلاء ، ولا يظن بأحد ادّعاء ذلك سيّما مثل شيخنا قدس‌سره.

ثالثها : أنه على تقدير تسليم رجوع المشكوك البدوية إلى الشبهة الغير المحصورة فإنّما يسلّم بالنسبة إلى الشبهات الموضوعيّة لا الأعمّ منها ومن الشبهة

٥٠٠